
مذكــرات شجــرة
*في مثل تلك الأيام من كل عام ـ أتذكر حين كانت أمي تصحبني معها وأنا طفلة ـ إلى بلدتها الجميلة ـ التي تميزها الحدائق وأشجار المانجو التي تشتهر بها.. وهي لا تبعد كثيراً عن بلدتنا التي كنا نعيش فيها.. والتي تمتاز بالأشجار والنخيل الذي يمتد على طول شاطئها.. أتذكر أشياء كثيرة وأحداث ـ من تلك الزيارات التي انطبعت في ذاكرتي حتى اليوم..!! .
* ها هي أمي تحمل شقيقي الصغير على ذراع .. وتمسك بيدها الأخرى شقيقي الثاني الذي يصغرني بعامين.. وأنا أسير بجانبهم ـ في طريقنا الى بيت جدي الذي يبعد عن موقف السيارات الذي ننزل فيه بمسافة طويلة.. كنت أشعر بالتعب ـ فتبطئ خطوتي رغماً عني ـ فأجدني أسير خلف أمي.. فأضع عيني على فستانها الجديد الملون حتى لا تتوه عني .. وحين تبعد المسافة بيننا أسرع الخطى ـ أو أجري لألحق بها ـ وأسير بجانبها من جديد..!!
* كان الشارع يأخذني بسياراته وفتريناته وناسه .. وأشجاره المصطفة طوال الطريق في نظام مدهش..!! وجذبتني أيضاًً بعض الشجيرات التي تغطيها الأقفاص الحديدية وهي تخرج بعض أغصانها الرفيعة الغضة من الفتحات .. سألت مرة نفسي: لماذا هي هكذا حبيسة الأقفاص ؟؟! فلم أجد إجابة ..!!! وحين التفت لأسأل أمي ـ لم أجدها بجانبي .. جريت بضعة أمتار وسط الناس وأنا أتلفت حولي أبحث عنها … ولم يطل بحثي فقد وجدتها واقفة تنتظرني.. وقبل أن أسألها ـ سبقتني هي بسؤالها: هل تعبتي يا حبيبتي؟ وبهزة من رأسي أقول لها : لا يا أمي .. رغم أنني متعبة للغاية ـ وهي أيضا ً متعبة ـ وأيضا ً شقيقي الذي تمسك بيده .. كانت أمي تعشق بلدتها الى أقصى حد.. وتعشق السير فيها على الأقدام كي تستمتع بجمالها ـ مهما تكبدنا في سبيل ذلك من تعب..!
في الطريق كانت تنظر لي ولشقيقي بين الحين والحين في حنان وشفقة قائلة : هانت يا حبايبي ـ لقد قربنا على الوصول … وأنا أعرف أننا مازلنا لم نقطع نصف المسافة… كنت قد نسيت السؤال.. أو بمعنى أصح أجلته لأجل غير مسمى حتى لا تقول أمي عني لجدي وجدتي وخالتي أنني أسأل دائماً عن الفول واللي زرعه من كثرة أسئلتي لها طوال الطريق مثلما تقول لهم في كل مرة..!!
* مررنا بحديقة مليئة بالأشجار الخضراء.. يحيط بها سياج حديدي جميل الشكل ـ أخذ أيضاً اللون الأخضر .. سألني عقلي الذي كان صغيراً ًفي أن يجد الإجابة وحده : ما هذا.؟! شجرة مستديرة وشجرة مربعة..كيف ؟!. كيف أخذت تلك الأشجار هذا الشكل الغريب ..؟! أعرف أن الأشجار تنطلق فروعها وأوراقها في حرية مطلقة.. وتتراقص أغصانها الرقيقة على صوت الطبيعة والعصافير.. مثل شجرة المانجو التي في بيت جدي ـ وشجرة الزيتون التي في بيتنا .. قلت لنفسي : ربما تكون الأقفاص الحديدية الصغيرة التي رأيتها تحيط بالشجيرات هي السبب في أن تأخذ تلك الأشجار هذا الشكل غير المألوف.. لا أنكر أنها جميلة الشكل للغايةـ لكني أشعر أنها مقيدة.. سجينة..!!
* في نهاية الحديقة شجرة أخرى مستديرة ـ لكنها ليست باستدارة الأشجار السابقةـ حيث تخرج منها بعض الأغصان الرقيقة والأوراق الخضراء اللامعة تهتز في مرح وانطلاق وسعادة ـ وكأنها تضحك من فرط سعادتها بعبير ربيعها الساحر… ما هذا..؟! من ذلك الرجل الذي يمسك بيده مقص .. ترى ماذا سيفعل به ؟! . إنه يقترب من الشجرة ـ ويقرب مقصه الكبير البشع من وجهها الأخضر الجميل.. يضغط بكلتا يديه .. تسقط الفروع والأغصان الرقيقة على الأرض.. ويلي عليكِ أيتها الشجرة.. لقد إغتال ذلك الرجل براءتك وسعادتك وكسر قلبك ـ وحطم مشاعرك أيتها المسكينة.. أقسم أنني سمعت صوت استغاثتها وأنينها .. ورأيت دموعها التي أخذت تتجمع في مقلتيها ..!! صرخت التفت بسرعة لأمي.. لكن أين هي..؟. لقد ضاعت أمي مني مرة أخرى..!! تتساقط دموعي لتختلط بدموع الشجرة التي بتر الجنايني أغصانها ـ وهي مازالت تتحسس ربيعها الجديد… أين أنت يا أمي..؟! إقترب مني الرجل.. نفس الرجل حاملا ً مقصه الكبير..
صرخت بأقصي صوت : إبعد عني.. لا تقصني ..لا أريد أن أموت..! ويأتيني صوت أمي من بعيد تناديني..
آااه يا أمي لقد أنقذتي حياتي.. جريت إليها أحتضنتها من خصرها ـ وأخذت أمسح وجهي في ثيابها وأنا أنتفض هلعاً وخوفاً .. قلت لها أرجوكِ يا أمي لا تسرعي خطاك.. قالت لي: أنت يا حبيبتي التي تتلكئين ـ وتقفين كثيراً أمام الأشياء تتأملينها وتنسين نفسك أمامها.!! وأمسكتني جزءاً من ثوبها الفضفاض ـ وقالت لي: لا تتركينه مطلقاً ـ
أخيراً شعرت بالأمان.. وسرت بجانب أمي باقي المسافة الى بيت جدي..!!
*****
وحين عودتنا :
* أمسكت بقلمي الصغير الملون.. أخذت أرسم وألون.. لم تكن للوحتي الصغيرة معالم واضحة.. لكنها كانت تعبر عن ما بداخلي.. تعبر عن أحلامي الصغيرة وآمالي…. آه.. ما هذا.. ؟؟ أخي الصغير يمسك بلوحتي.. يمزقها.. أصرخ ـ وأنا أكاد أسمع صوت استغاثتها وأنينهاـ وقبل أن تسيل دموعها لتختلط بدموعي ـ لملمت أشلائها المبعثرة وضممتها الى صدري الصغير وقد ازداد بكائي ونحيبي..!!
**** **** ****
* مرت سنوات وسنوات.. أمسكت بريشتي الكبيرة.. غمستها في اللون الأخضرـ وقد عادت بي ذاكرتي الى الماضي.. وربما الى الحاضر!!
رسمت قفص حديدي صغيرـ تسكنه شجيرة صغيرة ـ توقفت طويلاً أمامها .. ثم رسمت شجرة كبيرة في حديقة يحيط بها سور كبير.. ثم شجرة وشجرة ـ كلهن مقصقصات.!! لماذا..؟ لا أدري..!! ورسمت أمي بثوبها الفضفاض الجميل.. وأنا أسير بجانبها…. ورسمت الرجل ذو المقص.. نعم ـ رسمته دميماً بشعاً.. ورسمت مقصه القاسي.! سأسحقه بريشتي.. سأضعها في اللون الأسودـ وأخفيه تماماً من لوحتي ومن ذاكرتي .!!
لقد اختفى خلف اللون الأسود.. محوته من لوحتي.. .. لكني ما استطعت أن أمحوه من ذاكرتي ومن حياتي..! كلما نظرت الى داخل السياج الحديدي في اللوحة.. أجد عيني تقع بلا قصد على تلك النقطة السوداء الكبيرة.. أراها تتراقص أمام عيني.. ليلوح لي من خلفها شبحه .!!
**** **** ****
* أرى صغيري يحبو ناحية اللوحة.. يحاول أن يشب عليها.. أجري.. أحتضن اللوحة.. أنقذها في أخر لحظة من يد ذلك الرجل الصغير.. أحتضنه.. أنظر في عينيه.. أراها مليئة بالبراءة .. أسأل نفسي : هل تلك البراءة لأنه مازال صغيراً.. أم لأنه ابني..؟؟!!
تمت
تعليق