اليوم الأخير
لم يفلح منبه سيارة زميلي (حين اقلني صباحا) في انتشالي من أجمة الظنون فلست على يقين من صدور أمر نقلي من هذه المؤسسة البعيدة, تلفعت بالصمت وأدرت نافذة التكييف باتجاه وجهي ثم أغمضت عينيّ.
كنا قد علقنا في ازدحام بغيض حين غادرت صمتي رادا على تذمر زميلي: لا عليك سنودع اليوم اختناقات شوارع بغداد وافخاخ الموت المتربصة.
نفخ صاحبي بمنخريه وأشاح بوجهه عني فأردفت: إصبر قليلا. كشر الشاب بابتسامة باهتة كاد يخفيها شاربه الكث ثم تحسس مكمن علبة الدخان تحت قميصه الفاقع.
انبلج باب المؤسسة الزجاجي لحظة دنوي منه مداعبا صفحة وجهي بنفحة مترفة أنعشت جسدي المستعر بعطش الصيام وبلهيب شهر آب.
وكالعادة أديت طقوسي اليومية لرجل الاستعلامات المتكور خلف منضدته الخشبية الهرمة, أومأ الرجل برأسه الضخم من غير أن تعيرني عيناه الزائغتان أدنى اهتمام.
رمقت بطرفي الأيمن السلم الخاص لجناح المدير العام ثم اجتزت باب غرفة الاستعلامات الداخلي ليبتلعني الرواق الطويل متجها نحو السلم الآخر الرابض في الطرف الأقصى للرواق.
أليس الأولى أن أتشبث بالتفاؤل؟ من يدري لعل يومي هذا هو الأخير حقا, نعم سأدع تفاؤلي يتصاعد كارتقائي بلاطات هذا السلم.
كانت قدمي معلقة في الهواء فوق بلاطة السلم الأولى حين تواءمت قهقهة خالدمع انقضاض قبضته على ساعدي الأيمن.
انفرجت ذراعاي واحتضنته, عجزت لغتي عن ترجمة فرحة لقاء زميل دراستي وشريكي في السكن الجامعي.
يا الهي ماذا فعل بك الزمن؟ سؤال تشوبه الدهشة، رشق احدنا به الأخر, كان هناك الكثير فقد شاءت أقدارنا أن لا نلتقي بعد تخرجنا قبل عقدين.
كنا نتبادل الأسئلة فحسب, فدفق الأسئلة ابخل من أن يتيح فسحة لجواب واحد, تأملت عيني صاحبي ورحت أقلد لكنة أستاذنا الأجنبي: كالد ألي (خالد علي).
جلجلت ضحكته المميزة وضغط على معصمي الأيسر برفق قائلا: دعك من ارتقاءالسلم ألآن واتبعني ..... ستجد ما يسرك.
انزلق كفه معانقا كفي فسايرته صامتا مترقبا وحين شارفنا منتصف الرواق أداررأسه وأومأ بطرف عينه نحو باب مشرع وقال: تقدم لقد وصلنا.
أي مقلب يختبئ تحت ابتسامة صديقي العتيد, هذه الابتسامة التي طالما ارتسمتعلى قسمات وجهه حيثما رآني مع عبير, لم يسألني قط عن طبيعة علاقتي معها ولم أحدثه مطلقا طوال سنين دراستنا عن حبي لها.
في البدء لم تعن لي شيئا فهي جادة أكثر مما أطيق, لكن تغيرت الأمور فجأة ففي يوم ربيع مشمس وخلال مشاركتنا في جلسة طلابية عابرة في حديقة الكلية حدث ما لم يكنفي الحسبان.
صعقتني بنظرة خاطفة من عينيها الناعستين, ذُبت في صوتها الرقراق الذي ينساب همسا من شفتيها الرقيقتين اللتين تنفرجان بين الفينة والأخرى بابتسامة وامضة تضيء قرص وجهها الصبوح, دهشت وكأني لم أر تموج شعرها الحريري الفاحم المنسدل فوق صدرهاالنافر قبل اليوم.
يومئذ أضناني الشوق, شيء يدب في مسامات بدني جعل كلمات الأستاذ المحاضر تخبو رويدا رويدا فسرى الخدر في أوصالي ليتلاشى وجودي تماما وتعوم روحي في عالم لم أدركه من قبل, كم أغرى حالي هذا نظرات أستاذي المؤنبة!
مضت أوقاتنا مسرعة بين لقاء فيحدائق الكلية وأروقتها وبين لهفة للقاء آخر, كنا نتبادل الأحاديث طوال الوقت.
لم أشأ الاعتراف بحبي تصريحا لكنه كأريج العطر عصي على الإخفاء, وفي لحظة صفاء على شاطئ دجلة قالت بهدوء:
- لماذا تبخل عليّ بكلمة احبك؟
- كل ذرة مني تصطلي بحبك!
في يوم الدوام الأول بعد انتهاء العطلة الربيعية للعام الدراسي الأخيراتخذت موقعا قبال باب الكلية الكبير أتربص قدومها, لم تبطئ لكنها أتت برفقة سرب من زميلاتنا, كان شحوبها طاغيا, لم أتمالك نفسي فسألتها بإلحاح: هل أنت مريضة؟ أطرقت قليلا ثم انطلقت مسرعة نحو زميلاتها المنتظرات.
ارتعشت أوصالي وانسابت قطرات العرق البارد على جبيني, كان صقيع العدم يلف كياني. لم يخطر ببالي شيء لأفعله فاتجهت إلى قاعة المحاضرات.
لحقت بها ولما تهبط السلم بعد (حال مغادرة الأستاذ) .
- ما بك؟
- لا شيء! واغرورقت عيناها.
كان واضحا أن شباك بن عمها الثري قد شدت بإحكام وانتهى الأمر.
ما الذي ستفاجئني به هذه القاعة البغيضة التي يدعوها الجميع زورا بالجناح الإداري؟ أليس الأولى أن تدعى بالمخلب الإداري؟.
كان على إشهار حضوري بتفاهة ما لعل فضول احدهم يستثار فيجهر بالمفاجأةالمنتظرة التي لا تعدو أكثر من صدور أمر نقلي حسبما أظن.
استدرت باتجاه خالد يائسا من سماع الخبر المرتقب,......... يا الهي....خفقان قلبي يكاد يفضحني, هاهي أمامي مباشرة!
- عبير أهذه أنت؟.
- يا للزمن كم هي قاسية بصماته على ملامحك!
- لامسك الخشب, فكأنني فارقتك بالأمس فقط.
- ماذا تفعل هنا (قالتها بابتسامة مشرقة)؟ ثم أردفت: هذا يوم عملي الأول في المؤسسة.
- ماذا افعل!! ..... في تلك اللحظة امتدت يد راجفة حجبت عني وجه عبير بورقة مطبوعة: مبروك هذا أمر نقلك.
وسرعان ما تجمع حولنا الزملاء لتنطفئ ابتسامة عبير في زحمة تعليقاتهم المهنئة.
د.عدنان الدراجي
adnanaldarraji@yahoo.com
10/1/2012
تعليق