لم تكن " آن كروسبي " تعرف ما الذي ينتظرها هذه الليلة !
مفاجأة من العيار الثقيل .. شيء لم يخطر لها على بال .. أمل هائل لم تسمح لنفسها بالتعلق به حتى لا ينتهي الأمر بخيبة أمل مرة !
لكن ها قد تحقق الحلم ودنا الأمل .. وهل هناك أكثر من حصول فتاة أيرلندية قروية فقيرة تخيط الملابس على فرصة للزواج من ملياردير أمريكي ثري حتى الاختناق ؟!
لم تصدق " آن " نفسها و " هنري أدوالد جونز " ؛ الثري الأمريكي الوسيم ؛ يقف أمام باب منزلها حاملاً باقة زهور جميلة عليها بطاقة صغيرة مكتوب عليها بخطه الجميل المنمق " تزوجيني من فضلك " !
وبعد ثلاثة أيام بالضبط زُفت " آن " للثري الأمريكي المجنون الذي لا يعيبه شيء على الإطلاق .. فيما عدا أنه يكبرها بسبعة وثلاثين عاماً .. وأضحت الآنسة " آن كروسبي " السيدة " آن جونز " .. وبعدها بثلاثة أيام سافرت معه في جولة حول العالم قبل أن تنتقل للإقامة معه في نيويورك !
وهكذا وفي ظرف أسبوع واحد تغيرت حياة الفتاة الأيرلندية الفقيرة إلى حياة أخري بالغة الثراء .. والخطورة !
************
من باريس إلى روما .. ومن روما إلى فينيسيا .. ومن فينسيا إلى لندن .. ومن لندن إلى القاهرة .. ومن القاهرة طيراناً إلى نيويورك ولاس فيجاس وهوليوود .. هكذا كانت حياة السيدة " آن جونز " طوال ستة أشهر برفقة زوجها المحب الرقيق الذي لم تري منه طوال تلك الأشهر سوي الحنان والمحبة والكرم البالغ في معاملتها .. وهكذا عاد السيد " جونز " برفقة زوجته إلى نيويورك ليبدآ حياتهما المشتركة معاً .. وكانت دهشة " آن " هائلة وهي تري القصر الفخم الذي ستعيش فيه مع زوجها .. لم يكن قصراً فقط بل كان أقرب لمجموعة قصور متشابكة لتكون مقراً ملكياً ضخماً لا يقل في روعته عن قصور ملوك أوربا وملكاتها .. كان القصر يحمل اسم ( أوريديان ) ويقع خارج مدينة نيويورك على ربوة مرتفعة تطل على الميناء العالمي الشهير ولا يحيط بها أي مباني أو منشآت من أي نوع .. فقد حرص السيد " هنري جونز " على شراء كل الأراضي بالمنطقة وإغلاقها وجعلها منطقة خاصة به ومقراً شخصياً ممنوع الاقتراب منه لأي شخص ، إلا بإذن خاص من السيد " جونز " شخصياً أو من مدير أعماله " روسليني " .. حتى الطيران كان محظوراً فوق القصر إلا بعد الحصول على الإذن اللازم من سيد المنطقة !
وهكذا وجدت " آن كروسبي " ؛ سابقاً ؛ نفسها قد تحولت من خياطة فقيرة معدمة تعيش على عائدات الحياكة اليسيرة لملكة حقيقية تتحكم ؛ من خلال زوجها ؛ في منطقة كاملة في قلب أكبر وأقوي دولة في العالم .. أي حلم هذا ؟!
************
بعد عودته بثلاثة أيام أستقبل السيد " هنري جونز " في قصره مجموعة من الزوار الغرباء .. كانوا ثلاثة من الرجال لم يسبق لزوجته رؤيتهم من قبل .. أولهم كان رجل مسن مغضن نحيف الوجه قبيحه ؛ كأنه قرد عجوز ؛ وقامته منحنية غير مستقيمة ويبرز من بين شفتيه طاقم أسنان يزيد منظره كبراً وقبحاً ويجعله أقرب للقرف .. والثاني كان شاب صغير وسيم يرتدي بذلة غالية الثمن ويبدو متأنقاً وجيهاً ولكن شيء ما في ملامحه يجعله غير مقبول ولا يعطي انطباعا بالثقة والاطمئنان .. أما ثالثهم فقد كان يبدو أشبه بكاهن أو قسيس كبير يرتدي ملابس كهنوتية سوداء بالغة الأناقة ، ولكن له وجه شديد القوة والخطورة لدرجة أن " آن " لم تستطع أن تكرر النظر إليه بعد النظرة الأولي ووجدت نفسها تتلعثم وهي تصافحه بارتباك مهول .. ثم انسحبت فوراً إلى الأعلى بعد الترحيب بهم .. وصعدت السلم جرياً وهي تحس بنظراتهم الثاقبة تلاحقها .. ولكنها قبل أن تبتعد تماماً سمعت همساً متبادلاً بينهم.. فهناك صوت ميزت فيه صوت الكاهن يقول في تساؤل :
" أهذه هي ! "
فأجابه صوت زوجها بثقة :
" نعم إنها هي ! لقد اخترتها بعد بحث طويل ! "
سرت " آن " من هذه العبارة .. لأنها ؛ لسوء حظها ؛ لم تكن تفهم معناها الحقيقي بعد !
************
في نفس هذه الليلة بدأت " آن " تدرك أن زوجها ليس فقط ثرياً وسيماً محباً رقيقاً .. ولكن هناك شيء آخر يحيط به غير الأتباع والخدم وأطقم السكرتارية ومصففي الشعر ومنسقي الملابس .. شيء غامض مريب .. وربما مرعب كذلك !
كانت " آن " جالسة في غرفتها تحدق في مجموعة صورها القديمة التي التقطت لها في أيرلندا عندما دخل زوجها فجأة .. أقتحم الباب بطريقة غير مألوفة تماماً وكأنها يريد أن يفاجئها ويضبطها متلبسة بعمل ما !
فزعت " آن " لدخوله المفاجئ وأسقطت الصور من يدها وشهقت شهقة عالية .. ولكن السيد " جونز " لم يبدي أي اهتمام بكونه أفزع زوجته .. بل أقترب منها ببطء وانحني ليلتقط الصور التي تناثرت على الأرض وجلس بجوار " آن " على الفراش .. وأخذ يتأمل الصور ويتطلع إليها قليلاً بشبه استهانة .. ثم فجأة أقدم على حركة لم تكن " آن " تتوقعها منه أبداً .. فقد فوجئت به يمزق الصور الخاصة بها ويقطعها إرباً بجنون وعصبية .. ذُهلت " آن " لتصرفه هذا وتناءت عنه خوفاً .. ولكنه بعد أن أنتهي من تمزيق الصور وداس مزقها بقدمه في غل .. ألتفتت إلى " آن " ورسم ابتسامة معسولة مجنونة على وجهه ومد يديه وأحاط بهما وجهها المذعور وقال لها في هدوء غريب :
" عزيزتي .. أنت الآن قد صرت زوجتي .. هل تفهمين ؟ أنت الآن مسز " هنري أدوالد جونز " .. ولم تعودي " آن كروسبي " .. فأنسي أيرلندا وأيام أيرلندا من فضلك .. أنسيها تماماً عزيزتي ! "
وبعد أن انتهي من الكلام أخذ مستر " جونز " زوجته بين ذراعيه محاولاً تهدئتها وإدخال الطمأنينة عليها .. ولكنها لم تهدأ ولم تطمئن .. لأن " جونز " ؛ بغبائه وتسرعه ؛ قد ألقي بأول حجر في المياه الراكدة قبل الأوان بكثير !
************
في الصباح التالي استيقظت " آن " صباحاً بعد نوم قلق مضطرب .. لتجد فراش زوجها خالياً .. ظنت أنه ربما يكون قد استيقظ قبلها .. رغم أن ذلك لم يكن من عاداته ، فقد كان يغط في نومه حتى الظهيرة .. ولكنها عندما تفحصت الفراش وجدته منسقاً مرتباً مما يدل على أنه لم يُستخدم أصلاً ، وهذا معناه أن زوجها لم يقضي ليلته في حجرتهما .. فأين قضاه إذن ؟!
هبطت " آن " السلم لتجد أمامها كبيرة الخادمات " بيرني " الشقراء المثيرة تسألها هل تعد الإفطار .. لم تجب " آن " بل سألتها عن زوجها السيد " جونز " ، فقالت " بيرني " أن السيد " جونز " غادر القصر منذ نصف ساعة .. وعندئذ همت " آن " أن تسألها عن المكان الذي قضي فيه ليلته ولكنها تراجعت خجلاً من إطلاع خادمة على هذه الأمور الحساسة ، ولعلها خشيت أن تعتقد الخادمة أن ثمة خلاف بين الزوجين ..
تناولت " آن " إفطارها وجلست في انتظار عودة زوجها .. ومضت فترة الصباح والظهيرة وما بعد الظهيرة وحل وقت الغروب دون أن يكون السيد " جونز " قد عاد لمنزله بعد .. فأصاب القلق " آن " وقامت بالاتصال بزوجها عدة مرات على هاتفه المحمول .. ولكن الرقم كان في كل مرة مغلقاً .. فجربت " آن " كل الأرقام الأخرى فوجدتها أيضاً مغلقة بدورها .. وعندئذ أصابها القلق .. وتصادف أن مرت بها كبيرة الخادمات وهي تجلس في الحديقة تحاول وتكرر محاولات الاتصال بزوجها .. فنظرت " بيرني " نظرة غريبة ليدي مسز " جونز " المشغولتين بالاتصال وفتحت فمها لتقول جملة واحدة فقط :
" يبدو أن السيد قد عاد لطبعه القديم " !
وابتسمت " بيرني " ابتسامة غريبة وفرت إلى المطبخ تاركة " آن " غارقة في حيرتها !
************
عاد السيد " جونز " بعد منتصف الليل متعباً ومرهقاً بشكل يوحي بأنه كان يقوم بدفن ضحايا الطاعون.. وبمجرد أن دخل صرخ منادياً الخادمة " بيرني " وأمرها بإعداد العشاء .. ثم جلس في انتظار العشاء .. وبعدها بخمسة دقائق كان يجلس إلى المائدة يتناول عشاءه كالخنزير الجائع .. ثم نهض ليذهب إلى غرفته .. كل ذلك دون أن يلتفت إلى زوجته أو يهتم بإلقاء نظره واحدة عليها .. بل حتى لم يهتم بدعوتها لمشاركته في العشاء .. بل تركها جالسة مكانها في ذهول من تجاهله التام لها وكأنها غير موجودة من الأصل !
ظلت " آن " جالسة مكانها مضطربة تلاحقها نظرات " بيرني " الساخرة وهي تقوم برفع بقايا العشاء .. وفجأة هبت " آن " من مكانها وارتقت السلم بسرعة رهيبة عازمة إلى الذهاب إلى غرفتها وتقريع زوجها وإيلامه بأشد الكلام جزاء إهماله التام الشنيع لها !
ولكن " آن " عندما دخلت الغرفة فوجئت بأن زوجها غير موجود بغرفتهما .. عندئذ جن جنونها وأخذت تجوب حجرات القصر معتقدة أنه ربما يكون قد قرر أن يقضي ليلته بعيداً عنها .. وكان هذا شيء ليس لديها أي استعداد للسماح بحدوثه .. ولكن العجيب أن " آن " تأكدت ؛ بعد جولة طويلة مرهقة بين حجرات القصر التي تزيد على ستين حجرة ؛ أن زوجها بالفعل ليس موجوداً في أي منها .. عندئذ أصابها الجنون وصرخت منادية " بيرني " وسألتها بغضب عن مكان مستر " جونز " .. وعندئذ فوجئت بالخادمة المائعة ترد عليها وهي تلوك اللادن في فمها :
" مستر " جونز " لم يعد بعد من الخارج يا سيدتي !"
وأثارت هذه الإجابة جنون السيدة " جونز " التي أخذت تصرخ سابه الخادمة اللعينة وأخذت تسألها عمن يكون الشخص الذي دخل منذ نصف ساعة وأعدت له العشاء بنفسها ، بل ورفعت بقايا عشاءه منذ دقائق .. وأخذت " آن " تصرخ وتصرخ والخادمة تصر على دعواها الغريبة بأن مستر " جونز " لم يعد من الخارج بعد !
وجذب صراخ مسز " جونز " مدير أعمال زوجها " روسليني " الذي تصادف وجوده بالطابق السفلي فصعد على الفور ليستطلع الأمر بنفسه ..
وعندما سأل عن المشكلة راحت " آن " التي أصابها الغضب بحالة من الهستيريا تصرخ وتصيح :
" هذه الخادمة اللعينة .. اللعينة تكذبني وتدعي أن مستر " جونز " لم يعد من الخارج بعد .. مع أنه دخل القصر أمامي وتناول عشاءه ورأيته بعيني وهو يصعد إلى هنا .. الكاذبة اللعينة .. سأطردها من القصر .. أقسم أن أجعل مستر " جونز " يطردها الليلة !! "
أخذت " آن " تصيح وتصيح وتركها " روسليني " حتى كفت عن الصراخ وهدأت قليلاً وقال لها بهدوء مثير وهو يحك أذنه اضطرابا :
" ولكن يا سيدتي أخشي أن أقول أن الخادمة على حق ! فسيدي ما زال في الخارج .. وقد أتصل بي لتوه ليخبرني بأنه أقترب من بوابة القصر الخارجية " !
خرست " آن " لهذه الإجابة القاتلة .. وامتلأت عيناها بالدموع وأخذت تجيل النظرات الحائرة بين مدير أعمال زوجها والخادمة التي أخذت تنظر لها في وقاحة وصفاقة عدوانية واضحة .. ذهلت " آن " وقبل أن تنطق دق الهاتف المحمول الخاص بمستر " روسليني " فتناوله ووضعه على أذنه وبعد ثانية ناوله لمسز " جونز " قائلاً :
" إنه مستر " جونز " يقول أنه وصل إلى القصر الآن ! "
ظلت " آن " واقفة مكانها تحدق في الفراغ .. حتى وجدت أمامها زوجها مرحاً بشوشاً باسماً يحتضنها في حنان ويقول لها بلهفة :
" حبيبتي .. حبيبتي " آن " .. كم أوحشتني .. أسف أنني اضطررت للبقاء في الخارج وتركك بمفردك طوال النهار .. ولكنه العمل يا عزيزتي كما تعرفين " !
ولم ترد " آن " على زوجها .. لأنها تهاوت بين ذراعيه مغشياً عليها !
************
استيقظت " آن " لتجد نفسها في فراشها وبجوارها يجلس زوجها وعلى ملامحه الكثير من القلق والخوف .. وبمجرد أن رأي عينيها تتحركان قفز من مكانه وأمسك يديها وأخذ يقبلهما بلهفة وحنان ويردد بصوت تملؤه الرقة والحب :
" حبيبتي .. حبيبتي لقد كاد القلق يقتلني عليك .. ولكن الطبيب طمأنني وأكد أنك ستكونين بخير في ظرف ساعة واحدة لا أكثر !"
لم ترد " آن " .. أو بالأحرى لم تجد كلاماً ترد به .. ومع أنها كادت أن تسأله عن هذا الأمر الغريب الذي حدث الليلة إلا أنها تراجعت حتى لا تزيد المشكلة تعقيداً .. وربما كانت طبيعتها الريفية الطيبة المتسامحة قد عاودتها فعزمت على الصفح عن زوجها .. ولكن المؤكد أن هذه الحادثة خلفت في نفس مسز " جونز " بدايات شك في قواها العقلية !
************
بعد مرور أسبوع كانت " آن " قد بدأت تنسي هذا الأمر الغريب ولكنها فوجئت بزوجها ؛ الذي عاد للاهتمام بها وإسباغ الحنان والعطف عليها ؛ يخبرها أنه يعد حفل استقبال فخم في قصرهما .. ويريدها هي شخصياً أن تتولي تنظيم هذا الحفل والإشراف على كل تفاصيله .. وسبب هذا المطلب المفاجئ ارتباكا مهولاً ل" آن " التي اعترفت لزوجها أنها لا تدري كيف يمكن الترتيب لحفل مثل هذا .. إنها حتى لا تعرف ما المقصود بحفل استقبال !
ولكن مستر " جونز " طمأنها وقال لها أن تنظر للأمر وكأنها تعد لاستقبال صديقاتها في منزلها الريفي بأيرلندا ، والأمر في الحقيقة لا يزيد على ذلك ، وتتحفهم بجو ريفي جميل ويمكنها أن تستعين بمساعدة " بيرني " إذا أحبت ..
وقد أراح الجزء الأول من كلام مستر " جونز " بال " آن " .. ولكن الجزء الثاني سبب لها غيظاً وغضباً بلا حدود .. لذلك فقد قررت أن تعد للحفل بنفسها وتعتمد على قدراتها الشخصية وكأن " بيرني " اللعينة هذه غير موجودة من الأساس !
وقد نجحت مسز " جونز " في إعداد ذلك الحفل وتنظيمه على الوجه الأكمل .. نجحت لدرجة أن زوجها قرر التخلي نهائياً عن إقامة أي حفلات في قصره مرة أخري إلى الأبد !
************
في اليوم الخامس عشر من ديسمبر وصل خطاب غريب إلى قصر مستر " جونز " .. كان الخطاب قادماً من أيرلندا ومن قرية " آن " بالتحديد .. تعجبت " آن " من وصول هذا الخطاب نظراً لأنه لم يكن لها في القرية ؛ أو في أيرلندا كلها ؛ أحد يمكن أن يفكر بها أو يحاول مراسلتها .. ولكن السيد " جونز " شجعها على فتح الخطاب لعله يكون من أحد صديقاتها السابقات في قريتها .. وبالفعل فتحت " آن " الخطاب لتجد به رسالة بالغة الغرابة .. فمرسل الخطاب شخص يدعي أنه عمها ويطلب تحديد موعد لزيارتها في بيتها الجديد .. وكان التوقيع في نهاية الرسالة باسم " فيكتور كروسبي " !
زادت دهشة " آن " من هذه الرسالة الغريبة وأكدت لزوجها أنها لا تعرف المدعو " فيكتور كروسبي " هذا ولم تسمع عنه على الإطلاق .. ولكن زوجها قال لها أنه ربما يكون عماً من أقربائها البعيدين ، وربما كان مسافراً أو مهاجراً إلى بلد نائي لذلك لم يتسنى لها التعرف به .. وفي النهاية شجعها على أن تدعوا هذا الرجل إلى القصر ولعل مناسبة عيد الميلاد تكون فرصة سانحة لمثل هذه الدعوة !
وبالفعل أرسلت " آن " فاكساً إلى الرقم المذكور بالرسالة تدعو فيها " فيكتور كروسبي " لزيارتها في قصر ( أوريديان ) في ليلة عيد الميلاد !
************
وجاءت ليلة عيد الميلاد .. جاءت ومعها احتفالات ضخمة في كل أنحاء العالم .. واحتفالات أكثر ضخامة وصخباً في نيويورك التي تعيش فيها عائلة " جونز " .. ومن داخل قصرها أخذت السيدة " آن " تسمع أصوات المحتفلين الصاخبين المرحين وهم يحتفلون ويرقصون على إيقاع موسيقي أقرب ما تكون لموسيقي الهمج والغجر وتري آلاف الألعاب النارية وهي تفرقع في الهواء .. وكانت " آن " الفتاة القروية الأيرلندية المحافظة تتعجب كيف يمكن أن تكون هذه طريقة الاحتفال بمولد يسوع المسيح ؟!
ولكن " آن " لم تتصور أن أكثر الاحتفالات صخباً وجنوناً ؛ بل وعربدة ومجوناً .. ستكون داخل قصرها نفسه وتحت إشرافها كما هو المفروض !
قام مستر " جونز " بدعوة عشرات من الأشخاص الغرباء ذوي الطبائع المجنونة وأقام على شرف زوجته حفلاً صاخباً مجنوناً لدرجة أن " آن " لم تتحمل الوجود وسط هذا الجو أكثر من نصف ساعة .. أسرعت بعدها إلى غرفتها تاركة زوجها يشارك ضيوفه جنونهم وتبذلهم ويعب معهم كؤوس الخمر حتى كاد أن يسقط على وجهه من الثمل !
وفي الساعة الثانية صباحاً شاهدت " آن " من نافذة غرفتها الضيوف المهرجين وهم يغادرون القصر .. فتنفست الصعداء وسرت لانتهاء هذا الحفل الماجن وأسرعت بالنزول للطابق السفلي لتطمئن على زوجها .. الذي اعتقدت أن الخمر صرعته ولابد أن مستلق الآن تحت أحد المناضد أو المقاعد فاقد الوعي .. وأثناء نزول " آن " على السلم سمعت صوت صراخ مرعب !
************
في القاعة التي كان الحفل دائراً فيها منذ دقائق كانت البقايا والكؤوس الفارغة والزجاجات وأعقاب السجائر متناثرة هنا وهناك .. ولكن المكان لم يكن خالياً كما تصورت " آن " .. بل كان هناك زوجها واقفاً على قدميه بكامل صحته ويقظته والى جواره خمسة أشخاص غرباء يرتدون ملابس غريبة .. ليست ملابس كاملة بل أقرب ما تكون لنتف من ملابس .. ميزت " آن " منهم الثلاثة الذين سبق لها استقبالهم مع زوجها بعد عودتهم من هوليوود بثلاثة أيام .. أما الاثنين الآخرين فلم تكن " أن " تعرفهما أو سبق أن رأتهم من قبل .. كان السجاد والأبسطة مرفوعة عن أرضية القاعة التي ظهر رخامها الفاخر عارياً .. ولكن كان هناك شيء منقوش على هذه الأرضية شيء لم تراه " آن " من قبل ولا تعرف ما هو كنهه بالضبط .. ولكنه أشبه ما يكون بنجمة عملاقة .. نجمة خماسية الأضلاع .. ولم يكن هذا هو كل شيء .. بل كان هناك حبل غليظ يتدلى من وسط سقف القاعة منتهياً بأنشوطة غليظة قوية ملتفة حول شيء ما .. ولم يكن هذا الشيء سوي جسد " بيرني " الشقراء الماجنة .. " بيرني " التي كانت في أشد حالات الصخب والمرح وهي بدون ثياب ومعلقة من قدميها في الأنشوطة الغليظة .. وكان الحبل يتدلى شيئاً فشيئاً فوق النجمة الخماسية حاملاً " بيرني " التي تضحك بجنون .. ذعرت " آن " واعتقدت أن زوجها ورفاقه يقيمون حفل إباحي في منزلها .. ولكن في اللحظة التالية حدث ما جعل " آن " تتمني لو كان الأمر مجرد حفل إباحي ، إذن لأمكنها تحمل الأمر .. ولكن ما يحدث الآن أمامها تجاوز كل الحدود .. فبمجرد أن صارت " بيرني " على بعد متر ونصف من مركز النجمة الخماسية المرسومة على أرضية القاعة حتى أستل الرجل ؛ الذي اعتقدت " آن " أنه كاهن ؛ موساً حاداً من طيات ملابسه وتقدم بخطوات بطيئة نحو " بيرني " .. وفجأة أخذ يمزق جسدها بهذا الموس في ضربات قوية سريعة متلاحقة .. ووجدت " آن " نفسها تصرخ وتصرخ فزعاً بينما كانت " بيرني " تضحك وتضحك بجنون وبله ودماءها تتساقط لتغطي النجمة الخماسية .. الغريب أن الرجال الخمسة ؛ بما فيهم الزوج مستر " جونز " نفسه ؛ لم يبدوا أي رد فعل تجاه صرخات " آن " وذعرها .. وكأنهم يستمتعون بهذه الصرخات !
************
لم تفق " آن " من نومها إلا في عصر اليوم التالي .. فتحت عينيها لتجد نفسها راقدة في فراشها بكامل ثيابها وحتى الحذاء كان ما يزال في قدميها .. لم تستطع " آن" أن ترفع رأسها إلا بعد جهد جهيد بسبب عنف الصداع ولأن رأسها كان يزن أطناناً .. وبعد مقاومة تمكنت من أن ترفع نصفها الأعلى وتتفحص المكان حولها .. كانت في غرفتها وعلى فراشها ولكن زوجها لم يكن بجوارها .. وهذا سرها كثيراً .. وأخذت " آن " تنصت وترهف السمع ولكنها لم تسمع أي صوت خارج بابها .. فنهضت من على الفراش بصعوبة ومشت ببطء نحو باب الغرفة المغلق وفتحته بحذر فتحة صغيرة .. وأخذت تطل على البهو الواسع لتطمئن إلى عدم وجود أحد .. ولما تأكدت من خلو المكان تسحبت من الباب وبدأت تخطو بصمت تام خلال البهو محاولة النزول إلى الطابق الأسفل دون أن يشعر بها أحد .. كانت " آن " قد عزمت على الهروب من القصر .. هذا المكان الجنوني الشيطاني البغيض ، ولم يكن لديها أي استعداد لمواصلة الحياة مع هذا الرجل اللعين .. وبالفعل نجحت " آن " في الوصول إلى الطابق الأسفل دون أن يحس بها أحد وواصلت طريقها في إصرار إلى باب القصر وكادت تصل إليه .. ولكنها فجأة سمعت صوتاً من خلفها فأجفلت وأصابها الرعب الشديد والتفتت خلفها بحركة حادة لتجد " روسليني " واقفاً خلفها بالضبط و هو يبتسم لها في صفاقة بوجهه المعسول البارد :
" سيدتي .. أين تريدين الذهاب ؟! "
سأل " روسليني " بصوته العادي فتجهم وجه " آن " وتلعثمت محاولة التوصل لإجابة مقنعة تجنبها المزيد من الأسئلة ولا تضيع وقتها في الكلام ولكنها لم تجد هذه الإجابة للأسف .. فظلت واقفة في مكانها شاحبة الوجه خائفة وقد وشي منظرها بقلقها وخوفها .. ولكن " روسليني " تجاهل كل ذلك وعاد يسأل بثقة :
" سيدتي .. إذا كنت تريدين الخروج فيمكنني أن أستدعي " بيرني " لتعد لك مكانك المفضل في الحديقة .. لقد أفسد أولئك الضيوف المجانين كل شيء في القصر ! "
وابتسم " روسليني " غير منتبه إلى الذعر الذي أصاب سيدته عند سماعها لاسم " بيرني " .. ردت " آن " بتردد :
" " بيرني " ؟! ألا زالت هنا ؟! "
فحدق فيها " روسليني " بنظرة غريبة لم تفهم " آن " معناها .. نظرة غريبة لا تعرف ما إذا كانت نظرة غباء أم خبث أم تعاطف.. المهم أن " روسليني " غمر مسز " جونز " بنظرته غير المفهومة هذه للحظة ثم أبتسم ابتسامة بزاوية فمه وقال بسخرية :
" وأين تذهب " بيرني " .. أنها هنا منذ بناء هذا القصر .. وستظل موجودة حتى لو رحل كل أحد آخر في القصر ! "
وقبل أن يكمل " روسليني " عبارته الغريبة كانت " بيرني " واقفة في البهو تحمل منشفة في يدها وتقف في دلال وميوعة وتسأل " آن " عن أنواع الأطعمة التي تريدها على العشاء !
لم تجب " آن " .. لم ترد أن تجب .. لم تجد ما تجيب به !
وإن كانت قد تأكدت أن محاولتها الأولي للهرب قد باءت بالفشل الذريع !
************
استمرت " آن " في الحياة مع مستر " جونز " مرغمة .. كانت خائفة منه ، ولم تكن تتحمل لمسه لها .. لم تستطع أن تفتعل السعادة أو الثقة بعد ذلك .. ومع أنه لم يذكر كلمة واحد عن حفل ليلة عيد الميلاد إلا أنه كان ينظر ل" آن " دائماً بنفس تلك النظرة الغريبة .. كان يقول لها في صمت ؛ من خلال عينيه ؛ " أنا أعرف أنك شاهدت كل ما جري .. إياك أن تتكلمي وإلا كان مصيرك أسود مما تتصورين " !!
وبالفعل لم تتكلم " آن " .. ولكنها لاحظت أن الثلاثة رجال إياهم بدءوا يترددون بصفة دائمة على القصر .. ولم يعد زوجها يبدي أي نوع من احترام مشاعرها فكان يجبرها على الترحيب بهم والجلوس أمامهم طوال فترة بقاءهم هناك ليحدقوا فيها بنظراتهم النارية الثاقبة .. خاصة الكاهن الذي كان يلاحقها بنظراته السوداء وعيونه المخيفة أينما ولت وجهها ، مسبباً لها خوف وحيرة وارتباك لا يوصف ..
ومرت أشهر على هذا الوضع .. وفجأة بدأ العمل الحقيقي .. فكل ما مرت به " آن " حتى الآن كان مجرد بروفة .. بروفة معدة ببراعة من رجال قساة لا يعرفون الرحمة .. ولا يخافون الله !
************
ذات ليلة استيقظت " آن " من نومها فجأة لتجد نفسها في ظلام دامس .. كانت قد انقطعت تماماً عن مشاركة زوجها في غرفتهما واستقلت بغرفة منفصلة دون أن يبدي زوجها أي اهتمام بهذا الأمر !
لم تكن " آن " معتادة على النوم في الظلام الدامس .. بل كانت تستخدم ضوء صغير عند نومها كما تعودت في أيرلندا .. ولذلك فإن الظلام المحيط بها كان أمر بالغ الغرابة وغير منطقي .. في البداية ظنت " آن " أن الكهرباء قد انقطعت عن القصر .. وهمت بأن تنهض لتتأكد من وجود التيار الكهربائي .. ولكنها قبل أن ترفع جذعها عن فراشها فوجئت بدخول زوجها المباغت إلى الغرفة .. لم يكن هذا الواقف أمامها زوجها الذي عرفته منذ شهور طويلة ، كان رجل آخر لا تعرفه أبداً من قبل .. كما أنه لم يكن بمفرده .. رغم الظلام الدامس استطاعت " آن " أن تميز حولها وجه الثلاثة الملاعين رفاق الليالي المظلمة لزوجها ومعهم " بيرني " وأخيراً " روسليني " نفسه ..
بحركة غريزية شدت " آن " الغطاء حول جسدها محاولة ستر نفسها عن عيونهم .. ولكن زوجها أشار ل " روسليني " إشارة معينة فأنقض مدير الأعمال عليها وسحبها من الفراش بعنف .. صرخت " آن " وأخذت تقاومه بيد بينما كانت تتمسك بالغطاء باليد الأخرى ..
لم يبدي مستر " جونز " اهتماما بصرخات زوجته المستغيثة بل مد يديه وشارك نائبه في سحبها وإخراجها من الفراش .. أخذت " آن " تصرخ وتصرخ وهم يقومون بجرها جراً على الأرض حتى أخرجوها من الغرفة ثم سحبوها عبر البهو حتى وصلوا بها إلى السلم .. ثم قاموا بحملها حملاً وأنزلوها السلم بالقوة .. وبعد ذلك ألقوها على الأرض وواصلوا جرها حتى وصلوا بها إلى القاعة الضخمة .. القاعة ذات الرخام والنجمة الخماسية العملاقة .. كانت الأرضية عارية والحبل الغليظ معلق في سقف القاعة ومتدلي فوق مركز النجمة الخماسية .. أخذت " آن " تقاوم وتقاوم بشراسة ولكن مقاومتها لم تجدها نفعاً .. لأنهم كانوا مصرين كالشياطين .. وبمجرد أن وصلوا إلى القاعة حتى بدأ الكاهن يحاول تجريد " آن " من ثيابها .. فأخذت " آن " تقاومه وتعض يديه وتخمش وجهه محاولة منعه من فعل ما يريده .. ولكنها فوجئت بالخادمة " بيرني " تمسك بمطرقة حديدية وتهم بضربها بها .. ولكن فجأة توقف كل شيء .. وتوجهت أنظار الجميع ؛ بما فيهم " آن " نفسها ؛ لباب القصر .. الذي أخذ جرسه يرن رنيناً طويلاً ممتداً لا يتوقف !
************
في الصباح التالي فتحت " آن " عينيها لتجد نفسها مستلقية على مقعد في غرفة نومها .. والى جوارها يجلس الطبيب د / كارل وزوجها وبرفقتهما رجل غريب لا تعرفه ولم تره من قبل .. ومن العجيب أن هذا الرجل المجهول بالنسبة لها كان يبدي غاية القلق والتوتر من أجلها .. فزعت " آن " عندما اصطدمت نظراتها بنظرات زوجها الباردة الهادئة ؛ التي لا تدل على أي إحساس أو شعور بالذنب تجاه ما أقترفه بحقها الليلة الماضية ..
استوت " آن " جالسة على طرف المقعد وغممت متسائلة عن الوقت والمكان .. فأجابها زوجها بصوته الهادئ أنها الساعة العاشرة والنصف صباحاً .. أخذت " آن " تدير رأسها في ألم وعدم تركيز .. كانت شبه ناسية لأحداث الليلة الماضية من فرط الرعب والصدمة لذلك فلم تبدر منها أي ردة فعل عنيفة .. تساءلت " آن " عن هوية الشخص الغريب الموجود معهم فأجابها الرجل وهو يمسك يدها في حنان :
" أنا عمك يا صغيرتي ! عمك " فيكتور " .. لقد أرسلت إليك رسالة في الخامس عشر من ديسمبر أخبرك فيها بقدومي لزيارتك .. ولكن يبدو أن ظروفاً قاهرة منعتني من مشاركتك ليلة عيد الميلاد .. فعذراً يا طفلتي ! "
ظلت " آن " تصغي بهدوء لحديث الرجل حتى أنتهي ثم قالت له وهي تسند رأسها المترنح بيدها :
" لم أسمع عنك مطلقاً ! لم تخبرني أمي قبل وفاتها أن لي عماً ! "
فأجاب الرجل بابتسامة حانية :
" ذلك لأنهم كانوا يعتبرونني ميتاً ! لقد غادرت الوطن في رحلة عمل على متن سفينة هولندية .. ولكن السفينة غرقت قبل وصولها إلى الميناء المنشود ، وكان من حسن حظي أنني تمكنت من النجاة ووصلت إلى دربان سالماً .. وهناك أستقر بي المقام وعملت وكونت ثروة كبيرة .. وكان ذلك قبل أن تولدي أنت بأربع سنوات .. لا عجب إن أحداً لم يخبرك عن عمك " فيكتور " من قبل ! "
وفجأة ، وبمجرد أن أنتهي الرجل من كلامه حتى أستعاد عقل " آن " الهامد الحياة وتذكرت كل تفاصيل الليلة الماضية وكأنها تشاهدها على شريط سينمائي أمامها .. فهبت من مقعدها وأخذت تصيح كالمجنونة ثم هجمت على زوجها وهي تصرخ :
" أبتعد .. أبتعد أيها الشيطان ! أبتعد عني .. لقد كنت تريد قتلي .. كنت تحاول قتلي .. كنت تريد أن تفعل بي مثلما كنتم تفعلون مع اللعينة " بيرني " في ليلة عيد الميلاد ! "
استمرت " آن " في صراخها الهستيري .. فأربد وجه مستر " جونز " وبان عليه الاضطراب .. أما العم المزعوم فقد أخذ يحاول الإمساك ب" آن " ومنعها من مواصلة الهجوم على زوجها .. وبصعوبة بالغة تمكن من إبعادها عنه بعد أن كادت تقطع وجهه بأظافرها .. وأخيرا حملها حملاً وأرقدها فوق الفراش محاولاً السيطرة عليها .. ولم يكد الزوج يتخلص من قبضة " آن " حتى أخذ يصرخ بضراوة :
" هذا ما حدثتك عنه ! إنها مجنونة .. مجنونة تماماً .. تتوهم أشياء لا تحدث ثم تصرخ وتتهمنا بفعل أشياء غريبة .. إنني حتى لم أقم حفل عيد الميلاد مطلقاً هذا العام " !
وهنا جن جنون " آن " وأخذت تقاوم عمها " فيكتور " بشراسة محاولة النهوض لتهجم على " جونز " وراحت تصيح بهستيريا :
" كاذب .. منافق .. جبان .. منحل ! أنت تعبد الشيطان .. لقد رأيتكم ! لقد رأيتكم وأنتم تقيمون حفلاً لعبادة الشيطان وتمزقون جسد " بيرني " بالشفرات ليلة عيد الميلاد .. لقد رأيتكم ! لقد رأيتكم وأنتم تفعلون ذلك .. ورأيت الدماء وهي تتساقط من جسدها وتغرق النجمة الخماسية في القاعة الكبيرة .. والليلة الماضية ألم تحاول قتلي لولا أن أنقذني جرس الباب ؟! لقد رأيت كل شيء .. وأعرف أن هذه طقوس عبدة الشيطان .. سأفضحك في كل مكان .. وسأبلغ السلطات الأمريكية ليأتوا ويقبضوا عليك أنت وشركائك ! "
ظلت " آن " تصرخ وتصرخ كل هذا ومستر " جونز " جالس مكانه يدخن سيجارته في هدوء كامل ويرمقها ببرود دون أن يظهر عليه أقل تغير .. وبذل العم جهداً خارقاً حتى أستطاع السيطرة على " آن " ومنعها من مغادرة الفراش ولكنها ظلت تصيح وتصيح كالمجنونة مرددة :
" سأفضحك .. سأفضحك " !
واستغرق الأمر عشر دقائق كاملة حتى بدأت " آن " تهدأ .. وعندما هدأت بدرجة كافية نهض مستر " جونز " من مكانه وقال بهدوء :
" هل انتهيت من الصراخ ؟! الآن سأثبت لك أنك مجنونة ..وأن كل ما تدعينه أوهام لا وجود لها إلا في رأسك المريض .. أتبعوني من فضلكم "
غادر مستر " جونز " الغرفة وبدأ يهبط السلم بخطوات سريعة .. وراءه جاءت " آن " تمشي ببطء مستندة على ذراع " فيكتور كروسبي "...
وهبطوا الدور السفلي .. ثم اتجهوا نحو القاعة الكبرى .. ودق مستر " جونز " الجرس الفضي الخاص باستدعاء الخدم ، فجاءت " بيرني " بعد لحظة متسائلة عن أوامر مستر " جونز " .. وهنا قال مستر " جونز " بهدوء وبرود :
" آنسة " بيرني " من فضلك .. إن مسز " جونز " تتهمنا بأننا نقيم طقوس لعبادة الشيطان في هذه القاعة .. وتدعي وجود نجمة خماسية على أرضية هذه القاعة .. كما تزعم أننا قمنا بتمزيق جسدك بالشفرات ليلة عيد الميلاد كنوع من الطقوس الشيطانية ! "
وبمجرد أن أنتهي " جونز " من كلامه حتى ارتسم تعبير غريب على وجه " بيرني " المائع وقالت بسخرية :
" ليلة عيد الميلاد .. أنت تعرف يا سيدي أنني لم أكن بالقصر ليلة عيد الميلاد .. لقد كنت أقضي إجازة العيد مع أمي في مونتانا ..وأعتقد أن مسز " جونز " بنفسها هي من منحتني هذه الإجازة أيضاً ! "
شحب وجه " آن " شحوباً بالغاً عند سماعها لهذه الكلمات الصادرة من " بيرني " .. ولكن ما حدث بعدها كان أدهي وأمر .. فقد أشار مستر " جونز " ل" بيرني " إشارة معينة برأسه ، فأقبلت الخادمة على السجادة الفخمة المفروشة على الأرضية وأخذت تطويها طيات سريعة حتى ظهر رخام الغرفة اللامع المصقول .. وأخذت " بيرني " تطوي السجادة حتى أزاحتها تماماً وأبعدتها ووضعتها لصق الحائط .. فظهرت أرضية الغرفة كاملة .. ولم يكن هناك أي نجوم خماسية أو سداسية فوقها!!
نظر مستر " جونز " نظرة طويلة لزوجته التي كانت واقفة مستندة على ذراع العم " فيكتور " ؛ الذي هبط إليها من السماء ؛ في حالة من الخوف والقلق .. ولكن زوجها لم يرحمها بل أشار ل" بيرني " إشارة أخري مبهمة .. فأخذت الخادمة ؛ وبدون كلمة ؛ تنزع ملابسها قطعة قطعة بدون خجل أمام كل الواقفين حولها حتى ظهر جسدها الأبيض الأملس لامع كأنه جسد تمثال من البرونز !
هنا نظر مستر " جونز " ل" فيكتور كروسبي " وقال له في هدوء :
" أحكم أنت يا سيدي ! ها هو كل شيء أمامك .. لا توجد أي نجوم من أي نوع على أرضية القاعة وليلة عيد الميلاد لم يمض عليها أسبوعان .. ولو كانت مسز " جونز " صادقة في مزاعمها فأين الجروح التي أحدثتها الأمواس في جسد " بيرني " .. أعتقد أنه من الصعب أن تكون قد اندملت في هذه الفترة البسيطة ! "
نظر " فيكتور كروسبي " إلى " آن " منتظراً جوابها .. ولكن جواب " آن " أثار دهشة الجميع لأن وجهها شحب فجأة شحوب الموتى وغامت عيناها .. ثم تهاوت على الأرض فاقدة الوعي !
************
مرت ثلاثة أسابيع لزمت فيهم " آن " غرفتها .. كانت حزينة مكتئبة ، عازفة عن الكلام والخروج إلى الحديقة وعافت نفسها الطعام ، فلم تكن تأكل إلا أقل القليل من الطعام وبعد ممانعة ورفض وإلحاح شديد من العم " فيكتور كروسبي " الذي ظل مقيماً في القصر لرعاية " آن " بناءً على رغبة السيد " جونز " .. وبمرور الأيام بدأت " آن " تزداد حزناً واكتئابا وأصابها الجنون والخوف من الجنون .. أما زوجها فقد صار بالنسبة لها عفريتاً مرعباً لا تتحمل رؤيته ولا مجرد سماع اسمه .. وطوال هذه المدة قام ثلاثة من الأطباء بمهمة رعاية مسز " جونز " في مرضها .. فقد حرص زوج " آن " على إظهار غاية الاهتمام والرعاية لزوجته في هذه الفترة الحرجة .. ولا أحد يدري أكان حرصه هذا ناتجاً عن خوفه من تصديق ادعاءات زوجته ضده أم كان حقاً حباً لها وعطفاً عليها ..
ولما بدأت " آن " تستعيد قوتها عرض عليها عمها " فيكتور " الذهاب معه في رحلة إلى أيرلندا .. وأسعد هذا الاقتراح " آن " وأعاد إليها ابتسامتها المفقودة وأنساها حتى نفورها البالغ من زوجها فبدأت تبادله القليل من الحديث ، ولكن أخشي ما كانت تخشاه " آن " أن يرفض زوجها ذهابها برفقة عمها إلى أيرلندا .. ولكنه ؛ لدهشتها ؛ وافق على الفور وسعد بالاقتراح .. بل لم يكتفي بالموافقة وأصر على مرافقة زوجته في هذه الرحلة ووعدها بأن يبقوا في الوطن بقدر ما تريد على أن يعهد برعاية مصالحه في أمريكا لنائبه " روسليني " لحين عودته ..
وأخذت " آن " تعد أمتعتها لهذه الرحلة المنتظرة وتستعد استعدادا يفوق ما تتطلبه رحلة مؤقتة لن تدوم سوي لأيام أو لأسابيع .. ولا غرابة فقد كانت " آن " عازمة على ألا تعود ثانية إلى الولايات المتحدة مهما كان الثمن !
ومن سوء حظها أنها لم تحسن إخفاء مشاعرها ونياتها الحقيقية عن زوجها المتربص بها .. ففاجأها بما لم يكن في حسابها !
************
قبل الموعد المحدد للرحلة بثلاثة أيام استيقظت " آن " من نومها نشطة مستبشرة .. وكان أول ما فعلته أن سألت عن العم " فيكتور " ؛ الذي أصبح جزء مهماً من حياتها ؛ ولكن الجواب كان صدمة بالنسبة لها .. فقد قال لها مستر " جونز " أن " فيكتور كروسبي " قد غادر القصر عقب تلقيه رسالة عاجلة من جنوب أفريقيا تطلب منه الحضور فوراً لأمر في غاية الأهمية !
صدمت " آن " وذعرت لرحيل عمها المفاجئ وهو الشخص الوحيد الذي تثق فيه الآن .. وأسرعت محاولة الاتصال به للاطمئنان عليه ومعرفة ميعاد عودته التي تمنت أن تكون في أسرع وقت .. ولكن كل محاولات " آن " باءت بالفشل ، فقد كانت كل الأرقام الخاصة بالسيد " فيكتور كروسبي " خارج نطاق الخدمة !
ووجدت " آن " نفسها مجبرة على التحدث لزوجها بشأن الرحلة التي كانت لا تطيق صبرا لبدئها ولا تتحمل تأجيلها .. قالت مسز " جونز " لزوجها بحذر :
" وماذا عن رحلة أيرلندا ؟! "
فلوي مستر " جونز " شفتيه وقلب كفيه علامة الاستسلام وأجاب ببرود :
" أعتقد أنه ليس علينا سوي الانتظار ! لن نستطيع أن نبدأ الرحلة بدون عمك " فيكتور " فقد وعدناه بمرافقته لنا فيها .. ومسز ومستر " جونز " لابد أن يفيا بوعودهما .. أليس كذلك يا حبيبتي ؟! "
وظلت " آن " تنتظر عودة " فيكتور كروسبي " أو اتصاله بها .. انتظرت وانتظرت طويلاً .. طويلاً جداً .. دون أن تأتي أية أخبار من الرجل أو يظهر له أثر .. وهكذا أختفي " فيكتور كروسبي "من حياة " آن " فجأة .. مثلما ظهر فجأة !
************
أعقب اختفاء " فيكتور كروسبي " المباغت عودة السيد " جونز " لإقامة الحفلات الماجنة في قصره .. وكانت هذه الحفلات تتضمن كل أنواع الموبقات التي يمكن تخيلها والتي لا يمكن كذلك !
ولما شعر " جونز " بإمكان إقدام زوجته " آن " على الهرب قام بحبسها في قبو مظلم ملحق بأغوار القصر السفلية التي لا نهاية لها .. وبدأ هو ورفاقه في تعذيبها .. التعذيب الحقيقي الذي كان يتوق لبدئه !
ففي ليلة مظلمة قام مستر " جونز " وأتباعه ؛ وعلى رأسهم " بيرني " ؛ بسحب " آن " عبر سلالم وردهات القصر وإلقائها في هذا الجب العفن .. وأسند السيد لخادمته العتيدة مهمة إعداد " آن " وتحضيرها للمهمة التي أختارها لأجلها !
فالذي كانت تجهله " آن " لحد هذا الوقت هو أن مستر " جونز " لم يخترها لتكون زوجة له .. بل لتكون ذبيحة وقرباناً !
وتركوها طوال الليل ترتعش من الذعر ومن البرد ومن الجوع أيضاً !
ولكن في تباشير الصباح أتت " بيرني " حاملة إليها صحفة عليها طعام الإفطار .. وضعته بجوار " آن " على الأرض ثم رحلت بدون كلمة .. وأقبلت " آن " على الطبق الوحيد الموضوع فوق الصحفة وكشفت غطاءه بلهفة .. فقط لتجد فوقه شيء طويل يقطر دماً وله ذيل طويل رفيع وفم صغير أحمر اللون وعينان واسعتان منبلقتان .. وتراجعت " آن " إلى الوراء مذعورة وأصطدم ظهرها بالحائط من عنف الصدمة وأخذت تتقيأ .. فلم يكن فوق الطبق سوي فأر .. فأر كبير مسلوخ يقطر دماً !
وكانت هذه هي الخطوة الأولي !
************
وبقيت المسكينة ثلاث أيام بلياليها بدون طعام حتى أوشكت على الموت !
ويبدو إن الرحمة عرفت طريقها إلى قلب " جونز " وخادمته أخيراً .. ففي اليوم الرابع جاءت " بيرني " حاملة هذه المرة طعاماً حقيقياً .. لحم مشوي وخضر مطهية في طبق واحد .. وأقبلت " آن " على الطعام بجنون وأخذت تتناول الطعام كالمسعورة دون أن تبالي ب" بيرني " التي كانت واقفة خلف قضبان الزنزانة الخارجية تنظر لها في شماتة كريهة ولا حتى بمستر " جونز " الذي جاء ووقف إلى جوار خادمته ويشاركها نظراتها الكريهة .. وبعد أن انتهت " آن " من طعامها أحست بقليل من الراحة وأسندت ظهرها على الحائط لتستريح .. ولكن مستر " جونز " لم يمهلها .. فقد فوجئت به يفتح الباب فتحة صغيرة ويلقي إليها بشيء ما عبرها ثم يعيد إغلاق الباب بسرعة !
نظرت " آن " طويلاً إلى هذا الشيء الذي ألقاه إليها زوجها .. ثم تناولته لتفحصه عن قرب .. ولم يكن هذا الشيء سوي كيس صغير من الخيش .. فتحته " آن " لتجد داخله أقدام وذيول ورؤوس فئران .. ألقت " آن " الكيس من يدها بسرعة .. ونظرت نحو الطبق الخالي الذي كانت تأكل منه منذ قليل .. فشعرت بمعدتها تقفز خارج حلقها وأندفع كل ما أكلته خارج فمها وهي تسمع ضحكات زوجها اللعين وخادمته في الممر .. فقد عرفت ما الذي أطعمته لها " بيرني " بالضبط !!
************
مرت على هذا الحال خمسة أيام وأضربت " آن " عن الطعام إضراباً كاملاً .. فحتى إذا حملت إليها " بيرني "طعاماً جيداً كانت تأبي أن تتناوله وتلقي به بعيداً .. فقد قررت أن الموت خير لها من البقاء في هذا الذل والهوان !
وتركها زوجها تفعل ما تريد يوماً واثنين وثلاثة .. ولكنه عندما تأكد من عزمها الامتناع عن الطعام حتى الموت بالفعل أصابه الذعر خوفاً من أن تموت فيضطر لأن يجوب العالم مرة أخري بحثاً عن قربان بشري تتوفر فيه كل الصفات اللازمة .. القربان الذي سيفتح له بدمه بوابة الخلود !
ولجأ مستر " جونز " لتهديد " آن " لإرغامها على تناول الطعام .. ولما لم يجدي التهديد حاول استخدام القوة معها وجعلها تزدرد الطعام بالقوة .. ولكن اليأس أصابه لأنه وإن كان بإمكانه إجبارها على ابتلاع الطعام ، إلا إنه لا يستطيع ؛ مهما أوتي من قوة ؛ أن يجبر الطعام على البقاء في جوفها !
وكانت النتيجة أن " آن " ؛ وبعد مرور أسبوعين على حبسها ؛ بدأت تزوي وتشحب بشدة وهزلت هزالاً بشعاً .. وأصبحت أقرب للموت منها للحياة !
وهنا قرر مستر " جونز " أن ينهي الموقف بنفسه ولا داعي للانتظار حتى يقرر كاهنه " ألفريدو " اللعين التضحية بها .. وحمل " جونز " سكيناً ضخماً مصنوعاً من الفضة اقتناه خصيصاً من أحد أسواق بيرو لهذه المهمة المنتظرة وأتجه نحو الجب العفن الذي قام بحبس ضحيته فيه تتبعه خادمته " بيرني " كالكلب الأمين .. وعندما فتح باب الزنزانة وجد " آن " المسكينة راقدة في الركن مكومة على نفسها تئن رعباً وفزعاً .. ولكنها لم يرحمها ؛ فلم يعد في قلب مثل هذا الرجل شيء اسمه رحمة .. بل تقدم إليها وسحبها من شعرها في وحشية تساعده خادمته اللعينة .. وحاولت " آن " المقاومة اليائسة ولكن جسدها المهزول لم يبقي فيه رمق للمقاومة .. وعلقاها من قدميها بعد أن جرداها من كل ملابسها ؛ مثلما كانت " بيرني " معلقة في ليلة عيد الميلاد ؛ وأخرج مستر " جونز " السكين الفضية ومضي يشحذها في الجدار الصخري بعنف وقسوة وقد قصد أن يفعل ذلك أمام عيني ضحيته ليزيد الأمر قسوة وحشية .. وبينما كان يفعل ذلك كانت " بيرني " تضحك ضحكتها الماجنة وتردد بخبث وشماتة :
" أسرع يا عزيزي .. نريد أن نأكل القلب دافئاً ! "
وانتهي " جونز " من شحذ السكين وتقدم نحو الذبيحة المعلقة من قدميها وسدد لها ضربة حادة .. مزقت الصدر وأنشق نصفين ليظهر القلب وهو يدق دقاته الأخيرة الرتيبة .. وكان آخر ما تذكره " آن " هو الألم الزاعق الذي شل أطرافها وخدر خلاياها حتى أصبحت تشعر وكأنها لا تشعر .. وتتألم وكأن شخص آخر هو الذي يتألم .. وامتدت رقبتي الجزارين اللعينين وأخرجا لسانيهما ليلعقا ؛ في نشوة الحيوان المتوحش ؛ الدم المنساب كالشلال على صدر " آن " !
************
فتحت " آن كروسبي " عينيها لتجد نفسها راقدة على جانب التل الذي يقوم عليه قصر ( أوريديان ) الفخم .. فتحت عينيها بصعوبة بالغة ، فقد كان جفنيها ثقيلين ، ورأسها يعصف به دوار رهيب ويكاد ينخلع من مكانه .. أسندت " آن " رأسها المتهاوي بيديها ورفعت نفسها قليلاً لتتطلع حولها .. كان كل شيء في التل كما اعتادته فيما عدا تغيير واحد .. تغيير بسيط .. وهو أن قصر ( أوريديان ) قد أختفي من فوق التل ولم يتبقى منه أثر !
************
رقدت " آن " فوق الحشية الخشنة مفتوحة العينيين شاحبة .. كانت عيناها مغمضتين لكنها لم تكن نائمة .. بل كانت مستيقظة أكثر مما كانت طوال عمرها .. كانت تفكر وتفكر .. ولكن قدوم هذه المرأة قطع عليها حبل أفكارها الممتد بلا نهاية .. كانت مرآة عجوز مغضنة تبدو طيبة الملامح سمحة الوجه وكانت تحمل في يدها طبق حساء يتصاعد منه البخار .. وكانت هذه المرأة هي نفسها من عثرت على " آن " ملقاة فاقدة الوعي على الطريق الترابي المهجور في مدخل القرية القديم المسدود .. القرية الأيرلندية العتيقة التي ولدت فيها " آن كروسبي " وتربت وعاشت فيها طوال عمرها .. ولم تغادرها أبداً .. كما قيل لها !
************
على مدي ثلاثة أسابيع حاولت " آن كروسبي " إقناع أهل قريتها بقصتها التي روتها لهم عشرة آلاف مرة دون جدوى .. فقد كانوا مصرين على أنها لم تغادر القرية على الإطلاق .. ولم يحدث أن تزوجت بشخص يدعي " هنري أدوالد جونز " أو حتى بغيره .. أما سفرها حول العالم وبيتها في نيويورك وقصرها ( أوريديان ) الأسطوري فقد كانت بالنسبة لهم أضغاث أحلام .. وترهات امرأة مجنونة !
" يجب أن تعرفي أنك لم تغادري أيرلندا على الإطلاق .. كما أنه لم يسبق لك الزواج ! "
قال العمدة مشدداً على كلماته التي سبق وأن رددها عشرين ألف مرة دون أن تقتنع " آن " بحرف منها ..
" وزواجي الذي شهدت عليه بنفسك ؟! "
" هراء ! "
" وعقد القران في الكنيسة !؟ "
" لم يحدث .. ها هو القسيس آت ويمكنك أن تسأليه بنفسك ! "
" و" هنري جونز " الذي أقام هنا ستة أسابيع ؟! "
" لم نسمع به أبداً ! "
" وسفري إلى الخارج ؟! "
" ترهات .. إنك لم تغادري أيرلندا منذ يوم ولدت ! "
" وجواز سفري الذي حصلت في دبلن ! "
" لم يحدث ! لا يوجد جواز سفر تم استخراجه باسم " آن كروسبي " أو مسز " هنري جونز " منذ خمسة عشر عاماً ! "
" وإقامتي في نيويورك ؟! "
" هراء يا امرأة ما تخرفين ! لقد أنكرت السفارة الأمريكية واقعة زواجك بمواطن أمريكي وأكدت عدم وجود وثيقة تثبت زواجك الوهمي ! "
" و " هنري أدوالد جونز " ؟! "
" هراء ! وهم في عقلك المريض .. لا يوجد مواطن أمريكي يحمل هذا الاسم إطلاقاً ! "
" و " بيرني " و " روسليني " وقصر أوريديان وميناء نيويورك وتمثال الحرية ؟! "
" وهم .. وهم .. وهم ! أنت مجنونة ! "
صرخت " آن " فجأة وهجمت على العمدة أنشبت أظافرها في عنقه ومزقت ياقته العالية المنشاة ولكنه تمكن من تخليص نفسه من بين يديها بعد أن كادت تزهق نفسه .. وأمسكت بها النسوة اللائي يقمن برعايتها في محنتها بينما أخذ العمدة يصرخ في وجهها وقد أحمر وجهه غيظاً وغضباً :
" أنت مجنونة .. مجنونة كأمك ! أمك ماتت في مشفي عقلي وستكونين مثلها .. ستنتهين مثلما انتهت أمك ! "
************
ولكن نبوءة العمدة لم تتحقق .. فلا " آن " دخلت إلى مشفي عقلي ولا انتهت كما انتهت أمها .. ولكنها أغلقت بابها على نفسها واعتزلت كل الناس .. ومضت سنون طويلة وهدأت " آن " واستردت جزء من توازنها النفسي والعقلي وأقنعت نفسها بأن كل ما حدث ليس إلا وهماً وتجربة وحشية من الشيطان اللعين الذي أراد أن يقهرها ..ولكنها ؛ قررت أخيراً ؛ لن تدعه يفعل !
وعادت " آن كروسبي " لحياكة الثياب وصارت تقضي جل وقتها في الكنيسة تتعبد لله طالبة منه ألا يمتحنها ثانية وألا يضعها في تجربة .. وكرت الأيام وتغيرت قرية " آن "ومات أغلب من عاصروا مأساتها أو رحلوا أو اختفوا بأي طريقة كانت ..
وحصلت " آن كروسبي " على مكانة كبيرة في الكنيسة ومكانة أكبر بين المتدينين والمؤمنين ليس في قريتها وحدها بل في أيرلندا بأسرها ..
ونُسيت قصة " آن كروسبي " ونسيت هي نفسها بعد أن توفت عن ثلاثة وثمانين عاماً تاركة وراءها حكاية غريبة وسر يعلم الله وحده حله ..
ولكن ما لم يعلمه أحد أنه في الليلة السابقة لوفاة " آن " وبينما كانت تحتضر في منزلها الذي عادت إليه ورفضت أن تموت بعيداً عنه وعند منتصف الليل .. دق باب منزل " آن " ؛ التي قضت هذه الليلة بمفردها ورفضت أن يرافقها أحد من مريديها وأحبائها فيها ؛ فتحاملت المسكينة على نفسها وقامت لتفتح الباب .. وعند الباب كان هناك شكل آدمي متسربل بالظلام ومتواري في ركن مظلم على يسار الباب .. حدقت " آن " في الظلام محاولة رؤية شكل هذا الواقف في الظلام الدامس ولكنها لم تستطع .. ورحمها هذا المتلفع بالظلام فتقدم إلى بقعة الضوء التي ألقاها المصباح الضئيل فوق الباب .. وتمخض الظلام عن شكل امرأة مغطاة من أعلاها إلى أسفلها بقماش أسود لامع .. وعلى وجهها حجاب أسود شفاف .. تلاقت العيون في صمت وارتفعت أنفاس " آن " من شدة الانفعال والإثارة .. وبعد وقت طويل أزاحت المرآة المجهولة النقاب من فوق وجهها .. فظهرت ملامحها العجوز الذابلة المغضنة التي لا زالت ؛ برغم ذلك ؛ تحتفظ بظل لجمال ساحق قديم ودلال لا نهاية له .. تفجر شيء في داخل " آن " ونطقت بصعوبة هاتفة :
" أنت ؟!! "
هذه الجملة التي كانت آخر ما نطقت به " آن كروسبي " في حياتها العجيبة !
kassasmanal.blogspot.com
manalnet.wordpress.com
مفاجأة من العيار الثقيل .. شيء لم يخطر لها على بال .. أمل هائل لم تسمح لنفسها بالتعلق به حتى لا ينتهي الأمر بخيبة أمل مرة !
لكن ها قد تحقق الحلم ودنا الأمل .. وهل هناك أكثر من حصول فتاة أيرلندية قروية فقيرة تخيط الملابس على فرصة للزواج من ملياردير أمريكي ثري حتى الاختناق ؟!
لم تصدق " آن " نفسها و " هنري أدوالد جونز " ؛ الثري الأمريكي الوسيم ؛ يقف أمام باب منزلها حاملاً باقة زهور جميلة عليها بطاقة صغيرة مكتوب عليها بخطه الجميل المنمق " تزوجيني من فضلك " !
وبعد ثلاثة أيام بالضبط زُفت " آن " للثري الأمريكي المجنون الذي لا يعيبه شيء على الإطلاق .. فيما عدا أنه يكبرها بسبعة وثلاثين عاماً .. وأضحت الآنسة " آن كروسبي " السيدة " آن جونز " .. وبعدها بثلاثة أيام سافرت معه في جولة حول العالم قبل أن تنتقل للإقامة معه في نيويورك !
وهكذا وفي ظرف أسبوع واحد تغيرت حياة الفتاة الأيرلندية الفقيرة إلى حياة أخري بالغة الثراء .. والخطورة !
************
من باريس إلى روما .. ومن روما إلى فينيسيا .. ومن فينسيا إلى لندن .. ومن لندن إلى القاهرة .. ومن القاهرة طيراناً إلى نيويورك ولاس فيجاس وهوليوود .. هكذا كانت حياة السيدة " آن جونز " طوال ستة أشهر برفقة زوجها المحب الرقيق الذي لم تري منه طوال تلك الأشهر سوي الحنان والمحبة والكرم البالغ في معاملتها .. وهكذا عاد السيد " جونز " برفقة زوجته إلى نيويورك ليبدآ حياتهما المشتركة معاً .. وكانت دهشة " آن " هائلة وهي تري القصر الفخم الذي ستعيش فيه مع زوجها .. لم يكن قصراً فقط بل كان أقرب لمجموعة قصور متشابكة لتكون مقراً ملكياً ضخماً لا يقل في روعته عن قصور ملوك أوربا وملكاتها .. كان القصر يحمل اسم ( أوريديان ) ويقع خارج مدينة نيويورك على ربوة مرتفعة تطل على الميناء العالمي الشهير ولا يحيط بها أي مباني أو منشآت من أي نوع .. فقد حرص السيد " هنري جونز " على شراء كل الأراضي بالمنطقة وإغلاقها وجعلها منطقة خاصة به ومقراً شخصياً ممنوع الاقتراب منه لأي شخص ، إلا بإذن خاص من السيد " جونز " شخصياً أو من مدير أعماله " روسليني " .. حتى الطيران كان محظوراً فوق القصر إلا بعد الحصول على الإذن اللازم من سيد المنطقة !
وهكذا وجدت " آن كروسبي " ؛ سابقاً ؛ نفسها قد تحولت من خياطة فقيرة معدمة تعيش على عائدات الحياكة اليسيرة لملكة حقيقية تتحكم ؛ من خلال زوجها ؛ في منطقة كاملة في قلب أكبر وأقوي دولة في العالم .. أي حلم هذا ؟!
************
بعد عودته بثلاثة أيام أستقبل السيد " هنري جونز " في قصره مجموعة من الزوار الغرباء .. كانوا ثلاثة من الرجال لم يسبق لزوجته رؤيتهم من قبل .. أولهم كان رجل مسن مغضن نحيف الوجه قبيحه ؛ كأنه قرد عجوز ؛ وقامته منحنية غير مستقيمة ويبرز من بين شفتيه طاقم أسنان يزيد منظره كبراً وقبحاً ويجعله أقرب للقرف .. والثاني كان شاب صغير وسيم يرتدي بذلة غالية الثمن ويبدو متأنقاً وجيهاً ولكن شيء ما في ملامحه يجعله غير مقبول ولا يعطي انطباعا بالثقة والاطمئنان .. أما ثالثهم فقد كان يبدو أشبه بكاهن أو قسيس كبير يرتدي ملابس كهنوتية سوداء بالغة الأناقة ، ولكن له وجه شديد القوة والخطورة لدرجة أن " آن " لم تستطع أن تكرر النظر إليه بعد النظرة الأولي ووجدت نفسها تتلعثم وهي تصافحه بارتباك مهول .. ثم انسحبت فوراً إلى الأعلى بعد الترحيب بهم .. وصعدت السلم جرياً وهي تحس بنظراتهم الثاقبة تلاحقها .. ولكنها قبل أن تبتعد تماماً سمعت همساً متبادلاً بينهم.. فهناك صوت ميزت فيه صوت الكاهن يقول في تساؤل :
" أهذه هي ! "
فأجابه صوت زوجها بثقة :
" نعم إنها هي ! لقد اخترتها بعد بحث طويل ! "
سرت " آن " من هذه العبارة .. لأنها ؛ لسوء حظها ؛ لم تكن تفهم معناها الحقيقي بعد !
************
في نفس هذه الليلة بدأت " آن " تدرك أن زوجها ليس فقط ثرياً وسيماً محباً رقيقاً .. ولكن هناك شيء آخر يحيط به غير الأتباع والخدم وأطقم السكرتارية ومصففي الشعر ومنسقي الملابس .. شيء غامض مريب .. وربما مرعب كذلك !
كانت " آن " جالسة في غرفتها تحدق في مجموعة صورها القديمة التي التقطت لها في أيرلندا عندما دخل زوجها فجأة .. أقتحم الباب بطريقة غير مألوفة تماماً وكأنها يريد أن يفاجئها ويضبطها متلبسة بعمل ما !
فزعت " آن " لدخوله المفاجئ وأسقطت الصور من يدها وشهقت شهقة عالية .. ولكن السيد " جونز " لم يبدي أي اهتمام بكونه أفزع زوجته .. بل أقترب منها ببطء وانحني ليلتقط الصور التي تناثرت على الأرض وجلس بجوار " آن " على الفراش .. وأخذ يتأمل الصور ويتطلع إليها قليلاً بشبه استهانة .. ثم فجأة أقدم على حركة لم تكن " آن " تتوقعها منه أبداً .. فقد فوجئت به يمزق الصور الخاصة بها ويقطعها إرباً بجنون وعصبية .. ذُهلت " آن " لتصرفه هذا وتناءت عنه خوفاً .. ولكنه بعد أن أنتهي من تمزيق الصور وداس مزقها بقدمه في غل .. ألتفتت إلى " آن " ورسم ابتسامة معسولة مجنونة على وجهه ومد يديه وأحاط بهما وجهها المذعور وقال لها في هدوء غريب :
" عزيزتي .. أنت الآن قد صرت زوجتي .. هل تفهمين ؟ أنت الآن مسز " هنري أدوالد جونز " .. ولم تعودي " آن كروسبي " .. فأنسي أيرلندا وأيام أيرلندا من فضلك .. أنسيها تماماً عزيزتي ! "
وبعد أن انتهي من الكلام أخذ مستر " جونز " زوجته بين ذراعيه محاولاً تهدئتها وإدخال الطمأنينة عليها .. ولكنها لم تهدأ ولم تطمئن .. لأن " جونز " ؛ بغبائه وتسرعه ؛ قد ألقي بأول حجر في المياه الراكدة قبل الأوان بكثير !
************
في الصباح التالي استيقظت " آن " صباحاً بعد نوم قلق مضطرب .. لتجد فراش زوجها خالياً .. ظنت أنه ربما يكون قد استيقظ قبلها .. رغم أن ذلك لم يكن من عاداته ، فقد كان يغط في نومه حتى الظهيرة .. ولكنها عندما تفحصت الفراش وجدته منسقاً مرتباً مما يدل على أنه لم يُستخدم أصلاً ، وهذا معناه أن زوجها لم يقضي ليلته في حجرتهما .. فأين قضاه إذن ؟!
هبطت " آن " السلم لتجد أمامها كبيرة الخادمات " بيرني " الشقراء المثيرة تسألها هل تعد الإفطار .. لم تجب " آن " بل سألتها عن زوجها السيد " جونز " ، فقالت " بيرني " أن السيد " جونز " غادر القصر منذ نصف ساعة .. وعندئذ همت " آن " أن تسألها عن المكان الذي قضي فيه ليلته ولكنها تراجعت خجلاً من إطلاع خادمة على هذه الأمور الحساسة ، ولعلها خشيت أن تعتقد الخادمة أن ثمة خلاف بين الزوجين ..
تناولت " آن " إفطارها وجلست في انتظار عودة زوجها .. ومضت فترة الصباح والظهيرة وما بعد الظهيرة وحل وقت الغروب دون أن يكون السيد " جونز " قد عاد لمنزله بعد .. فأصاب القلق " آن " وقامت بالاتصال بزوجها عدة مرات على هاتفه المحمول .. ولكن الرقم كان في كل مرة مغلقاً .. فجربت " آن " كل الأرقام الأخرى فوجدتها أيضاً مغلقة بدورها .. وعندئذ أصابها القلق .. وتصادف أن مرت بها كبيرة الخادمات وهي تجلس في الحديقة تحاول وتكرر محاولات الاتصال بزوجها .. فنظرت " بيرني " نظرة غريبة ليدي مسز " جونز " المشغولتين بالاتصال وفتحت فمها لتقول جملة واحدة فقط :
" يبدو أن السيد قد عاد لطبعه القديم " !
وابتسمت " بيرني " ابتسامة غريبة وفرت إلى المطبخ تاركة " آن " غارقة في حيرتها !
************
عاد السيد " جونز " بعد منتصف الليل متعباً ومرهقاً بشكل يوحي بأنه كان يقوم بدفن ضحايا الطاعون.. وبمجرد أن دخل صرخ منادياً الخادمة " بيرني " وأمرها بإعداد العشاء .. ثم جلس في انتظار العشاء .. وبعدها بخمسة دقائق كان يجلس إلى المائدة يتناول عشاءه كالخنزير الجائع .. ثم نهض ليذهب إلى غرفته .. كل ذلك دون أن يلتفت إلى زوجته أو يهتم بإلقاء نظره واحدة عليها .. بل حتى لم يهتم بدعوتها لمشاركته في العشاء .. بل تركها جالسة مكانها في ذهول من تجاهله التام لها وكأنها غير موجودة من الأصل !
ظلت " آن " جالسة مكانها مضطربة تلاحقها نظرات " بيرني " الساخرة وهي تقوم برفع بقايا العشاء .. وفجأة هبت " آن " من مكانها وارتقت السلم بسرعة رهيبة عازمة إلى الذهاب إلى غرفتها وتقريع زوجها وإيلامه بأشد الكلام جزاء إهماله التام الشنيع لها !
ولكن " آن " عندما دخلت الغرفة فوجئت بأن زوجها غير موجود بغرفتهما .. عندئذ جن جنونها وأخذت تجوب حجرات القصر معتقدة أنه ربما يكون قد قرر أن يقضي ليلته بعيداً عنها .. وكان هذا شيء ليس لديها أي استعداد للسماح بحدوثه .. ولكن العجيب أن " آن " تأكدت ؛ بعد جولة طويلة مرهقة بين حجرات القصر التي تزيد على ستين حجرة ؛ أن زوجها بالفعل ليس موجوداً في أي منها .. عندئذ أصابها الجنون وصرخت منادية " بيرني " وسألتها بغضب عن مكان مستر " جونز " .. وعندئذ فوجئت بالخادمة المائعة ترد عليها وهي تلوك اللادن في فمها :
" مستر " جونز " لم يعد بعد من الخارج يا سيدتي !"
وأثارت هذه الإجابة جنون السيدة " جونز " التي أخذت تصرخ سابه الخادمة اللعينة وأخذت تسألها عمن يكون الشخص الذي دخل منذ نصف ساعة وأعدت له العشاء بنفسها ، بل ورفعت بقايا عشاءه منذ دقائق .. وأخذت " آن " تصرخ وتصرخ والخادمة تصر على دعواها الغريبة بأن مستر " جونز " لم يعد من الخارج بعد !
وجذب صراخ مسز " جونز " مدير أعمال زوجها " روسليني " الذي تصادف وجوده بالطابق السفلي فصعد على الفور ليستطلع الأمر بنفسه ..
وعندما سأل عن المشكلة راحت " آن " التي أصابها الغضب بحالة من الهستيريا تصرخ وتصيح :
" هذه الخادمة اللعينة .. اللعينة تكذبني وتدعي أن مستر " جونز " لم يعد من الخارج بعد .. مع أنه دخل القصر أمامي وتناول عشاءه ورأيته بعيني وهو يصعد إلى هنا .. الكاذبة اللعينة .. سأطردها من القصر .. أقسم أن أجعل مستر " جونز " يطردها الليلة !! "
أخذت " آن " تصيح وتصيح وتركها " روسليني " حتى كفت عن الصراخ وهدأت قليلاً وقال لها بهدوء مثير وهو يحك أذنه اضطرابا :
" ولكن يا سيدتي أخشي أن أقول أن الخادمة على حق ! فسيدي ما زال في الخارج .. وقد أتصل بي لتوه ليخبرني بأنه أقترب من بوابة القصر الخارجية " !
خرست " آن " لهذه الإجابة القاتلة .. وامتلأت عيناها بالدموع وأخذت تجيل النظرات الحائرة بين مدير أعمال زوجها والخادمة التي أخذت تنظر لها في وقاحة وصفاقة عدوانية واضحة .. ذهلت " آن " وقبل أن تنطق دق الهاتف المحمول الخاص بمستر " روسليني " فتناوله ووضعه على أذنه وبعد ثانية ناوله لمسز " جونز " قائلاً :
" إنه مستر " جونز " يقول أنه وصل إلى القصر الآن ! "
ظلت " آن " واقفة مكانها تحدق في الفراغ .. حتى وجدت أمامها زوجها مرحاً بشوشاً باسماً يحتضنها في حنان ويقول لها بلهفة :
" حبيبتي .. حبيبتي " آن " .. كم أوحشتني .. أسف أنني اضطررت للبقاء في الخارج وتركك بمفردك طوال النهار .. ولكنه العمل يا عزيزتي كما تعرفين " !
ولم ترد " آن " على زوجها .. لأنها تهاوت بين ذراعيه مغشياً عليها !
************
استيقظت " آن " لتجد نفسها في فراشها وبجوارها يجلس زوجها وعلى ملامحه الكثير من القلق والخوف .. وبمجرد أن رأي عينيها تتحركان قفز من مكانه وأمسك يديها وأخذ يقبلهما بلهفة وحنان ويردد بصوت تملؤه الرقة والحب :
" حبيبتي .. حبيبتي لقد كاد القلق يقتلني عليك .. ولكن الطبيب طمأنني وأكد أنك ستكونين بخير في ظرف ساعة واحدة لا أكثر !"
لم ترد " آن " .. أو بالأحرى لم تجد كلاماً ترد به .. ومع أنها كادت أن تسأله عن هذا الأمر الغريب الذي حدث الليلة إلا أنها تراجعت حتى لا تزيد المشكلة تعقيداً .. وربما كانت طبيعتها الريفية الطيبة المتسامحة قد عاودتها فعزمت على الصفح عن زوجها .. ولكن المؤكد أن هذه الحادثة خلفت في نفس مسز " جونز " بدايات شك في قواها العقلية !
************
بعد مرور أسبوع كانت " آن " قد بدأت تنسي هذا الأمر الغريب ولكنها فوجئت بزوجها ؛ الذي عاد للاهتمام بها وإسباغ الحنان والعطف عليها ؛ يخبرها أنه يعد حفل استقبال فخم في قصرهما .. ويريدها هي شخصياً أن تتولي تنظيم هذا الحفل والإشراف على كل تفاصيله .. وسبب هذا المطلب المفاجئ ارتباكا مهولاً ل" آن " التي اعترفت لزوجها أنها لا تدري كيف يمكن الترتيب لحفل مثل هذا .. إنها حتى لا تعرف ما المقصود بحفل استقبال !
ولكن مستر " جونز " طمأنها وقال لها أن تنظر للأمر وكأنها تعد لاستقبال صديقاتها في منزلها الريفي بأيرلندا ، والأمر في الحقيقة لا يزيد على ذلك ، وتتحفهم بجو ريفي جميل ويمكنها أن تستعين بمساعدة " بيرني " إذا أحبت ..
وقد أراح الجزء الأول من كلام مستر " جونز " بال " آن " .. ولكن الجزء الثاني سبب لها غيظاً وغضباً بلا حدود .. لذلك فقد قررت أن تعد للحفل بنفسها وتعتمد على قدراتها الشخصية وكأن " بيرني " اللعينة هذه غير موجودة من الأساس !
وقد نجحت مسز " جونز " في إعداد ذلك الحفل وتنظيمه على الوجه الأكمل .. نجحت لدرجة أن زوجها قرر التخلي نهائياً عن إقامة أي حفلات في قصره مرة أخري إلى الأبد !
************
في اليوم الخامس عشر من ديسمبر وصل خطاب غريب إلى قصر مستر " جونز " .. كان الخطاب قادماً من أيرلندا ومن قرية " آن " بالتحديد .. تعجبت " آن " من وصول هذا الخطاب نظراً لأنه لم يكن لها في القرية ؛ أو في أيرلندا كلها ؛ أحد يمكن أن يفكر بها أو يحاول مراسلتها .. ولكن السيد " جونز " شجعها على فتح الخطاب لعله يكون من أحد صديقاتها السابقات في قريتها .. وبالفعل فتحت " آن " الخطاب لتجد به رسالة بالغة الغرابة .. فمرسل الخطاب شخص يدعي أنه عمها ويطلب تحديد موعد لزيارتها في بيتها الجديد .. وكان التوقيع في نهاية الرسالة باسم " فيكتور كروسبي " !
زادت دهشة " آن " من هذه الرسالة الغريبة وأكدت لزوجها أنها لا تعرف المدعو " فيكتور كروسبي " هذا ولم تسمع عنه على الإطلاق .. ولكن زوجها قال لها أنه ربما يكون عماً من أقربائها البعيدين ، وربما كان مسافراً أو مهاجراً إلى بلد نائي لذلك لم يتسنى لها التعرف به .. وفي النهاية شجعها على أن تدعوا هذا الرجل إلى القصر ولعل مناسبة عيد الميلاد تكون فرصة سانحة لمثل هذه الدعوة !
وبالفعل أرسلت " آن " فاكساً إلى الرقم المذكور بالرسالة تدعو فيها " فيكتور كروسبي " لزيارتها في قصر ( أوريديان ) في ليلة عيد الميلاد !
************
وجاءت ليلة عيد الميلاد .. جاءت ومعها احتفالات ضخمة في كل أنحاء العالم .. واحتفالات أكثر ضخامة وصخباً في نيويورك التي تعيش فيها عائلة " جونز " .. ومن داخل قصرها أخذت السيدة " آن " تسمع أصوات المحتفلين الصاخبين المرحين وهم يحتفلون ويرقصون على إيقاع موسيقي أقرب ما تكون لموسيقي الهمج والغجر وتري آلاف الألعاب النارية وهي تفرقع في الهواء .. وكانت " آن " الفتاة القروية الأيرلندية المحافظة تتعجب كيف يمكن أن تكون هذه طريقة الاحتفال بمولد يسوع المسيح ؟!
ولكن " آن " لم تتصور أن أكثر الاحتفالات صخباً وجنوناً ؛ بل وعربدة ومجوناً .. ستكون داخل قصرها نفسه وتحت إشرافها كما هو المفروض !
قام مستر " جونز " بدعوة عشرات من الأشخاص الغرباء ذوي الطبائع المجنونة وأقام على شرف زوجته حفلاً صاخباً مجنوناً لدرجة أن " آن " لم تتحمل الوجود وسط هذا الجو أكثر من نصف ساعة .. أسرعت بعدها إلى غرفتها تاركة زوجها يشارك ضيوفه جنونهم وتبذلهم ويعب معهم كؤوس الخمر حتى كاد أن يسقط على وجهه من الثمل !
وفي الساعة الثانية صباحاً شاهدت " آن " من نافذة غرفتها الضيوف المهرجين وهم يغادرون القصر .. فتنفست الصعداء وسرت لانتهاء هذا الحفل الماجن وأسرعت بالنزول للطابق السفلي لتطمئن على زوجها .. الذي اعتقدت أن الخمر صرعته ولابد أن مستلق الآن تحت أحد المناضد أو المقاعد فاقد الوعي .. وأثناء نزول " آن " على السلم سمعت صوت صراخ مرعب !
************
في القاعة التي كان الحفل دائراً فيها منذ دقائق كانت البقايا والكؤوس الفارغة والزجاجات وأعقاب السجائر متناثرة هنا وهناك .. ولكن المكان لم يكن خالياً كما تصورت " آن " .. بل كان هناك زوجها واقفاً على قدميه بكامل صحته ويقظته والى جواره خمسة أشخاص غرباء يرتدون ملابس غريبة .. ليست ملابس كاملة بل أقرب ما تكون لنتف من ملابس .. ميزت " آن " منهم الثلاثة الذين سبق لها استقبالهم مع زوجها بعد عودتهم من هوليوود بثلاثة أيام .. أما الاثنين الآخرين فلم تكن " أن " تعرفهما أو سبق أن رأتهم من قبل .. كان السجاد والأبسطة مرفوعة عن أرضية القاعة التي ظهر رخامها الفاخر عارياً .. ولكن كان هناك شيء منقوش على هذه الأرضية شيء لم تراه " آن " من قبل ولا تعرف ما هو كنهه بالضبط .. ولكنه أشبه ما يكون بنجمة عملاقة .. نجمة خماسية الأضلاع .. ولم يكن هذا هو كل شيء .. بل كان هناك حبل غليظ يتدلى من وسط سقف القاعة منتهياً بأنشوطة غليظة قوية ملتفة حول شيء ما .. ولم يكن هذا الشيء سوي جسد " بيرني " الشقراء الماجنة .. " بيرني " التي كانت في أشد حالات الصخب والمرح وهي بدون ثياب ومعلقة من قدميها في الأنشوطة الغليظة .. وكان الحبل يتدلى شيئاً فشيئاً فوق النجمة الخماسية حاملاً " بيرني " التي تضحك بجنون .. ذعرت " آن " واعتقدت أن زوجها ورفاقه يقيمون حفل إباحي في منزلها .. ولكن في اللحظة التالية حدث ما جعل " آن " تتمني لو كان الأمر مجرد حفل إباحي ، إذن لأمكنها تحمل الأمر .. ولكن ما يحدث الآن أمامها تجاوز كل الحدود .. فبمجرد أن صارت " بيرني " على بعد متر ونصف من مركز النجمة الخماسية المرسومة على أرضية القاعة حتى أستل الرجل ؛ الذي اعتقدت " آن " أنه كاهن ؛ موساً حاداً من طيات ملابسه وتقدم بخطوات بطيئة نحو " بيرني " .. وفجأة أخذ يمزق جسدها بهذا الموس في ضربات قوية سريعة متلاحقة .. ووجدت " آن " نفسها تصرخ وتصرخ فزعاً بينما كانت " بيرني " تضحك وتضحك بجنون وبله ودماءها تتساقط لتغطي النجمة الخماسية .. الغريب أن الرجال الخمسة ؛ بما فيهم الزوج مستر " جونز " نفسه ؛ لم يبدوا أي رد فعل تجاه صرخات " آن " وذعرها .. وكأنهم يستمتعون بهذه الصرخات !
************
لم تفق " آن " من نومها إلا في عصر اليوم التالي .. فتحت عينيها لتجد نفسها راقدة في فراشها بكامل ثيابها وحتى الحذاء كان ما يزال في قدميها .. لم تستطع " آن" أن ترفع رأسها إلا بعد جهد جهيد بسبب عنف الصداع ولأن رأسها كان يزن أطناناً .. وبعد مقاومة تمكنت من أن ترفع نصفها الأعلى وتتفحص المكان حولها .. كانت في غرفتها وعلى فراشها ولكن زوجها لم يكن بجوارها .. وهذا سرها كثيراً .. وأخذت " آن " تنصت وترهف السمع ولكنها لم تسمع أي صوت خارج بابها .. فنهضت من على الفراش بصعوبة ومشت ببطء نحو باب الغرفة المغلق وفتحته بحذر فتحة صغيرة .. وأخذت تطل على البهو الواسع لتطمئن إلى عدم وجود أحد .. ولما تأكدت من خلو المكان تسحبت من الباب وبدأت تخطو بصمت تام خلال البهو محاولة النزول إلى الطابق الأسفل دون أن يشعر بها أحد .. كانت " آن " قد عزمت على الهروب من القصر .. هذا المكان الجنوني الشيطاني البغيض ، ولم يكن لديها أي استعداد لمواصلة الحياة مع هذا الرجل اللعين .. وبالفعل نجحت " آن " في الوصول إلى الطابق الأسفل دون أن يحس بها أحد وواصلت طريقها في إصرار إلى باب القصر وكادت تصل إليه .. ولكنها فجأة سمعت صوتاً من خلفها فأجفلت وأصابها الرعب الشديد والتفتت خلفها بحركة حادة لتجد " روسليني " واقفاً خلفها بالضبط و هو يبتسم لها في صفاقة بوجهه المعسول البارد :
" سيدتي .. أين تريدين الذهاب ؟! "
سأل " روسليني " بصوته العادي فتجهم وجه " آن " وتلعثمت محاولة التوصل لإجابة مقنعة تجنبها المزيد من الأسئلة ولا تضيع وقتها في الكلام ولكنها لم تجد هذه الإجابة للأسف .. فظلت واقفة في مكانها شاحبة الوجه خائفة وقد وشي منظرها بقلقها وخوفها .. ولكن " روسليني " تجاهل كل ذلك وعاد يسأل بثقة :
" سيدتي .. إذا كنت تريدين الخروج فيمكنني أن أستدعي " بيرني " لتعد لك مكانك المفضل في الحديقة .. لقد أفسد أولئك الضيوف المجانين كل شيء في القصر ! "
وابتسم " روسليني " غير منتبه إلى الذعر الذي أصاب سيدته عند سماعها لاسم " بيرني " .. ردت " آن " بتردد :
" " بيرني " ؟! ألا زالت هنا ؟! "
فحدق فيها " روسليني " بنظرة غريبة لم تفهم " آن " معناها .. نظرة غريبة لا تعرف ما إذا كانت نظرة غباء أم خبث أم تعاطف.. المهم أن " روسليني " غمر مسز " جونز " بنظرته غير المفهومة هذه للحظة ثم أبتسم ابتسامة بزاوية فمه وقال بسخرية :
" وأين تذهب " بيرني " .. أنها هنا منذ بناء هذا القصر .. وستظل موجودة حتى لو رحل كل أحد آخر في القصر ! "
وقبل أن يكمل " روسليني " عبارته الغريبة كانت " بيرني " واقفة في البهو تحمل منشفة في يدها وتقف في دلال وميوعة وتسأل " آن " عن أنواع الأطعمة التي تريدها على العشاء !
لم تجب " آن " .. لم ترد أن تجب .. لم تجد ما تجيب به !
وإن كانت قد تأكدت أن محاولتها الأولي للهرب قد باءت بالفشل الذريع !
************
استمرت " آن " في الحياة مع مستر " جونز " مرغمة .. كانت خائفة منه ، ولم تكن تتحمل لمسه لها .. لم تستطع أن تفتعل السعادة أو الثقة بعد ذلك .. ومع أنه لم يذكر كلمة واحد عن حفل ليلة عيد الميلاد إلا أنه كان ينظر ل" آن " دائماً بنفس تلك النظرة الغريبة .. كان يقول لها في صمت ؛ من خلال عينيه ؛ " أنا أعرف أنك شاهدت كل ما جري .. إياك أن تتكلمي وإلا كان مصيرك أسود مما تتصورين " !!
وبالفعل لم تتكلم " آن " .. ولكنها لاحظت أن الثلاثة رجال إياهم بدءوا يترددون بصفة دائمة على القصر .. ولم يعد زوجها يبدي أي نوع من احترام مشاعرها فكان يجبرها على الترحيب بهم والجلوس أمامهم طوال فترة بقاءهم هناك ليحدقوا فيها بنظراتهم النارية الثاقبة .. خاصة الكاهن الذي كان يلاحقها بنظراته السوداء وعيونه المخيفة أينما ولت وجهها ، مسبباً لها خوف وحيرة وارتباك لا يوصف ..
ومرت أشهر على هذا الوضع .. وفجأة بدأ العمل الحقيقي .. فكل ما مرت به " آن " حتى الآن كان مجرد بروفة .. بروفة معدة ببراعة من رجال قساة لا يعرفون الرحمة .. ولا يخافون الله !
************
ذات ليلة استيقظت " آن " من نومها فجأة لتجد نفسها في ظلام دامس .. كانت قد انقطعت تماماً عن مشاركة زوجها في غرفتهما واستقلت بغرفة منفصلة دون أن يبدي زوجها أي اهتمام بهذا الأمر !
لم تكن " آن " معتادة على النوم في الظلام الدامس .. بل كانت تستخدم ضوء صغير عند نومها كما تعودت في أيرلندا .. ولذلك فإن الظلام المحيط بها كان أمر بالغ الغرابة وغير منطقي .. في البداية ظنت " آن " أن الكهرباء قد انقطعت عن القصر .. وهمت بأن تنهض لتتأكد من وجود التيار الكهربائي .. ولكنها قبل أن ترفع جذعها عن فراشها فوجئت بدخول زوجها المباغت إلى الغرفة .. لم يكن هذا الواقف أمامها زوجها الذي عرفته منذ شهور طويلة ، كان رجل آخر لا تعرفه أبداً من قبل .. كما أنه لم يكن بمفرده .. رغم الظلام الدامس استطاعت " آن " أن تميز حولها وجه الثلاثة الملاعين رفاق الليالي المظلمة لزوجها ومعهم " بيرني " وأخيراً " روسليني " نفسه ..
بحركة غريزية شدت " آن " الغطاء حول جسدها محاولة ستر نفسها عن عيونهم .. ولكن زوجها أشار ل " روسليني " إشارة معينة فأنقض مدير الأعمال عليها وسحبها من الفراش بعنف .. صرخت " آن " وأخذت تقاومه بيد بينما كانت تتمسك بالغطاء باليد الأخرى ..
لم يبدي مستر " جونز " اهتماما بصرخات زوجته المستغيثة بل مد يديه وشارك نائبه في سحبها وإخراجها من الفراش .. أخذت " آن " تصرخ وتصرخ وهم يقومون بجرها جراً على الأرض حتى أخرجوها من الغرفة ثم سحبوها عبر البهو حتى وصلوا بها إلى السلم .. ثم قاموا بحملها حملاً وأنزلوها السلم بالقوة .. وبعد ذلك ألقوها على الأرض وواصلوا جرها حتى وصلوا بها إلى القاعة الضخمة .. القاعة ذات الرخام والنجمة الخماسية العملاقة .. كانت الأرضية عارية والحبل الغليظ معلق في سقف القاعة ومتدلي فوق مركز النجمة الخماسية .. أخذت " آن " تقاوم وتقاوم بشراسة ولكن مقاومتها لم تجدها نفعاً .. لأنهم كانوا مصرين كالشياطين .. وبمجرد أن وصلوا إلى القاعة حتى بدأ الكاهن يحاول تجريد " آن " من ثيابها .. فأخذت " آن " تقاومه وتعض يديه وتخمش وجهه محاولة منعه من فعل ما يريده .. ولكنها فوجئت بالخادمة " بيرني " تمسك بمطرقة حديدية وتهم بضربها بها .. ولكن فجأة توقف كل شيء .. وتوجهت أنظار الجميع ؛ بما فيهم " آن " نفسها ؛ لباب القصر .. الذي أخذ جرسه يرن رنيناً طويلاً ممتداً لا يتوقف !
************
في الصباح التالي فتحت " آن " عينيها لتجد نفسها مستلقية على مقعد في غرفة نومها .. والى جوارها يجلس الطبيب د / كارل وزوجها وبرفقتهما رجل غريب لا تعرفه ولم تره من قبل .. ومن العجيب أن هذا الرجل المجهول بالنسبة لها كان يبدي غاية القلق والتوتر من أجلها .. فزعت " آن " عندما اصطدمت نظراتها بنظرات زوجها الباردة الهادئة ؛ التي لا تدل على أي إحساس أو شعور بالذنب تجاه ما أقترفه بحقها الليلة الماضية ..
استوت " آن " جالسة على طرف المقعد وغممت متسائلة عن الوقت والمكان .. فأجابها زوجها بصوته الهادئ أنها الساعة العاشرة والنصف صباحاً .. أخذت " آن " تدير رأسها في ألم وعدم تركيز .. كانت شبه ناسية لأحداث الليلة الماضية من فرط الرعب والصدمة لذلك فلم تبدر منها أي ردة فعل عنيفة .. تساءلت " آن " عن هوية الشخص الغريب الموجود معهم فأجابها الرجل وهو يمسك يدها في حنان :
" أنا عمك يا صغيرتي ! عمك " فيكتور " .. لقد أرسلت إليك رسالة في الخامس عشر من ديسمبر أخبرك فيها بقدومي لزيارتك .. ولكن يبدو أن ظروفاً قاهرة منعتني من مشاركتك ليلة عيد الميلاد .. فعذراً يا طفلتي ! "
ظلت " آن " تصغي بهدوء لحديث الرجل حتى أنتهي ثم قالت له وهي تسند رأسها المترنح بيدها :
" لم أسمع عنك مطلقاً ! لم تخبرني أمي قبل وفاتها أن لي عماً ! "
فأجاب الرجل بابتسامة حانية :
" ذلك لأنهم كانوا يعتبرونني ميتاً ! لقد غادرت الوطن في رحلة عمل على متن سفينة هولندية .. ولكن السفينة غرقت قبل وصولها إلى الميناء المنشود ، وكان من حسن حظي أنني تمكنت من النجاة ووصلت إلى دربان سالماً .. وهناك أستقر بي المقام وعملت وكونت ثروة كبيرة .. وكان ذلك قبل أن تولدي أنت بأربع سنوات .. لا عجب إن أحداً لم يخبرك عن عمك " فيكتور " من قبل ! "
وفجأة ، وبمجرد أن أنتهي الرجل من كلامه حتى أستعاد عقل " آن " الهامد الحياة وتذكرت كل تفاصيل الليلة الماضية وكأنها تشاهدها على شريط سينمائي أمامها .. فهبت من مقعدها وأخذت تصيح كالمجنونة ثم هجمت على زوجها وهي تصرخ :
" أبتعد .. أبتعد أيها الشيطان ! أبتعد عني .. لقد كنت تريد قتلي .. كنت تحاول قتلي .. كنت تريد أن تفعل بي مثلما كنتم تفعلون مع اللعينة " بيرني " في ليلة عيد الميلاد ! "
استمرت " آن " في صراخها الهستيري .. فأربد وجه مستر " جونز " وبان عليه الاضطراب .. أما العم المزعوم فقد أخذ يحاول الإمساك ب" آن " ومنعها من مواصلة الهجوم على زوجها .. وبصعوبة بالغة تمكن من إبعادها عنه بعد أن كادت تقطع وجهه بأظافرها .. وأخيرا حملها حملاً وأرقدها فوق الفراش محاولاً السيطرة عليها .. ولم يكد الزوج يتخلص من قبضة " آن " حتى أخذ يصرخ بضراوة :
" هذا ما حدثتك عنه ! إنها مجنونة .. مجنونة تماماً .. تتوهم أشياء لا تحدث ثم تصرخ وتتهمنا بفعل أشياء غريبة .. إنني حتى لم أقم حفل عيد الميلاد مطلقاً هذا العام " !
وهنا جن جنون " آن " وأخذت تقاوم عمها " فيكتور " بشراسة محاولة النهوض لتهجم على " جونز " وراحت تصيح بهستيريا :
" كاذب .. منافق .. جبان .. منحل ! أنت تعبد الشيطان .. لقد رأيتكم ! لقد رأيتكم وأنتم تقيمون حفلاً لعبادة الشيطان وتمزقون جسد " بيرني " بالشفرات ليلة عيد الميلاد .. لقد رأيتكم ! لقد رأيتكم وأنتم تفعلون ذلك .. ورأيت الدماء وهي تتساقط من جسدها وتغرق النجمة الخماسية في القاعة الكبيرة .. والليلة الماضية ألم تحاول قتلي لولا أن أنقذني جرس الباب ؟! لقد رأيت كل شيء .. وأعرف أن هذه طقوس عبدة الشيطان .. سأفضحك في كل مكان .. وسأبلغ السلطات الأمريكية ليأتوا ويقبضوا عليك أنت وشركائك ! "
ظلت " آن " تصرخ وتصرخ كل هذا ومستر " جونز " جالس مكانه يدخن سيجارته في هدوء كامل ويرمقها ببرود دون أن يظهر عليه أقل تغير .. وبذل العم جهداً خارقاً حتى أستطاع السيطرة على " آن " ومنعها من مغادرة الفراش ولكنها ظلت تصيح وتصيح كالمجنونة مرددة :
" سأفضحك .. سأفضحك " !
واستغرق الأمر عشر دقائق كاملة حتى بدأت " آن " تهدأ .. وعندما هدأت بدرجة كافية نهض مستر " جونز " من مكانه وقال بهدوء :
" هل انتهيت من الصراخ ؟! الآن سأثبت لك أنك مجنونة ..وأن كل ما تدعينه أوهام لا وجود لها إلا في رأسك المريض .. أتبعوني من فضلكم "
غادر مستر " جونز " الغرفة وبدأ يهبط السلم بخطوات سريعة .. وراءه جاءت " آن " تمشي ببطء مستندة على ذراع " فيكتور كروسبي "...
وهبطوا الدور السفلي .. ثم اتجهوا نحو القاعة الكبرى .. ودق مستر " جونز " الجرس الفضي الخاص باستدعاء الخدم ، فجاءت " بيرني " بعد لحظة متسائلة عن أوامر مستر " جونز " .. وهنا قال مستر " جونز " بهدوء وبرود :
" آنسة " بيرني " من فضلك .. إن مسز " جونز " تتهمنا بأننا نقيم طقوس لعبادة الشيطان في هذه القاعة .. وتدعي وجود نجمة خماسية على أرضية هذه القاعة .. كما تزعم أننا قمنا بتمزيق جسدك بالشفرات ليلة عيد الميلاد كنوع من الطقوس الشيطانية ! "
وبمجرد أن أنتهي " جونز " من كلامه حتى ارتسم تعبير غريب على وجه " بيرني " المائع وقالت بسخرية :
" ليلة عيد الميلاد .. أنت تعرف يا سيدي أنني لم أكن بالقصر ليلة عيد الميلاد .. لقد كنت أقضي إجازة العيد مع أمي في مونتانا ..وأعتقد أن مسز " جونز " بنفسها هي من منحتني هذه الإجازة أيضاً ! "
شحب وجه " آن " شحوباً بالغاً عند سماعها لهذه الكلمات الصادرة من " بيرني " .. ولكن ما حدث بعدها كان أدهي وأمر .. فقد أشار مستر " جونز " ل" بيرني " إشارة معينة برأسه ، فأقبلت الخادمة على السجادة الفخمة المفروشة على الأرضية وأخذت تطويها طيات سريعة حتى ظهر رخام الغرفة اللامع المصقول .. وأخذت " بيرني " تطوي السجادة حتى أزاحتها تماماً وأبعدتها ووضعتها لصق الحائط .. فظهرت أرضية الغرفة كاملة .. ولم يكن هناك أي نجوم خماسية أو سداسية فوقها!!
نظر مستر " جونز " نظرة طويلة لزوجته التي كانت واقفة مستندة على ذراع العم " فيكتور " ؛ الذي هبط إليها من السماء ؛ في حالة من الخوف والقلق .. ولكن زوجها لم يرحمها بل أشار ل" بيرني " إشارة أخري مبهمة .. فأخذت الخادمة ؛ وبدون كلمة ؛ تنزع ملابسها قطعة قطعة بدون خجل أمام كل الواقفين حولها حتى ظهر جسدها الأبيض الأملس لامع كأنه جسد تمثال من البرونز !
هنا نظر مستر " جونز " ل" فيكتور كروسبي " وقال له في هدوء :
" أحكم أنت يا سيدي ! ها هو كل شيء أمامك .. لا توجد أي نجوم من أي نوع على أرضية القاعة وليلة عيد الميلاد لم يمض عليها أسبوعان .. ولو كانت مسز " جونز " صادقة في مزاعمها فأين الجروح التي أحدثتها الأمواس في جسد " بيرني " .. أعتقد أنه من الصعب أن تكون قد اندملت في هذه الفترة البسيطة ! "
نظر " فيكتور كروسبي " إلى " آن " منتظراً جوابها .. ولكن جواب " آن " أثار دهشة الجميع لأن وجهها شحب فجأة شحوب الموتى وغامت عيناها .. ثم تهاوت على الأرض فاقدة الوعي !
************
مرت ثلاثة أسابيع لزمت فيهم " آن " غرفتها .. كانت حزينة مكتئبة ، عازفة عن الكلام والخروج إلى الحديقة وعافت نفسها الطعام ، فلم تكن تأكل إلا أقل القليل من الطعام وبعد ممانعة ورفض وإلحاح شديد من العم " فيكتور كروسبي " الذي ظل مقيماً في القصر لرعاية " آن " بناءً على رغبة السيد " جونز " .. وبمرور الأيام بدأت " آن " تزداد حزناً واكتئابا وأصابها الجنون والخوف من الجنون .. أما زوجها فقد صار بالنسبة لها عفريتاً مرعباً لا تتحمل رؤيته ولا مجرد سماع اسمه .. وطوال هذه المدة قام ثلاثة من الأطباء بمهمة رعاية مسز " جونز " في مرضها .. فقد حرص زوج " آن " على إظهار غاية الاهتمام والرعاية لزوجته في هذه الفترة الحرجة .. ولا أحد يدري أكان حرصه هذا ناتجاً عن خوفه من تصديق ادعاءات زوجته ضده أم كان حقاً حباً لها وعطفاً عليها ..
ولما بدأت " آن " تستعيد قوتها عرض عليها عمها " فيكتور " الذهاب معه في رحلة إلى أيرلندا .. وأسعد هذا الاقتراح " آن " وأعاد إليها ابتسامتها المفقودة وأنساها حتى نفورها البالغ من زوجها فبدأت تبادله القليل من الحديث ، ولكن أخشي ما كانت تخشاه " آن " أن يرفض زوجها ذهابها برفقة عمها إلى أيرلندا .. ولكنه ؛ لدهشتها ؛ وافق على الفور وسعد بالاقتراح .. بل لم يكتفي بالموافقة وأصر على مرافقة زوجته في هذه الرحلة ووعدها بأن يبقوا في الوطن بقدر ما تريد على أن يعهد برعاية مصالحه في أمريكا لنائبه " روسليني " لحين عودته ..
وأخذت " آن " تعد أمتعتها لهذه الرحلة المنتظرة وتستعد استعدادا يفوق ما تتطلبه رحلة مؤقتة لن تدوم سوي لأيام أو لأسابيع .. ولا غرابة فقد كانت " آن " عازمة على ألا تعود ثانية إلى الولايات المتحدة مهما كان الثمن !
ومن سوء حظها أنها لم تحسن إخفاء مشاعرها ونياتها الحقيقية عن زوجها المتربص بها .. ففاجأها بما لم يكن في حسابها !
************
قبل الموعد المحدد للرحلة بثلاثة أيام استيقظت " آن " من نومها نشطة مستبشرة .. وكان أول ما فعلته أن سألت عن العم " فيكتور " ؛ الذي أصبح جزء مهماً من حياتها ؛ ولكن الجواب كان صدمة بالنسبة لها .. فقد قال لها مستر " جونز " أن " فيكتور كروسبي " قد غادر القصر عقب تلقيه رسالة عاجلة من جنوب أفريقيا تطلب منه الحضور فوراً لأمر في غاية الأهمية !
صدمت " آن " وذعرت لرحيل عمها المفاجئ وهو الشخص الوحيد الذي تثق فيه الآن .. وأسرعت محاولة الاتصال به للاطمئنان عليه ومعرفة ميعاد عودته التي تمنت أن تكون في أسرع وقت .. ولكن كل محاولات " آن " باءت بالفشل ، فقد كانت كل الأرقام الخاصة بالسيد " فيكتور كروسبي " خارج نطاق الخدمة !
ووجدت " آن " نفسها مجبرة على التحدث لزوجها بشأن الرحلة التي كانت لا تطيق صبرا لبدئها ولا تتحمل تأجيلها .. قالت مسز " جونز " لزوجها بحذر :
" وماذا عن رحلة أيرلندا ؟! "
فلوي مستر " جونز " شفتيه وقلب كفيه علامة الاستسلام وأجاب ببرود :
" أعتقد أنه ليس علينا سوي الانتظار ! لن نستطيع أن نبدأ الرحلة بدون عمك " فيكتور " فقد وعدناه بمرافقته لنا فيها .. ومسز ومستر " جونز " لابد أن يفيا بوعودهما .. أليس كذلك يا حبيبتي ؟! "
وظلت " آن " تنتظر عودة " فيكتور كروسبي " أو اتصاله بها .. انتظرت وانتظرت طويلاً .. طويلاً جداً .. دون أن تأتي أية أخبار من الرجل أو يظهر له أثر .. وهكذا أختفي " فيكتور كروسبي "من حياة " آن " فجأة .. مثلما ظهر فجأة !
************
أعقب اختفاء " فيكتور كروسبي " المباغت عودة السيد " جونز " لإقامة الحفلات الماجنة في قصره .. وكانت هذه الحفلات تتضمن كل أنواع الموبقات التي يمكن تخيلها والتي لا يمكن كذلك !
ولما شعر " جونز " بإمكان إقدام زوجته " آن " على الهرب قام بحبسها في قبو مظلم ملحق بأغوار القصر السفلية التي لا نهاية لها .. وبدأ هو ورفاقه في تعذيبها .. التعذيب الحقيقي الذي كان يتوق لبدئه !
ففي ليلة مظلمة قام مستر " جونز " وأتباعه ؛ وعلى رأسهم " بيرني " ؛ بسحب " آن " عبر سلالم وردهات القصر وإلقائها في هذا الجب العفن .. وأسند السيد لخادمته العتيدة مهمة إعداد " آن " وتحضيرها للمهمة التي أختارها لأجلها !
فالذي كانت تجهله " آن " لحد هذا الوقت هو أن مستر " جونز " لم يخترها لتكون زوجة له .. بل لتكون ذبيحة وقرباناً !
وتركوها طوال الليل ترتعش من الذعر ومن البرد ومن الجوع أيضاً !
ولكن في تباشير الصباح أتت " بيرني " حاملة إليها صحفة عليها طعام الإفطار .. وضعته بجوار " آن " على الأرض ثم رحلت بدون كلمة .. وأقبلت " آن " على الطبق الوحيد الموضوع فوق الصحفة وكشفت غطاءه بلهفة .. فقط لتجد فوقه شيء طويل يقطر دماً وله ذيل طويل رفيع وفم صغير أحمر اللون وعينان واسعتان منبلقتان .. وتراجعت " آن " إلى الوراء مذعورة وأصطدم ظهرها بالحائط من عنف الصدمة وأخذت تتقيأ .. فلم يكن فوق الطبق سوي فأر .. فأر كبير مسلوخ يقطر دماً !
وكانت هذه هي الخطوة الأولي !
************
وبقيت المسكينة ثلاث أيام بلياليها بدون طعام حتى أوشكت على الموت !
ويبدو إن الرحمة عرفت طريقها إلى قلب " جونز " وخادمته أخيراً .. ففي اليوم الرابع جاءت " بيرني " حاملة هذه المرة طعاماً حقيقياً .. لحم مشوي وخضر مطهية في طبق واحد .. وأقبلت " آن " على الطعام بجنون وأخذت تتناول الطعام كالمسعورة دون أن تبالي ب" بيرني " التي كانت واقفة خلف قضبان الزنزانة الخارجية تنظر لها في شماتة كريهة ولا حتى بمستر " جونز " الذي جاء ووقف إلى جوار خادمته ويشاركها نظراتها الكريهة .. وبعد أن انتهت " آن " من طعامها أحست بقليل من الراحة وأسندت ظهرها على الحائط لتستريح .. ولكن مستر " جونز " لم يمهلها .. فقد فوجئت به يفتح الباب فتحة صغيرة ويلقي إليها بشيء ما عبرها ثم يعيد إغلاق الباب بسرعة !
نظرت " آن " طويلاً إلى هذا الشيء الذي ألقاه إليها زوجها .. ثم تناولته لتفحصه عن قرب .. ولم يكن هذا الشيء سوي كيس صغير من الخيش .. فتحته " آن " لتجد داخله أقدام وذيول ورؤوس فئران .. ألقت " آن " الكيس من يدها بسرعة .. ونظرت نحو الطبق الخالي الذي كانت تأكل منه منذ قليل .. فشعرت بمعدتها تقفز خارج حلقها وأندفع كل ما أكلته خارج فمها وهي تسمع ضحكات زوجها اللعين وخادمته في الممر .. فقد عرفت ما الذي أطعمته لها " بيرني " بالضبط !!
************
مرت على هذا الحال خمسة أيام وأضربت " آن " عن الطعام إضراباً كاملاً .. فحتى إذا حملت إليها " بيرني "طعاماً جيداً كانت تأبي أن تتناوله وتلقي به بعيداً .. فقد قررت أن الموت خير لها من البقاء في هذا الذل والهوان !
وتركها زوجها تفعل ما تريد يوماً واثنين وثلاثة .. ولكنه عندما تأكد من عزمها الامتناع عن الطعام حتى الموت بالفعل أصابه الذعر خوفاً من أن تموت فيضطر لأن يجوب العالم مرة أخري بحثاً عن قربان بشري تتوفر فيه كل الصفات اللازمة .. القربان الذي سيفتح له بدمه بوابة الخلود !
ولجأ مستر " جونز " لتهديد " آن " لإرغامها على تناول الطعام .. ولما لم يجدي التهديد حاول استخدام القوة معها وجعلها تزدرد الطعام بالقوة .. ولكن اليأس أصابه لأنه وإن كان بإمكانه إجبارها على ابتلاع الطعام ، إلا إنه لا يستطيع ؛ مهما أوتي من قوة ؛ أن يجبر الطعام على البقاء في جوفها !
وكانت النتيجة أن " آن " ؛ وبعد مرور أسبوعين على حبسها ؛ بدأت تزوي وتشحب بشدة وهزلت هزالاً بشعاً .. وأصبحت أقرب للموت منها للحياة !
وهنا قرر مستر " جونز " أن ينهي الموقف بنفسه ولا داعي للانتظار حتى يقرر كاهنه " ألفريدو " اللعين التضحية بها .. وحمل " جونز " سكيناً ضخماً مصنوعاً من الفضة اقتناه خصيصاً من أحد أسواق بيرو لهذه المهمة المنتظرة وأتجه نحو الجب العفن الذي قام بحبس ضحيته فيه تتبعه خادمته " بيرني " كالكلب الأمين .. وعندما فتح باب الزنزانة وجد " آن " المسكينة راقدة في الركن مكومة على نفسها تئن رعباً وفزعاً .. ولكنها لم يرحمها ؛ فلم يعد في قلب مثل هذا الرجل شيء اسمه رحمة .. بل تقدم إليها وسحبها من شعرها في وحشية تساعده خادمته اللعينة .. وحاولت " آن " المقاومة اليائسة ولكن جسدها المهزول لم يبقي فيه رمق للمقاومة .. وعلقاها من قدميها بعد أن جرداها من كل ملابسها ؛ مثلما كانت " بيرني " معلقة في ليلة عيد الميلاد ؛ وأخرج مستر " جونز " السكين الفضية ومضي يشحذها في الجدار الصخري بعنف وقسوة وقد قصد أن يفعل ذلك أمام عيني ضحيته ليزيد الأمر قسوة وحشية .. وبينما كان يفعل ذلك كانت " بيرني " تضحك ضحكتها الماجنة وتردد بخبث وشماتة :
" أسرع يا عزيزي .. نريد أن نأكل القلب دافئاً ! "
وانتهي " جونز " من شحذ السكين وتقدم نحو الذبيحة المعلقة من قدميها وسدد لها ضربة حادة .. مزقت الصدر وأنشق نصفين ليظهر القلب وهو يدق دقاته الأخيرة الرتيبة .. وكان آخر ما تذكره " آن " هو الألم الزاعق الذي شل أطرافها وخدر خلاياها حتى أصبحت تشعر وكأنها لا تشعر .. وتتألم وكأن شخص آخر هو الذي يتألم .. وامتدت رقبتي الجزارين اللعينين وأخرجا لسانيهما ليلعقا ؛ في نشوة الحيوان المتوحش ؛ الدم المنساب كالشلال على صدر " آن " !
************
فتحت " آن كروسبي " عينيها لتجد نفسها راقدة على جانب التل الذي يقوم عليه قصر ( أوريديان ) الفخم .. فتحت عينيها بصعوبة بالغة ، فقد كان جفنيها ثقيلين ، ورأسها يعصف به دوار رهيب ويكاد ينخلع من مكانه .. أسندت " آن " رأسها المتهاوي بيديها ورفعت نفسها قليلاً لتتطلع حولها .. كان كل شيء في التل كما اعتادته فيما عدا تغيير واحد .. تغيير بسيط .. وهو أن قصر ( أوريديان ) قد أختفي من فوق التل ولم يتبقى منه أثر !
************
رقدت " آن " فوق الحشية الخشنة مفتوحة العينيين شاحبة .. كانت عيناها مغمضتين لكنها لم تكن نائمة .. بل كانت مستيقظة أكثر مما كانت طوال عمرها .. كانت تفكر وتفكر .. ولكن قدوم هذه المرأة قطع عليها حبل أفكارها الممتد بلا نهاية .. كانت مرآة عجوز مغضنة تبدو طيبة الملامح سمحة الوجه وكانت تحمل في يدها طبق حساء يتصاعد منه البخار .. وكانت هذه المرأة هي نفسها من عثرت على " آن " ملقاة فاقدة الوعي على الطريق الترابي المهجور في مدخل القرية القديم المسدود .. القرية الأيرلندية العتيقة التي ولدت فيها " آن كروسبي " وتربت وعاشت فيها طوال عمرها .. ولم تغادرها أبداً .. كما قيل لها !
************
على مدي ثلاثة أسابيع حاولت " آن كروسبي " إقناع أهل قريتها بقصتها التي روتها لهم عشرة آلاف مرة دون جدوى .. فقد كانوا مصرين على أنها لم تغادر القرية على الإطلاق .. ولم يحدث أن تزوجت بشخص يدعي " هنري أدوالد جونز " أو حتى بغيره .. أما سفرها حول العالم وبيتها في نيويورك وقصرها ( أوريديان ) الأسطوري فقد كانت بالنسبة لهم أضغاث أحلام .. وترهات امرأة مجنونة !
" يجب أن تعرفي أنك لم تغادري أيرلندا على الإطلاق .. كما أنه لم يسبق لك الزواج ! "
قال العمدة مشدداً على كلماته التي سبق وأن رددها عشرين ألف مرة دون أن تقتنع " آن " بحرف منها ..
" وزواجي الذي شهدت عليه بنفسك ؟! "
" هراء ! "
" وعقد القران في الكنيسة !؟ "
" لم يحدث .. ها هو القسيس آت ويمكنك أن تسأليه بنفسك ! "
" و" هنري جونز " الذي أقام هنا ستة أسابيع ؟! "
" لم نسمع به أبداً ! "
" وسفري إلى الخارج ؟! "
" ترهات .. إنك لم تغادري أيرلندا منذ يوم ولدت ! "
" وجواز سفري الذي حصلت في دبلن ! "
" لم يحدث ! لا يوجد جواز سفر تم استخراجه باسم " آن كروسبي " أو مسز " هنري جونز " منذ خمسة عشر عاماً ! "
" وإقامتي في نيويورك ؟! "
" هراء يا امرأة ما تخرفين ! لقد أنكرت السفارة الأمريكية واقعة زواجك بمواطن أمريكي وأكدت عدم وجود وثيقة تثبت زواجك الوهمي ! "
" و " هنري أدوالد جونز " ؟! "
" هراء ! وهم في عقلك المريض .. لا يوجد مواطن أمريكي يحمل هذا الاسم إطلاقاً ! "
" و " بيرني " و " روسليني " وقصر أوريديان وميناء نيويورك وتمثال الحرية ؟! "
" وهم .. وهم .. وهم ! أنت مجنونة ! "
صرخت " آن " فجأة وهجمت على العمدة أنشبت أظافرها في عنقه ومزقت ياقته العالية المنشاة ولكنه تمكن من تخليص نفسه من بين يديها بعد أن كادت تزهق نفسه .. وأمسكت بها النسوة اللائي يقمن برعايتها في محنتها بينما أخذ العمدة يصرخ في وجهها وقد أحمر وجهه غيظاً وغضباً :
" أنت مجنونة .. مجنونة كأمك ! أمك ماتت في مشفي عقلي وستكونين مثلها .. ستنتهين مثلما انتهت أمك ! "
************
ولكن نبوءة العمدة لم تتحقق .. فلا " آن " دخلت إلى مشفي عقلي ولا انتهت كما انتهت أمها .. ولكنها أغلقت بابها على نفسها واعتزلت كل الناس .. ومضت سنون طويلة وهدأت " آن " واستردت جزء من توازنها النفسي والعقلي وأقنعت نفسها بأن كل ما حدث ليس إلا وهماً وتجربة وحشية من الشيطان اللعين الذي أراد أن يقهرها ..ولكنها ؛ قررت أخيراً ؛ لن تدعه يفعل !
وعادت " آن كروسبي " لحياكة الثياب وصارت تقضي جل وقتها في الكنيسة تتعبد لله طالبة منه ألا يمتحنها ثانية وألا يضعها في تجربة .. وكرت الأيام وتغيرت قرية " آن "ومات أغلب من عاصروا مأساتها أو رحلوا أو اختفوا بأي طريقة كانت ..
وحصلت " آن كروسبي " على مكانة كبيرة في الكنيسة ومكانة أكبر بين المتدينين والمؤمنين ليس في قريتها وحدها بل في أيرلندا بأسرها ..
ونُسيت قصة " آن كروسبي " ونسيت هي نفسها بعد أن توفت عن ثلاثة وثمانين عاماً تاركة وراءها حكاية غريبة وسر يعلم الله وحده حله ..
ولكن ما لم يعلمه أحد أنه في الليلة السابقة لوفاة " آن " وبينما كانت تحتضر في منزلها الذي عادت إليه ورفضت أن تموت بعيداً عنه وعند منتصف الليل .. دق باب منزل " آن " ؛ التي قضت هذه الليلة بمفردها ورفضت أن يرافقها أحد من مريديها وأحبائها فيها ؛ فتحاملت المسكينة على نفسها وقامت لتفتح الباب .. وعند الباب كان هناك شكل آدمي متسربل بالظلام ومتواري في ركن مظلم على يسار الباب .. حدقت " آن " في الظلام محاولة رؤية شكل هذا الواقف في الظلام الدامس ولكنها لم تستطع .. ورحمها هذا المتلفع بالظلام فتقدم إلى بقعة الضوء التي ألقاها المصباح الضئيل فوق الباب .. وتمخض الظلام عن شكل امرأة مغطاة من أعلاها إلى أسفلها بقماش أسود لامع .. وعلى وجهها حجاب أسود شفاف .. تلاقت العيون في صمت وارتفعت أنفاس " آن " من شدة الانفعال والإثارة .. وبعد وقت طويل أزاحت المرآة المجهولة النقاب من فوق وجهها .. فظهرت ملامحها العجوز الذابلة المغضنة التي لا زالت ؛ برغم ذلك ؛ تحتفظ بظل لجمال ساحق قديم ودلال لا نهاية له .. تفجر شيء في داخل " آن " ونطقت بصعوبة هاتفة :
" أنت ؟!! "
هذه الجملة التي كانت آخر ما نطقت به " آن كروسبي " في حياتها العجيبة !
kassasmanal.blogspot.com
manalnet.wordpress.com
تعليق