واسطة قديمة ( أبقوا قابلوني )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جلال داود
    نائب ملتقى فنون النثر
    • 06-02-2011
    • 3893

    واسطة قديمة ( أبقوا قابلوني )

    الواسطة يبدو أنها قديمة قدم التاريخ، فيحكى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة، وفد إليه الشعراء من كل حدب و صوب، ووقفوا ببابه أياما لا يؤذن لهم بالدخول إلى مجلسه.
    فجاء ( رجاء بن حَيوة ) وكان من خطباء أهل الشام، فلما رآه جرير داخلا على عمر ، قال له :
    يا أيها الرجل المرخي عمامته ** هذا زمانك فإستأذن لنا عمرا

    ويبدو أن ( رجاء ) هذا كان واصلا ومستوصلا ، ووساطته لا تذهب سدى وأدراج الرياح.
    فدخل الخطيب ( رجاء ) عند عمر ولم يذكر من أمر الشعراء (الملطوعين برة ) شيئا .. ( شوفوا اللئامة ، برضو اللئامة قديمة قِدم الحياة على كوكبنا ، لإن (رجاء) هذا كان في نيته طلب حاجة من الخليفة ، فلو ذكر الشعراء ربما ضاعت حاجته وسط الزحمة. )

    ثم مر بالشعراء ( الملطوعين )، الشاعر ( عدى بن أرطأة ) فقال له جرير :
    يا أيها الراكب المزجي مطيته *** هذا زمانك إني قد مضى زمني
    أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ** أني لدى الباب كالمصفود في قرن
    لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ** قد طال مكثي عن أهلي و عن وطني

    بالضبط كما يحدث الآن ، تقف ملطوعا قدام باب المسئول، والله لا تدخل إلا إن توسط لك الفراش أو السكرتير أو مدير المكتب.
    أنظروا إلى هذا المسكين جرير، ترك أسرته لمدة طويلة وربما كان مفترشا أديم الأرض منتظرا مقابلة الخليفة، (وطبعا لا ماء بارد و لا ساندويتشات ولا موبايل يطمن المدام).

    ثم دخل (عدى) على عمر وقال : يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة.
    طبعا كان يقصد أن يقول : إن الصحافة الحرة برة ، وجوقة المعارضة منتظرين لإجراء مناظرة سياسية، وأحسن لك يا أميرنا تأذن لهم بالدخول ( قبل ما يمرمطوك ) .
    فأنظروا لثقة الحاكم واعتداده بعدله وثقته بحكمه الذي يستند فيه إلى حجة القرآن والسنة.
    قال عمر : ويحك يا عدى، مالي و للشعر ؟
    قال عدى : أعز الله أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مدحه الشعراء فأعطى ، ولك في الرسول أسوة حسنة .
    قال : فكيف ؟
    قال : إمتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه.
    قال عمر : أفتروي من قول عباس هذا شيئا ؟
    قال نعم و أنشد :
    رأيتك يا خير البرية كلها *** نشرت كتابا جاء بالحق معلما
    شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا *** عن الحق لما أصبح الحق مظلما
    أقمت سبيل الحق بعد إعوجاجه *** و كان قديما ركنه قد تهدما

    قال عمر : ويحك يا عدى، من بالباب منهم ؟
    قال : عمر بن أبي ربيعة.
    قال الخليفة عمر : أليس هو الذي يقول :
    ثم نبهتها فهبت كعابا طفلة ما تبين رجع الكلام
    ساعة ثم إنها بعد قالت ويلتا قد عجلت يا إبن الكرام
    أعلى غير موعد جئت تسري تتخطى إلي رؤوس النيام

    فكما هو واضح من الأبيات ، فإن الشاعر بن أبي ربيعة، أتى متسللا ليلا بعد نوم أهل مضارب القبيلة لهذه الطفلة وأيقظها من النوم التي عاتبته لعدم إخبارها بهذا القدوم المفاجيء ، والقصيدة طويلة و بها من المجون الكثير ..

    لذا فإن الخليفة عمر قال :
    فلو كان عدو الله إذ فَجَرَ كتم نفسه ، لا يدخل علي والله أبدا هذا الفاجر.
    أنظروا للحسم ، وكأنه يقول : يلا بلا صحافة و بلا معارضة ، مادام فاجر ويتبجح بهذا الإثم ، لا يدخل ولو ملأ الدنيا شعرا وضجيجا. مافيش مجاملة.
    ثم قال الخليفة عمر : ، فمن بالباب سواه ؟
    فقال عدى : الشاعر همام بن غالب ( وهو الفرزدق الشاعر المعروف، و يساوي الآن قناة الجزيرة و السي إن إن ، لأن شعره كان سهما قاتلا وهو من أفصح الشعراء ).
    فقال الخليفة عمر : أوليس هو القائل :
    هما دلتاني من ثمانين قامة ** كما أنقض باز أقتم الريش كاسره
    فلما إستوت رجلاى بالأرض قالتا *** أحَيٌّ يرجى أم قتيل نحاذره

    والمعنى واضح ، و لا داعي لشرحه حفاظا على الموضوع من الحذف والبتر.
    قال الخليفة : والله لا يطأ بساطي.
    منتهى الحزم .
    قال : فمن سواه بالباب ؟
    قال عدى : الأخطل
    قال الخليفة : أيا عدى ، أيدخل عندي و هو القائل :
    ولست بصائم رمضان طوعا ولست بآكل لحم الأضاحي
    ولست بزاجر عنسا بكورا إلى بطحاء مكة للنجاح
    ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حى على الفلاح
    ولكني سأشربها شمولا و أسجد عند منبلج الصباح


    يعني الأخطل هذا ، لو خيروه ، فلن يصوم شهر رمضان ، ولا حيروح يشتري ذبيحة للأضحية ولن ياكل لحمها ولا حيصلي الملعون.


    نرجع للخليفة عمر الذي قال : و الله لا يدخل علي و هو كافر ، فهل بالباب سوى من ذكرت ؟
    قال عدى : نعم ، الأحوص. قال عمر : أليس هو الذي يقول :
    الله بيني و بين سيدها *** يفر مني بها و أتبعه
    أحوص الشؤم هذا لزقة ، يعني الجارية هذي ، كلما فر بها سيدها من وادي إلى واحة ، صاحبنا هذا وراهم وراهم. ( لسان حاله يقول : حتروحوا مني فين؟ ) ...
    أنظروا إلى إلمام الحاكم بما يقوله المحكومين قبل توليه الخلافة، كان يسمع ويحفظ ويحكم على الشاعر من شعره، دون اللجوء إلى مخابرات ومباحث وأمن مركزي واستجواب، كان يستطلع و سمع ويحفظ ويقيِّم الشعر لوحده إلى أن تولى الخلافة. ولكن لم يكن ليفتح السيرة ويتعرض لأحدهم لولا وقوفهم ببابه.
    المهم لم يدخل الأحوص عليه.
    ثم صار يذكر له الشعراء ، والخليفة عمر يذكر أشعارهم المجونية إلى أن أتى على ذكر جرير ، فقال عمر : أليس هو القائل :
    طرقتك صائدة القلوب و ليس ذا حين الزيارة فأرجعي بسلام

    فقال عمر : فإن كان لابد من دخول شاعر، فليدخل هو.
    فأذن لجرير فدخل، فقال عمر : ويحك جرير، إتق الله ولا تقولن إلا حقا.
    فقال جرير :
    أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قد كفاني ما بلغت من خبري
    كم باليمامة من شعثاء أرملة و من يتيم ضعيف الصوت والنظر
    ممن يعدك تكفي فقد والده كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
    يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من النشر
    خليفة الله ماذا تأمرون بنا لسنا إليكم ولا في دار منتظر
    مازلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
    الخير ما دمت حيا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيرات يا عمر

    والقصيدة طويلة وجميلة من أروع قصائد المدح، ولكن اللافت للنظر، أن جرير وهو يدخل لأول مرة على الخليفة، لم يطلب قطعة أرض سكنية درجة أولى، أو مزرعة، أو منصب حكومي، إنما طلب منه أن يلتفت إلى الأيتام والأرامل، يعني يلفت نظره إلى شريحة من المجتمع تحتاج بالفعل إلى إهتمام الخليفة وبيت المال، وهي لفتة بارعة من الشاعر ، لأن الشاعر يعرف أن عمر رجل دولة من الطراز الأول ولا يمكن أن تمدحه ثم تخرج محملا بالدنانير والدراهم دون وجه حق.
    فقال له عمر : يا جرير ، لا أرى لك هنا حقا.
    فقال جرير : بلى يا أمير المؤمنين ، أنا إبن سبيل ومنقطع.
    فأعطاه عمر من حر ماله مائة درهم .
    أعطاه من جيبه الخاص وليس من خزينة الدولة.
    ثم خرج جرير من عنده.
    فسأله الشعراء الواقفين بالباب : ما وراءك ؟
    فقال : ما يسوءكم والله ويكدر يومكم. فقد خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ، ويمنع الشعراء و أنا راضٍ عنه.

    يعني بمعنى آخر بلغة اليوم ، سأله الشعراء :
    إن شاء الله خير ، رئيسنا دة من وراه في فايدة ؟
    فقال لهم جرير : أبقوا قابلوني ، الفقير يخش، والشاعر يورينا عرض كتافو.
  • منار يوسف
    مستشار الساخر
    همس الأمواج
    • 03-12-2010
    • 4240

    #2
    مرحبا بك أستاذ جلال مرة أخرى بالساخر
    جميل أن تتناول فكرة الواسطة من هذه الزاوية الجميلة
    و قد فكرت أن أكتب عن هذا الموضوع من زاوية أخرى
    تلك المقارنة بين الأمس و اليوم
    في صورة لقطات رائعة
    و هل يوجد حاكم مثل عمر رضي الله عنه
    يعطي الفقراء و يمنع المطبلتية أو الشعراء ؟؟
    الآن كل مسؤول أول ما يجلس على الجرسي
    يقرب منه المنافقين و الآفاقين
    أما أصحاب الحاجات فهم أصحاب الصداع

    شكرا لك أ جلال
    ننتظرك دائما بالساخر
    بقلمك الرائع و أسلوبك المميز

    تعليق

    • جلال داود
      نائب ملتقى فنون النثر
      • 06-02-2011
      • 3893

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة منار يوسف مشاهدة المشاركة
      مرحبا بك أستاذ جلال مرة أخرى بالساخر

      جميل أن تتناول فكرة الواسطة من هذه الزاوية الجميلة
      و قد فكرت أن أكتب عن هذا الموضوع من زاوية أخرى
      تلك المقارنة بين الأمس و اليوم
      في صورة لقطات رائعة
      و هل يوجد حاكم مثل عمر رضي الله عنه
      يعطي الفقراء و يمنع المطبلتية أو الشعراء ؟؟
      الآن كل مسؤول أول ما يجلس على الجرسي
      يقرب منه المنافقين و الآفاقين
      أما أصحاب الحاجات فهم أصحاب الصداع

      شكرا لك أ جلال
      ننتظرك دائما بالساخر

      بقلمك الرائع و أسلوبك المميز
      تحياتي أستاذة منار

      مشكورة على المرور البهي

      مفروض كل الزعماء العرب يوزعوا عليهم سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز ويمتحنوهم فيها قبل الترشح للرئاسة

      دمتم

      تعليق

      • مباركة بشير أحمد
        أديبة وكاتبة
        • 17-03-2011
        • 2034

        #4
        معه حق صاحبهم جرير ألا يتوسط لهم عند " أمير المؤمنين"..بعدما سبقتهم أقوالهم المشينة إليه
        .حتى ولو معجونة ألسنتهم الطويلة بسم الأفاعي ،
        فماذا عساهم سيقولون عن "عمر" ،وهو الخليفة العادل ،الصارم ،الحازم ..؟

        .........
        تقديري لقلمك الساخر ،الأنيق ،أستاذ جلال داود
        وسلام.

        تعليق

        • رذاذ يوسف
          أديب وكاتب
          • 16-02-2012
          • 75

          #5
          حَياكَ الله بـِ كُلِّ الخَيرِ أُستاذ جَلال داود
          لو كُلّ حاكم اِتقى الله فـيما بينَ يديهِ
          ما احتاج أَحدٌّ إلى واسطة
          شُكرًا كثيرًا لكَ على ما خطتهُ يداكَ
          تَحياتي لكَ وَياسمين

          تعليق

          • جلال داود
            نائب ملتقى فنون النثر
            • 06-02-2011
            • 3893

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة مباركة بشير أحمد مشاهدة المشاركة
            معه حق صاحبهم جرير ألا يتوسط لهم عند " أمير المؤمنين"..بعدما سبقتهم أقوالهم المشينة إليه




            .حتى ولو معجونة ألسنتهم الطويلة بسم الأفاعي ،


            فماذا عساهم سيقولون عن "عمر" ،وهو الخليفة العادل ،الصارم ،الحازم ..؟




            .........




            تقديري لقلمك الساخر ،الأنيق ،أستاذ جلال داود

            وسلام.
            الأستاذة مباركة
            تحية وتقدير
            أشكرك على المرور والتعليق

            يعني جرير طلع مفتح وعارف البير وغطاه
            دمتم

            تعليق

            • جلال داود
              نائب ملتقى فنون النثر
              • 06-02-2011
              • 3893

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة رذاذ يوسف مشاهدة المشاركة
              حَياكَ الله بـِ كُلِّ الخَيرِ أُستاذ جَلال داود
              لو كُلّ حاكم اِتقى الله فـيما بينَ يديهِ
              ما احتاج أَحدٌّ إلى واسطة
              شُكرًا كثيرًا لكَ على ما خطتهُ يداكَ
              تَحياتي لكَ وَياسمين
              الأستاذة رذاذ

              تحايا كبيرة وسلام سامق
              أشكرك على المرور والتعليق

              كلامك تمام ، ولكن للأسف كل شيء مقدور عليه إلا الواسطة، فهي تجري مجرى الدم في البشر.
              دمتم

              تعليق

              يعمل...
              X