ليست كمِثلها امرأة
لم تكن هي أجمل امرأة في العالم.. لكنني لم أر من هي أجمل منها قط، ربما لأنني أحببتها قبل أن أستشعر معاني الجمال؟ لا.. فالجمال هو حس طبيعيٌّ نولد به.. أو هكذا أظن.. ربما الإحساس بالجمال هو غرسة تتطور بتطور قدرتنا على المقارنة.. حتى أن ذلك لا أفهمه.. لماذا فضلت هذا عن ذاك حين بدأت أقارن..لماذا عتبرت القبيح قبيحًا والجميل جميلاً؟ لماذا فررت من الكلب واحتضنت الهِرَّة؟ .. لماذا؟
لم تكن أمي امرأة مثقفةً جدَّا.. ولكنها كانت أكثر من يفهمني.. لم يكن يعنيها ما أتفوه به من مصطلحاتٍ حداثية في زمن المراهقة الفكرية.. كانت تبتسم ببساطة واضحة.. بيد أنني كنت ألحظ بريق الفهم في عينيها ممتزجًا بإعجاب وإشفاقٍ في الوقت ذاته. كان صمتها أكثر كلامًا من إلحاح الآخرين على الفوز في معركة الجدل المتجددة.. كانت مثقفةً حقَّا، برغم أنها أخبرتني أن جدي قد منعها من السفر إلى المدينة لاستكمال تعليمها بعد الإبتدائية!!
كنت وليَّ عهد دولتها الوحيد.. كنت في كل شيء لديها المتفرد والفريد.. كنت أرى العالم في عينيها كلَّه مِلكًا لي، برغم أننا لم نُصنَّف يومًا من الأغنياء. كنت دائمًا ما أتساءل: هل يمكن أن أجد لي واحدةً مثلها؟ كم هو محظوظٌ أبي.. لا جَرَمَ أنه لم يجد سببًا في يومٍ يسيء إليها بقولٍ أو فعلٍ كما يحدث في زمننا هذا.. هل يمكن أن أحذو حذوَ أبي في ذلك؟ هل تتيح لي زوجي أن أحفظ ذاك العهد في نفسي؟ لم أعهد أمي مستفزة ولو مرَّة.. هل يعني الحبُّ في جيلها ألا تستفزَّ زوجها أبدًا؟ كيف أحصل على زوجٍ غير مستفزَّة؟ كنت أستطيع أن أتوقع سلفًا ردود أفعالها تجاه ما أقدم عليه من فعل، كانت امرأة سهلة الفهم شديدة التفهم.. وكان أبي سريع الغضب سريع الغفران.. لقد كانا متوافقان تمامًا..
يقول البعض أن الواحد منا لا يستطيع قلبه أن يصدق فقد غالٍ عليه إذا لم يحضر بنفسه جنازته. وحيث لم أكن حاضرًا مشهدها.. كنت اتوقع أن أعيش كل حياتي بعدها غير مصدقِ أنها رحلت.. لقد كان حدثًا عاديَّا للعالم.. غير أنه كان أخطر حدثٍ عايشته في القرن العشرين.. ولم يصدق قلبي بعد أنها رحلت دون أن أكون أول شاهدٍ على ذلك... فقط صدقت أخيرًا.. حين تأكدت بأن الدنيا قد أفلت شمسها حين لم تعد أمي تراها.. ولم يغن عني شيئًا في ذلك أن رزقت بزوجٍ وولد.. ربما بدوتُ فرحًا لبعض الوقت.. لكنني لم أعد أفرح بنفس الطريقة التي كنت أعرفها حين كانت هي تفرحها معي.. إن من جرب أن يقهقه في الخلاء وحيدًا يمكنه أن يفهم ما أعني... كانت أمي فقط، ودونها لا أحد.
لقد تعلمت من حبي لها بعض الحكمة.. أستطيع أن أجزم بأن المرأة المخدوعة هي من تبحث عن مجدها لدى زوجها، والعاقلة هي من تبحث عنه لدى أولادها... وأستطيع أن أجزم بأن الرجل الذي يقول لزوجه أنه يحبها قدر حبه لأمه، إما أنه كاذب أو مهووس... وأستطيع أن أجزم بأن الزوج التي تستطيع أن تخاطب الطفل في داخل زوجها تصبح من القليلات اللاتي نجحن في ترويض قلوب رجالهن حين تقمصن روح أمهاتهم ونجحن إلى حين.. وأستطيع أن أجزم بأن فكرتنا عن الأمهات الحموات تجافي الحقيقة تمامًا.. فهن لا يغرن من أزواج أبنائهن ولكن الأم يفزعها أن ترى زوج ابنها تفشل في فهم طفولته وتصرُّ على معاملته كناضج فيما لا تنظر أمٌ إلى ابنها كذلك وإن شاب شعره. إن الزوج حين تبكي فإنها قد تستميل قلب الرجل، لكن الأم حين تبكي فإنها حقًا تؤلمه وتوخِذه.
تعليق