الأستاذ نذير طيار يفوز بجائزة ابن باديس في الفكر والحضارة
فاز الأستاذ نذير طيار بجائزة ابن باديس في الفكر والحضارة هذا العام، وكان قد فاز بالجائزة ذاتها العام الماضي في الأدب وفنونه.
وقد فاز الأستاذ بالجائزة عن دراسة:
شاهد القرن: من سقوط أمِّ الحواضر
إلى علم سقوط الحضارات
ومما جاء في مقدمة الكتاب:
نحب أن نوضح هنا، مسألتين في غاية الأهمية:
الأولى: ليس من الغريب، البحث في العلاقة الخفية القائمة بين "سقوط قسنطينة" (أم الحواضر ) تحت الاحتلال الفرنسي سنة 1837، و"سقوط الحضارات" كفكرة جوهرية شغلت بال المفكر الجزائري مالك بن نبي، ضمن نظريته المتكاملة عن النهضة وشروطها. قد تبدو هذه العلاقة، منذ أول وهلة، مصطنعة، غير ذات وجود حقيقي. كما أن البعض قد يستغرب، محاولة الربط هذه، بين سقوط أم الحواضر وعلم سقوط الحضارات، كنظرية فكرية فلسفية اجتماعية.
بداية، لن ندَّعيَ وجود علاقة عِلِّية سببية، بين هذا السقوط وتلك النظرية. ولكن كتابات شاهد القرن، قد تشكِّل منفذا لاكتشاف بعض خيوط هذه العلاقة البكر.
كثيرون، ربما، سمعوا مثل شاهد القرن، حكايات جداتهم عن سقوط قسنطينة المرعب، ولكن، كم عدد الذين تحوَّلت لديهم عواطف الخوف والغضب الطفولية، المختزَنة في اللاوعي، إلى حركة مستقبلية فكرية فاعلة، تتساءل بجدية، ليس لماذا سقطت قسنطينة فحسب، بل لماذا سقطنا جميعا كعرب وكمسلمين، من مركز التاريخ فأصبحنا نتحرك على هامشه؟ لماذا قامت تلك الحضارة في لحظة ما؟ ولماذا أفل نجمها في لحظة أخرى؟. إنه التنقيب عن إرهاصات الانتقال العفوي، من سقوط مدينة إلى سقوط حضارة بأكملها، في وعي طفل ينحصر تصوره للجغرافيا ببعض شوارع وبنايات مدينته، وذكرياته فيها.
ومن المثير للانتباه، أن أبلغ قصيدة في رثاء الأندلس، كتبها شاعر لم يشهد سقوط غرناطة، ولا سقوط مدينته رُنْدَة ؛ بل شاهد في سقوط المدن البعيدة، الواحدة تلو أخرى، مقدمة طبيعية لنتيجة محتومة هي سقوط حضارة بأكملها.
ولكن التحليل الحضاري للمأساة وفق المنظور البنَّابي للتاريخ يقول: إن سقوط الحضارة هناك هو الذي أدَّى إلى سقوط المدن والدولة وليس العكس.
الثانية: لماذا كان ابن نبي ولا يزال مجهولا في بني قومه؟؟ هل لأن مزمار الحي لا يطرب، وفي الإنجيل"لا كرامة لنبي بين قومه"، وفي القرآن الكريم: «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم طاغون »؟ على حد تعبير أحد تلاميذ مالك المشارقة د. خالص الجلبي.
لا أعتقد ذلك، فقد تعرَّض شاهد القرن لتهميش مقصود، انطلق من فهم خاطئ وسطحي لبعض أفكاره كـ"القابلية للاستعمار" تارة، ومن حرب مفتوحة مقصودة تارة أخرى، سببها معاداة كل ما هو فعَّال وإيجابي وبنَّاء وعميق واستيراتيجي وجوهري، أي حضاري بتعبير مالك بن نبي نفسه.
لن نوزَّع الاتهامات جزافا، فالأدلة الواقعية موجودة والوثائق المكتوبة متوفرة .
ومن الأعاجيب أن المغرب هو البلد الوحيد الذي أقام تأبينية لمالك بن نبي .
إن كتابات مالك بن نبي تشكل إجابة حقيقية لسؤال الحداثة بكل أشكاله وألوانه، وما يحز في النفس أن كثيرا من النقاشات الجزائرية التي تطرق سؤال النهضة، تجري على هامش الأفكار المدهشة لهذا المفكِّر العظيم. حتى قال مفكر سوري :« مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون» في إشارة إلى العشرية الدموية التي عاشتها البلاد خلال المأساة الوطنية.
ويروي الدكتور عبد الرزاق قسوم قصة وقعت له ذات دلالة كبيرة، فخلال مناقشته لنيل شهادة الدكتوراه بفرنسا، تحدث عن مالك بن نبي ونظريته في الحضارة، فجاءه أحد الباحثين المهتمين يسأله عن عنوانه مالك بن نبي حتى يقيم معه صلات فكرية ويستفيد منه، فلما أخبره بأنه توفي تنهد تنهيدة عميقة وقال متأسفا: "كل الطيبين ذهبوا" .
لقد كان ابن نبي مفكِّرا مؤمنا، وثيق الصلة بالله، كما سنرى لاحقا، ولكن هذا لم يشكل عائقا منهجيا أمام توغله في تحليل مشكلات العالم الإسلامي تحليلا علميا دقيقا. لن نحلَّ مشكلتنا الحضارية، بمحاربة قيمنا الثقافية أو بالاعتماد عليها وحدها، فالصلاة قيمة عبادية روحية مهمة في أي حركة فاعلة لنا، ولكنها ليست هي التي ستحل مشكلات التنمية عندنا. علينا استيعاب معادلات الواقع وفهم مفردات التنمية لتحقيق التقدم المنشود.
خلال الملتقى الدولي الأول حول فكر مالك بن نبي، الذي عقده المجلس الإسلامي الأعلى أيام 18، 19، 20 من أكتوبر 2003 اعترف المحاضرون القادمون من ماليزيا بدور أفكار مالك بن نبي في تحقيق ازدهار هذا النمر الأسيوي، فقد استوعبتها النخبة هناك وسعت إلى تجسيدها قدر الإمكان. ويقول محمد نور منوطي مدير معهد إسلامي في ماليزيا :«سمع محاضير محمد رئيس الوزراء بمالك بن نبي وبأفكاره عن طريق أنور إبراهيم، فأمر بنشر فكره باللغة الانجليزية» . ويقول د.عثمان شهاب (أندونيسي مقيم بماليزيا) :« الآن في ماليزيا، في جامعة "مالايا"، يعتبر مالك بن نبي من أهم المراجع الدراسية وخاصة في مادة الفكر الإسلامي المعاصر» .
إن السبب السياسي لا يكفي وحده، لتفسير هذا الجهل المطبق بأفكار هذا الرجل. فهناك أفكار لا قيمة لها، انتشرت بسرعة البرق بين الشباب، تطبيقا لقانون غريشام :« العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة». الأفكار العظيمة، التي تبني النهضة وتؤسس للحضارة، هي بطبعها أفكار فلسفية عميقة، تستعصي على فهم أصحاب الثقافات المحدودة.
وقد اعترف جميع الباحثين، الذين قرأوا مالك بن نبي لأول مرة، باكتشافهم لمفكر من طراز فريد جدا، فكيف هو حال الإنسان العادي، يقول الباحث السوري زكي الميلاد :
«وجدته مفكرا لا يكرر نفسه في الآخرين بالطريقة التي نلاحظها بين غيره من المفكرين....وبعد فترة قصيرة... اكتشفت أن ليس من السهولة التعامل مع مؤلفات ابن نبي كغيرها من المؤلفات الأخرى، وأنها بحاجة إلى مزيد من الانتباه والتركيز لهضمها واستيعابها، وتعميق المعرفة بها، لأنها كتبت بطريقة الأدب الصعب. الأمر الذي تطلَّب مني مضاعفة الجهد والتركيز، بدل أن يكون منفراً وممانعاً من التواصل والاستمرار كما حصل عند البعض، خصوصاً الذين يتعاملون مع المطالعة بمنطق الهواية أو التسلية، أو الذين يبحثون عن السهولة والبساطة» .
والشهادة نفسها تقريبا نجدها لجودت سعيد (باحث سوري) أحد التلاميذ النجباء لمالك بن نبي في حوارات عدة مع صحف جزائرية، سيَّما حوار مطوَّل أجراه معه مؤلِّف هذا الكتاب سنة 1991 .
ويقول الدكتور خالص الجلبي (سوريا) «شهد عام 1905م ولادة ثلاث عبقريات:
ـ فأما الأولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة.
ـ وأما الثانية فكانت في الفلسفة، فشهدت ولادة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي، وكان من أغزر من كتب.
ـ والثالثة كانت في علم الاجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون، وجاءت من مهندس كهربائي، من خارج حقل علم الاجتماع كما هو دأب المبدعين، وكانت من جزائري هو المفكر (مالك بن نبي)، كما كان الحال مع ابن خلدون من تونس.»
يقول الأستاذ الطيب برغوث (الجزائر):«مالك بن نبي ظاهرة استثنائية في تاريخنا المعاصر، بتمكنه من تجاوز طوق الاستلاب التراثي والحضاري معا. وخط طريق ثالث في الفكر والسلوك، هو طريق الأصالة الإسلامية المعاصرة...وقد شرعت في إنجاز بحث عن عبقرية التجاوز عند مالك بن نبي أو صدقية وأبعاد وخلفيات هذا التجاوز في فكره، على مستوى المنهج والأفكار والتمثل...» .
ويتذكَّر العبد الضعيف، أول احتكاك له بمالك بن نبي في بداية المرحلة الدراسية الثانوية. فقد كان أخي الأكبر سليمان مسحورا بفكر الرجل، يحدثنا عنه دائما، ولكن التيار لم يكن يمر بيننا، بسبب ما بدا لنا حينها أفكارا معقدة تتجاوز قدرات استيعابنا الفكرية. وفي أحد الأيام جلب أخي الهادي (الذي يكبرني بأربع سنوات) كتاب"الديمقراطية في الإسلام"، ولأني وجدت في عنوانه، كلمة إسلام، قررت قراءته. لكني عدلت عن فكرتي منذ الصفحات الأولى، لأنني بحثت عن آيات وأحاديث فلم أجدها؟؟؟. وكان ذاك موقفا طبيعيا، في مرحلة شبابية تتحرك في وسط محكوم بثقافة إسلامية تراثية جاهزة، بعيدة عن التحليل الفكري العميق.
إنني أعتقد جازما، أن مالك بن نبي لم ينل بعد، نصيبا كافيا من الدراسة النافذة إلى عمق أفكاره.
والدراسات المقارنة قد تكون أفضل سبيل إلى بيان قيمة إبداعه الحضاري، وتحديد موقعه من خارطة إنتاج الأفكار على مستوى العالم.
لماذا تتملك الدهشة كل من يقرأ مالك بن نبي لأول مرة؟؟؟
علينا الوقوف طويلا، أمام كل جملة بدأها مالك بن نبي في مذكراته بقوله : " أنا مدين لـ"، وهو لم يستعملها كثيرا.
مهما كانت دقة الترجمة إلى العربية، على الباحث أن يضع أمام عينيه الأصل الفرنسي لمذكرات شاهد القرن، الجزء الأول: الطفل . وهي فرصة لتصحيح بعض أخطاء الترجمة.
ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول وست ملاحق:
- في الفصل الأول محاولةٌ للغوص في أعماق العلاقة الحميمية، بين مالك بن نبي وقسنطينة، خلال مرحلة الطفولة، وسعيٌ لتحسس بوادر الوعي بسقوط المدينة فالحضارة، للوصول إلى تأسيس نظرية سقوط الحضارات، فيما بعد، وليس في ذلك نفي لعوامل أخرى كثيرة، ثقافية وتربوية واجتماعية، ساهمت في التمهيد لصناعة هذا المفكر العظيم.
- في الفصل الثاني دراسة فكرية في أسباب سقوط أم الحواضر (قسنطينة) (وسقوط وطن بأكمله)، وتشريح لمفهوم القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي، ودحض لكل الشبهات المثارة حوله.
- في الفصل الثالث، انتقال من الخاص إلى العام، من سقوط مدينة وحضارة بعينها، إلى محاولة الكشف عن نظرية أو علم سقوط الحضارات، كما فصَّله مالك بن نبي. ولرؤية قيمة الفيلسوف المفكر، شاهد القرن، كان علينا مقارنته بفيلسوف كبير من مستوى الفرنسي روجي غارودي، الذي تقاطع معه في طروحات وأفكار كثيرة، وقدم شواهد وأدلة حديثة جدا، على صحة نظرية مالك بن نبي. هما مفكران شغلتهما الأسئلة نفسها أحيانا، وإن اختلفت وجهة نظر كل واحد منهما لاحقا.
- في الملاحق الستة، نفصِّل التعريف أكثر بفكر مالك بن نبي وحديثه عن الشيخ عبد الحميد ابن باديس، نعرض حوارات أجراها المؤلف مع بعض تلامذته، كما ننشر معلومات خاصة جدا عن أستاذه وصديقه المرحوم الشيخ حمودة بن ساعي.
ـــــــــ
ويذكر أن المجلس الشعبي الولائي قرر منذ سنة 2004 إنشاء جائزة سنوية باسم العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس لتشجيع كل عمل إبداعي في جميع ميادين المعرفة تكريما لعلمائها ومفكريها وتشجيعا لشبابها ومبدعيها، حتى تبقى رائدة شامخة متميزة جديرة بدورها والترصع بتاج عاصمة العلم والثقافة.
وتضم ثلاث فروع: الفكر والحضارة، الأدب وفنونه، والثقافة والرسم والنقش والنحث.
فاز الأستاذ نذير طيار بجائزة ابن باديس في الفكر والحضارة هذا العام، وكان قد فاز بالجائزة ذاتها العام الماضي في الأدب وفنونه.
وقد فاز الأستاذ بالجائزة عن دراسة:
شاهد القرن: من سقوط أمِّ الحواضر
إلى علم سقوط الحضارات
ومما جاء في مقدمة الكتاب:
نحب أن نوضح هنا، مسألتين في غاية الأهمية:
الأولى: ليس من الغريب، البحث في العلاقة الخفية القائمة بين "سقوط قسنطينة" (أم الحواضر ) تحت الاحتلال الفرنسي سنة 1837، و"سقوط الحضارات" كفكرة جوهرية شغلت بال المفكر الجزائري مالك بن نبي، ضمن نظريته المتكاملة عن النهضة وشروطها. قد تبدو هذه العلاقة، منذ أول وهلة، مصطنعة، غير ذات وجود حقيقي. كما أن البعض قد يستغرب، محاولة الربط هذه، بين سقوط أم الحواضر وعلم سقوط الحضارات، كنظرية فكرية فلسفية اجتماعية.
بداية، لن ندَّعيَ وجود علاقة عِلِّية سببية، بين هذا السقوط وتلك النظرية. ولكن كتابات شاهد القرن، قد تشكِّل منفذا لاكتشاف بعض خيوط هذه العلاقة البكر.
كثيرون، ربما، سمعوا مثل شاهد القرن، حكايات جداتهم عن سقوط قسنطينة المرعب، ولكن، كم عدد الذين تحوَّلت لديهم عواطف الخوف والغضب الطفولية، المختزَنة في اللاوعي، إلى حركة مستقبلية فكرية فاعلة، تتساءل بجدية، ليس لماذا سقطت قسنطينة فحسب، بل لماذا سقطنا جميعا كعرب وكمسلمين، من مركز التاريخ فأصبحنا نتحرك على هامشه؟ لماذا قامت تلك الحضارة في لحظة ما؟ ولماذا أفل نجمها في لحظة أخرى؟. إنه التنقيب عن إرهاصات الانتقال العفوي، من سقوط مدينة إلى سقوط حضارة بأكملها، في وعي طفل ينحصر تصوره للجغرافيا ببعض شوارع وبنايات مدينته، وذكرياته فيها.
ومن المثير للانتباه، أن أبلغ قصيدة في رثاء الأندلس، كتبها شاعر لم يشهد سقوط غرناطة، ولا سقوط مدينته رُنْدَة ؛ بل شاهد في سقوط المدن البعيدة، الواحدة تلو أخرى، مقدمة طبيعية لنتيجة محتومة هي سقوط حضارة بأكملها.
ولكن التحليل الحضاري للمأساة وفق المنظور البنَّابي للتاريخ يقول: إن سقوط الحضارة هناك هو الذي أدَّى إلى سقوط المدن والدولة وليس العكس.
الثانية: لماذا كان ابن نبي ولا يزال مجهولا في بني قومه؟؟ هل لأن مزمار الحي لا يطرب، وفي الإنجيل"لا كرامة لنبي بين قومه"، وفي القرآن الكريم: «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم طاغون »؟ على حد تعبير أحد تلاميذ مالك المشارقة د. خالص الجلبي.
لا أعتقد ذلك، فقد تعرَّض شاهد القرن لتهميش مقصود، انطلق من فهم خاطئ وسطحي لبعض أفكاره كـ"القابلية للاستعمار" تارة، ومن حرب مفتوحة مقصودة تارة أخرى، سببها معاداة كل ما هو فعَّال وإيجابي وبنَّاء وعميق واستيراتيجي وجوهري، أي حضاري بتعبير مالك بن نبي نفسه.
لن نوزَّع الاتهامات جزافا، فالأدلة الواقعية موجودة والوثائق المكتوبة متوفرة .
ومن الأعاجيب أن المغرب هو البلد الوحيد الذي أقام تأبينية لمالك بن نبي .
إن كتابات مالك بن نبي تشكل إجابة حقيقية لسؤال الحداثة بكل أشكاله وألوانه، وما يحز في النفس أن كثيرا من النقاشات الجزائرية التي تطرق سؤال النهضة، تجري على هامش الأفكار المدهشة لهذا المفكِّر العظيم. حتى قال مفكر سوري :« مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون» في إشارة إلى العشرية الدموية التي عاشتها البلاد خلال المأساة الوطنية.
ويروي الدكتور عبد الرزاق قسوم قصة وقعت له ذات دلالة كبيرة، فخلال مناقشته لنيل شهادة الدكتوراه بفرنسا، تحدث عن مالك بن نبي ونظريته في الحضارة، فجاءه أحد الباحثين المهتمين يسأله عن عنوانه مالك بن نبي حتى يقيم معه صلات فكرية ويستفيد منه، فلما أخبره بأنه توفي تنهد تنهيدة عميقة وقال متأسفا: "كل الطيبين ذهبوا" .
لقد كان ابن نبي مفكِّرا مؤمنا، وثيق الصلة بالله، كما سنرى لاحقا، ولكن هذا لم يشكل عائقا منهجيا أمام توغله في تحليل مشكلات العالم الإسلامي تحليلا علميا دقيقا. لن نحلَّ مشكلتنا الحضارية، بمحاربة قيمنا الثقافية أو بالاعتماد عليها وحدها، فالصلاة قيمة عبادية روحية مهمة في أي حركة فاعلة لنا، ولكنها ليست هي التي ستحل مشكلات التنمية عندنا. علينا استيعاب معادلات الواقع وفهم مفردات التنمية لتحقيق التقدم المنشود.
خلال الملتقى الدولي الأول حول فكر مالك بن نبي، الذي عقده المجلس الإسلامي الأعلى أيام 18، 19، 20 من أكتوبر 2003 اعترف المحاضرون القادمون من ماليزيا بدور أفكار مالك بن نبي في تحقيق ازدهار هذا النمر الأسيوي، فقد استوعبتها النخبة هناك وسعت إلى تجسيدها قدر الإمكان. ويقول محمد نور منوطي مدير معهد إسلامي في ماليزيا :«سمع محاضير محمد رئيس الوزراء بمالك بن نبي وبأفكاره عن طريق أنور إبراهيم، فأمر بنشر فكره باللغة الانجليزية» . ويقول د.عثمان شهاب (أندونيسي مقيم بماليزيا) :« الآن في ماليزيا، في جامعة "مالايا"، يعتبر مالك بن نبي من أهم المراجع الدراسية وخاصة في مادة الفكر الإسلامي المعاصر» .
إن السبب السياسي لا يكفي وحده، لتفسير هذا الجهل المطبق بأفكار هذا الرجل. فهناك أفكار لا قيمة لها، انتشرت بسرعة البرق بين الشباب، تطبيقا لقانون غريشام :« العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة». الأفكار العظيمة، التي تبني النهضة وتؤسس للحضارة، هي بطبعها أفكار فلسفية عميقة، تستعصي على فهم أصحاب الثقافات المحدودة.
وقد اعترف جميع الباحثين، الذين قرأوا مالك بن نبي لأول مرة، باكتشافهم لمفكر من طراز فريد جدا، فكيف هو حال الإنسان العادي، يقول الباحث السوري زكي الميلاد :
«وجدته مفكرا لا يكرر نفسه في الآخرين بالطريقة التي نلاحظها بين غيره من المفكرين....وبعد فترة قصيرة... اكتشفت أن ليس من السهولة التعامل مع مؤلفات ابن نبي كغيرها من المؤلفات الأخرى، وأنها بحاجة إلى مزيد من الانتباه والتركيز لهضمها واستيعابها، وتعميق المعرفة بها، لأنها كتبت بطريقة الأدب الصعب. الأمر الذي تطلَّب مني مضاعفة الجهد والتركيز، بدل أن يكون منفراً وممانعاً من التواصل والاستمرار كما حصل عند البعض، خصوصاً الذين يتعاملون مع المطالعة بمنطق الهواية أو التسلية، أو الذين يبحثون عن السهولة والبساطة» .
والشهادة نفسها تقريبا نجدها لجودت سعيد (باحث سوري) أحد التلاميذ النجباء لمالك بن نبي في حوارات عدة مع صحف جزائرية، سيَّما حوار مطوَّل أجراه معه مؤلِّف هذا الكتاب سنة 1991 .
ويقول الدكتور خالص الجلبي (سوريا) «شهد عام 1905م ولادة ثلاث عبقريات:
ـ فأما الأولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة.
ـ وأما الثانية فكانت في الفلسفة، فشهدت ولادة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي، وكان من أغزر من كتب.
ـ والثالثة كانت في علم الاجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون، وجاءت من مهندس كهربائي، من خارج حقل علم الاجتماع كما هو دأب المبدعين، وكانت من جزائري هو المفكر (مالك بن نبي)، كما كان الحال مع ابن خلدون من تونس.»
يقول الأستاذ الطيب برغوث (الجزائر):«مالك بن نبي ظاهرة استثنائية في تاريخنا المعاصر، بتمكنه من تجاوز طوق الاستلاب التراثي والحضاري معا. وخط طريق ثالث في الفكر والسلوك، هو طريق الأصالة الإسلامية المعاصرة...وقد شرعت في إنجاز بحث عن عبقرية التجاوز عند مالك بن نبي أو صدقية وأبعاد وخلفيات هذا التجاوز في فكره، على مستوى المنهج والأفكار والتمثل...» .
ويتذكَّر العبد الضعيف، أول احتكاك له بمالك بن نبي في بداية المرحلة الدراسية الثانوية. فقد كان أخي الأكبر سليمان مسحورا بفكر الرجل، يحدثنا عنه دائما، ولكن التيار لم يكن يمر بيننا، بسبب ما بدا لنا حينها أفكارا معقدة تتجاوز قدرات استيعابنا الفكرية. وفي أحد الأيام جلب أخي الهادي (الذي يكبرني بأربع سنوات) كتاب"الديمقراطية في الإسلام"، ولأني وجدت في عنوانه، كلمة إسلام، قررت قراءته. لكني عدلت عن فكرتي منذ الصفحات الأولى، لأنني بحثت عن آيات وأحاديث فلم أجدها؟؟؟. وكان ذاك موقفا طبيعيا، في مرحلة شبابية تتحرك في وسط محكوم بثقافة إسلامية تراثية جاهزة، بعيدة عن التحليل الفكري العميق.
إنني أعتقد جازما، أن مالك بن نبي لم ينل بعد، نصيبا كافيا من الدراسة النافذة إلى عمق أفكاره.
والدراسات المقارنة قد تكون أفضل سبيل إلى بيان قيمة إبداعه الحضاري، وتحديد موقعه من خارطة إنتاج الأفكار على مستوى العالم.
لماذا تتملك الدهشة كل من يقرأ مالك بن نبي لأول مرة؟؟؟
علينا الوقوف طويلا، أمام كل جملة بدأها مالك بن نبي في مذكراته بقوله : " أنا مدين لـ"، وهو لم يستعملها كثيرا.
مهما كانت دقة الترجمة إلى العربية، على الباحث أن يضع أمام عينيه الأصل الفرنسي لمذكرات شاهد القرن، الجزء الأول: الطفل . وهي فرصة لتصحيح بعض أخطاء الترجمة.
ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول وست ملاحق:
- في الفصل الأول محاولةٌ للغوص في أعماق العلاقة الحميمية، بين مالك بن نبي وقسنطينة، خلال مرحلة الطفولة، وسعيٌ لتحسس بوادر الوعي بسقوط المدينة فالحضارة، للوصول إلى تأسيس نظرية سقوط الحضارات، فيما بعد، وليس في ذلك نفي لعوامل أخرى كثيرة، ثقافية وتربوية واجتماعية، ساهمت في التمهيد لصناعة هذا المفكر العظيم.
- في الفصل الثاني دراسة فكرية في أسباب سقوط أم الحواضر (قسنطينة) (وسقوط وطن بأكمله)، وتشريح لمفهوم القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي، ودحض لكل الشبهات المثارة حوله.
- في الفصل الثالث، انتقال من الخاص إلى العام، من سقوط مدينة وحضارة بعينها، إلى محاولة الكشف عن نظرية أو علم سقوط الحضارات، كما فصَّله مالك بن نبي. ولرؤية قيمة الفيلسوف المفكر، شاهد القرن، كان علينا مقارنته بفيلسوف كبير من مستوى الفرنسي روجي غارودي، الذي تقاطع معه في طروحات وأفكار كثيرة، وقدم شواهد وأدلة حديثة جدا، على صحة نظرية مالك بن نبي. هما مفكران شغلتهما الأسئلة نفسها أحيانا، وإن اختلفت وجهة نظر كل واحد منهما لاحقا.
- في الملاحق الستة، نفصِّل التعريف أكثر بفكر مالك بن نبي وحديثه عن الشيخ عبد الحميد ابن باديس، نعرض حوارات أجراها المؤلف مع بعض تلامذته، كما ننشر معلومات خاصة جدا عن أستاذه وصديقه المرحوم الشيخ حمودة بن ساعي.
ـــــــــ
ويذكر أن المجلس الشعبي الولائي قرر منذ سنة 2004 إنشاء جائزة سنوية باسم العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس لتشجيع كل عمل إبداعي في جميع ميادين المعرفة تكريما لعلمائها ومفكريها وتشجيعا لشبابها ومبدعيها، حتى تبقى رائدة شامخة متميزة جديرة بدورها والترصع بتاج عاصمة العلم والثقافة.
وتضم ثلاث فروع: الفكر والحضارة، الأدب وفنونه، والثقافة والرسم والنقش والنحث.
تعليق