بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثاني
ما إن وصلتُ مشارف ربوعها حتى انتعشتْ روحي من جديد, كأن لم يكن بي وعثاءُ سفر, ولا إجهاد سهر, بهرتني بسحر أضوائها الزاهية وشوارعها الباهية, وهدوئها الباعث على الطمأنينة والسكينة. كانت مستلقية وصدر البحر يحتضنها من جهة الغرب و ذراعيه تمتد إلى شمالها وجنوبها فكأنه يضمها إلى صدره!! ..
اتجهتُ غربا نحو البحر طالبا منزلا مطلا على شطه الفينان... لصديق كريم أوقفها لتكون منتجعا لضيوفه, ومتنزها لأصدقائه الوافدين من مدنٍ أخرى.. كان المنزل فارغا عندما وصلته , إلا من حارس نظر إلى وجهي متفحصا فلمَّا عرفني ابتسم وتهلل وجهه وبادرني بالعناق الحار وأخذ أمتعتي وصعد بي نحو غرفة كأنها من جنان الخلد , مزودة بكل ما يبعث على الراحة , والمتعة , من تكيف بارد, وفُرُشٍ ناعمة , وبطائن وثيرة !.
سألته عن حاله , وشكرته على حفاوته وكرم استقباله , ابتسم ابتسامة دلتْ على انبساطه وسروره , ثم قال: وهو يضع أغراضي على منضدةٍ قريبة منه , هذا واجبي وأنت صديقٌ مقربٌ لسعيد و قد أوصنا بك مرارا , فهذا منزلك في أي وقت تشاء ولك أن تحط رحلك فيه كلما وصلت هذه المدينة.
ــ وأين سعيد؟
ـ مسافر خارج الوطن ,
ـ كم أنا مشتاق إليه..
ــ أتركك تستريح , وإذا احتجت شيئا , أرفع سماعة الهاتف وضغط هذا الزر وأشار بأصبعه عليه .
ـ فهززت رأسي بالموافقة وقلت له تصبح على خير.
ـ تناول الباب على استحياء وانصرف بهدوء.
خلعتُ ملابسي وتخففتُ من حملٍ كان يثقلني رغم خفتهَ ؛ فقد شعرتُ بشيء يجذبني نحو السرير كما تجذب الأرض الشهب عند تفلُّتِها من زمام مدارها المتزن.
ألقيتُ بنفسي دون مبالاةٍ فيه, وما إن استرحتُ قليلا, حتى استنهضني نور ساطع مر بإحدى نوافذ الغرفة المطلة على البحر وقد تلألأ كنور البرق عند كثافة الغيم وقبل نزول المطر, ولا غيم ولا مطر , فنحن في بداية الصيف , إذا فماذا يا ترى هذا الذي رأيت؟!! ربما نورُ مَلكٍ من ملائكة السماء ذاهب في مهمة عاجلة , وما أكثر مهماتهم في الليل والنهار , فهم كثيرون والسماء تئط بهم كما تئط المدن المزدحمة بالبشر الغاديين في أسواقها والعائدين منها.
ولكن الملائكة لا يتمثلون إلا لحاجة ولا يشاهدهم البشر إلا لحكمة أرادها الله , فقدرته سبحانه وتعالى مطلقه, يفعل ما يشاء.
لكني لم أنسىَ تلك الصورة العجيبة التي شاهدتها منشورة على صفحات النت , عبارة عن شكل من نور لم أشاهد مثله على الأرض قط , مَلك باسط ذراعيه فوق ظهر الكعبة وقد كُتب تحت الصورة أنها التقطت في ليلة القدر أحد ليالي العشر الأواخر من رمضان, يومها تسألت: هل تقنية الكيمرات مزودة بالأشعة الحمراء أو فوق البنفسجية , فتكشف لنا الصورة مالا نراه بالعين المجردة؟ !!.لا أدري!!.
أظنه لن يخرج عن ثلاثة أشياء برقٌ لمع أو نور ملك ساطع أو شُهُبٍ وما أكثرها.
إذا لعلها ومضةُ شهاب من الشهب مرَّ من أمام النافذة , يلاحق طريدته التي تحاول الفرار منه بالاحتماء بالأرض , والشهب غالبا تتحاش الأرض كي لا تصطدم بها إلا ما ندر , فكأن الطريدة من الشياطين أرادتْ أن تحتمي بالأرض كما تفعل دائما لكن الشهب لم يعبئ بها هذه المرة , فتجاوز حدودهُ واستمر في تتبع فريسته دون اكتراثٍ بتبعات هذا التجاوز, وما يترتب عليه من أضرار.
ثم قلت: مالي ولهذا فما الذي سأجني من معرفة تلك الومضة وقد تعلمنا بأن الخوض فيما لا ينفعنا ولا ينبني عليه عمل .. نوع من التكلف الذي نُهينا عنه شرعا , ومن ذلك الأمور الغيبية كقيام الساعة والدجال وغيره كثير وهذه الومضة تعد من ذلك , فما الذي دفعني اليوم للدخول في هذه السفسطة التي لا فائدة منها غير مضيعة الوقت؟! عندها أدركت أن هذا ربما بسبب السهر.. علي أن أتوجه إلى النوم.
ألقيتُ نظرة من النافذة قبل أن أغادرها , ورحلتُ في عالم آخر من السبح في ملكوت الله والذهول في بدائع صنعه...بعيدا عما كنت أفكر فيه ولا طائل منه, رأيتُ عظمة الله الواحد الأحد في آياته المبثوثة التي تبدو لي من رهبة الليل وهو مُسدلا رداءه الأسود على البحر المتمدد بلا طرفٍ يُرى, والفضاء المترامي بلا حدود ولانهاية, يا لعظمة البحر, وسعة الفضاء.. ما مقدار هذه العظمة أمام عظمة الله الخالق.. الذي فطر كل شيء بحكمة موزونة, وكأني أرى الرحابة في الأفق لأول مرة وأرى من خلالها سعة قدرة الله التي لانهاية لها.
تملكني الذهول واحتوتني الدهشة. ما هذا الليل الموحش الذي يلف بثوب سواده الرهيب كل شيء , ها هو قابض بسواده الداكن على البر والبحر والفضاء, فلا ينفلت منه ولا يند عنه شيء.. لقد بدا لي وأنا أنظر إلى غورهِ الرهيب منظرا مدهشا بديعا بالغ الروعة إنه منظر الجلال والهيبة والعظمة لله الذي أجدني أنجذبُ إلى سبحاته, !!.
كنت مستمتعا شاردا بكل هذه الخواطر الجميلة.. انتبهت من شرودي على هدير الأمواج وهي تتصاعد!!. وكان العناء قد بلغا بي مبلغه فلم يتحْ لي فرصة كي أطيل , فخلدت للنوم وأنا أفكر في المنظر البديع ثم بدأت أفكر في المشروع وأتساءل: ماذا أفعل و ماجد. يوم غد.
قطعتْ حبالَ أفكاري موجاتُ النعاس وسرعان ما أحاطت بي من كل اتجاه, وانسدل الستار وأقفلتْ العينان المنهكتان أبوابهما , وذهبتُ في نوم عميق...ما أيقظني منه إلا أذان الفجر في ندائه الأخير للصلاة.
وبعد أن أديتُ صلاتي... احترتُ وترددتُ بين أن أخلع جلباب النعاس عني أو أسفرُ مع إسفارةِ خيوط الفجر التي بدأتْ تتسلل من ثنايا الأفق, وينثال بريقُ شعاعها الخفيف مُطارداً بقايا الليل المتثاقل لتحل محله , فقد حان موعد نوبة النهار واستلام دوره.
ـ لن أؤثر النوم على متعة انفلاق الفجر بين يدي البحر وأمواجه , فما أحلى جمال الصبح وهو يتنفس, خصوصا في هذا المكان بالذات, حيث تجتمع فيه كل ألوان الجمال الرباني والإبداع الإلهي.
حملتُ نفسي بقوة وهي تتثاقل إلى الأرض تريد النوم : ها هو يتنفس ويعانق كل شيء هيا لعناق أنسامه و عذب هوائه ,و لنستمتعُ بجمال أفيائه , وحلو منظره وبهائه.
خرجتُ من فوري وقد ارتديت ملابسي وصففت شعري دون أن أعتني كما ينبغي بهندامي , ولم أتمكن من تبيض أسناني وتلميع حذائي .
دفعني العجل كي أدرك متعة مشاهدة الإيلاج بين البياض والسواد وأصافح أنامل خيوط الفجر البيضاء المخضبة ببقايا الليل قبل أن يلج النهار فيه ويغادر.
وصلتُ الشاطئ , وأخذتُ مكاني في مقدمة فناء مطعم الروبين المطل على البحر من جهة الساحل الشمالي وتناولت الإفطار هناك وكان إفطارا شهيا ـ سمك طازج وجبن طري ـ أتشوق إليه كلما هبت رياحي على شط هذه المدينة الساحرة.
كان النشاط يَفيضُ بي كما يفيض الموج حال ثورة البحر وعنفوانه, أخذتُ جولة لا بأس بها حتى بَسَطَتْ الشمسُ رداءها ووزعتْ خيوط ضوئها على البحر والسهل, والرابيةِ والتل , كما يوزع البنفسجُ أريجه عند تَفتق براعمهِ وتبسم أزهاره على محيطاتِ بساتينه , ليملأ المكان عبيره الفواح وطيبه الزكي .
رنَّ جرسُ الهاتفِ , وأنا أشتم رائحة البحر وأغسلُ قدمييَّ بزفراتِ أمواجه وهي تنقل الزبدَ إلى حافة شطه ذهاباً وإيابا.
كان المتصل صديقي ماجد , تواعدنا ثم التقينا على شوق ولهفة , الفرح يغمرنا والسرور يظلنا.. أرادني ـ كريما عليه ـ في داره , فأبيتُ عليه ذلك , وقلتُ وأنا أشْبِّعُ ناظريَّ بطلعته البهية ومحياهُ المشرق , كيف نترك هذا النسيم العليل والإشراق الجميل, ونُحاصر بجدران منزلك, تخير لنا مكانا شاعريا يشاركنا فرحة لقائنا.
وفي زاوية من حديقة عامة , كانت قريبة من منزله قعدنا نحتسي القهوة وتبادلنا شجي الحديث ـ الممتزج بعواطف الإخاء المتجرد من كل مطمعْ ـ عَلَّنا نطفئ ظمأ الأشواق المتأجِّجة من طول الفرقة وشدة اللوعة...وبعد حديث الوداد و المؤانسة , هبتْ رياح الجد.
ـ ماجد :
ـ لبيك كريم.
ـ ما يخص المشروع الذي اتفقنا عليه ؟ أنا جاهز هل أنت جاهز؟.
استرجع قليلا وقال: أنا لم أجد من يتحمس معي للمساهمة ـ من أصدقائي وأقربائي ــ فيه ..رغم أنني عرضتُه مُغْرياً بأرباحه, ومُبالغاً بنجاحه, ولكن دون جدوى فلا حياة لمن أنادي , كأني أنفخُ في الرماد و أتسلق الفضاء, وما كان تحت يدي ساهمتُ به في مستشفى العرب ولم أجنِي منه شيئا حتى الآن... لكني فكرتُ أن آخذ سلفةً من البنك ـ مبلغا مساويا لمبلغك باسم المشروع ـ ما رأيك؟.
تنهدتُ بعمق ثم قلت: يا صديقي العزيز ألم نتفق معا حتى يكون النجاح حليفنا والربح الجزيل المبارك من نصيبنا .بأن نتحرى النقاء ونتوخى الصفاء ونعتمد النظافة الكاملة التي لا تشوبها شائبة في مشروعنا بحيث تكون التقوى رفيقة دربنا , والتورع صديق عملنا وحارس بيعنا وشرائنا. فتكون تجارتنا بعيدة عن الحرمة ومظنة الشبهة.
قال وقد تساقط العرقُ من جبينه واحْمرّ وجههُ كأنما لفحته نار:
ــ على رسلك يا صديقي العزيز...
ــ فأمسكتُ بكلتا يديَّ يديه وقلتُ: لا أقصد... إنما أذكِّرك بما جرى من حديث سابق دار بيننا , أليس كذلك؟,
ــ بلى بلى اتفقنا ولكن هذا ليس فيه حرمة ولا تشوبه شائبه ـ فهون عليك يا كريم وهَدِّءْ من روعك حتي أشرح لك ما...
ـ قاطعتهُ وأنا أتهيئ كي أطلب كأسا آخر من القهوة ـ قائلا: أنبدأ بالربا؟!
ـ من قال: أنه ربا؟
ـ إذا لم يكن هذا هو الربا بعينه , فهو شبهة.(ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) فلنبتعد من البنوك يا صديقي.
قال ـ وهو يحك بأطراف أنامله مقدمة رأسه ـ :لقد ذهبتَ بعيدا يا صديقي.
اسمعني جيدا.
ـ كلي آذان صاغيه.
ـ لقد فهمتَ خطأً.. هذا البنك ـ يا أعزَّ أصدقائي ـ ليس بنكاَ ربوياَ كما تظن فلا يُخشى منه ؛ لأنه بنك اسلامي أفتى العلماء بجواز القرض منه , وبخاصة إذا كان في المشاريع التي تكفل للناس عيشا كريما...كما أنه يهدفُ من هذا الإجراء: القضاء على البطالة المتفشِّية في مجتمعنا كتفشي الوباء الذي استفحل وصَعُبَ استئصاله...وتشغيل الأيدي العاملة وسد بطون المحتاجين , و القضاء على الفساد , هو عين الحكمة..
إنه بمقاصده النبيلة يخفف من الآلام ويُخفّضُ من الأورام , فالمآسي كالجراد التي تتكاثر ولا تجد من يردعها , ثم إن البنك يشتري بنفسه المواد الأولية للمشروع بعد أن ندله عليها, ثم يبيعها لنا بسعر فيه ربح لا يتضاعف كما في البنوك الربوية , فالعملية بيعٌ وشراء وليس قرض تتضاعف فوائده كما تظن.
ـ هدأتْ ثورتي وسكنتْ روعتي وقلتُ: هذا كلام لا بأس به إذا كان كما ذكرت,
لكنني فهمت من كلامك أنه للمضطرين فقط الذين ضاقت بهم الحال.. ونحن ولله الحمد في توسط فهل ينطبق علينا ما تقول؟
ـ كيف لا ونحن نبحث عن العيش الكريم ونساهم في تنامي الاستثمار الذي يعود بالفائدة على وطننا وأمتنا , علما أن البنوك الإسلامية خدماتها مفتوحة ومتاحة للجميع بلا استثناء أو تمييز.
ــ كلامك مقنع ولكن أريد أن يطمئن قلبي أيضا بفتوى شرعية, ما رأيك أن نذهب إلى الشيخ غانم؟؟ هل ما يزال يقيم جوار منزلك؟.
ــ نعم ما يزال .
ــ هيا بنا إليه
وبعد أن أحسنَ الشيخ استقبالنا وأكرم وفادتنا وسمع منا.. أردف يقول: لا أجد في هذا الشأن حرجاَ لأنه صورة من صور البيع والشراء وقد أحل الله البيع وحرم الربا وهناك فتوى شرعية حول هذا الأمر من كبار أهل العلم.
قال كريم وقد بدأتْ الطمأنينة تتسلل إلى حنايا فؤاده: لماذا المشتري هو من يدل على السلعة ؟َ كيف لا يصاب بحسره وهو يعلم ثمن السلعة فلوكان معه مالا لما قبل أن يشتري البنك نيابة عنه ثم يبعه إياها بزيادة.. ألا يكون في هذا ظلم وحيف؟! لو كانت السلع مخزنة في البنك لكانَ مقبولا...ثم أين القرض الحسن الذي أراد الإسلام أن يكون ذا قيمة أخلاقية من قيمه النفيسة ؟! وما حُرِّمَ الربا إلا للمحافظة على هذه القيمة السامية التي كادتْ تنقرضُ في هذا الزمان.
هزَّ رأسهُ ارتياحا بما قلتُ: ــ هذه لفته كريمة ؛ لكن الربح هنا مقابل الأجل...فبعض الأحناف وبعض المتأخرين من الشافعية أجازوا الشراء بزيادة في الآجل على الشراء بالعاجل .. ومن هنا جاءت الزيادة التي يضعها البنك ربحا.
خرجنا وقد أزالت المعرفة خيوط الغشاوة التي كانت تحيط بجدار قلبي كما تحيط خيوط العنكبوت بطلل مهجور, شاهدت الصورة أكثر وضوحا وإن بقي منها في النفس شيء.
قلتُ لماجد وقد تهلل وجهه بفتوى الشيخ فرحاً بانسجامها مع ما قاله لي: إذا استطعنا أن نتجنب البنك ـ بحيث نجد مساهمة أو قرضا حسنا من غيره ـ يكون أحسن فإن لم فلا بأس بعد فتوى الشيخ.
ـ قال ماجد: أسعار المواد الخام هذه الأيام مرتفعة , هل ترى أن نبدأ بالمبلغ الذي معك سَلِّمني المبلع وأنا سأتصرف.
فاجأني بفكرته الجديدة فلم تكن مدرجة في أروقة اتفاقنا السابق ... قلت له: نتروى ولا نتعجل, ونعيد النظر فالمال ليس مالي ولكنه كما تعلم مال غيري, علينا أن نضع أقدامنا سويا ونحن ندرك أين نضعها, نخشى أن نتهور فنخسر.. سنراجع الأمر ونستخير الله ثم نقرر ما نفعل, وما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن , المهم الآن هو استكمال عملية شرائي لسيارتك التي سأنقدك ثمنها وسأستلمها منك بعد توثيق البيع وصكه , متى يروق لك ذلك؟.
ـ إذا جاء الغد إن شاء الله أخذتها منك وسلمتك ما أردتْ شريطة أن تمنحني زمام قيادك ولا تمنعني من إجلالك وإكرام وفادك.
ـ مازحته وضاحكته وعُدتُ مهموماً مثقل الخطى إلى مقر إقامتي بعد أن استأذنته بالانصراف ووعدته بقبولي استضافته يوم غد ؛ فقد كان ملحا على أن نبقى معا.
كان يداهمني تفكير رغما عني يقول لي: لا تغامر بمال غيرك لو أنه مالك لهان آلم الفراق إن لم يكتب له النماء ... وتفكير أخر يحثني على الإقدام والمغامرة , يقول :التجارة تخطيط وإقدام , وليس تردد وإحجام!!.
تجاذبتني الحيرة, وتهتُ في شوارع أفكاري!! بين طريقين , طريق الواقع وطريقُ الدافع!! بحثا عن مرفئ يرسو عليه قراري وتستقرُّ عليه أفكاري: هل أمضي في المشروع أم أنصرف عنه؟...
فالواقع منكسر, وتربة الاستثمار فيه غير خصبة , وظروف متقلبة وأسعار غير مستقرة , وأناس ينهش بعضهم بعضا كما تنهش الوحوش الجائعة فرائسها..
ودافع الجزر والمد من أجل البقاء.. في بساتين الحياة الطيبة وحدائق العيش الكريم ؛ فنجني من الأول زنابق العزة ومن الثاني فواكه الكرامة , تحت مظلة العفة.. بعيدا عن وحل الذل, ومستنقع الفاقة.. وبعيدا عن أرصفة البطالة وغرف الخمول وأسرة الدعة...فعلى أي شط أرسو والأمواج من حولي عاتية.
ومازالتْ صفقة جارنا الحاج محمد, محفورة في ذاكرتي كما يحفر الماء الصخر!!. فبمجرد وصول بضاعته...حتى خفَّض المورد المحتكر نبهان أسعارهُ بأقل من تكلفة شرائه ؛ كي يصيبه بمقتل ؛ ويئدُ طموحهُ إلى الأبد, وتم له ما أراد ؛ كسدتْ بضاعته وخاب فأله, وظل يعرضها حتى انتهى تاريخ صلاحياتها ,
وتم إتلافها في محرقة الاحتكار والجشع , جوار سوق من لا يردعه ضميرْ ولا وازع من دينْ, أتلفتها الأنانية ونيران الأطماع ...ومعها آمال الحاج محمد وأحلامه..
ثم التقطتْ كيمرة ذاكرتي صور الأحداث المدهشة ,لتجارة حامد ورفاقه في مشروعهم الغامض الذي أقيم على الأرض ثم أعرج به إلى السماء محمولا على أكتاف المعصرات تهودجه الرياح من اليمن إلى اليسار وترمقه العيون المتكئة على الثقة فتصمتُ ولا تلقي له بالا ؛ كأنها لا تخشى عليه السقوط السحيق الذي سيفتته ويمزقه بمجرد ارتطامه بالأرض!!.
استغرقني ؛لأنه أشد وُعُرةً وأصعبُ لمَّا , وفيه عجائب , لا تنتهي يحتاج العقل إلى تأملها والوقوف مليا عندها...أرجو أن لا يطول وقوفي عنده كثيرا...اروي يا ذاكرتي فقد شوقتني لمعرفة تفاصيله.
اروي كي أجمع أشتاتي وأفيض لأمنع عبراتي
وأبـــوح لأصنع تاريخا للجيل الحاضر والآتــي
اروي يا ذاكرتي الحرى قصصا ثكلا وحكاياتي
اروي الآلام معطـــرة بعبير النصر وغاياتي
أروي أحلاما لم تكبـر فــي وادٍ مصفــر شـات
عن نبتٍ أبدا لا ينمو في صحراء القحط العات
اروي كي تبعثني فكراً وتبلسم كل جراحـــاتي
وتمد الحاضر ذاكرةً مرتْ في مــوسم أناتِ
اروي: كي تمنحني وهجا فأعود لمرفأ بسماتــي
فمعاني الطهر إذا هبتْ تشدو من وحي روايـاتي
فاقرأ يا قارئ أفكاري واحمل من يومك راياتي
فمعاني الرشد هنا جذلى ومعاني والحب وآيات
أيسيرُ الدربُ وأنت هنا يا فرحة عمري وصلاتي
يا دوحة أمجاد شمخت في الماضي الغابر والآت
لم تسعفني ذاكرتي فقد بلغ بي الجوع مبلغه , لم أشعر إلا وعصافير أمعائي تتضور جوعا وتطلب مُستغيثة , ما يسدُّ خلَّتها , ويُشبعُ فاقتها, فقد تناسيتها ـ في أسواق شرودي بتلك الرواية المزدحمة بالمواقف الحارة والباردة , أخذني الذهول وأنا أفتش بين كومةِ صوَرِهَا المعروضةِ في دكاكين الذكرة , عن أسرارها وألغازها... فما يزال بها مغاليق لم تفك!! وعقد لم أجد لها تفسيرا...إنها من غرائب الدهر وتصاريف القدر...سأستعرضها كأنها لأول مرة , بعد أن أروي ظمئي وأسدُّ رمقي...
تناولت بعض الفواكه والمشروبات التي كُنت قد أحظرتها من بقالة مررتُ بها , سكن جوعي وهدأتْ عصافير بطني وعُدتُ إلى تلك الأسواق مطالبا ذاكرتي بمزيد من العرض قائلا لها:
هيا يا ذاكرتي اروي قُصِّي لي اروي أحلامي الثكلى واحكي لي
اروي باسم الله معاني الحب قصي أول مشروع معلــــولِ
قصي سيرة أصحابٍ قد ختلوا لا تخفي عني مــا لا يبدو لــي
كانوا ثلاثة أصدقاء يضرب بصداقتهم المثل الأعلى , قلما يفترقون عن بعضهم , يتفادون بالأرواح من شدة الحب... في الصباح يذهبون إلى شركتهم العملاقة التي يعملون بها , وفي المساء يتسامرون , أو يلعبون النرد والشطرنج بين يدي مباريات كرة القدم...وهكذا مرت سنين من عمرهم على هذا الحال في محبة وانسجام وصداقة ووئام ..حتى ..
خطي يا أقلام الروح معاني الحب العذب وثوري
شقي دربا في الآفاق الآن وطيري
دُكِّي جُدَرَ الصَّمتِ ومدي في رحمِ الآفاقِ جسوري
يا عمر الحلم المأمولِ بأيام نشاطي وفتوري
يا نبض الإشراق الحر ويا نبض هناءٍ وسرورِ
اروي من ذاكرةِ التاريخ حياة المجد المطمور
وحياة الحب إذا أصبح كالمخمور وكالمغرور
فيضي خاطرةً ذاكرةً
في وجدان الكون أنيري
ثوري في وجه الكلمات وفي وجه السكنات
وفي وجه المكر المقهور
***
لظي ألفاظ الزيف وختل البسمات
ماذا تنتظرين أمام الإعصار الجارف
للقيم المثلى بصنوف الأزمات
فبكل لغات العالم ياأمةُ ثوري
سُليَّ سيف الحب وأسلحة الرحمات
احكي قصة أول حرف في تاريخي
قولي قصة أطماع التجار وطغيان المسؤول
احكي عن أندى قلب يعشقه قلب
يبكي فرحا يحمل تاجا من اكليل
قصة حمدان وكريم اروي
واروي قصة ناهد ةٍ وبتول
اروي من قاموس الذكرى قصة صفون وسمية
ذات العينين العسلية
حبا في ذاكرة التاريخ المنسية
قصي أيام مباهجنا
واروي أحلام مشاعرنا
للتاريخ وللأجيال
فيضي فيضي كالشلال
اروي الإشراق بنبض الحب ونبض الكره المشلول
قصي مائدة للأصحاب إذا احتكموا حال الإخفاق المسلول
فمتى ابتسموا ومتى اختصموا
هيا يا ذاكرتي الملأى بالصور الثكلى
قصي لي
هائل الصرمي
الفصل الثاني
ما إن وصلتُ مشارف ربوعها حتى انتعشتْ روحي من جديد, كأن لم يكن بي وعثاءُ سفر, ولا إجهاد سهر, بهرتني بسحر أضوائها الزاهية وشوارعها الباهية, وهدوئها الباعث على الطمأنينة والسكينة. كانت مستلقية وصدر البحر يحتضنها من جهة الغرب و ذراعيه تمتد إلى شمالها وجنوبها فكأنه يضمها إلى صدره!! ..
اتجهتُ غربا نحو البحر طالبا منزلا مطلا على شطه الفينان... لصديق كريم أوقفها لتكون منتجعا لضيوفه, ومتنزها لأصدقائه الوافدين من مدنٍ أخرى.. كان المنزل فارغا عندما وصلته , إلا من حارس نظر إلى وجهي متفحصا فلمَّا عرفني ابتسم وتهلل وجهه وبادرني بالعناق الحار وأخذ أمتعتي وصعد بي نحو غرفة كأنها من جنان الخلد , مزودة بكل ما يبعث على الراحة , والمتعة , من تكيف بارد, وفُرُشٍ ناعمة , وبطائن وثيرة !.
سألته عن حاله , وشكرته على حفاوته وكرم استقباله , ابتسم ابتسامة دلتْ على انبساطه وسروره , ثم قال: وهو يضع أغراضي على منضدةٍ قريبة منه , هذا واجبي وأنت صديقٌ مقربٌ لسعيد و قد أوصنا بك مرارا , فهذا منزلك في أي وقت تشاء ولك أن تحط رحلك فيه كلما وصلت هذه المدينة.
ــ وأين سعيد؟
ـ مسافر خارج الوطن ,
ـ كم أنا مشتاق إليه..
ــ أتركك تستريح , وإذا احتجت شيئا , أرفع سماعة الهاتف وضغط هذا الزر وأشار بأصبعه عليه .
ـ فهززت رأسي بالموافقة وقلت له تصبح على خير.
ـ تناول الباب على استحياء وانصرف بهدوء.
خلعتُ ملابسي وتخففتُ من حملٍ كان يثقلني رغم خفتهَ ؛ فقد شعرتُ بشيء يجذبني نحو السرير كما تجذب الأرض الشهب عند تفلُّتِها من زمام مدارها المتزن.
ألقيتُ بنفسي دون مبالاةٍ فيه, وما إن استرحتُ قليلا, حتى استنهضني نور ساطع مر بإحدى نوافذ الغرفة المطلة على البحر وقد تلألأ كنور البرق عند كثافة الغيم وقبل نزول المطر, ولا غيم ولا مطر , فنحن في بداية الصيف , إذا فماذا يا ترى هذا الذي رأيت؟!! ربما نورُ مَلكٍ من ملائكة السماء ذاهب في مهمة عاجلة , وما أكثر مهماتهم في الليل والنهار , فهم كثيرون والسماء تئط بهم كما تئط المدن المزدحمة بالبشر الغاديين في أسواقها والعائدين منها.
ولكن الملائكة لا يتمثلون إلا لحاجة ولا يشاهدهم البشر إلا لحكمة أرادها الله , فقدرته سبحانه وتعالى مطلقه, يفعل ما يشاء.
لكني لم أنسىَ تلك الصورة العجيبة التي شاهدتها منشورة على صفحات النت , عبارة عن شكل من نور لم أشاهد مثله على الأرض قط , مَلك باسط ذراعيه فوق ظهر الكعبة وقد كُتب تحت الصورة أنها التقطت في ليلة القدر أحد ليالي العشر الأواخر من رمضان, يومها تسألت: هل تقنية الكيمرات مزودة بالأشعة الحمراء أو فوق البنفسجية , فتكشف لنا الصورة مالا نراه بالعين المجردة؟ !!.لا أدري!!.
أظنه لن يخرج عن ثلاثة أشياء برقٌ لمع أو نور ملك ساطع أو شُهُبٍ وما أكثرها.
إذا لعلها ومضةُ شهاب من الشهب مرَّ من أمام النافذة , يلاحق طريدته التي تحاول الفرار منه بالاحتماء بالأرض , والشهب غالبا تتحاش الأرض كي لا تصطدم بها إلا ما ندر , فكأن الطريدة من الشياطين أرادتْ أن تحتمي بالأرض كما تفعل دائما لكن الشهب لم يعبئ بها هذه المرة , فتجاوز حدودهُ واستمر في تتبع فريسته دون اكتراثٍ بتبعات هذا التجاوز, وما يترتب عليه من أضرار.
ثم قلت: مالي ولهذا فما الذي سأجني من معرفة تلك الومضة وقد تعلمنا بأن الخوض فيما لا ينفعنا ولا ينبني عليه عمل .. نوع من التكلف الذي نُهينا عنه شرعا , ومن ذلك الأمور الغيبية كقيام الساعة والدجال وغيره كثير وهذه الومضة تعد من ذلك , فما الذي دفعني اليوم للدخول في هذه السفسطة التي لا فائدة منها غير مضيعة الوقت؟! عندها أدركت أن هذا ربما بسبب السهر.. علي أن أتوجه إلى النوم.
ألقيتُ نظرة من النافذة قبل أن أغادرها , ورحلتُ في عالم آخر من السبح في ملكوت الله والذهول في بدائع صنعه...بعيدا عما كنت أفكر فيه ولا طائل منه, رأيتُ عظمة الله الواحد الأحد في آياته المبثوثة التي تبدو لي من رهبة الليل وهو مُسدلا رداءه الأسود على البحر المتمدد بلا طرفٍ يُرى, والفضاء المترامي بلا حدود ولانهاية, يا لعظمة البحر, وسعة الفضاء.. ما مقدار هذه العظمة أمام عظمة الله الخالق.. الذي فطر كل شيء بحكمة موزونة, وكأني أرى الرحابة في الأفق لأول مرة وأرى من خلالها سعة قدرة الله التي لانهاية لها.
تملكني الذهول واحتوتني الدهشة. ما هذا الليل الموحش الذي يلف بثوب سواده الرهيب كل شيء , ها هو قابض بسواده الداكن على البر والبحر والفضاء, فلا ينفلت منه ولا يند عنه شيء.. لقد بدا لي وأنا أنظر إلى غورهِ الرهيب منظرا مدهشا بديعا بالغ الروعة إنه منظر الجلال والهيبة والعظمة لله الذي أجدني أنجذبُ إلى سبحاته, !!.
كنت مستمتعا شاردا بكل هذه الخواطر الجميلة.. انتبهت من شرودي على هدير الأمواج وهي تتصاعد!!. وكان العناء قد بلغا بي مبلغه فلم يتحْ لي فرصة كي أطيل , فخلدت للنوم وأنا أفكر في المنظر البديع ثم بدأت أفكر في المشروع وأتساءل: ماذا أفعل و ماجد. يوم غد.
قطعتْ حبالَ أفكاري موجاتُ النعاس وسرعان ما أحاطت بي من كل اتجاه, وانسدل الستار وأقفلتْ العينان المنهكتان أبوابهما , وذهبتُ في نوم عميق...ما أيقظني منه إلا أذان الفجر في ندائه الأخير للصلاة.
وبعد أن أديتُ صلاتي... احترتُ وترددتُ بين أن أخلع جلباب النعاس عني أو أسفرُ مع إسفارةِ خيوط الفجر التي بدأتْ تتسلل من ثنايا الأفق, وينثال بريقُ شعاعها الخفيف مُطارداً بقايا الليل المتثاقل لتحل محله , فقد حان موعد نوبة النهار واستلام دوره.
ـ لن أؤثر النوم على متعة انفلاق الفجر بين يدي البحر وأمواجه , فما أحلى جمال الصبح وهو يتنفس, خصوصا في هذا المكان بالذات, حيث تجتمع فيه كل ألوان الجمال الرباني والإبداع الإلهي.
حملتُ نفسي بقوة وهي تتثاقل إلى الأرض تريد النوم : ها هو يتنفس ويعانق كل شيء هيا لعناق أنسامه و عذب هوائه ,و لنستمتعُ بجمال أفيائه , وحلو منظره وبهائه.
خرجتُ من فوري وقد ارتديت ملابسي وصففت شعري دون أن أعتني كما ينبغي بهندامي , ولم أتمكن من تبيض أسناني وتلميع حذائي .
دفعني العجل كي أدرك متعة مشاهدة الإيلاج بين البياض والسواد وأصافح أنامل خيوط الفجر البيضاء المخضبة ببقايا الليل قبل أن يلج النهار فيه ويغادر.
وصلتُ الشاطئ , وأخذتُ مكاني في مقدمة فناء مطعم الروبين المطل على البحر من جهة الساحل الشمالي وتناولت الإفطار هناك وكان إفطارا شهيا ـ سمك طازج وجبن طري ـ أتشوق إليه كلما هبت رياحي على شط هذه المدينة الساحرة.
كان النشاط يَفيضُ بي كما يفيض الموج حال ثورة البحر وعنفوانه, أخذتُ جولة لا بأس بها حتى بَسَطَتْ الشمسُ رداءها ووزعتْ خيوط ضوئها على البحر والسهل, والرابيةِ والتل , كما يوزع البنفسجُ أريجه عند تَفتق براعمهِ وتبسم أزهاره على محيطاتِ بساتينه , ليملأ المكان عبيره الفواح وطيبه الزكي .
رنَّ جرسُ الهاتفِ , وأنا أشتم رائحة البحر وأغسلُ قدمييَّ بزفراتِ أمواجه وهي تنقل الزبدَ إلى حافة شطه ذهاباً وإيابا.
كان المتصل صديقي ماجد , تواعدنا ثم التقينا على شوق ولهفة , الفرح يغمرنا والسرور يظلنا.. أرادني ـ كريما عليه ـ في داره , فأبيتُ عليه ذلك , وقلتُ وأنا أشْبِّعُ ناظريَّ بطلعته البهية ومحياهُ المشرق , كيف نترك هذا النسيم العليل والإشراق الجميل, ونُحاصر بجدران منزلك, تخير لنا مكانا شاعريا يشاركنا فرحة لقائنا.
وفي زاوية من حديقة عامة , كانت قريبة من منزله قعدنا نحتسي القهوة وتبادلنا شجي الحديث ـ الممتزج بعواطف الإخاء المتجرد من كل مطمعْ ـ عَلَّنا نطفئ ظمأ الأشواق المتأجِّجة من طول الفرقة وشدة اللوعة...وبعد حديث الوداد و المؤانسة , هبتْ رياح الجد.
ـ ماجد :
ـ لبيك كريم.
ـ ما يخص المشروع الذي اتفقنا عليه ؟ أنا جاهز هل أنت جاهز؟.
استرجع قليلا وقال: أنا لم أجد من يتحمس معي للمساهمة ـ من أصدقائي وأقربائي ــ فيه ..رغم أنني عرضتُه مُغْرياً بأرباحه, ومُبالغاً بنجاحه, ولكن دون جدوى فلا حياة لمن أنادي , كأني أنفخُ في الرماد و أتسلق الفضاء, وما كان تحت يدي ساهمتُ به في مستشفى العرب ولم أجنِي منه شيئا حتى الآن... لكني فكرتُ أن آخذ سلفةً من البنك ـ مبلغا مساويا لمبلغك باسم المشروع ـ ما رأيك؟.
تنهدتُ بعمق ثم قلت: يا صديقي العزيز ألم نتفق معا حتى يكون النجاح حليفنا والربح الجزيل المبارك من نصيبنا .بأن نتحرى النقاء ونتوخى الصفاء ونعتمد النظافة الكاملة التي لا تشوبها شائبة في مشروعنا بحيث تكون التقوى رفيقة دربنا , والتورع صديق عملنا وحارس بيعنا وشرائنا. فتكون تجارتنا بعيدة عن الحرمة ومظنة الشبهة.
قال وقد تساقط العرقُ من جبينه واحْمرّ وجههُ كأنما لفحته نار:
ــ على رسلك يا صديقي العزيز...
ــ فأمسكتُ بكلتا يديَّ يديه وقلتُ: لا أقصد... إنما أذكِّرك بما جرى من حديث سابق دار بيننا , أليس كذلك؟,
ــ بلى بلى اتفقنا ولكن هذا ليس فيه حرمة ولا تشوبه شائبه ـ فهون عليك يا كريم وهَدِّءْ من روعك حتي أشرح لك ما...
ـ قاطعتهُ وأنا أتهيئ كي أطلب كأسا آخر من القهوة ـ قائلا: أنبدأ بالربا؟!
ـ من قال: أنه ربا؟
ـ إذا لم يكن هذا هو الربا بعينه , فهو شبهة.(ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) فلنبتعد من البنوك يا صديقي.
قال ـ وهو يحك بأطراف أنامله مقدمة رأسه ـ :لقد ذهبتَ بعيدا يا صديقي.
اسمعني جيدا.
ـ كلي آذان صاغيه.
ـ لقد فهمتَ خطأً.. هذا البنك ـ يا أعزَّ أصدقائي ـ ليس بنكاَ ربوياَ كما تظن فلا يُخشى منه ؛ لأنه بنك اسلامي أفتى العلماء بجواز القرض منه , وبخاصة إذا كان في المشاريع التي تكفل للناس عيشا كريما...كما أنه يهدفُ من هذا الإجراء: القضاء على البطالة المتفشِّية في مجتمعنا كتفشي الوباء الذي استفحل وصَعُبَ استئصاله...وتشغيل الأيدي العاملة وسد بطون المحتاجين , و القضاء على الفساد , هو عين الحكمة..
إنه بمقاصده النبيلة يخفف من الآلام ويُخفّضُ من الأورام , فالمآسي كالجراد التي تتكاثر ولا تجد من يردعها , ثم إن البنك يشتري بنفسه المواد الأولية للمشروع بعد أن ندله عليها, ثم يبيعها لنا بسعر فيه ربح لا يتضاعف كما في البنوك الربوية , فالعملية بيعٌ وشراء وليس قرض تتضاعف فوائده كما تظن.
ـ هدأتْ ثورتي وسكنتْ روعتي وقلتُ: هذا كلام لا بأس به إذا كان كما ذكرت,
لكنني فهمت من كلامك أنه للمضطرين فقط الذين ضاقت بهم الحال.. ونحن ولله الحمد في توسط فهل ينطبق علينا ما تقول؟
ـ كيف لا ونحن نبحث عن العيش الكريم ونساهم في تنامي الاستثمار الذي يعود بالفائدة على وطننا وأمتنا , علما أن البنوك الإسلامية خدماتها مفتوحة ومتاحة للجميع بلا استثناء أو تمييز.
ــ كلامك مقنع ولكن أريد أن يطمئن قلبي أيضا بفتوى شرعية, ما رأيك أن نذهب إلى الشيخ غانم؟؟ هل ما يزال يقيم جوار منزلك؟.
ــ نعم ما يزال .
ــ هيا بنا إليه
وبعد أن أحسنَ الشيخ استقبالنا وأكرم وفادتنا وسمع منا.. أردف يقول: لا أجد في هذا الشأن حرجاَ لأنه صورة من صور البيع والشراء وقد أحل الله البيع وحرم الربا وهناك فتوى شرعية حول هذا الأمر من كبار أهل العلم.
قال كريم وقد بدأتْ الطمأنينة تتسلل إلى حنايا فؤاده: لماذا المشتري هو من يدل على السلعة ؟َ كيف لا يصاب بحسره وهو يعلم ثمن السلعة فلوكان معه مالا لما قبل أن يشتري البنك نيابة عنه ثم يبعه إياها بزيادة.. ألا يكون في هذا ظلم وحيف؟! لو كانت السلع مخزنة في البنك لكانَ مقبولا...ثم أين القرض الحسن الذي أراد الإسلام أن يكون ذا قيمة أخلاقية من قيمه النفيسة ؟! وما حُرِّمَ الربا إلا للمحافظة على هذه القيمة السامية التي كادتْ تنقرضُ في هذا الزمان.
هزَّ رأسهُ ارتياحا بما قلتُ: ــ هذه لفته كريمة ؛ لكن الربح هنا مقابل الأجل...فبعض الأحناف وبعض المتأخرين من الشافعية أجازوا الشراء بزيادة في الآجل على الشراء بالعاجل .. ومن هنا جاءت الزيادة التي يضعها البنك ربحا.
خرجنا وقد أزالت المعرفة خيوط الغشاوة التي كانت تحيط بجدار قلبي كما تحيط خيوط العنكبوت بطلل مهجور, شاهدت الصورة أكثر وضوحا وإن بقي منها في النفس شيء.
قلتُ لماجد وقد تهلل وجهه بفتوى الشيخ فرحاً بانسجامها مع ما قاله لي: إذا استطعنا أن نتجنب البنك ـ بحيث نجد مساهمة أو قرضا حسنا من غيره ـ يكون أحسن فإن لم فلا بأس بعد فتوى الشيخ.
ـ قال ماجد: أسعار المواد الخام هذه الأيام مرتفعة , هل ترى أن نبدأ بالمبلغ الذي معك سَلِّمني المبلع وأنا سأتصرف.
فاجأني بفكرته الجديدة فلم تكن مدرجة في أروقة اتفاقنا السابق ... قلت له: نتروى ولا نتعجل, ونعيد النظر فالمال ليس مالي ولكنه كما تعلم مال غيري, علينا أن نضع أقدامنا سويا ونحن ندرك أين نضعها, نخشى أن نتهور فنخسر.. سنراجع الأمر ونستخير الله ثم نقرر ما نفعل, وما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن , المهم الآن هو استكمال عملية شرائي لسيارتك التي سأنقدك ثمنها وسأستلمها منك بعد توثيق البيع وصكه , متى يروق لك ذلك؟.
ـ إذا جاء الغد إن شاء الله أخذتها منك وسلمتك ما أردتْ شريطة أن تمنحني زمام قيادك ولا تمنعني من إجلالك وإكرام وفادك.
ـ مازحته وضاحكته وعُدتُ مهموماً مثقل الخطى إلى مقر إقامتي بعد أن استأذنته بالانصراف ووعدته بقبولي استضافته يوم غد ؛ فقد كان ملحا على أن نبقى معا.
كان يداهمني تفكير رغما عني يقول لي: لا تغامر بمال غيرك لو أنه مالك لهان آلم الفراق إن لم يكتب له النماء ... وتفكير أخر يحثني على الإقدام والمغامرة , يقول :التجارة تخطيط وإقدام , وليس تردد وإحجام!!.
تجاذبتني الحيرة, وتهتُ في شوارع أفكاري!! بين طريقين , طريق الواقع وطريقُ الدافع!! بحثا عن مرفئ يرسو عليه قراري وتستقرُّ عليه أفكاري: هل أمضي في المشروع أم أنصرف عنه؟...
فالواقع منكسر, وتربة الاستثمار فيه غير خصبة , وظروف متقلبة وأسعار غير مستقرة , وأناس ينهش بعضهم بعضا كما تنهش الوحوش الجائعة فرائسها..
ودافع الجزر والمد من أجل البقاء.. في بساتين الحياة الطيبة وحدائق العيش الكريم ؛ فنجني من الأول زنابق العزة ومن الثاني فواكه الكرامة , تحت مظلة العفة.. بعيدا عن وحل الذل, ومستنقع الفاقة.. وبعيدا عن أرصفة البطالة وغرف الخمول وأسرة الدعة...فعلى أي شط أرسو والأمواج من حولي عاتية.
ومازالتْ صفقة جارنا الحاج محمد, محفورة في ذاكرتي كما يحفر الماء الصخر!!. فبمجرد وصول بضاعته...حتى خفَّض المورد المحتكر نبهان أسعارهُ بأقل من تكلفة شرائه ؛ كي يصيبه بمقتل ؛ ويئدُ طموحهُ إلى الأبد, وتم له ما أراد ؛ كسدتْ بضاعته وخاب فأله, وظل يعرضها حتى انتهى تاريخ صلاحياتها ,
وتم إتلافها في محرقة الاحتكار والجشع , جوار سوق من لا يردعه ضميرْ ولا وازع من دينْ, أتلفتها الأنانية ونيران الأطماع ...ومعها آمال الحاج محمد وأحلامه..
ثم التقطتْ كيمرة ذاكرتي صور الأحداث المدهشة ,لتجارة حامد ورفاقه في مشروعهم الغامض الذي أقيم على الأرض ثم أعرج به إلى السماء محمولا على أكتاف المعصرات تهودجه الرياح من اليمن إلى اليسار وترمقه العيون المتكئة على الثقة فتصمتُ ولا تلقي له بالا ؛ كأنها لا تخشى عليه السقوط السحيق الذي سيفتته ويمزقه بمجرد ارتطامه بالأرض!!.
استغرقني ؛لأنه أشد وُعُرةً وأصعبُ لمَّا , وفيه عجائب , لا تنتهي يحتاج العقل إلى تأملها والوقوف مليا عندها...أرجو أن لا يطول وقوفي عنده كثيرا...اروي يا ذاكرتي فقد شوقتني لمعرفة تفاصيله.
اروي كي أجمع أشتاتي وأفيض لأمنع عبراتي
وأبـــوح لأصنع تاريخا للجيل الحاضر والآتــي
اروي يا ذاكرتي الحرى قصصا ثكلا وحكاياتي
اروي الآلام معطـــرة بعبير النصر وغاياتي
أروي أحلاما لم تكبـر فــي وادٍ مصفــر شـات
عن نبتٍ أبدا لا ينمو في صحراء القحط العات
اروي كي تبعثني فكراً وتبلسم كل جراحـــاتي
وتمد الحاضر ذاكرةً مرتْ في مــوسم أناتِ
اروي: كي تمنحني وهجا فأعود لمرفأ بسماتــي
فمعاني الطهر إذا هبتْ تشدو من وحي روايـاتي
فاقرأ يا قارئ أفكاري واحمل من يومك راياتي
فمعاني الرشد هنا جذلى ومعاني والحب وآيات
أيسيرُ الدربُ وأنت هنا يا فرحة عمري وصلاتي
يا دوحة أمجاد شمخت في الماضي الغابر والآت
لم تسعفني ذاكرتي فقد بلغ بي الجوع مبلغه , لم أشعر إلا وعصافير أمعائي تتضور جوعا وتطلب مُستغيثة , ما يسدُّ خلَّتها , ويُشبعُ فاقتها, فقد تناسيتها ـ في أسواق شرودي بتلك الرواية المزدحمة بالمواقف الحارة والباردة , أخذني الذهول وأنا أفتش بين كومةِ صوَرِهَا المعروضةِ في دكاكين الذكرة , عن أسرارها وألغازها... فما يزال بها مغاليق لم تفك!! وعقد لم أجد لها تفسيرا...إنها من غرائب الدهر وتصاريف القدر...سأستعرضها كأنها لأول مرة , بعد أن أروي ظمئي وأسدُّ رمقي...
تناولت بعض الفواكه والمشروبات التي كُنت قد أحظرتها من بقالة مررتُ بها , سكن جوعي وهدأتْ عصافير بطني وعُدتُ إلى تلك الأسواق مطالبا ذاكرتي بمزيد من العرض قائلا لها:
هيا يا ذاكرتي اروي قُصِّي لي اروي أحلامي الثكلى واحكي لي
اروي باسم الله معاني الحب قصي أول مشروع معلــــولِ
قصي سيرة أصحابٍ قد ختلوا لا تخفي عني مــا لا يبدو لــي
كانوا ثلاثة أصدقاء يضرب بصداقتهم المثل الأعلى , قلما يفترقون عن بعضهم , يتفادون بالأرواح من شدة الحب... في الصباح يذهبون إلى شركتهم العملاقة التي يعملون بها , وفي المساء يتسامرون , أو يلعبون النرد والشطرنج بين يدي مباريات كرة القدم...وهكذا مرت سنين من عمرهم على هذا الحال في محبة وانسجام وصداقة ووئام ..حتى ..
خطي يا أقلام الروح معاني الحب العذب وثوري
شقي دربا في الآفاق الآن وطيري
دُكِّي جُدَرَ الصَّمتِ ومدي في رحمِ الآفاقِ جسوري
يا عمر الحلم المأمولِ بأيام نشاطي وفتوري
يا نبض الإشراق الحر ويا نبض هناءٍ وسرورِ
اروي من ذاكرةِ التاريخ حياة المجد المطمور
وحياة الحب إذا أصبح كالمخمور وكالمغرور
فيضي خاطرةً ذاكرةً
في وجدان الكون أنيري
ثوري في وجه الكلمات وفي وجه السكنات
وفي وجه المكر المقهور
***
لظي ألفاظ الزيف وختل البسمات
ماذا تنتظرين أمام الإعصار الجارف
للقيم المثلى بصنوف الأزمات
فبكل لغات العالم ياأمةُ ثوري
سُليَّ سيف الحب وأسلحة الرحمات
احكي قصة أول حرف في تاريخي
قولي قصة أطماع التجار وطغيان المسؤول
احكي عن أندى قلب يعشقه قلب
يبكي فرحا يحمل تاجا من اكليل
قصة حمدان وكريم اروي
واروي قصة ناهد ةٍ وبتول
اروي من قاموس الذكرى قصة صفون وسمية
ذات العينين العسلية
حبا في ذاكرة التاريخ المنسية
قصي أيام مباهجنا
واروي أحلام مشاعرنا
للتاريخ وللأجيال
فيضي فيضي كالشلال
اروي الإشراق بنبض الحب ونبض الكره المشلول
قصي مائدة للأصحاب إذا احتكموا حال الإخفاق المسلول
فمتى ابتسموا ومتى اختصموا
هيا يا ذاكرتي الملأى بالصور الثكلى
قصي لي
هائل الصرمي
تعليق