حصريا: تأملات تاريخية بسقوط الدول - ترجمة The Fall Of The Roman Empire

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فيصل كريم
    مـستشار في الترجمة المرئية
    • 26-09-2011
    • 386

    حصريا: تأملات تاريخية بسقوط الدول - ترجمة The Fall Of The Roman Empire

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

    أحييكم أيها الأخوة والأخوات، وأقدم لكم عملا تاريخيا نطرح من خلاله ما نستلهمه من دروس وعبر تتكرر على مدار الأزمنة والعصور لتجعل من مقولة "التاريخ يكرر نفسه" ماثلة للعيان لمن يرى ويتدبر بتحولات الدهور والدول وتشكلاتهما. والدرس الذي بين أيدينا هو سقوط الإمبراطورية الرومانية. وليس من السهل تقديم تفسير أو تحليل جامع مانع لسقوط هذه الإمبراطورية التي تسيدت العالم القديم قرونا طويلة، ولكن النظر لهذه العملية نظرة التأمل والدراسة ستعمل على تقريب الصورة لكيفية سقوط الدول والإمبراطوريات العظمى. وسأنتهز فرصة تقديم ترجمة العمل الكلاسيكي "سقوط الإمبراطورية الرومانية" لطرح هذه المسألة ومدى انعكاسها على الواقع المعاصر سواء عربيا أو دوليا. ولعل هذا الموضوع ليس إلا محاولة اجتهادية للنظر إلى هذا الموضوع الذي قد يشوبه النقص أو الخلل، ولكني أجزم أن مشاركات الأساتذة الكرام ستثريه وتجعله متوازنا عبر طرح قراءاتهم وتجاربهم ومخزون ثقافتهم.





    لا بد أن نتحدث في البداية عن عملنا السينمائي الكلاسيكي الذي نتناوله اليوم، فهو من الأعمال الضخمة والمكلفة إنتاجيا وماديا، ولا يعتمد على الخدع الصورية (الجرافيكس) كما هي حالة معظم الأعمال الحديثة، إنما هو تجسيد ملموس وتسخير لجموع وحشود كبيرة من المجاميع وتماثيل الرومان وأصنامهم الضخمة وكذلك تشكيلات الفيالق الرومانية المنظمة بكل ما تحتويه من خيول أنيقة ودروع متراصة وعربات خيول غاية بالمرونة والقوة، والفيلم باختصار يجعل المشاهد يعيش الجو الروماني بكل ما تحتويه الكلمة من معنى. أنتج هذا العمل عام 1964، وأخرجه أنطوني مان ومن بطولة كوكبة من أشهر النجوم العالميين والأمريكيين من بينهم صوفيا لورين وستيفن بويد وأليك جينيس وكريستوفر بلامر وعمر الشريف وميل فيرير. وقد بني الفيلم على منظور درامي لتطور تاريخي مدروس أشرف عليه المؤرخ المعروف ويل ديورانت صاحب الكتابين الضخمين "قصة الحضارة" الذي نشره ما بين عامي 1935 و1975، و"قصة الفلسفة" عام 1925 . لن أتحدث عن قصة العمل بحد ذاته فهذه أتركها للمشاهدين، ولكن ما أثار انتباهي هو أن فكرة هذا الفيلم اقتبسها المخرج البريطاني المعروف ريدلي سكوت بفيلمه الشهير Gladiator عام 2000 ليحورها ويحرفها وليخرج لنا عملا غريبا وعجيبا. ولي هنا وقفة للمقارنة.



    يقدم فيلم The Fall Of The Roman Empire منظورا دراميا لحدث تاريخي معين وهو ما قد يضطره لتحويره أو اختصاره جزئيا بما لا يتعارض مع سريان الأحداث الجارية بتلك الفترة، ومن الممكن أن ينتقل هذا التحوير إلى الشخصيات التاريخية المعالجة كالتركيز على نقطة معينة لم يتوقف التاريخ عندها كثيرا لعدم تأثيرها على السياق العام للأحداث، مثل نقطة الشك في أبوة الإمبراطور ماركوس أوريليوس لابنه الإمبراطور كومودوس وتصويرها على أنها الدافع النفسي للسلوكيات الغريبة التي اتخذها الأخير. ومثال آخر يتمثل بشخصية كلياندر حاجب الإمبراطور كومودوس وتصويره على أنه كاهن وثني ينجم للمستقبل وأنه أعمى كذلك، وهي من الأمور المتخيلة دراميا. لكن هذه الأمثلة وغيرها لم تؤثر تأثيرا بالغا (برأيي) على متانة النقل التاريخي لذلك الحدث وتلك الفترة بفيلم سقوط الإمبراطورية الرومانية. إلا إننا إذا ما انتقلنا لدراسة أسلوب ريدلي سكوت بالنقل التاريخي حسب منظوراته الدرامية، فإننا نجده بفيلم "المصارع" يقوم على تحوير ما هو محور أصلا والابتداع بما هو مبتدع سلفا، فهو لا يتجرأ بدراسة تلك المرحلة التاريخية والخروج منها بمنظور درامي معين حتى لو حور به أو زيف، بل لجأ لما هو أسهل وهو إعمال تحويره على عمل درامي بالأصل. وعند المقارنة بين العملين، لا ينكر المتفرج أن عمل سكوت قد أعطى بعدا إنسانيا لعمله من خلال ابتداع شخصية خيالية بتلك الفترة وهي "ماكسيموس" ورغبته بالانتقام من الإمبراطور (الحقيقي) كومودوس، رغم أن الأخير قتله مصارع فعلا خنقا بعد فشل محاولة تسميمه إثر مؤامرة من زوجته وبعض من قادته، إلا إن هذا التغيير والتحوير قد يفسد القراءة التاريخية للحدث أمام الأجيال التي قد لا تقرأ هذه الأحداث بتطوراتها المثبتة تاريخيا، وهو ما قد يدخلنا بدائرة الكذب على التاريخ وتزييفه. ولعل السيد ريدلي سكوت أعاد الكرة بهذا المنظور من خلال عمله التالي "مملكة السماء" Kingdom Of Heaven عام 2005، حيث بنى منظوره على مجموعة من الخيالات الدرامية التي أسقطته بالنهاية بحلقة التزييف لأغراض مشبوهة، حيث إنه جعل من شخصية باليان إبلين بطولية ودافعت عن المعتصمين بقلعة القدس ضد هجوم صلاح الدين الأيوبي لفتح المدينة ولم يذهب (أي باليان) مع الجيش الصليبي لمعركة حطين، بينما الحقيقة المثبتة أن هذا المنظور ليس سوى مجموعة من الأوهام والخيالات التي تعد من الكذب السافر، ومن يقرأ سيرة باليان الحقيقية سيكتشف ذلك بسهولة. المهم هنا أن ما يسمى "المنظور الدرامي" لا يجب أن يتعامل مع الوقائع التاريخية على أنها قابلة للتحوير المطلق والتزييف والخداع وإلا فإن وظيفة السينما ستنتقل من الإمتاع البصري إلى التغييب العقلي. ورغم أن هذا الأمر قد لا ينطلي على القاريء المثقف، إلا إنه قد يزيف التاريخ على آلاف مؤلفة من المشاهدين الذين قد يصدقون مثل هذه التحويرات الدرامية المبتدعة. وأود هنا أن أتساءل، ألا يرى صناع السينما ما يكفي الدراما والمآسي بالتاريخ لكي يصنعوا به أعمالهم؟ وأجزم أن القاريء للتاريخ سيشعر بكل الآلام والجروح والمآسي التي وقعت لشخصياته، وهو واقع أغرب من الخيال كثيرا.



    [line]-[/line]


    متى تسقط الدول؟

    (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )) الإسراء - 16

    يقدم لنا الباري عز وجل قاعدة سرمدية بأبرز أسباب سقوط الدول كبيرها وصغيرها بلا تمييز. فالفساد والفسق والظلم والخروج عن جادة الحق وتغليب الشهوات والمصالح الخاصة والضيقة، وهي من علامات تفسخ وانحلال الدول واهترائها، لا تنحصر بمكان واحد أو زمان واحد، بل قاعدة تنطبق على دولة أو أمة في الأرض. ولكن كيف نتلمس واقع هذا الأمر على الأرض ومجريات الأحداث؟ لا شك أن الثورات العربية تهدف إلى إسقاط أنظمة فشلت في إقامة مؤسسات "الدولة"، فإذا ما افترضنا -حسبما يؤكد الصحافي المعروف الأستاذ محمد حسنين هيكل- أنه "لا وجود بأي قطر عربي لفكر الدولة ومؤسساتها وأجهزتها" فكيف نتصور مدى منطقية الهلع الجاري حاليا حول مقولة "سقوط الدولة" التي يرددها البعض بعد ثورات الربيع العربي! بمعنى أنه هل توجد دولة بالمقام الأول لكي نخشى من سقوطها؟ لا أحاول أن أتبنى هنا المفهوم الفلسفي "الفوضوية" Anarchism كما يتبناه المفكر والعالم اللغوي نعوم تشومسكي فالأمر مختلف، فتشومسكي يزعم بشكل عام "بأن الدولة هي من أهم عوامل تعطيل تقدم الشعوب والحضارات" وهو يبني موقفه واقعيا على سلوكيات الحكومة الأمريكية داخليا وخارجيا، وهو يعارض وجود كيان لا يمكن أن يطلق عليه إلا إنه يحمل مقومات الدولة وأركانها بأفضل ما وصلت إليه متطلبات الحدود الدنيا من حياة الإنسان مهما اختلفنا حولها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. بينما في الجانب الآخر، فإنه لا يمكن وصف أحدهم كمؤمن بالفكر الفوضوي طالما أن الفوضى سائدة بالفعل سياسيا وثقافيا واجتماعيا في هذه المنطقة. لكن المخاوف الكثيرة التي تسود الأقطار العربية من أن بعضها معرض لمؤامرات ومكائد خارجية ستجعلها تتفتت وبالتالي تسقط، وإن قطرا آخر يتربص به طرف ثالث (خفي) يعمل على انهيار إركانه ومن ثم سقوطه كدولة، ونموذج ثالث يزعم أن الاستقرار أمر حاسم لضمان بقاء الدولة وعدم سقوطها، كل هذه المخاوف والأقاويل قد يكون لها بعض ما يبررها، إن كانت صادقة وتحرص على "الدولة" -إن كان هناك بالوطن العربي قطر يمكن أن يطلق عليه أنه يحمل مقومات "الدولة"- ولكن هل هناك حدث بعينه مهما كان فظيعا وبشعا يؤدي لسقوط دولة ما أو انهيارها انهيارا تاما لا قيام بعده؟ لقد زعم كثير من المؤرخين والمحللين أنه لا يمكن لمثل هذا الحدث أن يكون سببا مباشرا لسقوط دولة معينة، وهذا بالفعل ما رأيناه قد تجسد بسقوط دول وإمبراطوريات عظمى عاشت مئات السنين.

    نماذج من سقوط دول إسلامية عظمى

    إن أردنا الاستشهاد بمثال معين سنرى أن مسألة سقوط الدولة والخلافة العباسية نموذجا يستحق التأمل، فهل الغزو المغولي هو السبب الوحيد لسقوط هذه الخلافة وزوالها من الوجود؟ هنالك من ينفي ذلك عبر أدلة عديدة، فقد أكد كثير من المؤرخين أن بوادر سقوطها ظهرت قبل ذلك بفترة طويلة، ولعل من المفارقة أن ملمحا لذلك ظهر بمناسبة تدعو للبهجة، ألا وهي انتصار المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وانهيار مملكة بيت المقدس الصليبية بعد معركة حطين عام 1187م، فكل المسلمين قد استبشروا خيرا بهذا الانتصار المبين، إلا إن الخليفة العباسي في بغداد "المستضيء بأمر الله" لم يقابل هذا الأمر إلا بالفتور وإن سعد الناس بخبر هذا الانتصار أمامه شعر بالنفور، ومن الثابت تاريخيا أن العباسيين لم يدعموا جهود صلاح الدين بما لديهم من مال وجند اللهم بالدعاء وهو ما لا يسمن ولا يغني من جوع، وهنا بدأ الناس يدركون أن الدولة العباسية لم تعد لها قيمة معنوية، فضلا عن سقوط قيمتها المادية كقوة فعلية، بعد أن تخلت عن أهم أركانها التي تأسست عليها كقوة عظمى بالعصور الوسطى ألا وهو الجهاد في سبيل الله. ولم يكن هجوم المغول الوحشي والبربري سوى تحصيل حاصل لدولة سقطت بالفعل في أعين رعاياها ومواطنيها.

    ويمكننا القياس على ذلك بمسألة سقوط الدولة العثمانية التي انهارت داخليا من الفساد والإفساد، رغم محاولات السلطان عبد الحميد الثاني المتأخرة بالإصلاح، قبل أن ينقض عليها الحلفاء من كل حدب وصوب بالحرب العالمية الأولى. ورغم أن وجود الإمبراطورية العثمانية كان أمرا عظيما للأمة الإسلامية التي تحصنت حدودها وقوت شوكتها بعد قيام هذه الدولة على أنقاض عاصمة البيزنطيين القسطنطينية وتحولها إلى عاصمة إسلامية للأبد (إسلامبول أو إسطنبول)، إلا إن المتأمل عن قرب لأحوال هذه الدولة لا يملك إلا أن يشعر بالدهشة والاستغراب من عدة أمور جرت بها. فقد كانت الإنكشارية -وهم صفوة الجيش العثماني ورأس حربته القاتل- سببا رئيسا بالانهيار السياسي والعسكري للدولة رغم أنها قامت على أكتافهم بالبداية. فأصبحوا يتحكمون بمن يطلق عليهم "السلاطين التنابلة" في إشارة إلى مرحلة ضعف الحكام، بعد أن كانت الانكشارية ذراعا قويا بيد السلاطين العشر العظام الأوائل بدءا من عثمان بن أرطغرل وحتى سليمان القانوني. ثم إن بعض المؤرخين يعتبرون أن السلاطين العثمانيين هم أول من شرع قانونا يجيز قتل وذبح أخوتهم عند توليهم العرش السلطاني حتى لو كانوا رضعا أو أطفالا صغارا، وهو ما لا يرتضيه شرع ولا منطق. وبعهد السلاطين التنابلة ازداد نفوذ المحظيات والجواري "الحريم" بالبلاط السلطاني ومعظمهن من الأوروبيات المسيحيات أو اليهوديات، ولم تكن قصة السلطان سليمان القانوني المأساوية وقتله لابنائه من خلال مكائد زوجته روكسلان إلا مؤشرا على بدء التدهور الداخلي والقلاقل الشديدة التي أدت لاضعاف الباب العالي بعد ذلك شيئا فشيئا، واستغلت القوى الأوروبية هذا الأمر أبشع استغلال من خلال اتباع الدبلوماسية الناعمة بالبداية ثم عبر الإجهاز على الدولة ومناطقها بالنهاية، وهو ما أدى إلى انكشاف الغطاء عن الوطن العربي فأصبح لقمة سائغة للقوى الاستعمارية الإمبريالية منذ بداية القرن التاسع عشر، وهو ما أوصلنا للوضع الحالي باحتلال فلسطين على يد القوى المهيمنة بالعالم وأداتها الكيان الصهيوني. وهذا المسار التدريجي نحو الضعف والاضمحلال والسقوط، عند دراسته بتمعن، نراه ينطبق كذلك على سقوط الإمبراطوريات الأخرى كالروسية القيصرية والنمساوية-المجرية وغيرها الكثير ممن طواها الزمن.

    متى ستسقط أمريكا؟!

    من طريف القول إن البعض قد يتساءل عن كيفية السقوط المستقبلي للإمبراطورية الحالية التي تسود العالم، الولايات المتحدة الأمريكية. ولا أظن أن مسألة سقوطها، مهما اقترب أو ابتعد زمانه، سيخرج عن هذه القاعدة العامة التي تنطبق على جميع الدول والقوى العظمى في العالم. فغياب العدالة الاجتماعية وتطويع القانون لخدمة علية القوم وكبارهم والتغول على العالم وعدم احترام ثقافاتهم وأعراقهم، سيؤدي بالنهاية بهذه الولايات المتحدة إلى الوقوع بما وقعت به تلك الدول الساقطة وإلى الانهيار الحتمي، مع ترجيحي بأن تكون الأسباب المباشرة لسقوطها داخلية بالدرجة الأولى، فمن المتعارف عليه أن الخطر والتهديد الخارجي سيوحد من الجبهة الداخلية. ولعل حكام أمريكا أدركوا هذه اللعبة منذ البداية، فلا تكاد تمضي بضعة سنوات إلا وترى حربا مفتعلة قد شنتها الولايات المتحدة مثل غزوها وحربها على الفليبين 1899-1902، وكذلك دخولها غير المبرر للحرب العالمية الأولى عام 1917، ثم تحرشاتها باليابان ما أدى إلى وقوع النزاع العالمي بينهما وانتهائه بالضربة الكارثية الذرية لهيروشيما وناجازاكي عام 1945، ثم تورطها بالحرب الكورية 1950، وغزوها الفاضح لفييتنام تحت شعار منع الشيوعية بدءا من 1956 وحتى 1975، ثم غزو لبنان عام 1982 وشبه جزيرة غرانادا عام 1983، وقصف ليبيا عام 1986، فغزو بنما عام 1989 والقبض على رئيسها مانويل نورييغا الذي لا يزال سجينا حتى الآن. على أن أمريكا التي يعتبرها الكثيرون شرطي العالم خاضت حروبا قد يراها البعض محقة ولها ما يبررها، مثل وقوفها بوجه الخطر النازي والفاشي في أوروبا بالحرب العالمية الثانية، وكذلك خوضها لحرب الخليج عام 1991 وتحرير الكويت. ولكن أيا كان سبب خوضها لكل هذه الحروب وما تلاها وبغض النظر عن مدى أحقيتها من عدمه، فإن من الواضح للعيان أن هذه القوة العظمى لا تنفك عن شن الحروب، ربما لشعورها أن هذا العامل قد يكون هو السبب الوحيد لتوحد البلاد داخليا. فمن يطلع على أحوال الشعوب الأمريكية فسيلحظ عدم وجود رابط يجمعها أو عناصر ثقافية أو عرقية أو تاريخية أو دينية توحدها على الإطلاق. ومن صحيح القول إن المثل التي قامت عليها البلاد (الحرية والعدالة والمساواة) وكذلك بناء على ما يطلق عليه "الحلم الأمريكي" American Dream والبناء الذاتي لمستقبل الفرد، هي مثل وقيم جميلة ورائعة يتمناها كل إنسان بهذا العالم، إلا إن هذا الحلم قد انقلب إلى كابوس يقض مضاجع أهل هذه البلاد، فهم قد بلغوا بمثلهم وقيمهم نقطة الاحتكاك بالواقع فكانت النتيجة اصطداما مريرا مع الديموغرافيا الأمريكية من خلال الإبادة المنظمة للسكان الأصليين وهي القبائل التي أطلقوا عليها تهكما "الهنود الحمر"، واصطدم الأمريكيون مع أنفسهم بعد أن شعروا أن قيمهم التي نص عليها دستورهم المكتوب ما هي إلا حبر على ورق، فخاضوا حربهم الأهلية المريرة (1861-1865) والتي كلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمهجرين. ولا يزال كثير منهم، -لا سيما المواطنين السود-، يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وقد اتضح ذلك بعد أن رأوا الإهمال الحكومي لمناطقهم الفقيرة عند اجتياح إعصار كاترينا عام 2005 الذي كشف المستور وعرى المحظور، رغم محاولات إدارة بوش الابن يومها الظهور بمظهر المتعاطف والمتباكي على الضحايا. ورغم إن الأمريكيين ينفون عن أنفسهم بشدة وصفهم بـ"أمة حرب"، إلا إن أفعال حكوماتهم وسلوكياتها لا تشير إلا إلى هذه الصفة، وهو ما يجعل سخط العالم دائم التوجيه لهم. وقد سرت الكثير من الأقاويل مؤخرا عن رغبة بعض الولايات الأمريكية بالاستقلال التام عن الحكومة الفيدرالية في واشنطن، وهذا الجانب غير مستبعد تماما رغم صعوبة تطبيقه أو الإشارة له بوضوح حاليا. ولكن القاريء لأحوال الكثير من الولايات الأمريكية سيدرك أن المستقبل سيحمل العديد من الأنباء غير السارة لهذه الدولة العظمى، وقد يكون هذا المستقبل قريبا.

    الشرح غير اليسير
    لسقوط دولة الروم العسير


    عندما نقرب المجهر قليلا لمحاولة شرح سبب أو أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية لنرى مدى توافق العوامل أعلاه لتكوّن قاعدة عامة لفهم إنهيار الدول وزوالها (على صعوبة هذه المسألة كما اتفق معظم المحللين)، سنجد أن مؤرخين معاصرين وقدماء حاولوا تقديم تفسيرات عقلانية لمسألة سقوط دولة الروم، لعل من أبرزهم المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون عبر كتابه الذي ألفه عام 1776 بعنوان The Decline Of The Roman Empire وقد أسهب المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي بشرح الأسباب من منظوره الخاص، وسبقه بذلك بزمن طويل المؤرخ الروماني فيجيتيوس الذي عايش أواخر عمر هذه الإمبراطورية الشاسعة. والملخص الزمني الذي سأقدمه لهذه الأسباب ليس إلا عرضا لعملية استغرقت قرونا عديدة، وهو كالتالي (نقلا عن موسوعة الويكيبيديا):

    * القرن الثالث ميلادي:
    - أزمة الاضطرابات السياسية وفراغ السلطة وانقسام الامبراطورية لعدة أجزاء (234-284 م)
    - حكم الإمبراطور دقلديانوس (284- 305 م) الذي حاول فرض إصلاحات سياسية واقتصادية جوهرية، ظلت موجودة لقرون تالية.

    * القرن الرابع ميلادي:
    - حكم الإمبراطور قسطنطين الأول (306-337 م) الذي بنى العاصمة الأخرى القسطنطينية، وتحول إلى المسيحية وعمل على التشريع من خلالها، تاركا وراءه تاريخ الرومان المبني على الوثنية وعبادة الأصنام.
    - الحرب الأولى مع قبائل القوط الغربيين (376- 382 م) والتي وصلت ذروتها بمعركة أدرنة عام 378 حيث هزم بها الجيش الروماني الضخم وتدمر ثلثيه وقتل إمبراطور الروم فالنس بالمعركة. وكان القوط قد هاجروا من موطنهم فرارا من غزو قبائل الهون. وسمح فالنس للقوط بالاستقرار بحدود الإمبراطورية إلا إنهم ما لبثوا أن تمردوا وثاروا بسبب سوء معاملة حكام المقاطعات لهم.
    - حكم الإمبراطور ثيودوسيوس (379-395 م) وهو آخر إمبراطور تتوحد بحكمه الامبراطورية بشطريها الشرقي والغربي، وقد كرس هذا الإمبراطور تبني المسيحية التي اعتمدت في مؤتمر نيقية الأول دينا للدولة، وعمل على إلغاء جميع المظاهر الوثنية السابقة.

    * القرن الخامس ميلادي:
    - فقدان السيطرة على شبه جزيرة الغال وشمال أفريقيا وضياعها كليا من الإمبراطورية بعد عبور مجموعة من القبائل الجرمانية (الوندل والسويبيون والآلان) نهر الراين عام 406 الذي يعتبر الحد الطبيعي الفاصل بين الروم والقبائل الجرمانية.
    - اندلاع الحرب الثانية مع القوط الغربيين بقيادة ألاريك الذي اجتاح اليونان ثم غزا إيطاليا ونجم عن ذلك نهب روما (410)، ثم خروجهم منها وتأسيسهم لمملكة القوط الغربيين في جنوب أسبانيا.
    - قيام الإمبراطورية الهونية بقيادة أتيلا ثم بليدا (434- 453 م)، ثم إغارتهم على البلقان وبلاد الغال وإيطاليا وتهديدهم بالتالي لكل من روما والقسطنطينية.
    - اجتياح روما ونهبها للمرة الثانية عام 455 م وهذه المرة على يد قبيلة الوندل الجرمانية.
    - فشل الهجمات المعاكسة للرومان على الوندل (461-468 م): خطط الإمبراطور الروماني الغربي ماجوريانوس بشن حملات بحرية ضد قبيلة الوندل لاستعادة شمال أفريقيا، لكن هذا الخبر وصل لمسامع الوندل فشنوا هجوما مباغتا على الأسطول الروماني ودمروه. ثم لاقت الحملة البحرية الثانية التي أرسلها كل من الأمبراطور البيزنطي ليو الأول والروماني الغربي أنتيموس عام 468 نفس المصير.
    - خلع آخر إمبراطورين للرومانية الغربية جوليوس نيبوس ورومولوس أوغسطس (475- 480 م): وتتلخص المسألة بأن أوريستس قائد الجيش الروماني الغربي خلع نيبوس الذي عينه البيزنطيون، ونصب بدلا منه ابنه الصغير أوغسطس إمبراطورا. إلا إن نيبوس الذي فر هاربا إلى دالماتيا (كرواتيا حاليا) عين الجرماني أودواكور قائدا لجنده وأعطاه الضوء الأخضر لاجتياح إيطاليا، فقتل أوريستس وخلع ابنه أوغسطس من العرش ونصب نفسه حاكما على إيطاليا عام 476 وطلب من إمبراطور بيزنطة زينو أن يكون إمبراطورا للإمبراطوريتين معا لكي يشرعن منصبه كحاكم مفوض منه، فوافقه على ذلك وتجاهل بنفس الوقت مطالبات نيبوس الذي سرعان ما قتله جنده عام 480، فانتهى بذلك أي وجود للإمبراطورية الرومانية الغربية التي لم تعمر سوى 180 سنة تقريبا.
    - تأسيس مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا عام 493 م: ارتفعت شعبية أودواكور كحاكم في إيطاليا، فهال ذلك زينو الإمبراطور البيزنطي الذي حرض عليه القوط مطالبا إياهم بإزاحته عن الحكم. ففعل القوط ذلك، لكنهم بدلا من أن يعيدوها للحكم البيزنطي أسسوا مملكة مستقلة لهم في إيطاليا وعينوا ثيودوريك ملكا. فضاعت بذلك كل الصلات التي تربط إيطاليا عن بيزنطة التي ورثت الإمبراطورية الرومانية البائدة.

    إلا إن هذا العرض لا يبين من الأعماق مدى قوة وصلابة هذه الإمبراطورية الحقيقية. فقد أظهرت خلال فتراتها تماسكا قويا، لكنه ظاهري، بوجود الجيش الجرار والقوة الاقتصادية الكبيرة والكثافة السكانية التي تمكنها من تحريك عجلة الانتاج وإعادة توليدها باستمرار. لكن هذه العوامل القوية الظاهرية تخفي وراءها عناصر ضعف واضمحلال خطيرة. يؤكد المؤرخ المعروف أرنولد توينبي أن سقوط هذه الإمبراطورية قد بدأ منذ وقت طويل قبل إنهيارها ويجزم أن تحولها من الشكل الجمهوري إلى الملكي قد أدى إلى تفسخ مؤسساتها واهتراء أجهزتها. ولم يكن بالإمكان -حسب منظور توينبي- أن تستمر هذه الدولة أكثر من الفترة التي بقيت بها دون عمليات إصلاح جذرية وشاملة وهو ما لم يتمكن من إجرائه أي من أباطرتها المعروفين، بمن فيهم من يطلق عليهم "الأباطرة الخمسة الصالحين" وهم بالترتيب نيرفا وتراجانوس وهادريانوس وأنطونيوس بايوس ثم أخيرا ماركوس أوريليوس الذي يظهر بالعمل المذكور أعلاه. "فهذه الامبراطورية الشاسعة لم يكن لها نظام خزانة أو مالية معتمد بل اعتمدت ميزانياتها على نهب المستعمرات والأراضي المفتوحة والضرائب الباهظة على البسطاء والمزارعين وهو ما ولد الحنق والغضب بنفوسهم وجعلهم يكفون عن الانتاج ودعاهم كذلك للتمرد والثورة ضد روما أحيانا، وبالتالي فإن التكلفة الكاملة للآلة العسكرية تحملها المواطنون، والاقتصاد الذي يعتمد على الرقيق سيضعف من القوة الشرائية للطبقة الوسطى، ورغم هذا استمر الإنفاق ببذخ على الطبقة الحاكمة وحاشيتهم. وبسبب الفشل الاقتصادي الحتمي فإن التصنيع العسكري للجيش الروماني أصبح ضعيفا ومكشوفا للأعداء بسبب عدم تطوره ومواكبته لمتطلبات العصر" حسب توينبي.

    الروم ومحاربة الأديان

    - اليهودية:


    قامت الإمبراطورية الرومانية في معظم عصورها على ديانات وثنية مبتكرة أو مختلطة مع ديانات وثنية سبقتها كديانات الإغريق، وعبد أهل روما الأصنام المجسدة للبشر ومنها مثلا جوبيتر كبير الآلهة وزوجته جونو إلهة السماء والقمر والوقار للمرأة، ومنيرفا إلهة الشعر والطب والحكمة، وفستا إلهة الموقد وحامية النار المقدسة ولها معبد كبير تخدمه راهبات كثيرات، وكيريس إلهة الزراعة، وديانا وهي أم الحيوانات المتوحشة والغابات، أما فينوس فهي إلهة الحب ومارس هو إله الحرب، وآلهة أخرى كثيرة. وقد عملت الدولة الرومانية على إضطهاد أي دين يقوم على أراضيها، فحدثت نزاعات دموية بينهم وبين اليهود في فلسطين تعرضوا بعدها إلى ما يشبه الإبادة الجماعية والتهجير الدائم من الشام الكبرى. وقام الرومان كذلك بعملية قد لا نزال نعاني من تبعاتها حتى اليوم وتتمثل بهدم أو حرق المعبد الذي بناه الملك هيرودوس لليهود الذين أطلقوا عليه اسم "هيكل سليمان"، وهو ما يشكل "مسمار جحا" المفضل لهم من خلال احتلال القدس وبيت المقدس حيث يريدون أن يقيموا هيكلهم المزعوم من جديد على أنقاض المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث حرم شريف يقدسه المسلمون، وهو سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه ليس بالمنطقة فحسب بل بالعالم أجمع. ومن المعروف تاريخيا أن الروم مسحوا كل الآثار والمعالم اليهودية في القدس بعد ثورة أو تمرد "باركوخبا" ما بين عامي 132 و135 للميلاد، ولم ينفع اليهود كل الثورات والتمردات التي حدثت لاحقا، إلى الحد الذي جعل التهجير والشتات والترحيل Exodus من الأأساسيات الثابتة في معتقدهم الديني. ولا أعلم إن جاز لي أن أشير أن التبعات التاريخية لقمع الروم لليهود نتحملها نحن العرب والمسلمين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لو لم يتخذ الروم هذه السياسة الدموية تجاه اليهود، هل كان لهم أن يستدروا عطف العالم عبر اجترار مآسي تاريخية طويت وانتهت حتى يومنا هذا؟ وكذلك، هل سيتعرض دينهم لمثل هذا القدر من التحريف والضلال لو لم يقعوا ضحية لمجازر الرومان أدت إلى سيطرة قلة من أحبارهم على تفسير الدين اليهودي لمصالحهم الخاصة؟ قد لا تكون الإجابة بسيطة، وتحتاج لبحث آخر منفصل.

    - المسيحية:


    "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبدالله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم· سلام على من اتبع الهدى· أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين· فإن توليت فعليك إثم الأريسيين·"

    و'يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
    "


    بعد أن اتضح للإمبراطور قسطنطين الأول أن النزاعات الداخلية ما بين علية القوم في روما قد ضربت أطنابها وأن الخلافات الوثنية المذهبية قد استفحلت، لجأ إلى حل قد يبدو منقذا آنذاك، وهو محاولة تبني الديانة المسيحية أو النصرانية دينا للدولة. ولكن هذا الأمر لم يكن بهذه السهولة التي قد يتصورها قسطنطين، لأنه سييجعله يضطر أولا إلى محو تاريخ الرومان المرتبط بالوثنية ارتباطا شديدا، ولا شك أنه واجه صعوبات جمة بهذا الشأن لا سيما وأن الحكام الرومان قد عملوا طوال ثلاثة قرون متتالية على التنكيل بكل من يؤمن بدين عيسى ابن مريم الناصري عليهما السلام قتلا وصلبا وتعذيبا، وقد أنجى الله عز وجل نبيه المسيح برفعه إياه، فخيل لهم أنه قد صلب وما هم إلا واهمون. وليس من المقنع أن يأتي بهذا الدين ليجعله رسميا هكذا فجأة. إلا إنه كما بدا قد وجد حلا تمهيديا لذلك من خلال ما أطلق عليه "إطلاق حرية الأديان والاعتقاد الديني" في عهده، ولكنه فوجيء لاحقا بأن أصحاب الديانة، التي أرادها منفذا للوضع السيء، كانوا منقسمين على أنفسهم هم أيضا حول طبيعة ديانتهم وجوهر عقيدتها. وهو ما اضطره بالنهاية إلى عقد المجمع المسكوني الأول في نيقية (بورصة حاليا) عام 325 م، حيث التقت الفرق المسيحية بغرض الخروج بعقيدة موحدة للمسيحية، ولكن تركز الخلاف على مسألة التثليث وطبيعة الرب، ما إذا كانت واحدة أم ثلاثية. ودافع عن المعتقد الأول القسيس آريوس (وهو الأريسي وأتباعه الذين يقصدهم الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام بكتابه لهرقل عظيم الروم) والثاني دافع عنه أثناسيوس. والغريب بالأمر أن كثيرا من المصادر تذكر أن أغلبية رجال الدين الذين دعيوا لمجمع نيقية كان مؤيدين لآريوس بعدم وجود أدلة تقضي بالتثليث، ولكن النتيجة النهائية لهذا المجمع الذي حكم على شكل الديانة المسيحية آلت لصالح المثلثين على قلتهم. ويقول المؤرخ الأمريكي كرين برنتون:

    "إن المسيحية الظافرة في مجلس نيقية في أعظم إمبراطوريات العالم كانت مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل، ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعا، لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن الأولى فحسب، بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتا"

    إلا إن ما هو أغرب من ذلك أن مصادرا أخرى تشير إلى إن قسطنطين، الذي عاش معظم حياته وثنيا، تعمّد قبيل وفاته حسب المذهب الآريوسي. ويتبين لنا أن هذا الإمبراطور لم يكن مهتما بالبحث عن حقيقة الديانة، التي ربما قد سعى أكثر من طرف لإفسادها عقائديا من الداخل (اليهود مثلا)، بل كان يريد استخدامها كمجرد وسيلة جديدة للم شتات الدولة التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانقسام والتفتت. وهذا ما يدعم نظرية أن الدولة الرومانية حاربت الدين الصحيح عند ظهوره، وعندما أرادت تبنيه اختارت منه نسخة مناسبة ومقاربة لمعتقداتها السابقة، فالتثليث مثلا كان موجودا بالوثنية الرومانية (جوبيتر، مارس، كورنيوس) والفرعونية المصرية القديمة (حورس، سيراييس، إيزيس)، وفكرة الكهنوتية والمذبح مستمدة من الوثنية المترائية التي لا ترى خلاصا للإنسان إلا بتقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان، إلى آخرها من المعتقدات المنقولة للديانة المسيحية. وبالتالي فإنني أزعم أن إفساد روما لكل الديانات التي ظهرت على أرضها وكذلك محاربتها لأي دين (بما فيها الإسلام) كان عاملا حاسما لسقوطها بشكل أو بآخر، وكان كذلك سببا بتغول الكنيسة الكاثوليكية في روما إبان العصور الوسطى المظلمة على الناس في أوروبا عموما وهو ما أدى لظهور تطرف مقابل تمثل بالبروستانتية والحروب الدينية الدموية ثم بروز العلمانية أو الدنيوية كوسيلة للخلاص من تلك الأزمات في أوروبا. إلا إن هذه الشرارة انتقلت لعالمنا الإسلامي بلا مبرر، حيث أقدمت كثير من أنظمة الدول العربية والإسلامية لمحاربة الدين واللجوء للعلمانية التي يزعم البعض أنها عامل موحد للدول، وهذا مما أثبت عكسه العديد من المحللين والباحثين، وخصوصا بالدول الإسلامية.

    قصص شعبية أسقطت روما

    إضافة لما ذكره المؤرخ توينبي، فإن معالم إنهيار الدولة قد اتضحت من خلال تعاملها مع جيرانها المتاخمين لها، لا سيما القبائل الجرمانية التي تقطن بالمناطق الشمالية لنهر الراين وكذلك في بريطانيا التي احتلتها روما فترة طويلة من الزمن. ومن يطلع على قصة الملكة بوديكا البريطانية سيدرك مدى الغطرسة التي تعامل بها الرومان مع أصحاب البلد.

    واسمحوا لي بهذه السطور أن أقدم لحضراتكم قصة مأثورة أخرى عند القبائل الجرمانية والتي تظهِر مدى الرغبة بإسقاط الإمبراطورية الرومانية والتخلص من قيودها وإذلالها:

    إنها قصة آرمينوس -أو هيرمان حسب النطق الجرماني- فقد اشترط الرومان بعد اجتياحهم للأراضي الجرمانية شمال نهر الراين وقبول الجرمانيون للصلح أن يسلم زعيم قبيلة الشيروسكي الجرمانية ابنه الصغير لروما ليكون في عهدتهم إلى الأبد ضمانا على صدقه بالتحالف معهم، وكان ذلك على الأرجح في العام الثامن قبل الميلاد. فترعرع هذا الفتى في روما وكبر وتعلم الفنون العسكرية والقتالية إلى أن اشتد عوده وبلغ مكانة لا بأس بها كعبد في البلاط الروماني الذي وثق به وعينه فارسا رومانيا. وشاءت الأقدار أن يأتي للأراضي الجرمانية الشمالية مجددا بعد 20 عاما فرأى الاضطهاد وسوء معاملة بني جلدته الجرمانيين على يد الحاكم الروماني فاروس -الذي كان حاكما ناجحا وقاسيا في سورية قبل ذلك- واعتبارهم كعبيد في أراضيهم ومن لا يدفع منهم الضرائب عالية التكاليف سيكون مصيره حالك السواد. فقرر آرمينيوس وقف هذه العبودية والاضطهاد بعد أن تعهد لوالده وهو على فراش الموت بأن يخلص قبيلة الشيروسكي من هذا الطغيان، فعمل على توحيد صفوف القبائل الجرمانية ودعوتها لشن الثورة على الرومان، ثم انتظر الفرصة المناسبة بعد أن لبى الكثيرون نداءه. وقد واتته الفرصة حين انطلت على فاروس المتغطرس خدعة من آرمينيوس الذي اختلق وجود تمرد على منطقة متطرفة واقترح أن يسيّر فاروس عليها الفيالق الكثيرة حتى يئدها في مهدها. وفعل فاروس ذلك دون أن يفكر بعدائية المنطقة أو أن تتوفر له خطوط انسحاب في أرض ضيقة لا يعرف عنها شيئا أو حتى أن يحمي أجنحته على الأقل، فكان أن وقعت معركة غابة تويتوبورج في العام التاسع بعد الميلاد وأطبق تحالف القبائل الجرمانية على الجيش الروماني في فخ لا مفر منه، ووقعت ثلاثة فيالق رومانية من أفضل الفرق العسكرية الرومانية في مصيدة كبرى تعرضوا فيها للذبح جميعا. وكانت نتيجة المعركة كارثية على الجبهة الشمالية لروما حيث أبيد 36 ألف جندي روماني، أما فاروس المغرور فلم يتحمل وقع الطامة وأقدم على الانتحار بعيد المعركة. وتمثلت تداعيات المعركة بانكشاف كل الجبهة الشمالية وتعرض منطقة الغال وروما نفسها للتهديد الفوري حيث لم تتوفر قوات كافية لصد الجرمانيين هناك، فلم يتوفر خيار آخر سوى الانسحاب إلى جنوب نهر الراين مجددا وترك الجرمان وشأنهم. وهكذا اندحر الرومان إلى الأبد من الشمال الجرماني، وكان درسا قاسيا على تلك الإمبراطورية الغابرة. أما آرمينيوس فرغم انتصاره المدوي فإن البرابرة الجرمان لم يطيقوه أيضا، فقتلوه هو الآخر.

    خاتمة:
    معنى سقوط الدول وقيمة وجودها


    ليس للدولة قيمة على الإطلاق إن لم تعمل على احترام الفرد ورعاية حقوقه وكفالتها، فهذا هو أساس الإسلام وجوهره حيث إنه وضع خارطة طريق إلهية تنظم العلاقات الإنسانية وتبين الواجبات التي يتعين على القيام بها تجاه ربه وتجاه الإنسان الآخر ومع المجتمع الذي وضع هذا الدين الختامي للبشرية أسسه الراسخة. فإذا كانت الدول تدرك هذه القواعد وتقيمها حسب متطلبات العدل الشامل واحترام حرية الفرد وكرامته فإن حكمها قوي بإذن الله وغير آيل للسقوط وراسخ رسوخا صلبا بعقول الناس وقلوبهم وأفعالهم وسلوكياتهم. أما إذا جنحت الدولة نحو الظلم والاستبداد والفساد، فإنها ساقطة بزمن عاجل غير آجل، مهما بدا عليها من علامات الثبات والاستقرار والمنعة. ودائما ما يوجد من يزين بقاء الدول رغم تآكلها من الداخل، وغالبا ما يكون هؤلاء سببا رئيسا بتعجيل سقوط دولهم، وقد عبر كسرى أنو شروان الملك الفارسي عن ذلك خير تعبير ذات مرة حين قال "المُلك بالأعوان" وهذا توصيف واقعي وصحيح، حيث زيد كذلك "الملك بالأعوان، والأعوان بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالرعية، والرعية بالعمارة، والعمارة بالعدل"

    وبالتالي، فإن سقوط الدول وتفتتها وانقسامها سنة من سنن الله في كونه وعلينا ألا نجزع من ذلك، على أن ما يثير القلق والهواجس تبعات ذلك السقوط ونتائجه على الفرد الذي لا حول له ولا قوة، وهو ما نبتهل إلى الله عز وجل دائما اللطف فيه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلاة على الرسول الأمين.
    مصادر:

    العلمانية: نشأتها وتطورها آثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة. د. سفر الحوالي. دار الهجرة. النسخة الإلكترونية
    التاريخ الكامل للدولة العثمانية. د. أحمد بن يوسف الدعيج. محاضرات صوتية
    التاريخ الكامل للمغول. د. راغب السرجاني. محاضرات صوتية
    The Germanic Tribes. Documentary Series. WDR, 2007
    Kingdom Of David, The Saga Of The Israelites. Documentary Series. PBS, 2003
    Hadrian. Documentary Series. BBC, 2008
    تفكيك مصطلح العلمانية. د. عبد الرحمن السليمان. مجلة الجمعية الدولية لمترجمي العربية. الموقع الإلكتروني
    http://en.wikipedia.org/wiki/Decline...mpire#Overview
    http://en.wikipedia.org/wiki/Crane_Brinton
    http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=249022
    http://www.freecopts.net/forum/showthread.php?t=22459
    http://en.wikipedia.org/wiki/First_Council_of_Nicaea
    http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%...86%D9%8A%D8%A9
    http://en.wikipedia.org/wiki/Suleiman_the_Magnificent
    http://www.spunk.org/texts/intro/sp000281.html
    http://www.saaid.net/Minute/mm72.htm
    http://en.wikipedia.org/wiki/Ostrogothic_Kingdom
    http://akomam.yoo7.com/t3-topic
    http://en.wikipedia.org/wiki/Battle_of_Adrianople
    http://en.wikipedia.org/wiki/United_...sion_of_Panama
    http://en.wikipedia.org/wiki/Invasio...ada_%281983%29
    http://en.wikipedia.org/wiki/Philipp...93American_War
    http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%...B3%D9%8A%D8%A9
    http://en.wikipedia.org/wiki/Five_Go..._Good_Emperors
    http://en.wikipedia.org/wiki/Jewish%E2%80%93Roman_wars
    http://audio.islamweb.net/audio/inde...audioid=119704




    ملحوظة: ملف الترجمة مع التورنت في المرفقات
    الملفات المرفقة





    تصميم سائد ريان
  • مازن أبوفاشا
    مستشار سياسي
    • 16-09-2011
    • 167

    #2
    أشكرك أخي فيصل على طرحك لهذا الموضوع وسأعود بإذن الله إلى المشاركة فيه بعدة مداخلات أتناول في كل واحدة منها نقطة محددة في موضوعك الجميل هذا

    ما أود استيضاحه الآن هو تحديد مفهوم الدولة الذي قمت باستخدامه هنا ، لم يكن بمقدوري خلال القراءة فهم أي من المفهومين السائدين للدولة هو المقصود ، فهل المقصود هو المفهوم التاريخي القديم ( الجهاز الإداري الذي ينتج عن المجتمع ) أم المفهوم السياسي الحديث ( الشعب + الأرض + الهوية )

    ربما أخي فيصل وبسبب ميلي نحو النظريات القديمة وخاصة المحلية مثل نظرية ابن خلدون والطبري وغيرهما ، فسأعتمد بشكل أكبر على مفاهيم محلية أكثر ، خاصة وأن ويل ديورانت وتشومسكي وغيرهما لا يبدو عليهما الإقتناع بمدى التشابه الحقيقي بين حياة الأمم والأفراد ، ولعل هذا يفسر كثيرا أسباب طرح تسؤلاتهما وبقاء تلك التساؤلات على عتبة الإجابة دون ولوج ساحتها ، وصحيح أن إجابات القدماء تبدو "قدرية" أو "جبرية" ، تماما كما ينظر البعض إلى "ولكل أمة أجل" ، لكن البساطة التي تأتي بها التفسيرات "القدرية" لا تعني بساطة مشابهة في تفسير الآلية التي يمضي فيها "التفويض" نحو تحقيق "الجبر"

    تحياتي الوافرة أخي فيصل
    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

    تعليق

    • عباس مشالي
      مستشار في الترجمة المرئية
      • 22-12-2011
      • 117

      #3
      شكراً جزيلاً أخي العزيز فيصل كريم على السرد التاريخي الشامل والمتقن فلقد أثريتينا به،
      فأنت تعلم كم أحب قراءة التاريخ وخاصة ما قبل الإسلام لان فيه تدبر لحال من الأقوام السابقة،

      وهنا تأخذنا في رحلة إلى "روما" القديمة
      ،
      إنه فيلم قوي أثنى على كل نجومه المشاهير، لقد كانت تكلفة الفيلم كبيرة، والعمل الرائع عن روما القديمة وقيمة تسلسل العمل. من الابن ماركوس اوريليوس الفاجر الذي رتب لقتل والده وتولى منصب الإمبراطور إلى حين تجمع البرابرة على الأبواب. مجموعات وحشد كبير، والتمثيل جيد جداً، ومشاهد المعركة المدوية، والترجمة المرهقة.


      سقوط الامبراطورية الرومانية يشير إلى الانهيار المجتمعي المتضمن للتحلل التدريجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية الأخرى في الإمبراطورية الرومانية والغزوات البربرية التي كانت آخر مسمار في نعش تلك الحضارة.


      هناك نظرية سقوط الإمبراطورية الأميركية على غرار سقوط الإمبراطورية الرومانية نظرية مضادة تذهب إلى أن أميركا هي روما الجديدة. وهذه النظرية ترى أميركا شبيهة بروما، وفي أوجه كثيرة، ذلك أن عاصمتها واشنطن ذات الأبنية الضخمة مثلما كان طراز العمارة للبنايات الضخمة الرومانية، جيشها في ضخامته وانتشاره في أرجاء المعمورة واعتزاز قادته أشبه ما يكون بجيش روما حينما كان العالم القديم المعروف كله تحت هيمنتها.

      ثقافة أميركا تحكي في العالم لغة ومعالم ومفاهيم وحتى شعارات على النحو نفسه الذي كانت ثقافة روما تنتشر بجميع أنحاء الإمبراطورية. بل يذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن أمريكا مثل روما جمهورية ولكن حقيقة نظامها (تحكمها طبقة من الأثرياء). رؤساؤها في حقيقة الأمر وبما يتمتعون به من سلطات هم قياصرة.


      الفرق اذاً بين نظرية سقوط الإمبراطورية ونظرية روما الجديدة ينحصر في أن المقارنة بين أميركا وروما في عزها وبين أميركا وروما في احتضارها. لهذا كلما انتعشت أميركا، بالحرب أو بدونها، بدت في صورة روما الجديدة الفتية... وإذا ما انتكست وحاصرتها الأزمات والنكسات بدت في صورة روما في مرحلة الانحطاط ثم السقوط. فكل نظرية لها أسبابها ودواعيها الموضوعية، وقد لا يكون الفارق بينهما سوى الزمن: الفاصل الزمني بين الصعود والانحدار.


      الأمر المؤكد هو أن النظرية القائلة بأن أميركا هي روما الجديدة لا تكاد تكون معروفة حتى بين الأميركيين أنفسهم. وتبقى الغلبة لنظرية سقوط الإمبراطورية الأميركية، حتى أن بعض المفكرين الذين يأخذون بها يعتبرون أن النظرية المضادة تضيف أدلة جديدة إلى ما بين روما وواشنطن من أوجه الشبه.
      ولقد انهارت أمريكا حيث أنها لا تستطيع منفردة تحمل نفقات حرب مع أي دولة بالعالم

      بارك الله فيك

      وفي إنتظار المزيد بإذن الله ..

      تعليق

      • فيصل كريم
        مـستشار في الترجمة المرئية
        • 26-09-2011
        • 386

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مازن أبوفاشا
        أشكرك أخي فيصل على طرحك لهذا الموضوع وسأعود بإذن الله إلى المشاركة فيه بعدة مداخلات أتناول في كل واحدة منها نقطة محددة في موضوعك الجميل هذا

        ما أود استيضاحه الآن هو تحديد مفهوم الدولة الذي قمت باستخدامه هنا ، لم يكن بمقدوري خلال القراءة فهم أي من المفهومين السائدين للدولة هو المقصود ، فهل المقصود هو المفهوم التاريخي القديم ( الجهاز الإداري الذي ينتج عن المجتمع ) أم المفهوم السياسي الحديث ( الشعب + الأرض + الهوية )

        ربما أخي فيصل وبسبب ميلي نحو النظريات القديمة وخاصة المحلية مثل نظرية ابن خلدون والطبري وغيرهما ، فسأعتمد بشكل أكبر على مفاهيم محلية أكثر ، خاصة وأن ويل ديورانت وتشومسكي وغيرهما لا يبدو عليهما الإقتناع بمدى التشابه الحقيقي بين حياة الأمم والأفراد ، ولعل هذا يفسر كثيرا أسباب طرح تسؤلاتهما وبقاء تلك التساؤلات على عتبة الإجابة دون ولوج ساحتها ، وصحيح أن إجابات القدماء تبدو "قدرية" أو "جبرية" ، تماما كما ينظر البعض إلى "ولكل أمة أجل" ، لكن البساطة التي تأتي بها التفسيرات "القدرية" لا تعني بساطة مشابهة في تفسير الآلية التي يمضي فيها "التفويض" نحو تحقيق "الجبر"

        تحياتي الوافرة أخي فيصل

        شكرا لطرح استفساركم أستاذ مازن أبو فاشا، ومقصدي من مفهوم الدولة هو الكيان السياسي والاقتصادي الذي يبنيه المجتمع ليكون شكلا متكاملا يبني عليه ثقافته وأسس حضارته، وبالتالي فلا أرى انفصاما بذلك عن المفهوم الشامل للدولة عبر مكوناتها كشعب وأرض وهوية. أما إذا كنتُ غير دقيق بتصوري فيسعدني أن تبين وجه ذلك يا أستاذنا الفاضل.






        تصميم سائد ريان

        تعليق

        • فيصل كريم
          مـستشار في الترجمة المرئية
          • 26-09-2011
          • 386

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عباس مشالي مشاهدة المشاركة
          شكراً جزيلاً أخي العزيز فيصل كريم على السرد التاريخي الشامل والمتقن فلقد أثريتينا به،
          فأنت تعلم كم أحب قراءة التاريخ وخاصة ما قبل الإسلام لان فيه تدبر لحال من الأقوام السابقة،

          وهنا تأخذنا في رحلة إلى "روما" القديمة
          ،
          إنه فيلم قوي أثنى على كل نجومه المشاهير، لقد كانت تكلفة الفيلم كبيرة، والعمل الرائع عن روما القديمة وقيمة تسلسل العمل. من الابن ماركوس اوريليوس الفاجر الذي رتب لقتل والده وتولى منصب الإمبراطور إلى حين تجمع البرابرة على الأبواب. مجموعات وحشد كبير، والتمثيل جيد جداً، ومشاهد المعركة المدوية، والترجمة المرهقة.


          سقوط الامبراطورية الرومانية يشير إلى الانهيار المجتمعي المتضمن للتحلل التدريجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية الأخرى في الإمبراطورية الرومانية والغزوات البربرية التي كانت آخر مسمار في نعش تلك الحضارة.


          هناك نظرية سقوط الإمبراطورية الأميركية على غرار سقوط الإمبراطورية الرومانية نظرية مضادة تذهب إلى أن أميركا هي روما الجديدة. وهذه النظرية ترى أميركا شبيهة بروما، وفي أوجه كثيرة، ذلك أن عاصمتها واشنطن ذات الأبنية الضخمة مثلما كان طراز العمارة للبنايات الضخمة الرومانية، جيشها في ضخامته وانتشاره في أرجاء المعمورة واعتزاز قادته أشبه ما يكون بجيش روما حينما كان العالم القديم المعروف كله تحت هيمنتها.

          ثقافة أميركا تحكي في العالم لغة ومعالم ومفاهيم وحتى شعارات على النحو نفسه الذي كانت ثقافة روما تنتشر بجميع أنحاء الإمبراطورية. بل يذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن أمريكا مثل روما جمهورية ولكن حقيقة نظامها (تحكمها طبقة من الأثرياء). رؤساؤها في حقيقة الأمر وبما يتمتعون به من سلطات هم قياصرة.


          الفرق اذاً بين نظرية سقوط الإمبراطورية ونظرية روما الجديدة ينحصر في أن المقارنة بين أميركا وروما في عزها وبين أميركا وروما في احتضارها. لهذا كلما انتعشت أميركا، بالحرب أو بدونها، بدت في صورة روما الجديدة الفتية... وإذا ما انتكست وحاصرتها الأزمات والنكسات بدت في صورة روما في مرحلة الانحطاط ثم السقوط. فكل نظرية لها أسبابها ودواعيها الموضوعية، وقد لا يكون الفارق بينهما سوى الزمن: الفاصل الزمني بين الصعود والانحدار.


          الأمر المؤكد هو أن النظرية القائلة بأن أميركا هي روما الجديدة لا تكاد تكون معروفة حتى بين الأميركيين أنفسهم. وتبقى الغلبة لنظرية سقوط الإمبراطورية الأميركية، حتى أن بعض المفكرين الذين يأخذون بها يعتبرون أن النظرية المضادة تضيف أدلة جديدة إلى ما بين روما وواشنطن من أوجه الشبه.
          ولقد انهارت أمريكا حيث أنها لا تستطيع منفردة تحمل نفقات حرب مع أي دولة بالعالم

          بارك الله فيك

          وفي إنتظار المزيد بإذن الله ..
          شكرا لكم أستاذنا الفاضل عباس مشالي على ما تفضلتم بطرحه، والحقيقة أن مسألة سقوط أمريكا ومقارنة ذلك بسقوط روما عملية ليست بالسهلة على الإطلاق. ولا أعلم على وجه الدقة إن كان تشابه عملية سقوطهما -إن ومتى تحقق- سيسير بنفس هذا الإطار الزمني الطويل والشاق، ولا يمكنني الجزم أن سرعة سقوط أمريكا أو البطء فيه سيكون عملية محمودة العواقب على شعوب العالم. فأمريكا ليست كروما، فمن الممكن أن معتوها ما أو مجموعة من المختلين عقليا بواشنطن يفكرون بإطلاق صواريخ نووية مهلكة على العالم هكذا بلا مقدمات، حينها سنتيقن أن مصير العالم مرتبط بقلة من المهووسين سواء في واشنطن أو موسكو. والله خير الحافظين.

          ولكن برأيي أنه ليس من المهم أن تسقط أمريكا أو لا تسقط، أو أن تزول روسيا أو لا تزول، بل المهم ما هي العبر التي استخلصناها من تجارب التاريخ، وماذا عملنا وفكرنا واجتهدنا وجاهدنا؟ أم إننا سنستمتع بالفرجة على الأمم ونتخلى عن الريادة إلى الأبد؟





          تصميم سائد ريان

          تعليق

          • منيره الفهري
            مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
            • 21-12-2010
            • 9870

            #6
            المترجم القدير

            فيصل كريم

            سعدت جدا بوجود هذه الترجمة الحصرية في الملتقى اليوم

            موضوع ضخم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى

            و هذا السرد الجميل للوقائع التاريخية الثابتة

            قرأت الموضوع و استمتعت به جداااا

            و كم أذهلتني معرفتك الكبيرة بالتاريخ

            فقرأت الموضوع حتى النهاية و إن كنت أعرف بعض الوقائع

            و لكن وقائع كثيرة غابت عليّ

            أعجبني جدا الموضوع و هذا التحليل الدقيق لتاريخ الأمم

            و لا أخفيك أنني من محبي التاريخ و أطواره

            لذلك تراني مشدودة بموضوعك الكبير هذا

            و سأشاهد الفلم المترجم طبعا إن شاء الله بعد أن تمكنت من تحميله أخيرا

            و الله إننا لنفخر بوجودك في هذا الملتقى

            الذي يكون كبيرا بأمثالك أستاذي الكبير

            لي عودة بعد أن أشاهد الفلم

            و شكرا من الأعماق أستاذي فيصل على هذه الجهود المميزة

            تعليق

            • منار يوسف
              مستشار الساخر
              همس الأمواج
              • 03-12-2010
              • 4240

              #7
              وظيفة السينما ستنتقل من الإمتاع البصري إلى التغييب العقلي.
              ورغم أن هذا الأمر قد لا ينطلي على القاريء المثقف، إلا إنه قد يزيف التاريخ على آلاف مؤلفة من المشاهدين الذين قد يصدقون مثل هذه التحويرات الدرامية المبتدعة.

              وهنا بدأ الناس يدركون أن الدولة العباسية لم تعد لها قيمة معنوية، فضلا عن سقوط قيمتها المادية كقوة فعلية، بعد أن تخلت عن أهم أركانها التي تأسست عليها كقوة عظمى بالعصور الوسطى ألا وهو الجهاد في سبيل الله. ولم يكن هجوم المغول الوحشي والبربري سوى تحصيل حاصل لدولة سقطت بالفعل في أعين رعاياها ومواطنيها.

              سقوط الدولة العثمانية التي انهارت داخليا من الفساد والإفساد،

              غياب العدالة الاجتماعية وتطويع القانون لخدمة علية القوم وكبارهم والتغول على العالم وعدم احترام ثقافاتهم وأعراقهم، سيؤدي بالنهاية بهذه الولايات المتحدة إلى الوقوع بما وقعت به تلك الدول الساقطة وإلى الانهيار الحتمي

              الأستاذ القدير فيصل
              موضوع و مجهود رائع أحييك عليه كثيرا
              نشر مثل تلك الثقافات عن التاريخ لنأخذ منها العبر للمستقبل
              و نعلم عن أحوال تلك الامبراطوريات العظيمة كيف و لماذا سقطت
              و لو أن الواقع يقول لا توجد دولة أو حاكم قد أخذ عبرة ممن سبقوه
              اقتبست بعض مقتطفات من الموضوع
              و لي عودة للتكملة
              فهو موضوع يستحق أن يتم قراءته و مناقشة ما به
              شكرا لك أستاذ فيصل مرة أخرى

              تعليق

              • محسن الفقي
                مترجم وأديب
                • 04-10-2009
                • 102

                #8
                شُكرا سيّدي فيصل على هذه الحفريّة المعرفية التي أعادت لسديم ما نعلم وهجه و تألقه و أعادته الى واجهة الحدث فجاءنا مُفعما بالحركية و الانفعال و الرّاهنية المُمتدّة عميقا في الواقع العصيّ حقيقة على التمثّل..
                عملك هذا سيّدي شهادة أخرى تجعل المُسْتحيل مُحْتملا و المُحتمل عربيا أصيلا اذا تعلّقت به همّتنا و ها أنت تفعل فألف شكر ..

                تعليق

                • يسري مصطفى
                  محظور
                  • 01-09-2010
                  • 72

                  #9
                  الاستاذ القدير
                  الاديب فيصل كريم المحترم
                  اعتقد بان التاريخ هو اصل المعرفة
                  من لايعرف التاريخ لايمكن ان يكون نخبوي الابداع
                  تسجيل الاحداث زمانا ومكانا واشخاص كان في الاصل قبل ظهور الاديان وقبل ان تعرف الفنون وبالعكس كانت الرسومات تخضع للحدث التاريخي وتسجله كما فعل الفراعنة
                  من لم يستحضر التاريخ امام عينيه لن يقدم مهما كانت موهبته ابداعا ادبي او فكري على المستوى النخبوي
                  لذا يتميز الكتاب والادباء المزودين بمعرفة التاريخ دائما
                  هكذا احب هيكل - استاذ الاساتذة - الذي طالما استشهد به الاخ فيصل كريم - احب هذا الاستاذ رغم كل الشهرة والمكانة التي حظي بها ان يطلب من الجميع ان يلقبوه بالمؤرخ المعاصر وكان قبل ثلاثة عقود يفضل لقب الكاتب الصحفي معتبرا نفسه الاول بين الاوائل في الصحافة اما ان يكون مؤرخ فتلك تحتاج الى منافسة شديدة مع مؤرخين على مستوى ويل ديورانت / وارسكين تشيلدرز / وبرتراند راسل
                  التاريخ لا يكتبه الا العلماء
                  ولايعرفه الا نخبة النخبة من المبدعين
                  ليس المقصود بالمؤرخ هو من ينقل المعلومة
                  ولكن من يبحث عنها ويوظفها في اللحظة المناسبة
                  هكذا يصبح او يتحول الكاتب السياسي الى مفكرسياسي يكتب في الاستراتيجيات ضمن تصوره للاحداث الراهنة
                  فالمؤرخ هو كاتب سياسي واجتماعي استراتيجي لا ينظر الى التحليل السياسي من وقائعه الراهنة دون ان يربطها بالماضي ليستكشف من خلالها افاق المستقبل
                  ولان الامر كذلك فلا بد من تأصيل المعرفة
                  وتأصيل المعرفة هو التاريخ
                  حين نجد التاريخ في الادب نشعر بعمل استثنائي وحين نجد التاريخ في الفن نجد عمل ابداعي
                  وفي موضوع السينما والتاريخ سنجد الامبراطورية الرومانية اخذت حيزا كبيرا من الافلام السينمائية التي حققت نجاح مادي وجماهيري على المستوى العالمي رغم انها باهظة التكاليف مثل فيلم سبارتاكوس او ثورة العبيد بخلاف افلام الاساطير الرومانية وافلام كليوباترة والقيصر وانطونيو ومن الافلام التي سجلت التاريخ العربي بدقة فيلم لورانس والعرب من بطولة عمر الشريف
                  ينطبق نفس الامر على الافلام التاريخية العربية والتي جعلت من مصطفى العقاد منتج ومخرج فيلم الرسالة وعمر المختار علامة في تاريخ السينما العربية وجعلت من يوسف شاهين العبقرية السينمائية الفريدة في تاريخها العربي من خلال افلامه / بونابرت والمصير و...الخ
                  هكذا يكون التاريخ عملاق المعرفة
                  في الجانب السياسي من التاريخ سوف نلتقي بتاريخ الاديان وتاريخ الانبياء وتاريخ الامبراطوريات والدول
                  ونلمس التناقض مابين اهل الدين واهل السياسة
                  وهو الصراع الذي امتد لينجب لنا العلمانية البديلة عن السلطة الكنسية
                  كانت السلطة الدينية دائما لها ابوتها الروحية الى ان انتصر اهل السياسة ليطبقوا قاعدة :
                  مالله لله وما لقيصر لقيصر
                  الدين لله والوطن للجميع
                  الشريعة هي الاسلام في الدستور لكنها ليست النظام وليست الحياة
                  هنا نصل الى مفهوم الدولة / ارض وشعب ونظام
                  الارض والشعب معروفان تواجدهما يمثل الهوية الجغرافية والتاريخية والاجتماعية وربما الثقافية
                  يبقى المتغير في مفهوم الدولة هو النظام
                  والنظام هو مكونات السلطة التي تقيم دولة ضمن اطار محدد المعالم
                  هذه المعالم هي المدخلات والمخرجات
                  اي المطالب والقرارات
                  المطالب تصدر من الشعب
                  والقرارات تصدر من رأس السلطة
                  هنا ما يحدث من ثبات او انهيار للنظم السياسية فتؤدي الى انهيار الدول
                  هل يوجد دولة بالمعنى الثابت في عالمنا العربي وهو ما انكره استاذنا الكبير هيكل على النظم السياسية العربية ولماذا ؟
                  اعتقد ان حجة الاستاذ هيكل في ذلك وهي عندي مسلمات - في ان عدم الثبات للنظام السياسي في العالم العربي هو الذي يجعل الدولة قابلة للانهيار
                  بينما الثابت وهما الارض والشعب باقيان
                  مابين النظام المتغير دراماتيكيا وثبات الارض والشعب في العالم العربي
                  تكون معركة التخلف والتحضر
                  ليس ثبات النظام بتواجده تابعا لقوى استعمارية فنقول انه ثابت
                  وليس الثبات هو سيطرة حزب ما على السلطة لخمسين عام دون مراعاة الرؤى الاخرى ثباتا بل هذا كله جزء من انهيار النظام الذي يقوم على
                  مدخلات ومخرجات
                  وكلتاهما تؤثر في الاخرى
                  فان لم توجد في الدولة قوى ضاغطة تطالب ولم توجد بالتالي قرارات مؤمنة بالمطالب فالدولة ناقصة
                  لانها تستلب حق جزء من الشعب في التعبير عن نفسه
                  وهكذا فان النظام الثابت لجزء من الشعب اسقط اساس الشعب في قيام الدولة
                  وهذا ما يمكن ان نسترشد به في الثورات الحالية
                  الى اين ستأخذنا ؟
                  الى دولة للجميع تتحقق بتداول السلطة لضمان حق كل الشعب فيها
                  ام الى تبديل الظالم بالظالم
                  وتلك قضية يمكن ان نفرد لها الكثير من الصفحات
                  لكن الدول عبر التاريخ هي قدرتها على الثبات / قوية وليست تابعة لاحد
                  والله احق واعلم
                  التعديل الأخير تم بواسطة يسري مصطفى; الساعة 23-03-2012, 14:44.

                  تعليق

                  • فيصل كريم
                    مـستشار في الترجمة المرئية
                    • 26-09-2011
                    • 386

                    #10
                    شكرا لجميع الأخوة والأخوات ممن أناروا الموضوع بمداخلاتهم الطيبة. وأثمن المشاركة القيمة التي تفضل بها الأستاذ القدير الفاضل يسري مصطفى حيث طرح أفكارا قيمة أثرى بها الموضوع من واقع علمه وخبرته التي يستفيد منها ممن هم مثلي صغار السن وقليلي العلم والتجربة.

                    وأصدقكم القول يا أساتذتي الكرام أنني لست متخصصا بالتاريخ وعلومه ومناهجه، ولكنني اجتهد بقراءة حوادثه وشخصياته ودوله. واعلم أن هذا لا يكفي لتقديم تحليل علمي لوقائع التاريخ وتحولاته وانقلاباته، ولكني بنفس الوقت لا أزعم سوى تقديمي لأفكار أو تأملات (كما هو عنوان الموضوع) أحاول من خلالها تحليل فكرة ما والنظر لجوانب من تفرعاتها المتصلة بها، وقد أوفق بجوانب بذلك وأخفق بأخرى، وهو ما يدعوني دائما للتعلم والاكتساب من ذوي الخبرة والعلم.

                    ومنكم نتعلم ونستفيد





                    تصميم سائد ريان

                    تعليق

                    • ريما منير عبد الله
                      رشــفـة عـطـر
                      مدير عام
                      • 07-01-2010
                      • 2680

                      #11
                      بداية أشكرك أستاذ فيصل لدعوتي لهذا الموضوع القيم والذي لا بد أخذ منك الكثير من الوقت والجهد للوقوف على عوامل تاريخية قيمة
                      من وجهة نظري قرءانيا أجد فرعون والذي كان يقول أنا ربكم الأعلى مثال على تساقط الدول والممالك مهما تكن عظمتها عندما تستبد وتستعبد الشعوب وتصنع بالسيف والقتل مجدها
                      ولا شك أنك تطرقت لهذا الأمر من خلال طرحك
                      و
                      سعيدة أنا بمتابعتك
                      تحياتي

                      تعليق

                      • غسان إخلاصي
                        أديب وكاتب
                        • 01-07-2009
                        • 3456

                        #12
                        أخي الكريم فيصل المحترم
                        مساء الخير
                        جزاك الله خير الجزاء .
                        هل لي أن أعرف الغاية من هذه الترجمة في هذا الوقت بالذات ؟
                        من وجهة نظري المتواضعة :
                        لا أعترف بما يقدم في كثيرمن الأفلام الأمريكية والأوربية لأنها تزيف كثيرا من الحقائق بسبب سيطرة اللوبي اليهودي على كثير من منابر الإعلام في أوربا وأمريكا .
                        الإعلام المحايد هو الذي يؤخذ بوجهة نظره في هذه الأيام لأنه ليس مسيسا .
                        بينما نجد الإعلام الموجه هو الذي تسوقه كثير من المنابر الإعلامية ولغاية في نفس يعقوب !!!!!!!!! .
                        ولكنني مؤمن بالمثل العربي وأرجوأن يتحقق :
                        ( ماطار طير وارتفع إلا كما طار وقع ) .
                        وإن غدا لناظره قريب !!!!!!!!!!!!!!! .
                        تحياتي لك ووودي .
                        (مِنْ أكبرِ مآسي الحياةِ أنْ يموتَ شيءٌ داخلَ الإنسانِِ وهو حَيّ )

                        تعليق

                        • فيصل كريم
                          مـستشار في الترجمة المرئية
                          • 26-09-2011
                          • 386

                          #13
                          شكرا للأستاذة الفاضلة ريما منير عبد الله على مداخلتها الطيبة. والشكر موصول للأستاذ الفاضل غسان إخلاصي على ما تفضل به.

                          والحقيقة أن ما طرحه الأستاذ غسان إخلاصي لا يجافي الواقع كثيرا، حيث إن السينما الأمريكية تلجأ بأحيان كثيرة إلى التزييف وقلب الحقائق. ولعل أكثر حضراتكم لا يعلمون أن أقل الأعمال المرئية التي ترجمتها أمريكية من بين 120 مادة مرئية ترجمتها، فتخصصي الرئيسي هو ترجمة الأعمال الآسيوية وتحديدا اليابانية منها، ثم ركزت قبل عامين تقريبا على ترجمة الأعمال الوثائقية.

                          ولكننا من ناحية أخرى لا بد أن نسأل أنفسنا سؤالا مهما، وهو ماذا فعلنا نحن لكي نواجه هذا السيل العارم من الكذب وتزييف الحقائق لمصالح معينة؟ نحن أمام خيارين أحلاهما مر، بسبب عدم قدرتنا على الإعلام الأمريكي الموجه والمضلل (رغم أن بعضا من بني جلدتنا يلجأ لهذا الأسلوب بشكل يثير التهكم)، فإما أن نتجاهله ونمنع الناس من التعرف عليه، أو أن نواجهه بكل قوة لنوضح مدى الكذب والدجل الذي يهيمن عليه. اعتقد أن الإجابة بالعصر الحديث لا تحتاج لشرح كثير.

                          قبل عامين تقريبا، كنت مشرفا بقسم لترجمة الأعمال المرئية ولاحظت أن بعض الأعضاء أصبحوا يترجمون الأفلام الصهيونية من الدرجة الأولى بكثرة (أي الأفلام التي يسمونها "إسرائيلية") تحت حجة "دعونا نتعرف على المجتمع الإسرائيلي حتى نلمّ به"، والحقيقة أنني لم أتمالك نفسي فوجهت رسالة شديدة اللهجة لمدير القسم (وهو من مصر الشقيقة) قائلا له أن عليه أن يوقف مثل هذا الفكر الأعوج حتى لا يستشري بيننا، وإلا ستصب علينا لعنات أمهات الشهداء. فلم يقصر الرجل وسن مادة قانونية تمنع ترجمة الأفلام الإسرائيلية منعا باتا. لأن هنالك فرقا بين التعرف على فكر مزيف لتدحضه وتبين كذبه ليستفيد الناس ويصبح لديهم شيء يشبه المناعة من هذا الفكر، وبين التعرف على فكر مسموم لن يعمل التعرف عليه سوى على ضعضعة المبادئ وتشويهها لأن هذا هو هدف الصهاينة دائما من عملية التطبيع.

                          ومن الصحيح أن اللوبي اليهودي مؤثر وقوي في أمريكا وسينماتها، إلا إننا قد نخطئ الظن إن اعتقدنا أنه مسيطر سيطرة تامة على الفكر الأمريكي، فهناك من يقول أن الفكر الأمريكي هو من توجه نحو الصهيونية وليس العكس وهنا يبرز فرق ليس بالهين. وهذا موضوع شائك قد نختلف عليه أو نتفق، ولكن ما يهمنا هنا هو مدى قدرتنا كفكر عربي صحيح ومبني على أسس سليمة على التأثير ليس على الغرب فقط بل على أنفسنا وأجيالنا القادمة. والأمريكان قبل أن يحركوا آلتهم العسكرية علينا بعد الحادي عشر من سبتمبر، غزونا -نحن والعالم- فكريا وثقافيا، ويكابر من يقول عكس هذا الكلام. فكيف سنواجه ثقافتهم التي تسيطر عليها الأكاذيب والزيف؟ هنا أيها الأساتذة الكرام السؤال الذي يجب أن نواجهه بشجاعة.





                          تصميم سائد ريان

                          تعليق

                          • مازن أبوفاشا
                            مستشار سياسي
                            • 16-09-2011
                            • 167

                            #14
                            تحية طيبة أخي فيصل ، ودون مقدمات سأدخل في النقطة الأولى كما أراها

                            هل يمكن تفسير سقوط الدول ؟

                            أتفق مع ملاحظتك التي أوردتها حول صعوبة التفسير ، وأزيد بأنه حقيقة لا يمكن ذلك ، ليس الأمر قياسا على موت الأفراد فقط ، وإنما أيضا بسبب تكرار ذات الأمر على الدول وتنوع طرق سقوطها بحيث يكاد المراقب التاريخي أن يجزم بأن أي دولة في المستقبل سوف تسقط مهما كان سلوكها ومهما كانت سيرتها ، بل يمكن فعليا نسب أساس معظم النظريات التاريخية القديمة والحديثة إلى هذه الظاهرة ، بمعنى أن الآراء منذ هوميروس حتى هنتنغتون مرورا بكل من "نظّر" في الإجتماع السياسي وخاصة صديقنا ابن خلدون أو أبو البقاء الرندي ، كلها تأتي في سياق البحث عن أسباب تكرار ظاهرة تاريخية هي "سقوط ونشوء الدول"

                            ليس للموت علة حقيقية بمعنى أنه يمكن بمعرفتها حل لغز الموت ، وهو الأمر الذي لطالما أرق أطباء وعلماء على مستوى الأفراد والجماعات ، وبطبيعة الحال ، يحاول الإنسان تفسير الموت على أنه جملة من الأسباب المنطقية المترتبة على بعضها البعض بحيث توصل إلى النهاية المحتومة ، وسار البعض نحو نفي الموت وحدوثه وتأويله وتصوير الولادة على أنها تجاوز ما للموت ، ولكن كل تلك التفسيرات والتأويلات تبقى عاجزة عن فهم اللغز

                            في موضوع الدول وبالنظر إلى السؤال الذي طرحته في مشاركتي السابقة ، فإن الفارق الرئيس بين كون الدولة جهازا إداريا ينتجه المجتمع وبين كون الدولة هي المجتمع ، هو أن المفهوم القديم ( المفهوم السائد في منطقتنا ) هو الذي يعني أن سقوط الفاطميين ومجيء الأيوبيين ( مثلا ) هو تبديل بسيط ذو قيمة بسيطة حتى لو ترافق بأعراض جانبية فهو مثل تغيير مدراء الجهاز وليس الجهاز نفسه ، بينما في المفهوم الحديث ( ليس حديثا بالمعنى الحقيقي على أية حال ) هو الذي يعني أن ذلك التبديل هو تبديل يعكس تفكك مجتمع وبناء آخر وتصبح كلمة "سقوط" أو "نشوء" ذات بعد أكبر مما في المفهوم الأول

                            في التاريخ عموما ( وما يهمنا فيه هو تاريخ بلادنا العربية تحديدا ) فإن مقولة هيكل حول عدم وجود أجهزة ومؤسسات دولة هي مقولة صحيحة من وجهين أولهما هو أن الدولة التي يقصدها هيكل هي "شكل الجهاز الغربي" وثانيهما هو أن ذلك ليس شيئا سيئا كما يُفترض عند الأخذ بهذه المقولة

                            لو تأملنا قليلا في المقارنة بين الأمم الغربية والأمم الصينية ( كي لا أحشر العرب في هذه المقارنة مع أن المقارنة مع العرب أولى ) فسنجد أن الصينيين ومنذ فترة قديمة جدا عرفوا كل أشكال الأجهزة التي تحاول الأمم الغربية استكشافها وسبر حسناتها وسيئاتها ، وبمثل ما تعلم الصينيون وطوروا أجهزة إدارة الدولة ، فالغرب أيضا سيتعلم وبمرور الزمن وإنطلاقا من تجربته الخاصة ( عوضا عن استيراد التجربة كما فعل سابقا ) كيف يطور فكره ونظرياته للحصول على النتيجة الأفضل ( على الأقل كي يحافظ على مجتمعه )

                            الأمر الذي يستدعيه موضوعك بشقه الأول حول الإمبراطورية الرومانية والذي لا يبدو للغرب أنه يستفيد منه ( وهذه مشكلة حقيقية مع الغرب الذي يرى في نفسه علوا على أي شيء شرقي ) بل ويسعى إعلاميا نحو تقديم تبريرات تتعلق بفرد أو عدة أفراد وتقديم تصرفاتهم على أنها سبب ما يراه من "سقوط" للشيء آخر بعيد وغريب عنه ، وربما في إشارتك لماركوس وشكوكه في نسب ابنه وكذلك في الفيلم الثاني الذي 1
                            إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

                            تعليق

                            • فيصل كريم
                              مـستشار في الترجمة المرئية
                              • 26-09-2011
                              • 386

                              #15
                              تابعت ردكم يا أستاذنا الفاضل مازن أبوفاشا، ويبدو إنه لم يكتمل، فعسى المانع خيرا؟ كلي اهتمام بقراءة بقية الأفكار الثرية التي طرحتها. اعتقد أنك تمتلك خاصية التعديل على المشاركة لاستكمالها، فيرجى استكمال مشاركتك القيمة بنفس الرد إن أمكن.

                              ملحوظة: حاولت مراسلتكم يا أستاذ مازن لكن تبين أن صندوق بريدك ممتلئ.





                              تصميم سائد ريان

                              تعليق

                              يعمل...
                              X