شاهدان لقبرٍ واحد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي التاجر
    أديب وكاتب
    • 21-12-2008
    • 88

    شاهدان لقبرٍ واحد

    شاهدان لقبرٍ واحد

    يقولون: إنه ماتَ حسرةً على فراقها، خلعَ وجعهُ الطويل أخيراً، فوقَ ظلٍ صغيرٍ اتسع لجثته.

    يقولون: إنه أحبها أكثر من أمّهِ البعيدة، وعندما لم يرها ثانيةً؛ نزفَ سنينهُ فوقَ عتبةٍ عتيقةٍ كانتْ تجلسُ عليها، حفرهاَ بدموعهِ واسمها.

    ظلّ واقفاً لثلاثةَ أيامٍ متواصلةٍ حزناً عليها، يبعثرُ نظراتهِ بين القادمينَ والمغادرينَ في قاعةٍ ضيقةٍ وبينَ جدرانٍ متكسرة، لعلهُ يرمقُ طلتها بقامتها القصيرةِ وجسدها الذي تحملهُ كغصنٍ يابس.

    يقولون:إنهُ ظلّ ينتظرها طويلاً.

    سقطَ من سطح المنزل لأنهُ أطلقَ عينيهِ للسماء والشوارع بحثاً عنها، فجعل ينحتُ في كلِّ سربٍ يمرُّ حدّ عينيهِ السوداوين، ويحدجُ الطرقاتِ الرماديةِ بنظرةٍ حزينةٍ متعبة. تخيلها تجئُ بجناحينِ مفروشين بورودٍ بيضاء مضيئة، أو تقرعُ قلبهُ عندما تطلعُ في زقاقٍ قريب.
    ومنذ ذلكَ الحين، فقد بطأت حركته، وهزلَ جسمه، وبانت عروقُ صدرهِ الملتوية، وتساقطَ شعرٌ أبيضُ كالثلجِ من على جلدهِ الرقيقِ.

    في اليوم الذي سقط فيه؛ حاولوا إسعافه، حملوه، وجدوهُ ملقىً كحصاة، هبوا راكضين نحوه، كان يئنُّ بصوتٍ خافتٍ وهو ينظرُ للجميع المتحلقينَ حولهُ بألمٍ وانكسار.

    نظروا لبعضهمُ البعض، هزوا رؤوسهم، دلالةً على أسىً يستبطنُ حزناً على فراقٍ لم يبرأ للآن، وأعادوا نظرهم نحوه، فألفوهُ مكباً بوجهه، لا ينظر لأحد، وعيونهُ المواربةُ غرب فيها بريقها المعهود.

    أخذوه ُمشدوداً بأيديهم، تلمسوا أطرافهُ الدقيقة، فلم يعثروا على غصنٍ مكسورٍ في عودهِ الغض، رغمَ أنهُ كانَ لا يقوى على الحراك.

    أوسدوه...وأمعنوا النظرَ إليه، كلُّ واحدٍ أخذ يمسحُ جزءاً من جسدهِ بأطرافِ أصابعه، فاستسلم لسباتٍ طويل، استفاقَ بعده على صراعٍ مع قدميهِ اللتين أصبحتا لا تطيعانهِ على النهوض كالسابق، أو حتى تقفانِ بهِ باستقامةٍ واعتدال، فصار يدورُ ويدورُ، ويراوحُ مكانه فيأتي أحدٌ ما لإطعامهِ وعلاجه.

    * * *

    بعد رحيلها، لاحت في عينيه رغبةُ الشخوص إليها، الكلُّ يقول ذلك، ربما لأنه رآها تمرق فوق سحابة، أو داخل القمر تلوّحُ له، أو ربما طلعتْ مع نجم "سهيل"، لا أحد يعلم، حتى الأب الذي نحتَ قبراً صغيراً لصيقاً لقبرِ زوجتهِ الذي لما يجف طينه بعد، أوسده برفقٍ وتؤدة، كان منقارهُ الرمادي يشيرُ باتجاهها، رمقَ قبرها وجسده بحزن، أهالَ عليه الترابَ ولكنَ منقاره ظلّ طليقاً وهو يشيرُ لقبرها. لم يستطع الأب دفن هذا الجزء من رأسه، وبعدما تملكه اليأس، هبّ واقفاً ومضى نحوَ أبنائهِ الذين وقفوا في انتظارهِ وراء القضبان الصدئة لبابِ المقبرة، رتجَ الباب وضمّ صغارهُ لصدره وهوَ يقفلُ لمنزله، ومن بينِ الشواهد الكثيرة، ظلَّ شاهدان يلوحان له من بعيد !.
    التعديل الأخير تم بواسطة علي التاجر; الساعة 03-02-2012, 08:52.
  • دينا نبيل
    أديبة وناقدة
    • 03-07-2011
    • 732

    #2
    أ / علي التاجر ..

    اولا يسرني أن أكون أول من يصافح نصكم .. ويشرفني أن أكون من أوائل من يعلقون على قصتكم المتميزة وفق رؤيتي المتواضعة


    من أهم سمات النص الموفق حسب وجهة نظري هي قدرة الكاتب على التحكم في مشاعر المتلقي ,, فيعلم متى يجعله يضحك ومتى يجعله يبكي .. ولن أخفيكم سرا كم فارقت نصكم بهذا الحجم من الألم .. !

    لغة النص متميزة للغاية ، شاعرية وبها صور جميلة معبّرة رائعة وكأنها ترسم بريشة وألوان .. وتخلو من التعقيد والذي مع الأسف قد صار يلجأ إليه الكثير من الكتاب مؤخرا ليغلقوا على القارئ !

    لكن وجدت اللغة بها انسيابية إلى حد كبير يقطعها القارئ بدون كلل أو ملل وتوصل الرسالة كما يريدها الكاتب

    كان لعنصر الاسترجاع - العودة بالأحداث إلى الوراء - الدور الأكبر في ترتيب الأحداث في عقل المتلقي وأخذ الأحداث ذلك المنحى الشاعري والذي تعضده سائر عناصر النص هنا

    النص يتميز بانفتاحه على التأويلات المتعددة رغم تكثيفه المحكم .. فهل كانا عصفورين أم شخصين ؟ ..

    لن أجزم بإحداها هنا لترك المساحة واسعة أمام من سيأتي بعدي من قراء .. ولكن هذا الانفتاح عنصر أساسي في إنجاح النص ..
    سعدت بقراءتي لنصكم وهذه اول مرة أقرأ لكم لكن ستكون لي أوبة مع ما تكتبون ..

    تقديري لقلمكم الراقي

    تحياتي

    تعليق

    • علي التاجر
      أديب وكاتب
      • 21-12-2008
      • 88

      #3
      أختي الفاضلة والمبدعة/ دينا ،

      لك التحية ،

      كان مروراً ليس كأي مرور ،

      مرورٌ ناقدٌ وفاحص ،

      أنت لستِ كاتبةً فحسب، بل تمتلكين حساً نقدياً واعياً ،

      لا عدمنا هذا القلم ولا هذا الحس النقدي الرائع ،



      المشاركة الأصلية بواسطة دينا نبيل مشاهدة المشاركة
      أ / علي التاجر ..


      اولا يسرني أن أكون أول من يصافح نصكم .. ويشرفني أن أكون من أوائل من يعلقون على قصتكم المتميزة وفق رؤيتي المتواضعة


      من أهم سمات النص الموفق حسب وجهة نظري هي قدرة الكاتب على التحكم في مشاعر المتلقي ,, فيعلم متى يجعله يضحك ومتى يجعله يبكي .. ولن أخفيكم سرا كم فارقت نصكم بهذا الحجم من الألم .. !

      لغة النص متميزة للغاية ، شاعرية وبها صور جميلة معبّرة رائعة وكأنها ترسم بريشة وألوان .. وتخلو من التعقيد والذي مع الأسف قد صار يلجأ إليه الكثير من الكتاب مؤخرا ليغلقوا على القارئ !

      لكن وجدت اللغة بها انسيابية إلى حد كبير يقطعها القارئ بدون كلل أو ملل وتوصل الرسالة كما يريدها الكاتب

      كان لعنصر الاسترجاع - العودة بالأحداث إلى الوراء - الدور الأكبر في ترتيب الأحداث في عقل المتلقي وأخذ الأحداث ذلك المنحى الشاعري والذي تعضده سائر عناصر النص هنا

      النص يتميز بانفتاحه على التأويلات المتعددة رغم تكثيفه المحكم .. فهل كانا عصفورين أم شخصين ؟ ..

      لن أجزم بإحداها هنا لترك المساحة واسعة أمام من سيأتي بعدي من قراء .. ولكن هذا الانفتاح عنصر أساسي في إنجاح النص ..
      سعدت بقراءتي لنصكم وهذه اول مرة أقرأ لكم لكن ستكون لي أوبة مع ما تكتبون ..

      تقديري لقلمكم الراقي


      تحياتي

      تعليق

      • ريما ريماوي
        عضو الملتقى
        • 07-05-2011
        • 8501

        #4
        هل هو ببغاءها, الذي حزن على فقده لصاحبته فمات وراءها..
        الحيوانات تحس وتتألم وتفتقد وكم سمعنا عن حيوانات أليفة ماتت
        بعد موت أصحابها نص حزين.. أحسست فيه عظم فقد العائلة.

        شكرا لك, ومرحبا بنشاطك من جديد,

        تحيتي واحترامي.


        أنين ناي
        يبث الحنين لأصله
        غصن مورّق صغير.

        تعليق

        • علي التاجر
          أديب وكاتب
          • 21-12-2008
          • 88

          #5
          الأخت الفاضلة والمبدعة/ ريما ،


          يبدو أنك اصطدت ثيمة هذا النص بفراستك ،

          هو كذلك،

          أسعدني هذا المرور ،

          المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
          هل هو ببغاءها, الذي حزن على فقده لصاحبته فمات وراءها..
          الحيوانات تحس وتتألم وتفتقد وكم سمعنا عن حيوانات أليفة ماتت
          بعد موت أصحابها نص حزين.. أحسست فيه عظم فقد العائلة.

          شكرا لك, ومرحبا بنشاطك من جديد,

          تحيتي واحترامي.
          التعديل الأخير تم بواسطة علي التاجر; الساعة 10-02-2012, 06:45.

          تعليق

          • جمال عمران
            رئيس ملتقى العامي
            • 30-06-2010
            • 5363

            #6
            اخى على
            هى صورة لحب ووفاء من عالم الخيال فى تلم المنكودة دنيانا الصدأة ..
            راقنى تصويرك للمشهد وتعبيرك عن المشاعر وصبر الأمل والانتظار و...الإنتكاس ...
            شكرا لقلمك الجميل..
            *** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***

            تعليق

            • عبير هلال
              أميرة الرومانسية
              • 23-06-2007
              • 6758

              #7
              لم تترك لي الرائعتين

              دينا وريما

              ما أقولهُ سوى

              انك أبدعت وجعلتنا مشدودين

              للحظة الاخيرة

              وأصبحنا نتساءل من الذي لم يعد يطيق الدنيا

              بدونها ومن الذي لم يصدق موتها وبقي لديه

              الأمل برؤيتها حية واخيراً قرر أن لا حياة له بدونها

              إلا في اللحظة الأخيرة حين قلت منقاره..

              أديبنا المبدع

              تقبل مروري المتواضع على رائعتك

              لك أرق تحياتي
              sigpic

              تعليق

              • علي التاجر
                أديب وكاتب
                • 21-12-2008
                • 88

                #8
                أخي العزيز جمال ،

                ومرورك الجميل أسعدني ،


                شكراً

                تعليق

                • علي التاجر
                  أديب وكاتب
                  • 21-12-2008
                  • 88

                  #9
                  أختي الفاضلة أميرة ،

                  شكراً على مرورك العاطر ،

                  نعم تركت للقارئ أن يتخيل، فكان الطائر العاشق والمحب، والذي لا يرى غير من أحبه، وبدونه يأنف العيش ،

                  تعليق

                  • رشا السيد احمد
                    فنانة تشكيلية
                    مشرف
                    • 28-09-2010
                    • 3917

                    #10
                    الأستاذ علي التاجر

                    صباحك الندى لهذا الجمال الرقيق جدا هنا

                    كانت لغتك سلسة جميلة أوصلت الفكرة المرتجاة بسلاسة بعيدا
                    عن التعتيم الذي يعتقد البعض إنه يكسب النص غرائبية وحدثاوية
                    و قناعتي هي السهل الممتنع والسلسل والإبداع الجديد هو خير وسيلة للحدثاوية

                    أنت كنت هنا بطريقتك السلسة الرائعة وصلنا لما أردته وأوصلت تلك المشاعر النبيلة
                    بعد طول المعناة وهذه المشاعر الرائعة داخله كانت تتصارع بين حياةوموت
                    بين من رحل ومن بقي بينه وبين نفسه فيمن يحب
                    وكان في الخارج أبناؤه يحتاجون لقلب يسكب لهم الحنان
                    الرسالة الثانية التي وصلتني يبقى للأحياء رسالة يؤدونها حتى تحين ساعتهم
                    على جميع الوجوه الإنسانية

                    والنص يبقى أمام الجميع

                    كنت جميلا في نصك بإنسايته الرائعة وأنت ترمزت بطائريين لأبطال القصة

                    ياسمين لجمال العطاء .
                    https://www.facebook.com/mjed.alhadad

                    للوطن
                    لقنديل الروح ...
                    ستظلُ صوفية فرشاتي
                    ترسمُ أسرارَ وجهِكَ بألوانِ الأرجوان
                    بلمساتِ الشَّفقِ المسافرِ في أديم السَّماء .

                    تعليق

                    يعمل...
                    X