هذه قصة حب عاش، ثم انطوت صفحاته،
فأصبح ذكرى ، وهذا بعض من ركام هذه الذكرى
...
بالحقيقة منذ فترة ليست بالقصيرة، بدأت فكرة تعاون مشترك تلوح في الأفق فيما بيننا، واستسغنا الفكرة بعد أن صارت محل اهتمام جدّي، وعملنا سويًّا على بلورتها،
وبالنتيجة تولّدت هذه القصة، بذرة لعمل دؤوب كنا نستطلع فيه آراء بعض، نكتب ونعدّل حتى كلّلنا جهدنا بهذا العمل.
راجين أن يكون بداية لأعمال أخرى.
ننتظر انتقاداتكم البنّاءة وآراءكم بكل اهتمام. وكلّنا أمل في أن يحوز النص رضاكم.
ريما ريماوي وسالم وريوش الحميد.
...
فأصبح ذكرى ، وهذا بعض من ركام هذه الذكرى
...
بالحقيقة منذ فترة ليست بالقصيرة، بدأت فكرة تعاون مشترك تلوح في الأفق فيما بيننا، واستسغنا الفكرة بعد أن صارت محل اهتمام جدّي، وعملنا سويًّا على بلورتها،
وبالنتيجة تولّدت هذه القصة، بذرة لعمل دؤوب كنا نستطلع فيه آراء بعض، نكتب ونعدّل حتى كلّلنا جهدنا بهذا العمل.
راجين أن يكون بداية لأعمال أخرى.
ننتظر انتقاداتكم البنّاءة وآراءكم بكل اهتمام. وكلّنا أمل في أن يحوز النص رضاكم.
ريما ريماوي وسالم وريوش الحميد.
...
فردوس
سيارة الاسعاف تنهب الطرق المبتلة بقطرات المطر، أصوات منبهاتها تستفز السكون، الجو المكفهر بالغيوم كأنه قد أسدل الفرح على تلك الوجوه الواجمة، ونشر الحزن على محيّاهم، ينظرون إلى فردوس بين الحياة والموت نظرات كلها توجس وخوف، أنفاسها مضطربة عيناها فيهما توسل للبقاء.. عربة نقل المرضى تجتاز الممرات بسرعة، أمها تمسك بيدها، وهي ترافقها في رحلة قد لا تمتد إلا لتلك الغرفة المجهزة بأنواع الأجهزة الحديثة الطبية والتي احتوتها مع عدد من الأطباء والممرضين. الكل في حركة دائبة يحاولون إنعاشها ومدها بأسباب البقاء. الأم في حالة ترقب وتضرع تنظر إلى ابنتها من خلف الباب تتحشرج معها الكلمات غير مفهومة...
جاء عندهم شاب ملهوف ترتعد فرائصه من الخوف، نظرت إليه الأم بحدّة ثم أجهشت بالبكاء، ناولته ورقة مجعدة غارقة بالدموع حتى كادت تطمس الحروف.
حمله بيد مرتجفة وبدأ يطالعها بعد البسملة رأى كلمة كبيرة:
" أحبك" تتوسط رأس الصفحة، وقرأ:
اسمي فردوس أخت لخمسة أولاد.. نعيش في قرية وادعة على بعد نصف ساعة من المدينة.. تميّز اخوتي بالقسوة والإيذاء، وامتد أذاهم وشمل حيوانات القرية فهم لم يتركوا حمارا، كلبا، أو قطا إلا وقطعوا ذيله.. وأصبحت قريتنا مميزة بحيوانات دون أذناب...
وكانوا يعتدون على الأطفال بالضرب كذلك، ويتسلطون على ابن أحد المدرسين واسمه أحمد المقيم في قريتنا لمقتضى عمل والده الذي يعمل أستاذا في مدرسة القرية الوحيدة، يحاولون رمي العجين الذي يحمله عند مروره لخبزه في الفرن المجاور، ولم تعجبني تصرفات إخوتي فأتصدّى أحميه من عنتهم وتعسفهم..
ولقوة تأثيري عليهم وسلطتي بصفتي أختهم الكبيرة كانوا ينصاعون لأمري.
رفع رأسه عن الرسالة... وشرد بتفكيره بعيدا إلى الوراء:
- كنا نسترق اللحظات بعيدا عن عيون إخوانك, أجلس قريبا منك أمسد شعرك الأصفر كحلقات الذهب، صفوف من الأشجار تمتد وكأنها تكحل الطريق، عبق النسائم يضوّع، يداعب خصلات شعرك, فستانك الفضفاض الأزرق يستسلم لعبث هذه النسمات، همست بأذنك : أحبك، ومض في عينيك بريق من السعادة, فطبعت على جبينك قبلة تورد لها خدك خجلا:
- نحن في الشارع; قلتها ثم أطلقت ساقيك للريح،
رحت أنظر إلى خطوط متوازية وامتداد طريق بلا نهاية، وأنت تركضين كالغزالة الشاردة لا شيء يمنعك.
عاد متابعا القراءة، وكأنه يريد أن يستنطق الحروف:
-عندما اكتمل نموي ونضجي، سلبت بجمالي الأخّاذ قلوب شباب القرية، لكن لم يستطع أحد الدنو مني بسبب الخوف من بأس إخواني.. وعشت كالأميرة في برج عاجيّ يحيط بها الحراس..
ثمّ جاء أحمد ابن المدرس من قريتهم القريبة التي عادوا إليها مذ سنين طالبا يدي:
- ياه ما أوسمه!
عاد ليحتل عرش قلبي من جديد فلي معه ذكريات اهتزت لها مشاعري ورقص قلبي فرحا، فأنا لم أنسه ولم أنس قبلته عند اعترافه لي بالحب، لا ثالث بيننا غير مجرى النهر الصغير وأشجار وارفة تظللنا فتطوف بنا أحلام البراءة..
- كنتِ أجمل فتاة رأيتها سحرتِ قلبي وملكت لبي، كنت حين أجالس أصحابي يثير كلامهم بي الأحقاد والظنون، خصوصا حسن الذي كان مدلّها بحبك ولم يحاول إخفاء ذلك، فتستعر داخلي نار الغيرة، ويشتد ولهي واشتياقي إليك لعلي أراك، أتمنى أزف إليك أخباري، لكنّي أكتفي بالنظر من بعيد خوفا من المتربصين بنا، وعندما تقدّمتُ لكِ ووافقتِ أدركت أن لا أحد أكثر حظا منّي، حطمت كل بروجك، واقتحمت حصونك، وغزوت قلبك، وسلبت تاجك لأكون أنا الملك الوحيد في مملكة قلبك.
تابع قراءة تلك السطور بنهم:
- بتر حلمي بلبس الطرحة وثوب الزفاف ولم تكتمل فرحتي بسبب وفاة خال أحمد .. حملوني عنده بصمت دون احتفال.. كل شيء لفه الحزن، ومن سوء حظي، كانت أمه سليطة متسلطة وبخيلة، وأحمد يطيعها بشكل غريب، حتى المزيد من الطعام كان يسرقه دون علمها من أجل طفله الذي أحمله في بطني وحتى أتغذى جيدا.
رفع رأسه عن الورقة يريد رميها جانبا فلقد اكتفى..بهذا الكم من الأحزان ،فكّر في داخله:
- امتدت الأيام وأنا أعيش حلما لم يدم طويلا لا أعرف لمَ أسقطتك من حساباتي يا فردوس؟ فأنت حبيبتي وأم ابني، أهي رغبة؟ انتهت حين امتلكتها بين يديّ، وكأني أكرر أيام طفولتي وأستنسخ عاداتي المسكونة في حطام شخصيتي المدللة حينما كنت ألح على والدي لأنتزع أي شيء أرغبه بالبكاء تارة أو بالتوسل فينة أخرى، وما إن أحصل عليه حتى يفقد بريقه فأتخلص منه بعد إشباع رغباتي.
شيء أكبر منه أرغمه على مواصلة القراءة خفايا حب متعثر. عاشته حلما وعاشه رغبة.
- ذات يوم ضربتني أمّه بقسوة لأنني حرقت الخبز عندما تولّيت خبزه بنفسي. أحمد اكتفى بالنظر ولم يحرك ساكنا، ولم يحاول الدفاع عني ولا حمايتي, بل استلقى في سريره ونام.
- كانت أمي ترى فيك الفتاة (الدلّوعة) التي جاء بها حظي العاثر. فأنت المرأة التي سلبتها حبيبها المدلل، لهذا كرهتك وتمنت الخلاص منك، وكأنك قدر أحمق ساقك النحس إلينا، وازداد تشاؤمها منك بعد موت أخيها.
عندما رأيتها تضربك لم أرغب في التدخل، أعرف أنها لم تحبك، وحاولت مرارا أن تنتزع كل جنين حب قد ينمو في قلبي في غفلة منها.
لذا كنت حريصا على انتقاء كل كلمة وأنا أحدثها عنك أوافقها الرأي أنك لاتليقين بي لكي أرضي تسلطها. فهي أمّي وكفّتها الراجحة ولا يجوز إغضابها.
- يا للقسوة، أنا الأميرة أهان وأعذب هكذا... كلا لم أعد أحتمل وما عاد في النفس متسع من الصبر، لايوجد شيء يجبرني على تحمل الهوان فهو لم ينتصر لي ويحميني منها ومن إهدار كرامتي.
سأعود إلى حضن أمّي الدافيء وإلى إخوتي فهم من سيحميني.
وبدون تردد او تفكير هربت من عندهم لا ألوي على شيء، غادرت قريتهم إلى قريتي مشيا على الأقدام، تجمّدت الدموع على محاجر عيني وغطتني سحب الغضب والأحزان، لم أنتبه إلاّ بعد حين بأنني لا أرتدي إلاّ قميص النوم غلالة رقيقة، واصلت المسير لساعات وبدأت الدماء تنز من قدميَّ فلقد قطع خفي الخفيف واضطررت لإكمال طريقي بدونه، على أرض غير معبدة كلها أحجار مدببة وأشواك تَأكل من لحمي وتُضاعِف ألمي.
- قالوا لي فردوس فيها مس، قالوا إن جنّا تملكها، لم يعرفوا إني أنا الجاني، برأوني من ذنوبي، وطوّقوها بأغلال الافتراء، وكابرت في داخلي، وأكدت لنفسي إن ذنبك لن يغتفر، وكنت مقتنعا أنّك عدت من أجل "حسن" وأنك أنت من ضيعت حبي، ولقد خرجت عن طوعي فخرجت من حياتي. وصدّقت كذبة أنا كذبتها. آه من قلبك، هل يغفر تلك الآثام.. وهل يعفو عن قلب عنك ماعفا... ؟!
- تفاجأ أهل القرية وهم ذاهبون إلى حقولهم للعمل، يتطلعون نحوي أمشي في غلالة النوم، حافية القدمين، شعثاء الشعر كأني مخمورة، واستهجنوا المنظر وبدأوا يلوكون في سيرتي ويتناقلون الخبر دون أن يتفهّموا وضعي. في البيت كان الكل ينظر لي بذهول وكأن دوي انفجار كسر السكون وأنا أصرخ لأنزف كل آلامي.. أمي وأبي استقبلاني بالدموع لكنهما احتضناني، أما إخوتي فلم يكونوا راضين عن رجوعي وتهجموا عليّ بالكلام واعتبروا تصرفي مذلاّ لهم وأنّي (وطيت رؤوسهم)! بعد أيّام قليلة وصلتني ورقة الطلاق وخبر أنّه عاد وتزوج ابنة خاله!
- ملأ ت أمي رأسي بمعسول الكلام، ولم أكن أرغب بالتعامل مع غضب إخوتك القساة، لهذا تم الطلاق وعلى الفور تزوجت غيرك لكنني لم أجد فردوس، حاولت أن أجد بعضا منك فلم أر غير آلام وأحزان حتى ابنة خالي لم أتحملها، وعدت وتزوجت عدة مرات لكني لم أذق طعما للراحة، جف نهر الحب الجاري وتحوّلت أرضي إلى يباب.. رأيتُ الندمَ في عيون أمي التي قلعتْ كل أشواكي التي كانت تؤذيك لتكون لي حضنا دافئا فوخزتني هي بأشواكها، حطمت صروح كبريائي وأحالتني إلى طفل صغير يشكوها كل شيء.
- وصرت وردة ذابلة، فلقد كنت أحب زوجي، لكنني لم أحتمل كره أمّه ومعاملتها لي كخادمة.
بعدها أنجبت صبيّا جميلا, فحوّلت كل ما في داخلي من حب إلى طفلي، وكنت سعيدة به وأنا أراه ينمو، وداريت به نفسي عن أحزاني، لكنّه جاءني ذات مرة باكيا:
- أمّي لماذا هربت بقميص النوم من عند أبي؟
وكأنه هدّ كل ركام سنين القهر في لحظة واحدة, هدّ كل مابنيته لأنسى!
- حتى ابنك لم يرحمك! كل شيء تحول ضدك حتى أنفاسك، يالك من تعيسة، ويا لي من آثم.. لكنك هربتِ, تركتيني وحدي أتخبط.
- نعم هروبي هذا وصمة العار في حياتي، عندما كبر طفلي وبلغ السن الذي تنتهي فيه حضانتي له، جاء أحمد يطالب بابنه خصوصا أنه لم ينجب بعدها من زواجاته المتكررة.
حينئذ لمّا رأيته تحركت جميع مشاعري وكل عاطفة مشبوبة تجاهه.
- قد أثأر لبعض من كبريائي، قد أغرس ما تبقى من نصل خنجر غائر فينا، علقة لازالت بيني وبينك ابننا ذاك الذي صار يستفز وحدتي، يجعلني أشعر بأنه امتداد لي في هذه الحياة وجذور وساق وأفنان، أنا لم أنس ذلك الحوار الذي دار بيننا وأنت تتوسليني لإبقائه معك:
- كيف تنتزع ابني نور عيني مني يا أحمد؟! اتركه عندي أرجوك.
- ولكن هو أيضا يرغب بالعودة لي..! وأنا لم أنسك ولم تغيبي عن بالي فلقد أحببتك حقّا، وعشت على ذكراك ولهذا لم أنجح في زواجاتي، فهلا عدت لي فلقد فارقت أمي الحياة وماعاد هنالك ما يحول بيننا، ستعيشين عندي كالملكة المتوّجة،
أفلا تقبلين...؟!
قلتها دون شعور مني في لحظة كنت أنا بحاجة إليك، بحاجة لمن يلفني بدفء حنانه..
- رأيت توسلا في عينيه اللتين خبا فيهما البريق، لم أحتج إلى ممهدات لإقناعي، فلقد كنت مغرمة به هو الرجل الوحيد في حياتي، وهفّت نفسي لحضنه الدافئ.
لكني اشترطت عليه عقد حفل زفاف أرتدي فيه الثوب الأبيض كأي عروس، وأعددنا العدة للحفل من جديد، ودعوتُ جميع أهل القرية لهذا العرس المرتقب، وكنت مسرورة بالعودة لسببين فأنا أحبّ أحمد ولم أنسه وكذلك لكي أغسل وصمة عاري التي طاردتني لسنوات طويلة، فهذا ما انتظرته طوال حياتي...
وجاء المدعوون وبدأ الاحتفال، وانتظرتُ.. وانتظرتُ، لكن العريس لم يحضر..
وفهمت أن تلك كانت وسيلته للانتقام مني، وعدت وانطويت في غرفتي حزينة دون ابني الحبيب، وعاد أهل القرية يلوكون بسيرتي ويسخرون من هروب عريسي.
استمر حزني الشديد واعتكفت في منزل أهلي لا أريد رؤية أحد ولا أرغب لأحد أن يراني.
- أعرف الآن أنك وفيت لقلب ما وفى لك، وحملت كل غدر الزمان كرها، ولم تدنسي هذا الحب ولم ترتضي بأي بديل، لكن حينئذ قلتُ ما قلتُ وكأني في حالة رهان مع نفسي، من الذي يكسب أنا أم أنت ..؟
آه كم أحسست بالسعادة وأنت تقبلين لأكمل صورة بدت منقوصة،
ها أنا حصلت من جديد على لعبة كنت قد فرطت بها، امتلكتها بين يديّ.
ليتك رفضت يا فردوس العودة لي ولم توافقي لو طردتني من كوّة أفكارك. حاولت المجيء طوعا إلى حفلة الزواج، أيمّم وجهي صوب بيتكم، ولكني أعود مرغما إلى بيتنا وكأنّ أقدامي كبلت بالحديد، انتابتني هواجس جمة، سرتُ على غير هدى، في طريق موحل ضبابي اللون، الليل ينتزع آخر أمل لك بعودتي، هل هي رغبتي بالانتقام من هروبك المذل لي, نظرت إلى نفسي في المرآة فلم أحتمل قبح انتقامي..
رفع رأسه عن الرسالة وعنده رغبة شديدة في البكاء:
- تكالبت علي الهموم.. لن أشعر بالإرتياح وأنا أشعر بكل هذا الحزن الذي خيم عليك، فردوس.. سوف لن أجعلك فريسة لتلك الأحزان سأعود إليك ولن أتركك، سأكون أنا ذاك الحبيب الذي تنتظرين..
لا أريد إنهاء باقي الرسالة، أريد تمزيقها لنبدأ صفحة جديدة .. لكن لسان حالك يقول لي أتمم الرسالة..
أكمل قراءة السطور الأخيرة, أفزعته باقي الكلمات ارتجفت شفاهه.. تحجرت مآقي عينيه:
- ذات يوم أمي وأبي ذهبا إلى المدينة لمراجعة الطبيب وتركاني وحيدة في المنزل.
اخوتي كلهم فارقونا بعد أن تزوجوا... فتضافرت عليي الأحزان وطفح الكيل فلم أعد أحتمل.
والداي اللذان تحملاّ كثيرا فتك بهما المرض ولم يعودا قادريْن على حمل ثقل أحزاني. لم أنج من عذاب ضميري لأنني السبب في مرضهما بسبب الحزن الذي غلّفهما على مدى أيّام وسنين..
لبستُ طقم النوم الأبيض الذي كان من المفروض أن أزف به إلى عريسي ... وتزينت وتجملت وصرت أحلى عروس، ثم نثرت الورود على سريري ورقدت وتجرّعت كل زجاجة الدواء العائدة لأمّي بعد كتابتي لهذه الرسالة..
أرجو منكم الدعاء بأن يغفر لي الله، فلقد حرمت من نعيم الدنيا فهل يا ترى سأحرم من جنان الخلد؟
ابنتكم المحبة فردوس...
سقطت الورقة منه وقد لفه اليأس والحزن يركض نحو غرفتها كالمجنون.. يجثو قربها يحضن جسدها البارد المسجى بلا روح:
"فردوس لا ترحلي.. أرجوك سامحيني."
...
سيارة الاسعاف تنهب الطرق المبتلة بقطرات المطر، أصوات منبهاتها تستفز السكون، الجو المكفهر بالغيوم كأنه قد أسدل الفرح على تلك الوجوه الواجمة، ونشر الحزن على محيّاهم، ينظرون إلى فردوس بين الحياة والموت نظرات كلها توجس وخوف، أنفاسها مضطربة عيناها فيهما توسل للبقاء.. عربة نقل المرضى تجتاز الممرات بسرعة، أمها تمسك بيدها، وهي ترافقها في رحلة قد لا تمتد إلا لتلك الغرفة المجهزة بأنواع الأجهزة الحديثة الطبية والتي احتوتها مع عدد من الأطباء والممرضين. الكل في حركة دائبة يحاولون إنعاشها ومدها بأسباب البقاء. الأم في حالة ترقب وتضرع تنظر إلى ابنتها من خلف الباب تتحشرج معها الكلمات غير مفهومة...
جاء عندهم شاب ملهوف ترتعد فرائصه من الخوف، نظرت إليه الأم بحدّة ثم أجهشت بالبكاء، ناولته ورقة مجعدة غارقة بالدموع حتى كادت تطمس الحروف.
حمله بيد مرتجفة وبدأ يطالعها بعد البسملة رأى كلمة كبيرة:
" أحبك" تتوسط رأس الصفحة، وقرأ:
اسمي فردوس أخت لخمسة أولاد.. نعيش في قرية وادعة على بعد نصف ساعة من المدينة.. تميّز اخوتي بالقسوة والإيذاء، وامتد أذاهم وشمل حيوانات القرية فهم لم يتركوا حمارا، كلبا، أو قطا إلا وقطعوا ذيله.. وأصبحت قريتنا مميزة بحيوانات دون أذناب...
وكانوا يعتدون على الأطفال بالضرب كذلك، ويتسلطون على ابن أحد المدرسين واسمه أحمد المقيم في قريتنا لمقتضى عمل والده الذي يعمل أستاذا في مدرسة القرية الوحيدة، يحاولون رمي العجين الذي يحمله عند مروره لخبزه في الفرن المجاور، ولم تعجبني تصرفات إخوتي فأتصدّى أحميه من عنتهم وتعسفهم..
ولقوة تأثيري عليهم وسلطتي بصفتي أختهم الكبيرة كانوا ينصاعون لأمري.
رفع رأسه عن الرسالة... وشرد بتفكيره بعيدا إلى الوراء:
- كنا نسترق اللحظات بعيدا عن عيون إخوانك, أجلس قريبا منك أمسد شعرك الأصفر كحلقات الذهب، صفوف من الأشجار تمتد وكأنها تكحل الطريق، عبق النسائم يضوّع، يداعب خصلات شعرك, فستانك الفضفاض الأزرق يستسلم لعبث هذه النسمات، همست بأذنك : أحبك، ومض في عينيك بريق من السعادة, فطبعت على جبينك قبلة تورد لها خدك خجلا:
- نحن في الشارع; قلتها ثم أطلقت ساقيك للريح،
رحت أنظر إلى خطوط متوازية وامتداد طريق بلا نهاية، وأنت تركضين كالغزالة الشاردة لا شيء يمنعك.
عاد متابعا القراءة، وكأنه يريد أن يستنطق الحروف:
-عندما اكتمل نموي ونضجي، سلبت بجمالي الأخّاذ قلوب شباب القرية، لكن لم يستطع أحد الدنو مني بسبب الخوف من بأس إخواني.. وعشت كالأميرة في برج عاجيّ يحيط بها الحراس..
ثمّ جاء أحمد ابن المدرس من قريتهم القريبة التي عادوا إليها مذ سنين طالبا يدي:
- ياه ما أوسمه!
عاد ليحتل عرش قلبي من جديد فلي معه ذكريات اهتزت لها مشاعري ورقص قلبي فرحا، فأنا لم أنسه ولم أنس قبلته عند اعترافه لي بالحب، لا ثالث بيننا غير مجرى النهر الصغير وأشجار وارفة تظللنا فتطوف بنا أحلام البراءة..
- كنتِ أجمل فتاة رأيتها سحرتِ قلبي وملكت لبي، كنت حين أجالس أصحابي يثير كلامهم بي الأحقاد والظنون، خصوصا حسن الذي كان مدلّها بحبك ولم يحاول إخفاء ذلك، فتستعر داخلي نار الغيرة، ويشتد ولهي واشتياقي إليك لعلي أراك، أتمنى أزف إليك أخباري، لكنّي أكتفي بالنظر من بعيد خوفا من المتربصين بنا، وعندما تقدّمتُ لكِ ووافقتِ أدركت أن لا أحد أكثر حظا منّي، حطمت كل بروجك، واقتحمت حصونك، وغزوت قلبك، وسلبت تاجك لأكون أنا الملك الوحيد في مملكة قلبك.
تابع قراءة تلك السطور بنهم:
- بتر حلمي بلبس الطرحة وثوب الزفاف ولم تكتمل فرحتي بسبب وفاة خال أحمد .. حملوني عنده بصمت دون احتفال.. كل شيء لفه الحزن، ومن سوء حظي، كانت أمه سليطة متسلطة وبخيلة، وأحمد يطيعها بشكل غريب، حتى المزيد من الطعام كان يسرقه دون علمها من أجل طفله الذي أحمله في بطني وحتى أتغذى جيدا.
رفع رأسه عن الورقة يريد رميها جانبا فلقد اكتفى..بهذا الكم من الأحزان ،فكّر في داخله:
- امتدت الأيام وأنا أعيش حلما لم يدم طويلا لا أعرف لمَ أسقطتك من حساباتي يا فردوس؟ فأنت حبيبتي وأم ابني، أهي رغبة؟ انتهت حين امتلكتها بين يديّ، وكأني أكرر أيام طفولتي وأستنسخ عاداتي المسكونة في حطام شخصيتي المدللة حينما كنت ألح على والدي لأنتزع أي شيء أرغبه بالبكاء تارة أو بالتوسل فينة أخرى، وما إن أحصل عليه حتى يفقد بريقه فأتخلص منه بعد إشباع رغباتي.
شيء أكبر منه أرغمه على مواصلة القراءة خفايا حب متعثر. عاشته حلما وعاشه رغبة.
- ذات يوم ضربتني أمّه بقسوة لأنني حرقت الخبز عندما تولّيت خبزه بنفسي. أحمد اكتفى بالنظر ولم يحرك ساكنا، ولم يحاول الدفاع عني ولا حمايتي, بل استلقى في سريره ونام.
- كانت أمي ترى فيك الفتاة (الدلّوعة) التي جاء بها حظي العاثر. فأنت المرأة التي سلبتها حبيبها المدلل، لهذا كرهتك وتمنت الخلاص منك، وكأنك قدر أحمق ساقك النحس إلينا، وازداد تشاؤمها منك بعد موت أخيها.
عندما رأيتها تضربك لم أرغب في التدخل، أعرف أنها لم تحبك، وحاولت مرارا أن تنتزع كل جنين حب قد ينمو في قلبي في غفلة منها.
لذا كنت حريصا على انتقاء كل كلمة وأنا أحدثها عنك أوافقها الرأي أنك لاتليقين بي لكي أرضي تسلطها. فهي أمّي وكفّتها الراجحة ولا يجوز إغضابها.
- يا للقسوة، أنا الأميرة أهان وأعذب هكذا... كلا لم أعد أحتمل وما عاد في النفس متسع من الصبر، لايوجد شيء يجبرني على تحمل الهوان فهو لم ينتصر لي ويحميني منها ومن إهدار كرامتي.
سأعود إلى حضن أمّي الدافيء وإلى إخوتي فهم من سيحميني.
وبدون تردد او تفكير هربت من عندهم لا ألوي على شيء، غادرت قريتهم إلى قريتي مشيا على الأقدام، تجمّدت الدموع على محاجر عيني وغطتني سحب الغضب والأحزان، لم أنتبه إلاّ بعد حين بأنني لا أرتدي إلاّ قميص النوم غلالة رقيقة، واصلت المسير لساعات وبدأت الدماء تنز من قدميَّ فلقد قطع خفي الخفيف واضطررت لإكمال طريقي بدونه، على أرض غير معبدة كلها أحجار مدببة وأشواك تَأكل من لحمي وتُضاعِف ألمي.
- قالوا لي فردوس فيها مس، قالوا إن جنّا تملكها، لم يعرفوا إني أنا الجاني، برأوني من ذنوبي، وطوّقوها بأغلال الافتراء، وكابرت في داخلي، وأكدت لنفسي إن ذنبك لن يغتفر، وكنت مقتنعا أنّك عدت من أجل "حسن" وأنك أنت من ضيعت حبي، ولقد خرجت عن طوعي فخرجت من حياتي. وصدّقت كذبة أنا كذبتها. آه من قلبك، هل يغفر تلك الآثام.. وهل يعفو عن قلب عنك ماعفا... ؟!
- تفاجأ أهل القرية وهم ذاهبون إلى حقولهم للعمل، يتطلعون نحوي أمشي في غلالة النوم، حافية القدمين، شعثاء الشعر كأني مخمورة، واستهجنوا المنظر وبدأوا يلوكون في سيرتي ويتناقلون الخبر دون أن يتفهّموا وضعي. في البيت كان الكل ينظر لي بذهول وكأن دوي انفجار كسر السكون وأنا أصرخ لأنزف كل آلامي.. أمي وأبي استقبلاني بالدموع لكنهما احتضناني، أما إخوتي فلم يكونوا راضين عن رجوعي وتهجموا عليّ بالكلام واعتبروا تصرفي مذلاّ لهم وأنّي (وطيت رؤوسهم)! بعد أيّام قليلة وصلتني ورقة الطلاق وخبر أنّه عاد وتزوج ابنة خاله!
- ملأ ت أمي رأسي بمعسول الكلام، ولم أكن أرغب بالتعامل مع غضب إخوتك القساة، لهذا تم الطلاق وعلى الفور تزوجت غيرك لكنني لم أجد فردوس، حاولت أن أجد بعضا منك فلم أر غير آلام وأحزان حتى ابنة خالي لم أتحملها، وعدت وتزوجت عدة مرات لكني لم أذق طعما للراحة، جف نهر الحب الجاري وتحوّلت أرضي إلى يباب.. رأيتُ الندمَ في عيون أمي التي قلعتْ كل أشواكي التي كانت تؤذيك لتكون لي حضنا دافئا فوخزتني هي بأشواكها، حطمت صروح كبريائي وأحالتني إلى طفل صغير يشكوها كل شيء.
- وصرت وردة ذابلة، فلقد كنت أحب زوجي، لكنني لم أحتمل كره أمّه ومعاملتها لي كخادمة.
بعدها أنجبت صبيّا جميلا, فحوّلت كل ما في داخلي من حب إلى طفلي، وكنت سعيدة به وأنا أراه ينمو، وداريت به نفسي عن أحزاني، لكنّه جاءني ذات مرة باكيا:
- أمّي لماذا هربت بقميص النوم من عند أبي؟
وكأنه هدّ كل ركام سنين القهر في لحظة واحدة, هدّ كل مابنيته لأنسى!
- حتى ابنك لم يرحمك! كل شيء تحول ضدك حتى أنفاسك، يالك من تعيسة، ويا لي من آثم.. لكنك هربتِ, تركتيني وحدي أتخبط.
- نعم هروبي هذا وصمة العار في حياتي، عندما كبر طفلي وبلغ السن الذي تنتهي فيه حضانتي له، جاء أحمد يطالب بابنه خصوصا أنه لم ينجب بعدها من زواجاته المتكررة.
حينئذ لمّا رأيته تحركت جميع مشاعري وكل عاطفة مشبوبة تجاهه.
- قد أثأر لبعض من كبريائي، قد أغرس ما تبقى من نصل خنجر غائر فينا، علقة لازالت بيني وبينك ابننا ذاك الذي صار يستفز وحدتي، يجعلني أشعر بأنه امتداد لي في هذه الحياة وجذور وساق وأفنان، أنا لم أنس ذلك الحوار الذي دار بيننا وأنت تتوسليني لإبقائه معك:
- كيف تنتزع ابني نور عيني مني يا أحمد؟! اتركه عندي أرجوك.
- ولكن هو أيضا يرغب بالعودة لي..! وأنا لم أنسك ولم تغيبي عن بالي فلقد أحببتك حقّا، وعشت على ذكراك ولهذا لم أنجح في زواجاتي، فهلا عدت لي فلقد فارقت أمي الحياة وماعاد هنالك ما يحول بيننا، ستعيشين عندي كالملكة المتوّجة،
أفلا تقبلين...؟!
قلتها دون شعور مني في لحظة كنت أنا بحاجة إليك، بحاجة لمن يلفني بدفء حنانه..
- رأيت توسلا في عينيه اللتين خبا فيهما البريق، لم أحتج إلى ممهدات لإقناعي، فلقد كنت مغرمة به هو الرجل الوحيد في حياتي، وهفّت نفسي لحضنه الدافئ.
لكني اشترطت عليه عقد حفل زفاف أرتدي فيه الثوب الأبيض كأي عروس، وأعددنا العدة للحفل من جديد، ودعوتُ جميع أهل القرية لهذا العرس المرتقب، وكنت مسرورة بالعودة لسببين فأنا أحبّ أحمد ولم أنسه وكذلك لكي أغسل وصمة عاري التي طاردتني لسنوات طويلة، فهذا ما انتظرته طوال حياتي...
وجاء المدعوون وبدأ الاحتفال، وانتظرتُ.. وانتظرتُ، لكن العريس لم يحضر..
وفهمت أن تلك كانت وسيلته للانتقام مني، وعدت وانطويت في غرفتي حزينة دون ابني الحبيب، وعاد أهل القرية يلوكون بسيرتي ويسخرون من هروب عريسي.
استمر حزني الشديد واعتكفت في منزل أهلي لا أريد رؤية أحد ولا أرغب لأحد أن يراني.
- أعرف الآن أنك وفيت لقلب ما وفى لك، وحملت كل غدر الزمان كرها، ولم تدنسي هذا الحب ولم ترتضي بأي بديل، لكن حينئذ قلتُ ما قلتُ وكأني في حالة رهان مع نفسي، من الذي يكسب أنا أم أنت ..؟
آه كم أحسست بالسعادة وأنت تقبلين لأكمل صورة بدت منقوصة،
ها أنا حصلت من جديد على لعبة كنت قد فرطت بها، امتلكتها بين يديّ.
ليتك رفضت يا فردوس العودة لي ولم توافقي لو طردتني من كوّة أفكارك. حاولت المجيء طوعا إلى حفلة الزواج، أيمّم وجهي صوب بيتكم، ولكني أعود مرغما إلى بيتنا وكأنّ أقدامي كبلت بالحديد، انتابتني هواجس جمة، سرتُ على غير هدى، في طريق موحل ضبابي اللون، الليل ينتزع آخر أمل لك بعودتي، هل هي رغبتي بالانتقام من هروبك المذل لي, نظرت إلى نفسي في المرآة فلم أحتمل قبح انتقامي..
رفع رأسه عن الرسالة وعنده رغبة شديدة في البكاء:
- تكالبت علي الهموم.. لن أشعر بالإرتياح وأنا أشعر بكل هذا الحزن الذي خيم عليك، فردوس.. سوف لن أجعلك فريسة لتلك الأحزان سأعود إليك ولن أتركك، سأكون أنا ذاك الحبيب الذي تنتظرين..
لا أريد إنهاء باقي الرسالة، أريد تمزيقها لنبدأ صفحة جديدة .. لكن لسان حالك يقول لي أتمم الرسالة..
أكمل قراءة السطور الأخيرة, أفزعته باقي الكلمات ارتجفت شفاهه.. تحجرت مآقي عينيه:
- ذات يوم أمي وأبي ذهبا إلى المدينة لمراجعة الطبيب وتركاني وحيدة في المنزل.
اخوتي كلهم فارقونا بعد أن تزوجوا... فتضافرت عليي الأحزان وطفح الكيل فلم أعد أحتمل.
والداي اللذان تحملاّ كثيرا فتك بهما المرض ولم يعودا قادريْن على حمل ثقل أحزاني. لم أنج من عذاب ضميري لأنني السبب في مرضهما بسبب الحزن الذي غلّفهما على مدى أيّام وسنين..
لبستُ طقم النوم الأبيض الذي كان من المفروض أن أزف به إلى عريسي ... وتزينت وتجملت وصرت أحلى عروس، ثم نثرت الورود على سريري ورقدت وتجرّعت كل زجاجة الدواء العائدة لأمّي بعد كتابتي لهذه الرسالة..
أرجو منكم الدعاء بأن يغفر لي الله، فلقد حرمت من نعيم الدنيا فهل يا ترى سأحرم من جنان الخلد؟
ابنتكم المحبة فردوس...
سقطت الورقة منه وقد لفه اليأس والحزن يركض نحو غرفتها كالمجنون.. يجثو قربها يحضن جسدها البارد المسجى بلا روح:
"فردوس لا ترحلي.. أرجوك سامحيني."
تعليق