أكتب إليك يا ترجمان الإخاء وقرة الأصدقاء وبهجة الندماء وأوصل الأخلاء، وأنا على حال تحار فيه المدارك وتتيه دونه المسالك، وقد بلغتني رسالتك فَرَوَت في النفس معنى كاد يذبل فيها لكثر ما نأيت بها عن البشر إذ لا أكون فيهم إلا بِشَر، فقطعت على نفسي عهدا ألا أخالطهم حتى أتبين موضع الخلل إذ بلغ أمري مني مبلغاً جلل، وحجتي أن ما أنا فيه لا يخلو أن يكون منهم أو مني، فإن كان منهم فعزلتي تلمسٌ للشفاء وطلبٌ للدواء حتى أبلغ من نفسي مبلغ من لا يضره تغير الحال وعسر المحال وحتى أعلم من وفيم وكيف ومتى وأين أنا، وإن كان مني فإنها إحسان إليهم حتى لا يصيبهم من جانبي ملال أو يظن بي دلال، ولألا أكون متلفا لمن ظن بي الصلاح أو مخذلا لمن ظن بي الفلاح.
غير أني لما مُتِّعَت عيناي بحلو مقالك وآنسَ وحشتي طيبُ وصالك، جعلت عزلتي عن الكل إلاك، إذ أنت مني أنا، فلا ينتقض عهدي بحديثي إلى نفسي، وإنك أنا لولا كثير سوء بي وكثير خير بك، ولربما يجتمع في النفس النقيضان، فيُرغَبُ في الحسن وعن السيء، وإني كلما أوشكت نفسي على طلب الموت علّها تجد فيه ما يمنع الحيرة ذكرتك فعلمت أن أسوء ما فيه فرقتنا فرغبت عنه، وعلمت أني وإن تباعدت الأحداق فإني على أمل اللقاء باق، غير أنني ما عدت أعرف أي شيء مني فسد، العقل أم النفس أم الهوى أم الفكر، ولا أدري لأي من تلك المعاني حدودا ولا أدرك لها وجودا، فأنا على نفسي بلاء، وليتني أعرف أي جزء مني ابتلي به الآخر لأقتص منه، ولو أنه قدر أن عرفته فكيف أقتص من شيء هو مني وأنا منه وكيف أنزعه أولا من كل أجزائي حتى إذا اقتصصت منه أيقنت ألا يقع قصاصي فيهم كما يقع فيه؟.
ما عاد يبلغ عقلي مبلغ الشعر، حتى أنني كلما قرأت شيئا من شعر كتبته تحيرت، كيف لمثلي أن يكتب مثل هذا!، لعل شيطاني قد مات ولو أنه قد مكنني مما تمكن فيه لكنت رثيته، لكنه مثلي سفيه أفسد نفسه بطول أمله وأفسدته أنا بقصر أملي، أقرأ كثيرا لكنني لا أستشعر فائدة كما كنت أستعشر، وكنت إذا قرأت شيئا كأنه تداخلني فأصبح مني وأصبحت منه، حتى أنني أنطق بقرينه أو بسيده، وقد يغلبني الفكر والتأمل حينا فكأنني عدم في عدم لا أعلم لي ولا لشيء حولي مبتدأ ولا منتهى، كأنني سراب كلما رأيتُ مني بادرة أمل أسرعت إليها فإذا وراءها بادرة أخرى وأخرى وأخرى، فأنا في سعيي غير منقطع ولا منتفع، وقد أستشعر حينا أنني روح وُجِدَت من قبلُ في زمن نالت فيه أسباب الرضى والعقل حتى لم تعد تجد ما تطلبه، ولما أتت إلى زمان كزماننا وفي صورة كصورتي أصابها الخزي حتى ما اسطاعت أن ترفع رأسا كما كانت فآثرت أن تبقى على ذكرى مجد بلغته حين كانت من الزمان موضع القلب من الإنسان.
أدرك أنك تدرك أنني أهذي، وكيف لك ألا تدرك وأنت أنا، وكل ما أقوله إنما يقع منك موقع التكرار على يقين، ولعلني أبقى على ما أنا عليه حتى ينتظم عقلي أو ينفصم وفي كلٍ خير، فإنه إن انتظم تعجبت مما أنا فيه الآن وشق علي أن أدرك كُنهُ سفاهتي في حيني هذا كما يشق عليَّ الآن أن أدرك كنه شاعريتي حين نظمت شعري، وإن انفصم لم أدرك ما كنت فيه أولا ولا آخرا ولم أدرك ما أنا فيه حينها، ولم أعبأ بشيء ولا أصابني هم ولا غم، فأنعم بالجنون أو العقل، وبئس العيش عيش الحُمق.
يا أنا، عهدي بك تريد رؤيتي كما هو عهدي بنفسي تريد رؤيتك غير أنني أشفق عليك أن ترى كيف صرتُ، إذ أن المرء مهما وُصِفَ له وظن أنه بالغ مبلغ المعاين المتيقن فإنه ما بلغ ولن يبلغ، فليس من رأى كمن سمع، وإني أعيذك أن ترى ويكفيك ما تسمع، وإنك لو نظرت لما رأيت غير الذي يرى الناس ولما أبصرت شرا فالأعضاء سلمية وأما الروح فسقيمة، والروح لا تُبصَر وإنما تُشعَر، فكفاك الله شرا ابتلاني به ولا أطلعك عليه إلا حيث لا يأخذ في قلبك أو فكرك مكانا.
وددت لو كان في الإمكان قول أبلغ أو أطول مما كان، لكنني في كل حرف أكتبه أنتزع نفسي وأغالبها عليه وأدفع عقلي دفعا إليه، فإن العقل ما عاد يسعفني وإن الحرف ما عاد ينصفني، وإنني في العلم مجهول غريب، وفي الأدب لقيط ربيب، كالباكي على طلل لا يعرف أهله وإنما يتمثل سيرة الشعراء ويبكي كما بكوا، وهو كاذب مفتعل ومقلد منتحل، أبكي على ما ظننتُي يوما، وقد خاب ظني بل كذب، وإن بعض الظن إثم، وبعض هذا الإثم أن تظن الخير فيمن لا خير فيه، فحسب ما أنت فيه ودعك مما أنا فيه، والسلام.
غير أني لما مُتِّعَت عيناي بحلو مقالك وآنسَ وحشتي طيبُ وصالك، جعلت عزلتي عن الكل إلاك، إذ أنت مني أنا، فلا ينتقض عهدي بحديثي إلى نفسي، وإنك أنا لولا كثير سوء بي وكثير خير بك، ولربما يجتمع في النفس النقيضان، فيُرغَبُ في الحسن وعن السيء، وإني كلما أوشكت نفسي على طلب الموت علّها تجد فيه ما يمنع الحيرة ذكرتك فعلمت أن أسوء ما فيه فرقتنا فرغبت عنه، وعلمت أني وإن تباعدت الأحداق فإني على أمل اللقاء باق، غير أنني ما عدت أعرف أي شيء مني فسد، العقل أم النفس أم الهوى أم الفكر، ولا أدري لأي من تلك المعاني حدودا ولا أدرك لها وجودا، فأنا على نفسي بلاء، وليتني أعرف أي جزء مني ابتلي به الآخر لأقتص منه، ولو أنه قدر أن عرفته فكيف أقتص من شيء هو مني وأنا منه وكيف أنزعه أولا من كل أجزائي حتى إذا اقتصصت منه أيقنت ألا يقع قصاصي فيهم كما يقع فيه؟.
ما عاد يبلغ عقلي مبلغ الشعر، حتى أنني كلما قرأت شيئا من شعر كتبته تحيرت، كيف لمثلي أن يكتب مثل هذا!، لعل شيطاني قد مات ولو أنه قد مكنني مما تمكن فيه لكنت رثيته، لكنه مثلي سفيه أفسد نفسه بطول أمله وأفسدته أنا بقصر أملي، أقرأ كثيرا لكنني لا أستشعر فائدة كما كنت أستعشر، وكنت إذا قرأت شيئا كأنه تداخلني فأصبح مني وأصبحت منه، حتى أنني أنطق بقرينه أو بسيده، وقد يغلبني الفكر والتأمل حينا فكأنني عدم في عدم لا أعلم لي ولا لشيء حولي مبتدأ ولا منتهى، كأنني سراب كلما رأيتُ مني بادرة أمل أسرعت إليها فإذا وراءها بادرة أخرى وأخرى وأخرى، فأنا في سعيي غير منقطع ولا منتفع، وقد أستشعر حينا أنني روح وُجِدَت من قبلُ في زمن نالت فيه أسباب الرضى والعقل حتى لم تعد تجد ما تطلبه، ولما أتت إلى زمان كزماننا وفي صورة كصورتي أصابها الخزي حتى ما اسطاعت أن ترفع رأسا كما كانت فآثرت أن تبقى على ذكرى مجد بلغته حين كانت من الزمان موضع القلب من الإنسان.
أدرك أنك تدرك أنني أهذي، وكيف لك ألا تدرك وأنت أنا، وكل ما أقوله إنما يقع منك موقع التكرار على يقين، ولعلني أبقى على ما أنا عليه حتى ينتظم عقلي أو ينفصم وفي كلٍ خير، فإنه إن انتظم تعجبت مما أنا فيه الآن وشق علي أن أدرك كُنهُ سفاهتي في حيني هذا كما يشق عليَّ الآن أن أدرك كنه شاعريتي حين نظمت شعري، وإن انفصم لم أدرك ما كنت فيه أولا ولا آخرا ولم أدرك ما أنا فيه حينها، ولم أعبأ بشيء ولا أصابني هم ولا غم، فأنعم بالجنون أو العقل، وبئس العيش عيش الحُمق.
يا أنا، عهدي بك تريد رؤيتي كما هو عهدي بنفسي تريد رؤيتك غير أنني أشفق عليك أن ترى كيف صرتُ، إذ أن المرء مهما وُصِفَ له وظن أنه بالغ مبلغ المعاين المتيقن فإنه ما بلغ ولن يبلغ، فليس من رأى كمن سمع، وإني أعيذك أن ترى ويكفيك ما تسمع، وإنك لو نظرت لما رأيت غير الذي يرى الناس ولما أبصرت شرا فالأعضاء سلمية وأما الروح فسقيمة، والروح لا تُبصَر وإنما تُشعَر، فكفاك الله شرا ابتلاني به ولا أطلعك عليه إلا حيث لا يأخذ في قلبك أو فكرك مكانا.
وددت لو كان في الإمكان قول أبلغ أو أطول مما كان، لكنني في كل حرف أكتبه أنتزع نفسي وأغالبها عليه وأدفع عقلي دفعا إليه، فإن العقل ما عاد يسعفني وإن الحرف ما عاد ينصفني، وإنني في العلم مجهول غريب، وفي الأدب لقيط ربيب، كالباكي على طلل لا يعرف أهله وإنما يتمثل سيرة الشعراء ويبكي كما بكوا، وهو كاذب مفتعل ومقلد منتحل، أبكي على ما ظننتُي يوما، وقد خاب ظني بل كذب، وإن بعض الظن إثم، وبعض هذا الإثم أن تظن الخير فيمن لا خير فيه، فحسب ما أنت فيه ودعك مما أنا فيه، والسلام.
تعليق