رحيـــل بـلا عــــودة .. ( قصة قصيرة )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الرحمن الزاهر
    أديب وكاتب
    • 09-02-2012
    • 18

    رحيـــل بـلا عــــودة .. ( قصة قصيرة )




    (( رحيـل بـلا عـودة )) !! ـ قـصـة قـصـيرة .
    ____________________________

    حملتها بين يديَّ .. وهي مرتدية ثوبها الأبيض .. ذلك الثوب الذي كان آخر ثوب ترتديه .

    ثم وضعتها في تلك الزاوية الضيقة من الحفرة .. بينما خدي مبللين بالدموع .. لم أستطع المقاومة .. وخانتني الشجاعة .. ولطالما كنت بالأمس مثالا للشجاعة وشدة التحمل .. غير أنني في هذه اللحظة قد ظهرت على حقيقتي !.

    ردمنا عليها التراب حتى اختفت معالمها للأبد .. وعم الصمت محيط تلك الحفرة .

    تفرق القوم كلهم إلا أنا .. وبدأت خيوط النهار تتلاشى من الوجود .. ثم عم السكون أرجاء الكون .

    وما زلتُ واقفا في مكاني !!.

    أنوار المدينة المشعة من بعيد بدت وكأنها أنجم تتلألأ .. وأصوات المركبات النائية تأتي وتغيب .. اما هنا .... فلا اسمع إلا أزيز الحشرات وفحيح الهوام التي أخذت تتكاثر وتتعالى أصواتها .. بعد أن زاد الظلام حلكة.

    اخذ الخوف يدب إلى جوفي وأجداث القبور تحيط بي من كل ناحية .. وأتخيل الأشباح في كل اتجاه .

    عندها نظرت إلى الأرض أمام أصابع قدميّ .. هاهنا أبنتي (( هند )) .

    آه يا بنيتي .. كم كنت تخافين من الظلام والوحدة !! .. كيف أتركك هنا لوحدك وأعود من دونك للمنزل ؟!!.

    بعد لحظات .... بدأت مغادرة المكان جارا قدمي الثقيلتين .. وما أن ابتعدت قليلا حتى التفت فجأة للخلف .. كأني بابنتي تنادي علي .. كأني قد سمعت صوتها .. أجل أجل إنه صوتها انه صوتها :

    ( فين بتروح يا بابا .. ليه تخليني هنا وحدي ) ؟!!

    ولكنني لم اعد .. لم أعد .. بل تابعت المسير !!!

    أتخيل يديها الصغيرتين تشيران إلى أن امسك بهما لنعود معا للمنزل .

    ولكنني رغم ذلك .... أتابع المسير ....!

    خطواتي تزداد ثقلا .. والدموع تحجرت في عيني ..
    و ....أكمل المسير ..!

    صوتها يتعالى !!

    وأكمل المسير ..!

    يداها تزدادان طولا نحوي !!

    وأكمل المسير ..!

    صدى صوتها يصم أذني ّ !!

    وأكمل المسير .. !

    ******************

    في المنزل بدت زوجتي شاحبة الوجه .. تنظر إلي بشرود .. كأني بها قد كبرت من يوم أمس عشرين عاما !!
    وأدخل غرفة نومي بصمت ....

    فأستلقي على فراشي .. بينما ( أم هند ) جلست بجانبي تمسح على رأسي ببلاهة .. نظراتها شاخصة في لا شيء .

    تذكرت في هذه اللحظة ما جرى الليلة الماضية ..

    كانت (( هند )) مستلقية هنا على هذا الفراش .. تئن متألمة من مرضها المفاجئ .. ثم تنظر إلى بعينين ذابلتين .. وكأنها تستعطفني أن أنقذها مما هي فيه .. فماذا بيدي غير أن أدعو الله لها بالشفاء .

    وأن امسك بيدها الصغيرة راسما على ثغري ابتسامة لعلها تطمئنها كما طمئنني الطبيب .. فماهذه إلا مجرد وعكة صحية عابرة .. وما في الأمر ما يدعو للقلق !! .

    و لكن هند توقفت أنفاسها فجأة .. ولم تعد فيها أية حركة !!

    حاولنا تتنفس .. أن تتحرك ....!! .

    لماذا لم تعد فيها حركة ؟!!
    لماذا عينيها لا تتحركان ؟!!
    لماذا ولماذا ؟!!

    لقد ذبلت .. انتهت كلعبة انتهت بطاريتها !!

    فهل رحلت حقا؟!!

    آه يا بنيتي الجميلة الرقيقة .. كم كنت تنثرين ضحكاتك العذبة في كل ركن من أركان المنزل.. ويفوح أريجك العبق في كل شيء تلمسية ..

    كلما سمعت طرقاتي على باب الدارهرعت إليه مسرعة (( بابا جا .. بابا جا )) .. الآن أعود إلى المنزل .. فلا أجد (( هند)) تلتقيني بأحضانها الدافئة ككل مرة .. أو أسمع ( بابا جاء ) كلما جئت من الخارج !!.

    الآن عشش الصمت في بيتنا .. هدوء كئيب .. ورحلت البهجة من كل زواياه .

    ألعاب بقيت مبعثرة هنا وهناك .. اختفت من كانت تلهو بها .. المكعبات كما هي لم تتفكك .. وما زالت تلك الأوراق المليئة بالشخابيط الطفولية متناثرة في أرجاء غرفتها .

    ملابسها كما هي .. بعضها مرتبة في خزانة الملابس .. وبعضها الآخر متسخة حول الغسالة الكهربائية .. أنظر لبعضها مليئة ببقايا الحلوى .. وأخرى ممزقة من أطرافها من تزحلقها من المرجيحة .

    فكم فرحت بهذه الملابس حينما رأتها و ارتدتها أول مرة .. وكم تباهت بها بين أترابها .

    آخذها فأضمها إلى صدري .. ما زالت رائحة بنيتي فيها .. فما ازكي هذه الرائحة !!.

    ثم أحملها بين ذراعي وكان ذلك الجسد الذي رحل ما زال ماثلا فيها .. ثم أتذكر ملامحها .. وعباراتها .. ودلالها الطفولي .. فأزداد هما وغما .

    أتذكر ما كانت تفضله من المأكولات والحلويات.. وتلك العصائر التي تجري لالتقاطها من رفوف المتاجر حينما اصطحبها معي .

    بل حتى عباراتها المكسرة التي كم ضحكنا حينما تنطقها .

    أتذكر كل شيء .. كل شيء !! .

    *******************
    وتمر الأيام .....

    ويوم بعد يوم .. نبدأ برسم شيء من البسمة على ثغورنا .. كنقش باهت على صخرة قاسية ..
    نحاول أن تسير الحياة .. كمن يدفع جذع شجرة ضاربة في أعماق الأرض .. يعود للخلف فيظنه يدفع للأمام .. ولكنها حركة على كل حال .

    نقضي الأيام متسلين بأشغالنا .. التي تنسينا بعضا من ذكرياتنا المؤلمة ...
    إلا اننا قبل أن ننام .. وعلى نفس هذا السرير- نستخرجها .. ونبدأ في قراءتها من جديد ..

    هنا يا أبنتي كنتي تنامين بيني وبين أمك .. تارة تتجهين نحو أمك فتضمك تحت جناحيها .. وتارة نحوي .
    تشعرين بالدفء بين ذراعينا .. ونشعر بالنشوة ونحن نضمكِ إلى صدرينا .. نلمس جسدكِ الغض فنزداد متعة.. و نتأملكِ في نومك فنذوب رقة وحنانا .

    وكم جئتينا في أحلامنا .. ترفلين في ثوب أبيض جميل .. تختالين به في حديقة ملئى بالورود والزهور.. فنتأملك بإمعان متمنين أن نكون معك .. لنقطف معا قبضة من الزهور مختلفة الأوان .. فنرميها في كل الوجود لتملأ الدنيا من أريجها العبق .

    فنستيقظ صباحا فلا نجدك في عالمنا .. ولا نكون معك في عالمك الجديد ...
    ولا نجد إلا دموع قد انسابت من أعيننا فأغرقت خدودنا وأحرقتها .

    فنلتفت نحو هذا الجدار الذي يحمل بعضا منك .. وحيث تقبعين منذ زمن بعيد ...
    لم يعد منك إلا صورك هذه التي بقيت جامدة تتحدى الزمن .. وبقيت تلك الابتسامات الخالدة فيها لم تتغير.
    وجاء بعدك أخوة وأخوات أنسونا شيئا من ذكراك .. غير أنك بقيتي تلك الطفلة الرائعة .. التي كانت بهجة منزلنا ذات يوم ..
    لم تزالي أنت الطفلة يا ( هند ) وقد كبر الجميع ! .
يعمل...
X