من أطلق الرصاص..؟!
بينما الظلام مطبقٌ على أنفاس المدينة, و البرد يسكن في العظام النخرة, كانت القلوب الشابة تتأجج بالثورة و تعم بالدفء كأنها أرواح تسبح في محيط الحقيقة, عيون يتماوج فيها الحزن و الأمل, كانت رمادية الكون الدامعة تنذر بوقوع حادثٍ ما.. لم يفصح عنه بعد لسان القدر, أنه يذكر ذلك الهاجس الذي أتاه يوماً أقض مضجعه, فقرر من يومها أن يلتحف السماء, و يفترش الأرصفة. أراد أن يكسر أشكيف الخوف داخله أن يشق قلب المستحيل , انتابه فضول لاذع أن يخوض غمار هذه التجربة ,أن ينفض عنه غبار تلك السنين التائهة , تحركت داخله مجهولات شتى , تمنى لو يغير واقعه , بعدما أسقطوا عنه نبوءات المستقبل , أن يعيد ريشات الحلم الذي سقط مدرجاً بدماء الخديعة .
.. لم يتصور أنه سيحمل سلاحاً في يومٍ من الأيام؛ و هو الفنان, رقيق المشاعر, مرهف الحس؛ الذي يجزع من مجرد مشاهدة الدماء. وقف مشدوهاً ينظر إلي رفقائه و أقرانه الذين يتساقطون من حوله الواحد تلو الآخر يفرشون بطن الأرض, دون ذنب جنوه سوى أنهم خرجوا ليعبروا عن رأيهم الحر بطريقة سلمية. كأحد أهم ممارسات الديمقراطية التي يدعيها الحكام العرب في كل مكان , و يتشدق بها أبواق النظام من الإعلام , و المستفيدون من بقاء تلك الطغمة الفاسدة في سدة الحكم .
.. ضاعت سُداً كل محاولاته لعلاج من سقط شهيداً برصاصات الغدر في رأسه أو منتصف صدره . حاول جاهداً أن يستجمع رباطة جأشه, أن يوقف الدماء بيديه, أن يستدع أحداً لم يكن موجوداً..!! الكل ما بين قتيل, و جريح, و فار؛ يسعون كي ينجو بحياتهم من تلك المذبحة. فجأة رأى بندقية أحد الجنود الذين سقطوا أيضا في ساحة المعركة - و قد فارق الحياة - حاول الوصول إليها رغم الرصاص المنهمر من حوله. زحف على الأرض بضعة أمتار قليلة حتى أمسك بها, ثم كر عائداً إلى مكانه, أحس بسهمٍ من النار يخترق ساقه, و دماءٍ غزيرة تنزف منه. ألهبت الدماء الحارة مشاعره , و زادت الأعصاب اشتعالاً, فصرخ غاضباً , ثم وقف على ساقٍ واحدةٍ كاشفاً صدره , غير آبهٍ بالموت كضرب من ضروب الجنون.
.. لحظة صمت سادت الكون من حوله . وجد نفسه يلتفت بلا سبب محدد ؛ نحو أحد الأبنية العالية , فوقع نظره على واحدٍ من القناصة المتمترسين خلف أحدى لوحات الإعلان , أمسك ببندقيته , و أحكم تصويبها نحوه , تلاقت عيناهما سوياً , نظر إليه بتحد ؛ فجفل الآخر فزعاً للحظة , لكنه عاد , و ابتسم ساخراً , ثم اعتصر زناد بندقيته التلسكوبية , انطلقت الرصاصة بصوت مدوي كهزيم الرعد نحو هدفها المنشود , فهوى على الأرض غارقاً في دمائه .
تعليق