شاهدان لقبرٍ واحد
يقولون: إنه أحبها أكثر من أمّهِ البعيدة، وعندما لم يرها ثانيةً؛ نزفَ سنينهُ فوقَ عتبةٍ عتيقةٍ كانتْ تجلسُ عليها، حفرهاَ بدموعهِ واسمها.
ظلّ واقفاً لثلاثةَ أيامٍ متواصلةٍ حزناً عليها، يبعثرُ نظراتهِ بين القادمينَ والمغادرينَ في قاعةٍ ضيقةٍ وبينَ جدرانٍ متكسرة، لعلهُ يرمقُ طلتها بقامتها القصيرةِ وجسدها الذي تحملهُ كغصنٍ يابس.
يقولون:إنهُ ظلّ ينتظرها طويلاً.
سقطَ من سطح المنزل لأنهُ أطلقَ عينيهِ للسماء والشوارع بحثاً عنها، فجعل ينحتُ في كلِّ سربٍ يمرُّ حدّ عينيهِ السوداوين، ويحدجُ الطرقاتِ الرماديةِ بنظرةٍ حزينةٍ متعبة. تخيلها تجئُ بجناحينِ مفروشين بورودٍ بيضاء مضيئة، أو تقرعُ قلبهُ عندما تطلعُ في زقاقٍ قريب.
ومنذ ذلكَ الحين، فقد بطأت حركته، وهزلَ جسمه، وبانت عروقُ صدرهِ الملتوية، وتساقطَ شعرٌ أبيضُ كالثلجِ من على جلدهِ الرقيقِ.
في اليوم الذي سقط فيه؛ حاولوا إسعافه، حملوه، وجدوهُ ملقىً كحصاة، هبوا راكضين نحوه، كان يئنُّ بصوتٍ خافتٍ وهو ينظرُ للجميع المتحلقينَ حولهُ بألمٍ وانكسار.
نظروا لبعضهمُ البعض، هزوا رؤوسهم، دلالةً على أسىً يستبطنُ حزناً على فراقٍ لم يبرأ للآن، وأعادوا نظرهم نحوه، فألفوهُ مكباً بوجهه، لا ينظر لأحد، وعيونهُ المواربةُ غرب فيها بريقها المعهود.
أخذوه ُمشدوداً بأيديهم، تلمسوا أطرافهُ الدقيقة، فلم يعثروا على غصنٍ مكسورٍ في عودهِ الغض، رغمَ أنهُ كانَ لا يقوى على الحراك.
أوسدوه...وأمعنوا النظرَ إليه، كلُّ واحدٍ أخذ يمسحُ جزءاً من جسدهِ بأطرافِ أصابعه، فاستسلم لسباتٍ طويل، استفاقَ بعده على صراعٍ مع قدميهِ اللتين أصبحتا لا تطيعانهِ على النهوض كالسابق، أو حتى تقفانِ بهِ باستقامةٍ واعتدال، فصار يدورُ ويدورُ، ويراوحُ مكانه فيأتي أحدٌ ما لإطعامهِ وعلاجه.
* * *
بعد رحيلها، لاحت في عينيه رغبةُ الشخوص إليها، الكلُّ يقول ذلك، ربما لأنه رآها تمرق فوق سحابة، أو داخل القمر تلوّحُ له، أو ربما طلعتْ مع نجم "سهيل"، لا أحد يعلم، حتى الأب الذي نحتَ قبراً صغيراً لصيقاً لقبرِ زوجتهِ الذي لما يجف طينه بعد، أوسده برفقٍ وتؤدة، كان منقارهُ الرمادي يشيرُ باتجاهها، رمقَ قبرها وجسده بحزن، أهالَ عليه الترابَ ولكنَ منقاره ظلّ طليقاً وهو يشيرُ لقبرها. لم يستطع الأب دفن هذا الجزء من رأسه، وبعدما تملكه اليأس، هبّ واقفاً ومضى نحوَ أبنائهِ الذين وقفوا في انتظارهِ وراء القضبان الصدئة لبابِ المقبرة، رتجَ الباب وضمّ صغارهُ لصدره وهوَ يقفلُ لمنزله، ومن بينِ الشواهد الكثيرة، ظلَّ شاهدان يلوحان له من بعيد !.
تعليق