جراح غائرة ! / ربيع عبد الرحمن

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    جراح غائرة ! / ربيع عبد الرحمن

    حين كنت هناك ، ظننت أني دخلت سلخانة بطريق الخطأ .
    كان زحام غريب ، و أطباء يعملون ، هذا يخيط جرحا نافذا ، تحت تهديد سيف ، و هذا ينظف أمعاء غادرت بطن صاحبها ، و المسدس في جنبه .. بين تأوهات ، من كل صنف ، و بكل الألوان والأصوات.

    كان المشهد كفيلا بتراجعي ، و مغادرة المكان فورا ، لكن الحالة الحرجة التي كانت عليها مريضتي ، جعلتني أشد إصرارا على عدم المغادرة .

    جذب انتباهي صوت طبيب : " لن أعمل ؛ ليمت ".
    أنزل الشاب سكينه ، أخفاها في ثيابه :" أرجوك يا دكتور ".
    بثبات على قدر ما أثلج صدري أزعجني :" لن أعمل إلا إذا غادرت ، و انتظرت في الخارج ، مع من معك حتى أنتهي ".
    خفت عليه كثيرا ، و تمنيت أن يستجيب هذا الشاب ، ومن معه ، و تحفزت لأي حركة دنيئة قد تصدر منهم .

    كان حجم الألم على وجهي يتسع ، و كان داخلي ما هو أكبر ، أن تصل بنا الحال ، إلي هذه الأوضاع .. بخطوات وئيدة كنت أدنو من الطبيب ، ودون أن أشعر كنت أمامه ، و كأنني سوف أتلقى عنه الطعنات . خطا متقدما ، و هشهم بيديه في ثباته المدهش ، وعاد حين أصبحوا بالخارج ، ثم علا صوته ، مستنهضا همة الممرضات و الممرضين ، الذين كانوا يتعثرون ، من جلده لهم ، وقد أنهمك في إنقاذ الحالة ، بينما ممرضة بفوطة طبية تمسح العرق المتصبب على وجهه .
    لا أدري .. أحسست بالخوف على الطبيب ، و أن هؤلاء لن يفوتوا له هذه ، و لكن إحساسه بنفسه ، و احترامه لعمله ، عاد يؤكد أنه قادر على النفاذ من بين ألسنة اللهب .

    كان الآخرون في الأنحاء المترامية للاستقبال يعملون ، ما يزالون تحت نفس التهديد ، و كلما أصابهم الكلل و التعب ، كانت الأسلحة ، و الوجوه تكشر عن أنيابها ، بينما في الخارج ، و حين عبوري إلي هنا ، أبصرت بعض جنود الأمن ، يتهالكون هنا وهناك ، يدخنون ، و يتسامرون مع الأهالي ، و يؤدون أعمالا أخرى ، ليس لها صلة بعملهم .

    اقتحمت المكان جماعات غفيرة ، هذه تحمل قتيلا بآلة حادة ، و تلك سيدة نالت من وجهها مدية ، فأصبح بلا ملامح ، ليس إلا الدماء تغرق ثيابها ، و تتهاطل على من يحملها ،
    و ثالثة ترفع جسدا آدميا ، تسكن صدره عشر رصاصات .
    كانت مساحة الغضب تتسع ، و الاختناق يلتف حول رقبتي .
    و لا بد من مغادرة المكان فورا ، لأي جهة أخرى ، مهما تكلف ألأمر .

    ملت نحوها :" هيا بنا ، لن أتحمل أكثر من ذلك ".
    جاءني صوت :" إلي أين .. أنا معك ، اهدأ لا تكن عجولا ".
    كان الطبيب ذاته ، ببسمة واثقة يعاين الحالة ، ثم يهمهم :" هنا قطع في الأوردة ".
    كأنه يوجه سؤالا ، و علىّ أن أجيبه :" أبدا .. سقطت على الأرض ، فارتطمت قدمها بكرسي قديم ".
    توقف ، نظر إلي مليا ، و كأنه يقول : لن أعمل و أنت تكذب
    :" نعم يا دكتور ، هذا ما حدث ، فقد كانت الوقعة قوية ، ولم أدر بنفسي ".
    هز رأسه ، و قبضتيه ، ثم كتب بنفس الثقة ، على ورقة الأدوية ، و المحاليل ، و الأربطة اللازمة :" بسرعة ، أريد هذه القائمة".

    تعبت كثيرا ، ما بين صيدليات المدينة ،
    وقفت بأبوابها كلها ، بحثا عن الأدوية ، لتكتمل قائمة المطلوبات ، و داخلي نقمة ربما أدري سببها ،
    و حين أدركت طلبي عدت ركضا .

    هالني صراخ ،
    و هرج شديد ،
    و أصوات عراك تأتي من داخل الاستقبال ،
    غذيت خطاي أكثر،
    انقلبت داخلا ، فإذا صوت واهن : " أنا هنا .. أنا .. تعال ".
    اهتزت أوصالي ،
    و هرب الدم من شراييني .
    كانت على مكان مرتفع عن الأرض .
    و أنا مشتت بينها ، و بين من بالداخل .
    خطوت ملسوعا ، دنوت من أنفاسها :" جزروا الطبيب .. ذبحوه حين أصر على طلب مفتش المباحث ، وفتح تحقيق ".
    تحوطني بذراعيها ،
    لا تفلتني :" هيا بنا إلي عيادة خاصة .. هيا ".
    اتكأت على جناحي المهيض ، بينما لم أستطع التحكم في مشاعري ، ومنع عينيّ عن هطول بعض مرارتي !
    sigpic
  • كريم قاسم
    أديب وكاتب
    • 03-04-2012
    • 732

    #2
    استاذ ربيع ...
    لا اظن ان مثلي اهل لتقيم مثل هذا النص ... و لكني استمتعت بالصعود الدرامي الذي احدثتة سطور القصة ...
    تحياتي ...

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة كريم قاسم مشاهدة المشاركة
      استاذ ربيع ...
      لا اظن ان مثلي اهل لتقيم مثل هذا النص ... و لكني استمتعت بالصعود الدرامي الذي احدثتة سطور القصة ...
      تحياتي ...
      شكرا لمرورك الكريم أخي كريم
      سررت برأيك
      و إن أحزنني جزؤه الأول .. و لا أظنه سوى تواضع و ترفع
      فنحن كلنا هنا نحاول ، و نتعلم


      محبتي
      sigpic

      تعليق

      • وفاء الدوسري
        عضو الملتقى
        • 04-09-2008
        • 6136

        #4
        الله الله..

        لم أكن اقرأ هنا... كنت أشاهد ما يحدث
        وأتحرك بين دهاليز الألم!..
        رائع بحق... أي كلمات تنصف عملاق القصة هنا!..؟؟
        كل الإعجاب/ كل النجوم/كل الشكر
        وتقديري كله،،،،،،
        التعديل الأخير تم بواسطة وفاء الدوسري; الساعة 18-04-2012, 12:27.

        تعليق

        • ربيع عقب الباب
          مستشار أدبي
          طائر النورس
          • 29-07-2008
          • 25792

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة وفاء عرب مشاهدة المشاركة
          الله الله..

          لم أكن اقرأ هنا... كنت أشاهد ما يحدث
          وأتحرك بين دهاليز الألم!..
          رائع بحق... أي كلمات تنصف عملاق القصة هنا!..؟؟
          كل الإعجاب/ كل النجوم/كل الشكر
          وتقديري كله،،،،،،
          شكرا لك أستاذة وفاء على المرور الطيب
          و على شهادتك التي لا تليق إلا بالكبار
          و ما أنا سوى مغامر و هاو طيب
          بأدوات متواضعة !

          تقديري و احترامي
          sigpic

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #6
            قرأت أكثر من مرّة ...
            مدهشة طريقة البناء و سحب القارئ إلى النهاية
            مازلت أتعلّم منك أستاذ ربيع.
            مودّتي و تقديري.
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • دينا نبيل
              أديبة وناقدة
              • 03-07-2011
              • 732

              #7
              معلمي القدير أ / ربيع

              جراح غائرة قد وصلني ألمها حيث أنا بل وتجاوزني ليعبر بي إلى تلك المآسي والمشاهد التي نراها يومياً ،
              جراح تنزف من إخواننا تأخذ معها قطعا من لحومنا .. تتساقط من وجوهنا خجلا من أنفسنا !

              القصة رائعة البناء سيدي الفاضل .. رائعة الصياغة واللغة والحبكة
              المشهدية بها كانت عالية جدا والجمل القصصية السينمائية كانت هي المسيطرة على الموقف

              حقيقة ارتبت في أمر البطل ( الراوي ) .. ولكن أشعر أنه يكذب ، وما ألمّ به من مرارة وغصة كان بسبب سقوطه أمام نفسه عند رؤيته صلابة ذلك الطبيب الإنسان المحترم وهو المهدد تحت السلاح ..

              أرى أنه قارن بين نفسه وهذا الطبيب فوجد نفسه لا شيء .. حينما يكذب الانسان لينجو من وطأة الموقف .. كم يكون حقيرا ولا يستحق الحياة ، في حين أن الكثير من الشرفاء يقتلون وتذهب دماؤهم هدراً فقط لأنهم أصروا على موقفهم الشهم !

              تلك هي الحياة بمفارقاتها العجيبة !!

              تقديري لقلمك المعلم لنا ..

              تحياتي

              تعليق

              • وردة الجنيني
                أديب وكاتب
                • 11-04-2012
                • 266

                #8
                لا ادري حيرتني القصة/
                لايمكن ان يكون الراوي وهو الثائر/
                الذي لم يعد يحتمل مرارة الاوضاع في ظل ثورة الشعب/
                واحترامه لذلك الطبيب قوي الشخصية/
                الذي لم يسمح لشي بايقافه عن عمله ولا للمشاغبين/
                لا يمكن لهذا الراوي ان يكون السبب في ايذاء زوجته بتلك الطريقة/
                شكرا على نص ممتع عميق/
                تحيتي//

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  شكري العميق لكم
                  شرفت بكم دائما و أبدا
                  و سأظل أحمل هذا ما حييت !

                  محبتي
                  sigpic

                  تعليق

                  يعمل...
                  X