عن الشاعر العربي الإفريقي السوداني الكبير محمد الفيتوري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ابراهيم خالد احمد شوك
    أديب وكاتب
    • 09-01-2012
    • 534

    عن الشاعر العربي الإفريقي السوداني الكبير محمد الفيتوري



    السيرة الذاتية:

    محمد مفتاح الفيتورى شاعر سوداني من مواليد الإسكندرية 1936 درس وحفظ القران الكريم بالمعهد الديني والازهر الشريف، ودرس بكلية دار العلوم وعمل محررا بالعديد من الصحف السودانية والمصرية. وعين خبيرا إعلاميا بالجامعة العربية ما بين عامى 1968 – 1970 م.ثم عمل مستشارا ثقافيا بسفارة ليبيا في إيطالياومستشارا وسفيرا بسفارة ليبيا في بيروت. كما عمل مستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب. حصل على جائزة الوسام الذهبى للعلوم والفنون والآداب (السودان) 1990. يعد الفيتورى أحد اقطاب الشعر السودانى المعاصر، وهو من جملة الأقران المجيدين في طلائع الحركة التجديدية أمثال السياب والبياتي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل.

    أما والده فالشيخ مفتاح رجب الفيتوري وكان خليفة خلفاء الطريقة العروسية ، الشاذلية ، الاسمرية وهو صوفي ليبي عبر بوابة الشمال الافريقي ويبدو ان وطأة الاحتلال الايطالي قبيل الحرب العالمية الاولى كانت سببا مباشرا في هجرة والد الشاعر واسرته الى غربي السودان.

    أما والدة الشاعر فهي الحاجة عزيزة علي سعيد من اسرة شريفة من قبيلة الجهمة ووالدها الشريف علي سعيد تاجر رقيق وعاج تزوج جارية وانجبت والدة الشاعر وهذه الجدة السوداء زهرة اسهمت اسهاما كبيرا في تشكيل وعي الشاعر فأورتث الشاعر عقدة العبودية حيث لازمه الشعور بالعبودية وهو يرى الابيض يستعبد ارضه ولهذه القصة حضور طاغ في تداعيات الشاعر ، فكانت البذرة النارية التي اشعلت روحه. انتقلت اسرة الشاعر من غربي السودان الى الاسكندرية وهناك تلقى الفيتوري تعليمه الاول حيث حفظ القران الكريم في الكتاب والتحق بالأزهر.
    ثقافته

    منذ الصغر كان الشاعر يقرأ عنترة العبسي والاميرة الناعسة وفيروز شاه وتنقل بين قراءة شرلوك هولمز وطرزان واطلع على الكتب المترجمة البعث وأنا كارنينا والحرب والسلام وفاوست ودرس في المعهد الثانوي في القاهرة كانت هذه الدراسة كفيلة بتنمية معارفه بالعلوم العربية والانسانية وكان شعوره بالغربة والحزن عميقا الشريف، ودرس بكلية دار العلوم وعمل محررا بالعديد من الصحف السودانية والمصرية. وعين خبيرا إعلاميا بالجامعة العربية ما بين عامى 1968 – 1970 م .ثم عمل مستشارا ثقافيا بسفارة ليبيا في إيطاليا ومستشارا وسفيرا بسفارة ليبيا في بيروت. كما عمل مستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب.
    عناصر شخصيته

    هناك محطات وقف الفيتوري عندها كان لها الاثر المهم في تشكيل فكره ومنها : (( أفريقيا ، العروبة ، البعد الصوفي )) أفريقيا المشهد الذي استوقف الشاعر طويلا انها محنة الانسان الافريقي المستعبد وتمرده ونضاله الباسل ضد المحتل الابيض والفيتوري بهذه الصرخات الافريقية اراد ان يكون محاميا لقارته السوداء وهو اول من غنى في العربية لافريقيا وعلاقة الحرية بالرؤية الافريقية شديدة الالتحام ان القضية تبدأ بالحرية أفريقيا لتنتهي بحرية الانسان وكرامة الانسان في كل ارض وزمان . المحطة الاخرى هي العربية التي وقف الشاعر طويلا يعيد تشكيل الواقع وهو المتفلت من أزمنة الرتابة العربية حيث لا يحفل كثيرا بتحديد الجنسية التي ينتمي اليها فهو شاعر وحسب ان الامتداد العربي يشكل اتجاها اخر في شعر الفيتوري الخارج من رحم المعاناة الافريقية لينغرس في واقع اخر أكثر ايلاما انه الواقع العربي المشوب بالخذلان .

    تتنازع الشاعر ثلاث جنسيات : السودانية ، الليبية ، المصرية ) ونرى الفيتوري يتغنى في شعره بأقطار الوطن العربي ويقف طويلا عند بعضها بتركيز كبير وهذه الاقطار هي ليبيا ثورة عمر المختار مصر (أغاني افريقيا ) السودان ( رسالة الى الخرطوم) فلسطين ( مقاطع فلسطنية ) .
    الفيتوري والصوفية

    هو صاحب تجربة صوفية غنية فهو ابن لاب صوفي وهو خليفة خلفاء الطريقة الاسمرية الشاذلية وقد تعلق بالصوفية مبكرا منذ ان كان طفلا وهو يعبر عن ذلك خلال تصريح له ورد في تضاعيف جريدة القدس في 25/1/2003م حيث يقول ( ومنذ دب الوعي في وجداني وبدات ادرك معنى الكلمات التي كان يرددها والدي ليلا مع زواره من ادعية وترانيم دينية تعلقت بما اسمع وبدات افكر تفكيرا تفكيرا عميقا لدرجة اني تركت اقراني في اللعب وانا طفل لانضم الى رفاق ابي في فناء البيت مستمعا ومستمتعا بايات الذكر الحكيم والتواشيح الصوفية والاوراد والقصص الدينية ) . بيد اننا نجد الفيتوري المتعلق بصوفيته يسخر هذه التجربة في خدمة النص الشعري بمعنى ان الفيتوري قد مزج بين التجربتين الصوفية والفنية ذلك لان التجربة الفنية تنتج وجودا يوازي الوجود المادي ويثريه بينما تكون التجربة الصوفية حالة الفناء التي ينعدم فيها الوجود المادي من بدايتها الى نهايتها . فصوفية الشاعر ليست الانجذاب الى مجموعة من الافكار المشوشة والاحاسيس التجريدية اننا ازاء صوفية متمردة تخلق من الوجود كائنا جديدا بثوب يلامس احتياجات الواقع برؤية اعمق وقيم اعلى . استخدم محمد الفيتوري الكثير من الرموز الدينية التي تختزنها الذاكرة الانسانية وفي محاولة الشاعر للبحث عن البديل ( المعادل النفسي نلمح حقيقة الشاعر المتشبت بأردان الماضي ذلك الماضي المتمثل بصورة الانسان الحر والمناضل الشريف والثائر الصلب تعويضا عن نقص حضاري وحلم مفقود وفي قصيدة عودة نبي التي كتبت في ذكر الشابي نقرأ : وعدت يا شابي في ناظر الاعمى وفي قلب الاصم عدت نبيا كالنبيين لو تدرك معاك عقول الوجود أراد الفيتوري ان يرصد براعته للتعبير عن آلام القارة السوداء ليكون صوتها الثائر الخوف من الرجل الابيض : وهي حالة متوارثة ، للابيض من سطوة وهيمنة على الاسود المبتذل في بلاد الزنوج المستعبد لذلك تتكرر صورة الطفل الذي يخاف من الرجل الابيض وقال طفل اسود : يا أبي اني اخاف الرجل الاحمرا فهو اذا ابصرني سائدا يبصق فوق الارض مستكبرا ولا تدعه يا ابي بيننا فهو غريب عن هذا الثرى اقتله ….اقتله ….. فيا طالما مزق اعماقي مستهترا نلاحظ من خلال هذه المقطوعة رؤية الفيتوري للرجل البيض الذي بقي ظله يرافقه منذ الصغر فهو مستبد متكبر يمثل بكرامة الانسان الاسود لان لونه ابيض ويركز على انه غريب عن بلاده ويدعو للثورة ضد هذا المستبد .
    مثال من أشعاره

    نموذج من قصائد الفيتوري وقد اخترت قصيدة ” موت الملك سليمان ” لقد حاول الشاعر ان يقنع نصه كاملا بقصة نبي الله سليمان عليه سلام الذي ورث النبوة من أبيه داود عليه السلام يقول الله عز وجل ( وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا الطير وأوتينا من كل شيء ان هذا لهو الفضل المبين ). يبدأ الشاعر نصه بالحديث عن التعب الذي كان يلاقيه الجن من العمل لسليمان عليه السلام مؤكدا لو ان الحراس اكتشفوا موت النبي لما عملوا : لو ان الجسد الملقي على كرسيه مال قليلا لاستيقظت من نومها مدينة النحاس واستغرق الحراس في البكاء والضحك فزائر الموت الذي زار سليمان الملك كان ثقيلا وسليمان الملك مات طويلا ! وهذا ما أورده القران الكريم جملة ونصا ( فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) ولعل الربط القائم بين النصيين القراني والشعري يهدف الى اعادة تشكيل افاق اللغة من خلال عمليات تفجير هادئة او ما يسمى بالمهمة الهادفة للأدب فتبدو العلاقة القائمة بين نصيين هي علاقة امتصاص تفاعل الايجابي بين النصيين للغائب والحاضر وقد سعى الى انتاج نص ذي دلالات جديدة ولم يكن اسير حلقة للعقل التاريخي كما ورد في القران الكريم فالملك سليمان أضحى رمزا للملك الذي يمتلك ادوات القوة والسيطرة ولكن ذلك لا يمنع من وجود عدد من المتربصين الذين يرقبون زوال الحكم . وترد اشارة اخرى في النص الشعري تتعانق مع النص القراني تتمثل بذكر الاعداد الكبيرة من العمال والحراس الذين يأتمرون بأمر سليمان وهذا ما ورد في القران الكريم ( ومن الشياطين من يغوصون له ويعلمون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ) وفي نص شعري : خمسون ألف مارد ينتظرون الاذن بالمثول تسعون ألف مارد يرقب عرس الشمس بذهول وترتبط بقصة الملك سليمان قصة اخرى على تماس معها هي قصة بلقيس رمز شرعية دلالية جديدة وهي ايمانا بأن الرموز الدينية الكبرى تمارس وظيفة في اطار ثقافة عامة وتنتج مدلولات أدبية جديدة وهي متقلبة كرمز لانها رمز شعري لحشد من خلاله الشاعر مواقف وتأثيرات نفسية . وبلقيس عند الفيتوري تبدو عكس الموروث قرانيا اذ يصورها معذبة وحينها نتسائل عن سبب هذا العذاب ليس هناك سبب سوى احتضار الملك سليمان الذي استعار الشاعر عنه بلفظ شمس والشمس في معارج اكتمالها متحجبة تغسل جدران المدافن المذهبة وعرس بلقيس الجميلة المعذبة والمدن الكبرى التي تسقط تحت عجلات المركبة وبلقيس تحمل دلالة رمزية فهي الامة المنتشية المزهوة بفارسها وفجأة يسقط الفارس وتغيب الشمس فسليمان كان شمس الحكمة والعدل وبلقيس عذرية الامة التي تستباح بعد ان تفقد فارسها والحراس ينتظرون بشوق ساعة السقوط وبع ذلك يمتد السقوط ليشمل بقية المشهد . يقول الشاعر : المدن الكبرى هي الحضارات المتألقة التي تشهد اندثارا وانهزاما أمام حضارة المركبة الحضارة الحديثة . المعجم اللفظي : لقد انطلق الشاعر في جل معالجاته من واقع مأزوم ومهزوم سيطر على الشاعر وبالتالي على معجمه اللغوي فكان معجمه تعبيرا عما يعانيه وكان استخدامه للغة سهلة والتي جاءت نتيجة لنزعة الشاعر الواقعية استحقاقا لمقتضيات الواقع وانغراسا في هموم الامة. التراكيب : التراكيب الدينية تشكل المساحة الاكبر استحضارات الشاعر فهو يستلهم مضامين بعض القصص لتعميق رؤية معاصرة يراها في الموضوع الذي يطرحه أو القضية التي يعالجها اذن هذا الاستحضار يلقي بها بتعزيز موقف من الرؤى والمفاهيم التي يطرحها في نصه . ان الفيتوري شاعر استطاع ان يتبث وجوده من خلال ايمانه بقارته السوداء ومبادىء سار عليها وتوظيفه للرموز بطرقة قصصية مبدعة فمن خلال البحث عن قصائده استمتعت بقراءة عدد من قصائدة واحيانا تكون اقرب للنثر من الشعرلكن في طياتها تحمل رؤية وفكر شاعر عاش وعاصر الكثير من الاحداث والوقائع التي تجعله كفيلا ان يكون شاعرا يطبق ما يؤمن به .
    مثال آخر

    في حضرة من اهوى عبثت بي الاشواق

    حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق

    وزاحمت براياتى وطبولى الافآق

    عشقي يفني عشقى وفنائي استغراق

    مملوكك لكني سلطان العشاق
    دواوينه الشعرية

    أغانى إفريقيا 1955.
    عاشق من إفريقيا 1964.
    اذكرينى ياإفريقيا 1965.
    أحزان إفريقيا 1966.
    البطل و الثورة و المشنقة 1968.
    سقوط دبشليم 1969.
    سولارا (مسرحية شعرية) 1970.
    معزوقة درويش متجول 1971.
    ثورة عمر المختار 1973.
    أقوال شاهد إثبات
    ابتسمى حتى تمر الخيل 1975.
    عصفورة الدم 1983.
    شرق الشمس… غرب القمر 1985.
    يأتى العاشقون إليك 1989.
    قوس الليل… قوس النهار 1994.
    أغصان الليل عليك
    يوسف بن تاشفين (مسرحية) 1997.
    الشاعر واللعبة (مسرحية) 1997.
    نار في رماد الأشياء
    عريانا يرقص في الشمس 2005.

    حواره مع جريدة الخليج الاماراتية

    يعد الشاعر محمد الفيتوري واحدا من رواد الشعر العربي الحديث، وأحد الذين قادوا حركة الشعر على مدى خمسين عاما، وقد عبرت دواوينه وخاصة الأولى منها عن جانب يتميز به عن غيره من الشعراء، حيث احتفى بالبعد الإفريقي في شخصيته وشعره فكتب ديوانه “أغاني إفريقيا” ،1956 و”عاشق من إفريقيا” ،1964 وكذلك “اذكريني يا إفريقيا” ،1965 كما كتب مسرحية “أحزان إفريقيا”.هنا نص الحوار مع الشاعر محمد الفيتوري.

    هناك بعد إفريقي في شعرك، فهل ترى بعداً إفريقياً للثقافة العربية، وهل هناك شعراء آخرون من السودان وشمال إفريقيا لديهم هذا البعد في قصائدهم؟

    سؤالك على أهميته اشبه في تقديري بطائر متعدد الأجنحة، بمعنى أن الجانب الخاص بي كشاعر ضمن هذا السؤال وثيق الصلة، وفي نفس الوقت بعيدها عن الجانب الآخر الخاص بموقعي من الحركة الشعرية العربية المعاصرة، وباختصار أقول إن هناك أبعادا إفريقية عديدة كلها تنطلق وتصب فيما يسمى بالبعد الإفريقي، العمق الإفريقي، والتأثير الإفريقي، والمنبع الإفريقي، والفضل في ذلك لا يرد لي ولكن يرجع إلى الدماء العديدة التي تسربت إليّ من آباء عديدين وثيقي الصلة بأرضهم غرباء الآن عن هذا التاريخ والواقع الذي اعيشه، فأقول لك لانني نشأت فيها منذ الشهور الأولى وتعلمت الحروف الأولى وتربيت على أيدي أساتذتها وفقهائها وحفظت القرآن الكريم، وتخرجت في معهدها الديني، ثم انتقلت منها إلى القاهرة وعمري لم يتجاوز الرابعة عشرة، وكنت قد بدأت في كتابة بضعة أبيات شعرية تقليداً لأشعار شعراء قرأت لهم، ابرزهم، في تقديري، الشعراء السود مثل “عنترة بن شداد، وسحيم عبد بني حسحاس، والسليك وغيرهم من الشعراء الزنوج، بالإضافة إلى شاعر عندما فتحت عيني وجدته وهو الشاعر المصري إمام العبد”.

    يقول البعض إن الشعر السوداني اختصر في محمد الفيتوري، فما رأيك في هذا القول؟ وهل ترى ظهورا واضحا لشعراء آخرين في السودان من بعدك؟

    كان هناك قبلي في السودان شاعر كبير يجب أن يذكر الآن وهو “التيجاني يوسف بشير”، صدر ديوانه الأول “إشراقة” بعد وفاته، وكان لهذا الشاعر علاقة وثيقة بالثقافة المصرية، وكان أحد الشعراء الثلاثة الموهوبين في ثلاثينات القرن ال،20 وهم رواد الشعر العربي الحديث في رأيي الذين كان توجههم إنسانيا رومانسيا وهم بجانب التيجاني أبو القاسم الشابي التونسي، والمصري محمد عبد المعطي الهمشري، وهم الذين مهدوا الطريق أمامنا وعرفنا من خلالهم أن للشعر قضايا، وهم الذين كانوا نواة لمدرستي “الديوان وأبوللو” اللتين كانتا خلاصة لمدارس أخرى نشأت في الغرب وهي “مدرسة شعراء المهجر” مثل جبران خليل جبران وغيره، الذين تعرفوا على المجتمع الغربي وغيروا الشكل في القصيدة، ولقد تأثرت شخصيا بأحدهم وهو الشاعر ميخائيل نعيمة.

    وقد جاء من بعدي شعراء سودانيون بالطبع، حيث إن الأرض ولادة كما يقولون وقد كان رفيقي الشاعر محيي الدين فارس شفاه الله- وأيضا صلاح احمد إبراهيم تغمده الله برضوانه- وهناك شعراء الآن في السودان منهم “صديق المجتبي”، وكذلك الشعراء روضة الحاج وهي مذيعة وشاعرة، هاجر سليمان، عبد القادر الكتيابي، وخالد فتح الرحمن.

    كيف ترى موقف النقاد والنقد من أعمالك الإبداعية؟

    لا اعرف في الحقيقة البواعث التي تدفع النقاد المصريين إلى تجاهل اسمي عندما يكتبون عن واقع الثقافة المصرية، وعن شعرائها وابرز من فيها من المبدعين، يجب أن يفهم هؤلاء النقاد أنني شاعر عربي ينتمي إلى دماء سودانية وليبية، ولكني في الحقيقة شاعر أنتمي إلى الفكر والثقافة المصريين وكذلك التراث المصري، ولا اعلم إن كان تجاهلهم هذا من باب الحسد أو الحقد أو الغيرة، وانا في رأيي انه ليس هناك نقاد حقيقيون في هذه المرحلة.

    ليس هناك تواصل حقيقي وبالدرجة المطلوبة بين الحركات الثقافية في البلدان العربية، فكيف في رأيك يمكن تحقيق هذا التواصل؟ وهل تقوم بدور من اجل تحقيق ذلك كشاعر ودبلوماسي؟

    التواصل في الحقيقة قائم، التواصل التاريخي، الحضاري والواقعي ما بين الحركات الثقافية العربية في مختلف بقاع الوطن العربي لا يزال قائما، لكن المشكلة هي مشكلة الأنظمة الحاكمة والمتحكمة، فهي التي تقيم هذه الحواجز الوهمية، وبالتالي تفصل ما بين منطقة وأخرى بين بؤرة فكرية وأخرى، وعندما يلتقي نظامان تتساقط الحواجز مثل الحال بالنسبة لسوريا ولبنان على سبيل المثال، لكن عندما يحدث تنافر بين نظامين تقوم هذه الفواصل بينما هي غير موجودة في أذهاننا وأفكارنا وتوجهاتنا وأهدافنا نحن الشعراء، وانا ارى أن معظم هذه النظم اقيمت من اجل أن تقيم هذه الفواصل حتى لا تحدث وحدة الفكر والرؤية والهدف في المنطقة.

    ولقد عملت في الصحافة المصرية تحت رئاسة الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، والصحافي كامل الشناوي، وأبو الخير نجيب وفي ظل الكاتب العظيم سيد قطب الذي كان يرأس مجلة “الدعوة”، كما عملت في الصحافة السودانية كرئيس تحرير لعدد من الصحف مثل صحيفة “التلغراف” و”هنا أم درمان”، و”حزب الأمة” رغم أنني لم اكن عضوا به، كما عملت في جامعة الدول العربية.

    هل اثر اشتغالك بالعمل الدبلوماسي على إبداعك الشعري؟

    أفادني العمل الدبلوماسي كشاعر لأنه أتاح لي التنقل، فقد كنت من قبله غير قادر على ذلك بسهولة، فأصبحت الآن قادرا على التنقل من السودان إلى بيروت، ومن المغرب إلى أوروبا وهكذا، وبالتالي أتيحت لي فرصة الاطلاع على الكثير من الأعمال والالتقاء بالكثير من الشعراء والأدباء والسياسيين، وأن أرى الأشياء على حقيقتها، وأرى الواقع أمامي وهو يمشي على قومية ويتنفس في وجوه الناس والحيوات المختلفة، وانا اعرف كثيرين من اصدقائي الشعراء لم يستطع احدهم الخروج من قريته.

    يرى أبناء جيلك من الشعراء العرب أن قصيدة النثر ابن غير شرعي لقصيدة التفعيلة؟ فكيف تراها أنت؟

    انا أرى أن الشعر هو الشعر، حتى لو كان نثرا أي يخلو من التفاعيل والأوزان ولكنه يحمل جوهر الشعر، هنا يتحول من النثر إلى الشعر، فالروح الشعرية هي التي تحدد قيمة القصيدة فهل يمكن أن نقول إن ناظم حكمت الشاعر التركي الذي ترجمت أشعاره نثرا، ليس شاعرا؟

    ليست المسألة شكلية، فالإيقاع يجب أن يكون في رؤى الكلمات وليس فقط إيقاعا خارجيا وبحورا وتفاعيل.

    هل كان لبعدك عن السودان تأثير في شعرك؟ وهل تتابع الحركة الثقافية في السودان؟

    ربما اثر إيجابيا لأنه اتاح لي الفرصة للتعرف إلى شعوب وثقافات وقيم أخرى واتصل بشعراء اخرين، وأقرأ كتبا، فعندما خرجت من السودان وتنقلت بين البلاد أصبحت قصائدي تتجه اكثر نحو الموضوع والتجربة، ولأنني عندما أكون بمصر اصبح مصريا وفي ليبيا أكون ليبيا وهكذا لذلك لم تكن قصيدتي “منفى”، فأنا دائما اشعر بالانتماء إلى كل ارض عربية أعيش عليها.

    وأنا اتابع الحركة الثقافية السودانية باهتمام وربما لا يعلم كثيرون اني كنت منذ قرابة ثلاثة اشهر احد الذين وقفوا في منبر للشعر بالسودان بدعوة من السيد عبد الباسط عبد الماجد وزير الثقافة السوداني والتقيت هناك بالرئيس “البشير”، وشكرته لمنحي وساما، والقيت قصائدي ومنها قصيدة كتبتها في رحيل الشاعر الأديب والمفكر العظيم د. عبد الله الطيب.

    بماذا تفسر غرق بعض الكتاب في الكتابة عن الذات والجسد في زمن يموج بأحداث لا يمكن تجاهل خطورتها على المنطقة العربية؟

    من حق أي كاتب أن يري الحياة عيونا زرقاء، وصفراء، وحمراء، أو لا يراها على الإطلاق، وان يكتب ما يشاء، لكن عند لحظة بعينها يجب أن نتجه جميعا اتجاها واحدا مثلما آمنا يوما ما بالله ونؤمن بالوطن والحرية والديمقراطية والعدالة، ونؤمن بضرورة تخلص هذا الواقع العربي من التخلف والرداءة.

    ينظر بعض النقاد إلى الحداثة وما بعدها كبطاقة مرور لأي عمل أدبي، فما رأيك؟ وهل ترى أن النقد الأدبي يسهم بدوره في تطوير الحياة الأدبية؟

    الحداثة في رأيي تنشأ من التراث المتجه نحو المستقبل من اجل رفعة الإنسان وحريته، أما أن تكون الحداثة هي الانتقال من سيد درويش ومحمد عبده إلى “شعبولا” و”روبي”.. الخ، فهذه ليست حداثة لكنها سقطة من سقطات التاريخ التي تمر مثل أي شيء، وعندما أقرأ للشاعر “مهيار الديلمي” وهو شاعر قديم فارسي، وهو يقول لحبيبته:

    الصَّبا إن كان لابد الصَّبا

    إنها كانت لقلبي أروحه

    هل هذا الشعر قديم أم حديث، اسألي هؤلاء الأدعياء، فالحداثة تعني التجديد، والتجديد مستمر والحداثة في عصرها تبقى حداثة كل العصور، فالحداثة لا عمر لها.

    أما عن النقد والنقاد، فأنا أرى انه لا نقاد حقيقيين الآن، فإما هم مأجورون أو موظفون أو تابعون، وهكذا هم جميعا بلا استثناء، فعندما كنت صغيرا ومجهولا كشاعر، كان هناك عباس محمود العقاد، وسلامة موسى، ومحمد مندور، والشوباشي، ثم محمود امين العالم وغيرهم، حيث كانت تهمهم الموهبة لا الشخص.


    منقول :
    http://www.sudanile.com/2008-05-19-19-45-21/39586-2012-04-29-06-16-56.html
    التعديل الأخير تم بواسطة ابراهيم خالد احمد شوك; الساعة 08-05-2012, 17:58.
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    متَّعك الله بالصحة والعافية أخي إبراهيم
    وكل الشكر لك لتسليط الضوء على الشاعر
    الكبير محمد الفيتوري رحمة الله عليه
    من التراب وإلى التراب نعود

    فوزي بيترو

    تعليق

    • ابراهيم خالد احمد شوك
      أديب وكاتب
      • 09-01-2012
      • 534

      #3
      لا..لا تحفروا لي قبراً
      سأركض في كل شبر من الأرض
      أركض كالماء في جسد النيل
      أركض كالشمس فوق حقول بلادي
      مثلي انا..ليس يسكن قبرا
      لقد وقفوا و وقفت
      لماذا يظن الطغاة الصغار ان موت المناضل موت القضية
      اعلم سر احتكام الطغاة الى البندقية
      لا خائفاً
      ان صوتي مشنقة للطغاة جميعا
      ولا نادما
      ان روحي مثقلة بالغضب
      كل طاغية صنم
      دميةٌ من خشب





      تعليق

      • ابراهيم خالد احمد شوك
        أديب وكاتب
        • 09-01-2012
        • 534

        #4
        الفيتورى ..عرس السودان

        في زمن الغربة والإرتحال

        تأخذني منك وتعدو الظلال

        وأنت عشقي

        حيث لا عشق يا سودان

        إلاّ النسور الجبال

        يا شرفة التاريخ

        يا راية منسوجةً

        من شموخ النساء

        وكبرياء الرجال

        ***

        لمن تُرى أعزف أغنيّتي

        ساعة لا مقياس إلاّ الكمال

        إن لم تكن أنت الجمال

        الذي يملأ كأسي فيفيض الجمال

        ***

        فداً لعينيك الدماء

        التي خطّت على الأرض

        سطور النضال

        داست على جلاّدها

        وهي في سجونه

        واستشهدت بجلال

        ***

        فداً لعيني طفلة

        غازلت دموعها

        حديقةً في الخيال

        شمسك في راحتها

        خصلة طريّة

        من زهر البرتقال

        والنيل ثوبٌ أخضرٌ

        ربّما عاكسه الخصر

        قليلاًَ فمال

        ***

        كان اسمها أم درمان

        كان اسمها الثورة

        كان العرس عرس الشمال

        كان جنوبيّاً هواها

        وكانت ساعة النصر

        إكتمال الهلال

        فداً لك العمر

        ولو لا الأسى

        لقلت تفديك

        الليالي الطوال

        فداً لك العمر

        تعليق

        • ابراهيم خالد احمد شوك
          أديب وكاتب
          • 09-01-2012
          • 534

          #5
          الفيتورى ..الى نيلسون مانديلا


          سـاكـن’’ أبـداً فـي طـقوسك
          مـــثــل إله.قـــديــم
          يُـرصـعه ذهــب الـشـمس
          يـا أَبـنُوس الـخريف الجنوبي
          كــيـف جــلال الـشـهادة
          إن لـــم تــكُـن أنـــت
          تــولـد فـــى الــمـوت
          تـكـبـر فـــى الــمـوت
          تطلع حقل نجوم على حائط الموت
          تُـصـبح أوسـمةً مـن بُـروقٍ
          وعـاصـفـةَ مـــن غـنـاء
          وغـاباً عـظيماً مـن الـرقص
          أذهـلـتـني فــي نـضـالك
          تـدمـغ أعـناق مـن دمـغوك
          وتـسجن في العصر من سجنوك
          وأنـــت سـجـين هـنـالك
          أغـرقـتـني فــى اكـتـمالك
          مــــانـــديــلا
          مــــانـــديــلا
          ***
          إنــمـا يـحـصـد الـقـهر
          مـن يـزرع الـقهر فـي زمني
          إنــمـا يـلـبـس الـخـوف
          مـن يـنسج الـخوف فـي بدني
          إنـمـا الـموت مـوت ابـتلائى
          أمــــا أنـــا فـسـابـقى
          أراقـــــص حــريـتـي
          وأدافـع بـين هـدير الـملايين
          عــــــن وطـــنـــى
          ***
          مــــانـــديــلا
          مــــانـــديـلا
          إنَّ حـريتي هى ميراث أرضي
          ومـــعـجـزتـي
          وتـــوهُّــجُ دربـــــي
          مــــانـــديــلا
          إن حـريـتي هــى حـريتي
          فـــي خــلـود نـضـالـي
          وفـــي عـبـقرية شـعـبي
          مــــانـــديـــلا
          إن حـريتي هي بدئي وخاتمتي
          وهــي ديـني الـعظيم وربـيَّ
          ***
          وكــيـف تـكـونُ سـجـيناً
          وأنـت هـنالك تـرسم وجـهك
          فـــي شـهـقات الـصـبايا
          وأدخـنـة الـغـرف الـمعتمات
          وفـــوق رمــاد الـمـناجم
          كــيـف تــكـون سـجـيناً
          وهُــــم يـلـهـثون وراءك
          تـحـت جـسـور بـريـتوريا
          وبـنـايـاتـها الـراعـشـات
          وأنــت تُـكـافئهم بـالـهزائم
          مــــانـــديــلا
          أيــهـا الـبـطـلُ الـشـيخُ
          مُـغْـتسلاً بـمـياه الـثـمانين
          مُـخـتـبئاً فـــي تـجـليك
          أنـهـكـني ســفـرى فـيـك
          أعـرف أنـك ضوء على زمنى
          هـــكـــذا أنـت
          فـامـكـث كــمـاأنـــت
          كُـن هـكذا خـالداً فـي معانيك
          مـتـكئاً فـوق مـجد الـثمانين
          وابــــــق مــكــانـك

          تعليق

          • عبد الرحيم محمود
            عضو الملتقى
            • 19-06-2007
            • 7086

            #6
            شكرا لك أخي إبراهيم أحمد الغالي
            لفت نظرنا لنقف لحظة احترام
            لشاعر عربي له إسهاماته في
            خدمة الكلمة / تحيتي .
            نثرت حروفي بياض الورق
            فذاب فؤادي وفيك احترق
            فأنت الحنان وأنت الأمان
            وأنت السعادة فوق الشفق​

            تعليق

            • ابراهيم خالد احمد شوك
              أديب وكاتب
              • 09-01-2012
              • 534

              #7
              التراب المقدس


              وَسِّدْ الآنَ رَأْسَكَ
              فَوْقَ التُّرَابِ المقدَّس
              وَاركَعْ طويلاً لَدَى حَافَةِ النَّهْرِ
              ثَمَّةَ من سَكَنَتْ رُوحُهُ شَجَرَ النِّيلِ
              أَوْدَخَلتْ في الدُّجَى الأَبنوسيّ
              أَوْخَبَّأَتْ ذَاتَها في نُقُوشِ التَّضَارِيس
              ثَمَّةَ مَن لَامَسَتْ شَفَتَاهُ
              القرابِينَ قَبْلَكْ
              مَمْلكةُ الزُّرْقَةِ الوثنيِة...
              قَبْلكَ
              عاصِفَةُ اللَّحَظاتِ البطيئِة..
              قَبْلكْ
              يا أيُّها الطيْفُ مُنْفلِتاً مِنْ عُصُورِ الرَّتَا بِةِ والمسْخِ
              مَاذا وراءك
              في كتب الرمل؟
              ماذا أمامك؟
              في كتب الغيم
              إلاّ الشموس التي هبطت في المحيطات
              والكائنات التى انحدرت في الظّلام
              و امتلاُؤك بالدَّمْع
              حتَّى تراكمت تحت تُراب الكلام
              ****
              وسد الآن راسك
              متعبة’’ هذه الرأس
              مُتعبة’’..
              مثلما اضطربت نجمة’’ في مداراتها
              أمس قد مَرّ طاغية’’ من هنا
              نافخاً بُوقه تَحت أَقواسها
              وانتهى حيثُ مَرّ
              كان سقف رَصَاصٍ ثقيلاً
              تهالك فوق المدينة والنّاس
              كان الدّمامة في الكون
              والجوع في الأرض
              والقهر في الناس
              قد مرّ طاغيةُ من هُنا ذات ليل
              أَتى فوق دبّابةٍ
              وتسلَّق مجداً
              وحاصر شعباً
              غاص في جسمه
              ثم هام بعيداً
              ونصَّب من نفسه للفجيعة رَبَّا
              ****
              وسد الآن رأسك
              غيم الحقيقة دَربُ ضيائك
              رجعُ التَّرانيم نَبعُ بُكائك
              يا جرس الصَّدفاتِ البعيدة
              في حفلة النَّوْء
              يشتاقك الحرس الواقفون
              بأسيافهم وبيارقهم
              فوق سور المدينة
              والقبة المستديرة في ساحة الشَّمس
              والغيمةُ الذَّهبيَّةُ
              سابحة في الشِّتَاءِ الرمادي
              والأفق الأرجوانى والارصفة
              ورؤوس ملوك مرصعة بالأساطير
              والشعر
              والعاصفة
              ***
              أمس جئت غريباً
              وأمس مضيت غريباً
              وها أنْتَ ذا حيثما أنت
              تأتي غريباً
              وتمضي غريباً
              تُحدَّق فيك وجوه الدُّخَانِ
              وتدنو قليلاً
              وتنأى قليلا
              وتهوى البروق عليك
              وتجمد في فجوات القناع يداك
              وتسأل طاحونةُ الرِّيح عَنك
              كأنك لم تكُ يوماً هناك
              كأن لم تكُنْ قطُّ يوماً هنالك
              ***
              وَسِّد الآن راسك
              في البدء كان السُكُونُ الجليل
              وفي الغد كان اشتعالُك
              وسد الآن رأسك
              كان احتجابُك
              كان غيابُك
              كان اكتمالك
              ***
              وسد الآن راسك
              هذا هو النهر تغزلهُ مرتين
              وتنقضه مرتين
              وهذا العذاب جمالُك


              http://www.youtube.com/watch?v=x6CswbO1LQw
              التعديل الأخير تم بواسطة ابراهيم خالد احمد شوك; الساعة 29-04-2012, 13:01.

              تعليق

              • ابراهيم خالد احمد شوك
                أديب وكاتب
                • 09-01-2012
                • 534

                #8
                طفل الحجارة


                ليس طفلا ذلك القادم فى أزمنة

                الموتى الهىّ الأشارة

                ليس طفلاً وحجاره

                ليس بوقاً من نحاس ورماد

                ليس طوقاً حول أعناق الطواويس محّلى بالسواد

                انه طقس حضارة

                انه العصر يغطى عريه فى ظل موسيقى الحداد

                ليس طفلاً ذلك الخارج من قبعه الخاخام

                من قوس الهزائم

                انه العدل الذى يكبر فى صمت الجرائم

                انه التاريخ مسقوفاً بازهار الجماجم

                انه روح فلسطين المقاوم

                انه الأرض التى لم تخن الأرض

                وخانتها الطرابيش

                وخاننتها العمائم

                انه الحق الذى لم يخن الحق

                وخانته الحكومات

                وخانته المحاكم

                ***

                فانتزع نفسك من نفسك

                واشعل أيها الزيت الفلسطينى أقمارك

                وأحضن ذاتك الكبرى وقاوم

                وأضىء نافذة البحر على البحر

                وقل للموج ان الموج قادم

                ليس طفلاً ذلك القادم

                فى عاصفة الثلج وأمواج الضباب

                ليس طفلاً قط فى هذا العذاب

                صدئت نجمة هذا الوطن المحتل فى مسراك

                من باب لباب

                مثل شحاذ تقوست طويلاً فى أقاليم الضباب

                وكزنجى من الماضى تسمرت وراء الليل

                مثقوب الحجاب

                ***

                ليس طفلاً يتلهى عابثاً

                فى لعبة الكون المحطّم

                أنت فى سنبلة النار وفى البرق الملثم

                كان مقدوراً لأزهار ك وجه الأعمدة

                ولأغصانك سقف الأمم المتحدة

                ولأحجارك بهو الأوجه المرتعده

                ***

                ليس طفلاً

                هكذا تولد فى العصر اليهودى وتستغرق

                فى الحلم أمامهْ

                عاريا الأّ من القدس ومن زيتونه

                الأقصى وناقوس القيامه

                شفقياً وشفيفاً كغمامة

                واحتفالياً كأكفان شهيد

                وفدائياً من الجرح البعيد

                ولقد تصلبك النازية السوداء فى

                أقبية العصر الجديد

                فعلى من غرسوا عينيه بالقضبان أن

                لا يتألم

                وعلى من شهد المأساةَ

                أن لا يتكلم

                تعليق

                • ابراهيم خالد احمد شوك
                  أديب وكاتب
                  • 09-01-2012
                  • 534

                  #9
                  قصيدة الرياح

                  رُبَّمَا لمْ تَزَلْ تلكم الأرض

                  تسكن صورتها الفلكية

                  لكن شيئاً على سطحها قدْ تكسَّر

                  رُبَّمَا ظل بستانُ صيفك

                  أبْيضَ في العواصف

                  لكنَّ بْرقَ العواصف

                  خلف سياجكَ أحْمر

                  رُبَّمَا كانَ طقسُك ، ناراً مُجوسِيَّةً

                  في شتاءِ النعاس الذي لا يُفَسَّرْ

                  رُبَّما كُنْتَ أَصغر

                  ممَّا رَأَتْ فيكَ تلك النبواءتُ

                  أَو كنتَ أكْبَرْ

                  غير أنك تجهل أَنَّك شَاهِدُ عَصْرٍ عتيقْ

                  وأن نَيازِكَ مِنْ بشرٍ تتحدَّى السماء

                  وأن مَدَارَ النجوم تغير!!

                  هَاقَدْ انطفأتْ شرفاتُ السِّنين

                  المشِعَّةُ بالسِّحْرِ واللُّؤْلؤ الأَزليِّ

                  وَأَسْدَلَ قصْرُ الملائكة المنشِدينَ سَتائِرِهُ

                  وكأنَّ يَداً ضَخْمَةً نسجت

                  أُفقاً مِنْ شرايينها

                  في الفضَاءِ السَّدِيمىّ

                  هَا قَدْ تداخَلَتْ اللُّغَةُ الْمُستحِيلةُ

                  في جَدَل الشمْسِ وَالظُّلمَات

                  كأنَّ أصابعَ مِنْ ذَهبٍ تَتَلَمَّسُ

                  عبر ثقوب التضاريس

                  إيقَاعَهَا

                  تَلِْكُمْ الكائِنَاتُ التي تتضوَّعُ في صَمِتَها

                  لم تُغَادِرُ بَكاراتَها في الصَّبَاح

                  وَلَمْ تشتعل كرة الثَّلْجُ بَعْد...!

                  فَأَيَّةُ مُعْجِزَةٍ في يَدَيْك

                  وَأَيَّةُ عَاصَفَةٍ في نَهَارِكْ

                  ((إنِّي رأيتُ سُقُوطَ الآله

                  الذي كانَ في بُخارِسْت

                  كما لوْ بُرْجُ إيفل في ذات يَوْمٍ

                  كما لوْ طغَى نَهْرُ السِّين

                  فوْقَ حوائطِ باريسْ

                  كانَ حَرِيقُ الإله الذي

                  مَاتَ في بُوخَارِسْتَ عَظيماً

                  وَكانَ الرَّمادُ عَظِيماً

                  وَسَالَ دَم’’ بَارد’’ في التُّرَابْ

                  وَأُوصِدَ بَابْ

                  وَوُرِبَ بَابْ

                  وَلكنَّ ثَمَّةَ في بوخارِسْت بلادي أنَا

                  لا تزولُ الطَّواغِيتْ

                  أَقْنِعَة’’ تشرِكُ الله في خَلقه

                  فهي ليستْ تشيخ

                  وليْسَتْ تَمُوتْ!

                  وَقَائمةُ هي ، باسم القضيَّة

                  وَْأَنْظِمةِ الخطب المِنْبَريَّة

                  وَحَامِلة’’ هى ، سِرَّ الرِّسَالةُ

                  وَشَمْسَ العدالةْ

                  وَقَادِرة’’ هي ، تَمْسَخُ رُوحَ الجمالْ

                  ولا تعرف الحقَّ

                  أو تعرف العدل

                  أوْ تَعرِفُ الاسِتقَاله

                  وفي بوخارسْت بلادي

                  أَزْمِنَة تكنِزُ الفَقْرَ خَلفَ خَزَائِنِها

                  وَسُكون’’ جَرِيحْ

                  وَأَشبَاحُ مَوْتَى مِنَ الجُوع

                  تخضرُّ سيقانهم في الرمالْ

                  وتَيْبَسُ ثُمَّ تقِيحْ!

                  وَمَجْد’’ من الكبرياءِ الذليلة

                  وَالْكذِب العربيِّ الفصيحْ

                  ((كأنّك لمْ تأتِ إلاَّ لِكيْ تُشعِلَ النَّارَ

                  في حطب الشَّرقِ وَحْدك

                  في حطب الشرقِ وَحْدَكَ

                  تَأْتِي..

                  وَشَمْسُكَ زَيُتُونَة’’

                  وَالبَنَفْسَجُ إكليلُ غَارك

                  ولا شيء في كُتبِ الغَيْبِ غَيرُ قَرَارِكْ))

                  ((إنِّي رَأيتُ رِجَالاً

                  بَنَوْا مِنْ حِجَارة تارِيِخهِمْ وطناً

                  فَوْقَ حائِط بَرْلين

                  وَانْحَفَرُوا فيه

                  ثم تَوَارَواْ وَرَاءَ السِّنين

                  لكيْ لا يُنَكِّس رَايَتَهُ المَجْدُ يوماً

                  على قُبَبِ الميِتِّينْ

                  وكيلاَ تَدُورَ على الأَرْضِ

                  نَافَورَةُ الدم والياسمين!))

                  وفي بُوخَارِسْتَ التي

                  سَكَبَتْ رُوحَهَا فيك

                  وَازْدَهَرَتْ في نُقوش إزارِكْ

                  في بُوخارِسْتَ انتظَارِكْ

                  سماء’’ تكادُ تَسيل احْمِرَاراً

                  وَأيدٍ مُقَوِّسَة’’ تَتَعانَقُ خَلْفَ الغيومْ

                  وَآجُرَّةُ مِنْ تُرابِ النُّجُومْ

                  تَظَل تُبعثِرُهَا الرِّيحُ

                  خَلْفَ مَدَارِكْ!

                  تعليق

                  • المختار محمد الدرعي
                    مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                    • 15-04-2011
                    • 4257

                    #10
                    شاعر فذ ستظل كتاباته خالدة مثل كل عمالقة الشعر العربي
                    الكثير منا أحيانا لا يحس برحيلهم من خلال كتاباتهم
                    التي تنبض حياة و تجددا
                    [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                    الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                    تعليق

                    • ابراهيم خالد احمد شوك
                      أديب وكاتب
                      • 09-01-2012
                      • 534

                      #11
                      توضيح من اتحاد الكتاب السودانيين حول نبأ وفاة الشاعر الكبير الفيتوري

                      سودانايل تعتذر لنقل خبر الوفاة نقلا عن العديد من المواقع الالكترونية وتسأل الله أن يمتع الفيتوري بالصحة والعافية

                      ظل اتحاد الكُتّاب السودانيين ومنذ ليلة السبت 28 أبريل الجاري يتابع وبشيء من القلق، الأنباء المتواترة عن وفاة شاعرنا الكبير وشاعر أفريقيا محمد مفتاح رجب الفيتوري المقيم في المملكة المغربية، وكان الاتحاد ومنذ فترة طويلة يراقب أحواله الصحية في مقر إقامته في المغرب، حيث كلف رئيسه السابق في يوليو من العام الماضي بزيارته للوقوف على أحواله.


                      وأشارت كل أخباره إلى أن أوضاعه الصحية في تراجع مستمر، ولكن لم تشر لوفاته كما أشيع بشكل موسع منذ يوم أمس الأول، وصباح يوم أمس الأحد 29 أبريل. قام موفد من الاتحاد بزياة لسفارة الممكلة المغربية بالخرطوم والتي نفت أن تكون أنباء المغرب قد حملت إليهم نعي الفيتوري -جاء ذلك على لسان قنصل السفارة المغربية في الخرطوم- أجرى الاتحاد على صعيد آخر اتصال هاتفي بالسفير السوداني في الرباط والذي نفى بدوره هذا الخبر، كما أجرى الاتحاد اتصالاته ببعض أفراد الجالية السودانية المقيمين في المغرب وأكدوا نفيهم للخبر، وحاول الاتحاد الاتصال ببعض أفراد أسرة الشاعر الفيتوري حيث نفت ابنته سولارا المقيمة في ليبيا الخبر بشكل قاطع مشيرة لما أصاب أسرته من توتر و قلق حيال ذلك.
                      مما يؤكد أن الأخبار المتداولة عبر بعض المواقع والمدونات الإلكترونية غير دقيقة. وسببت بالتالي كثيراً من الانزعاج والقلق لأسرة و محبي و أصدقاء وزملاء الشاعر الكبير الفيتوري. والمؤسف أن بعض الشعراء والكُتّاب من دول عربية شقيقة قد انساقوا وراء الخبر فدبّجوا المراثي في بعض المواقع الإسفيرية دون التحقق من صحة المعلومة.
                      إن اتحاد الكتاب السودانيين يود أن يبعث برسائل اطمئنان لكل الأمة السودانية ويخص بذلك كل المهتمين بأخبار الشاعر الكبير الفيتوري بأنه مازال على قيد الحياة، ويناشد الجميع بالتأكد والتحقق من صحة المعلومة قبل بثها في الإسفير للتداول، حتى لاتشيع حالة من التوتر والقلق، سائلين المولى عز وجل أن يتلطف بحالته ويعبر به إلى مرحلة التعافي الكامل وتجاوز هذه الأزمة الصحية العارضة، وسيوالي الاتحاد اتصالاته بالمغرب لمتابعة حالته الصحية والتعرف على ما آلت إليه، ونشر أخباره حال ورودها عبر وسائل الإعلام المختلفة.

                      الخرطوم-29 أبريل 2012
                      الأمانة العامة لاتحاد الكتاب السودانيين
                      ومن جانبها تتقدم سودانايل بالاعتذار للشاعر الكبير واسرته وكل محبيه لنشرها خبر وفاته الذي تناولته العديد من المواقع الالكترونية والاخبارية وتسأل الله أن يمتع الفيتوري بالصحة والعافية


                      منقول:

                      http://www.sudanile.com/2008-05-19-19-45-21/39600-2012-04-29-17-32-48.html

                      تعليق

                      • حسين يعقوب الحمداني
                        أديب وكاتب
                        • 06-07-2010
                        • 1884

                        #12
                        أبراهيم خالد أحمد شوك

                        العزاء بقيدنا المغادر جسدا والمسافر مع الشعر أبدا ,و الراحل دائما في كل أرجاء الروح والأنسانيه
                        أنا لله وأنا اليه راجعون الى رحمة الله شكرا لنقلكم الموضوع والخبر أخي الشاعر المحترم
                        هكذا الدنيا والبقاء لله ..





                        التعديل الأخير تم بواسطة حسين يعقوب الحمداني; الساعة 29-04-2012, 22:15.

                        تعليق

                        • غالية ابو ستة
                          أديب وكاتب
                          • 09-02-2012
                          • 5625

                          #13
                          الشاعر الإنسان ----إبراهيم أحمد شوك
                          كم أنت رائع وأصيل---نعم أصيل تنعي ،وتمدّ بساط العزاء
                          لشاعر عظيم ولا يعترف بعظمة غيره الا العظيم
                          للشاعر الفيتوري--ظل يراقص حريته ،وحرية الاحرار،لن يغيب
                          عن ساحة الشعر والحرية--------لن ينساه من تمتع بكلمته النظيفة
                          المساندة لقضايا الإنسان والأوطان--كم أنشدت شعره لبلادي صغيرة
                          وتمتعت وكرعت من زلال نهر إبداعه كبيرة-----كم أظعن بشعره
                          لوطن الثوار الابطال أطفال الحجارة--الى أن أنتقل لدار الراحة
                          وقضايا الحرية وقضية فلسطين في قلبه لم تمت-رحمه الله وجزاك
                          الله خيراً أخي الشاعر أبراهيم
                          دمت بكل الخير شاعراً إنساناً جميلاً---ومتعك المولى بالصحة والعافية
                          غالية ابو ستة
                          يا ســــائد الطيـــف والألوان تعشــقهُ
                          تُلطّف الواقـــــع الموبوء بالسّـــــقمِ

                          في روضــــــة الطيف والألوان أيكتهــا
                          لـــه اعزفي يا ترانيــــم المنى نـــغمي



                          تعليق

                          • ابراهيم خالد احمد شوك
                            أديب وكاتب
                            • 09-01-2012
                            • 534

                            #14
                            محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا موارد بلا شعر
                            • 08-05-2012
                            • تقع ضاحية " سيدي العابد " جنوب الرباط. يسكن في هذه الضاحية أناس من الطبقة المتوسطة. يبدو أنهم يفضلونها لهدوئها وموقعها على شاطئ المحيط الأطلسي. من تروقهم رائحة البحر وصخب أمواجه يأتون عادة الى هذه المنطقة. علاقة محمد الفيتوري مع البحر قديمة إذ منذ أن أمضى طفولته في الإسكندرية ، دخل البحر قاموسه الشخصي.
                            • أختار أن يقيم الشاعر محمد الفيتوري هنا منذ سنوات. يسكن فيلا أطلق عليها إسم أبنته " أشرقت". يعيش بعد أن أقعده المرض في "سيدي العابد " يجتر أحزاناً، يتعايش مع الآلام بذاكرة وهنت كثيراً، وجسد هده المرض
                              .***
                              تلقيت يوم السبت 28 ابريل رسالة عاجلة من الصديق مصطفى البطل في صيغة استفسار حول صحة ما تردد في السودان حول "وفاة الفيتوري ".
                              لم يكن لدي رد على هذا الخبر المزعج، لذلك طلبت من مصطفى مهلة حتى استقصي الأمر.
                              بعدها رحت استعيد شريطاً طويلاً من الوقائع مع الفيتوري.
                              وبدا لي أنه ليس هناك ما هو أسوأ لشخص أن يجد نفسه يتساءل بكثير من القلق والألم والحزن عن مصير صديق .
                              ***
                              عندما عدت الى المغرب من اميركا قبل ثلاث سنوات، سألت كثيراً عن الفيتوري ، إذ الرجل صديق عزيز جمعتنا علاقة متينة عمرها عقود. المعلومات التي حصلت عليها، تفيد بانه مريض ويوجد في ليبيا. لم يكن سهلاً وقتها الحصول على المزيد من "جماهيرية العقيد " لذلك كنت أنتظر زيارة ليبيا، وهي في دائرة مسؤولياتي الصحافية،لأبحث عن الرجل.
                              لكن رسالة البطل، جعلتني أسائل نفسي معاتباً: حقاً لماذا لم أسأل عن الفيتوري خاصة أن "ليبيا الثوار" إنزلقت الى حالة هي اقرب ما تكون الى الفوضى؟
                              ترى ماذا حدث له ؟ خاصة ان "سادة ليبيا" الجدد سيعتبرونه محسوباً على النظام السابق، وربما تعرض الى سوء معاملة كما حدث لآخرين. رحت أجري اتصالات بلا إنقطاع مع بعض من تعرفت عليهم من رجال "العهد الجديد " في ليبيا إلى ان عثرت على خيط.
                              هذا الخيط هو رقم هاتف زوجته المغربية "رجات أرماز". وبيننا معرفة شخصية منذ زواجهما قبل سنوات طويلة.
                              أجريت إتصالاً.
                              ثم كانت هناك مفاجأة.
                              بدت زوجته سعيدة فرحة بالتواصل. قالت لي إن الفيتوري موجود في الرباط منذ عام 2005، وانه لم يغادر داره منذ ذلك الوقت. كانت مستاءة جداً من نشر الأخبار الكاذبة. وعلى الرغم من أنه مريض طريح الفراش، لكنني ألححت في الحديث معه، جاءني صوته ضعيفاً متعباً منهكاً، وضحكنا على خبر وفاته وقال جملة واحدة "الشعراء لا يموتون ".
                              قلت له أنا قادم الآن.
                              أبلغتني زوجته أنه متعب وتناول الدواء للتو، وربما لن يكون مستيقظاً ، لذا من الأفضل تأجيل الزيارة حتى اليوم التالي. اتفقنا أن ازوره في وقت ملائم، وأن يكون ذلك في السابعة مساء.
                              المسافة من الرباط الى " سيدي العابد " تستغرق قرابة نصف ساعة بالسيارة، وبما أنني لا أعرف الدار على وجه الدقة، تفضلت زوجته وجاءت الى محطة وقود لا تبعد كثيراً عن منزلهما، ورافقتني الى حيث الدار.
                              وجدت الفيتوري استيقظ للتو.
                              كانت زوجته قد أبلغتني إنه فقد الكثير من ذاكرته. لذلك توقعت ألا يعرفني.
                              كان يتحرك بصعوبة من غرفة نومه الى الصالون، تساعده شقيقة زوجته في المشي. أصيب بشلل في الجزء الأيمن، لذلك لم يعد يستطيع أن يحرك يده، كما انه لم يكن قادراً على المشي بسبب شلل جزئي للرجل اليمني.
                              جلس على الكرسي وهو متعب ، بدا واضحاً أنه يغالب آلامه.
                              سلمت عليه. حاولت قدر المستطاع إخفاء حزني.
                              سألته زوجته: هل عرفته؟
                              أجاب بصوت متقطع : " يا امبراطور متى جئت من أميركا".
                              دأب الفيتوري أن يطلق كلمة " امبراطور" على القريبين.
                              أدركت وقتها أنني لم أختف من ذاكرته. لا أكتمكم القول، فارقتني حالة الحزن وشعرت بشيء من السعادة.
                              طلبت منه ألا يتكلم، بل يسمع فقط حتى لا يجهد نفسه.
                              أبلغتني زوجته بعض التفاصيل.
                              في مايو 2005 تعرض الى جلطة، أفقدته النطق. عندما نقل الى الطبيب ، كان رأيه أن زيادة كولسترول في دمه هي التي تسببت في الجلطة. ثم نقل الى باريس لمواصلة العلاج، وكان أن اصيب بجلطتين. بذل الأطباء جهداً كبيراً. كان من رأيهم أنه تأخر في العلاج.
                              كان من نتائج جهدهم استرجاع قدرته على الكلام ، ليس كلياً ولكن جزئياً ، لكن لم يكن ممكناً معالجة شلل يده اليمني، والجزء الأيمن من جسده.
                              كانت علاقاته مع نظام القذافي قد تباعدت قبل ذلك بسنوات، باستثناء بعض الأشخاص. ومنذ عام 2005 عاد الى منزله في "سيدي العابد" لا يخرج منه إلا عند الذهاب الى الطبيبة التي تتولى علاجه. ومما زاد في حالته سوءً ألا أحد من أصدقائه أو معارفه كان يسأل عنه. وبما ان زوجته لا تعرف احداً في السودان ، كان طبيعياً ألا يعرف أحد تفاصيل هذه السنوات.
                              بعد سقوط النظام في ليبيا، قررت الحكومة الجديدة سحب جواز سفره الديبلوماسي ورفضوا منحه جوازاً عادياً. وكانوا قبل ذلك قد أوقفوا راتبه. كانت بطاقة إقامته في المغرب قد انتهت، لكن السلطات المغربية ومع وضعه الصحي المتردي تغاضت عن الأمر.
                              بعد أن نشر خبر وفاته، أبلغتني زوجته أن السفير السوداني في الرباط زارهم ووعد بحل مشكلة جواز سفره. قبل ذلك لم يتصل به احد قط من السلطات السودانية. وما قيل عن زيارة وفد أو عضو من ما يسمى "اتحاد الأدباء السودانيين" كان مجرد هراء وإدعاءات.
                              محمد الفيتوري الذي صنع جزء من وجدان الشعب السوداني، يوجد حالياً نصف مشلول في دارته، بلا هوية ولا مورد ولا مداخيل. فقط زوجة "تقاتل" معه. و"تقاتل" في جبهة أخرى لتواصل ابنتهما " أشرقت" (15 سنة) دراستها.
                              في حوار كنت أجريته معه ونشر في يوليو عام 1985 في مجلة " المجلة" قال الفيتوري "أنا قلق، وربما أظل كذلك، وأعتقد ان نبؤة لوالدي أثرت في كثيراً، مرة قال لي والدي" أنك ستقضي حياتك غريباً عن وطنك".
                              في موقع آخر من ذلك الحوار يقول " أجد نفسي مثل عصفور غريب يتنقل من غصن الى غصن، من مسافة الى مسافة، ولا يعرف أين هو بالضبط. عصفور يبقى فوق أحد الأغصان لساعات، لأيام ، لشهور ثم يطير".
                              وفي ذلك الحوار كنت طرحت عليه مسألة "جنسيته"، وجاء رده كالتالي" لم أتخل عن هويتي لكنني أجبرت على التخلي عنها، عندما طاردني نميري في اركان العالم العربي من زاوية الى أخرى،طاردني بشكل قاس ومدمر. كنت أعيش في بيروت وأوفد رسولاً من عنده الى الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية، وطلب طردي من لبنان، وبالفعل أخذوني من مكتبي الى المطار. وعرفت لاحقاً أنه اراد اسقاط جنسيتي ولم يكن ذلك ممكناً لانني ولدت في السودان ، وانا سوداني بالميلاد، وليس في امكان أحد اسقاط جنسيتي. ثم جاءت فترة اردت فيها تجديد جوازي فاحتجزته احدى السفارات السودانية وسحب مني. كنت اريد ان اتحرك لذلك استرجعت جنسية أبي ، وهو ليبي الأصل، هذه كل الحكاية".

                              ***

                              بسبب الشلل الذي اصاب يده اليمني لا يستطيع الفيتوري الكتابة ، وبسبب مشاكل في النظر ومع تأثير الجلطة، لا يستطيع كذلك القراءة. لكن زوجته تقرأ له ما يرغب في قراءته. وهو يحب أن تقرأ له أشعاراً، وعندما تقرأ له بعض اشعاره يقول " معقول ..هل كتبت انا ذلك".
                              في جلستنا التي استغرقت قرابة ثلاث ساعات، حرص ان يسمع مني بعض تفاصيل حول السنوات التي لم نلتق خلالها.
                              قلت له " امنيتي هي التي سمعتها مني منذ سنوات طويلة، كنت وما زلت أتمنى أن اعود الى السودان، لكن في كل مرة أذهب الى الخرطوم أجد أن الأوضاع تزداد سوءً، ثم أن مثلي لن يجد قطعاً هناك عملاً يستر به حاله".
                              طلب من زوجته ان تقدم لي نسخة من آخر ديوان له " وهو بعنوان" عُرياناً ..يرقص في الشمس".
                              نقرأ في القصيدة الاولى التي اختار لها عنوان "تحديق في صورة قديمة" :

                              ابتسم للحضور ابتسم للغياب
                              ابتسم للبكاء ابتسم للعذاب
                              ابتسم للجنون ابتسم للخراب
                              ابتسم للغزاة وهم يُقبلون
                              للعبيد الطّغاة وهم يزحفون
                              للطّغاة العبيد وهم يبطشون

                              طلب مني بالحاح أن ابقى، لكنني أيقنت أنه كان يغالب إرهاقه وتعبه ومرضه، لذلك استأذنته في الإنصراف.
                              كان الليل قد سقط مثل كرة بلاستيكية على ضاحية " سيدي العابد" . كانت هناك رائحة البحر، وصوت الأمواج تتكسر على الشاطيء، والشوارع خالية. تذكرت أبيات الفيتوري:
                              في زمن الغربة والإرتحال
                              تأخذني منك وتعدو الظلال
                              وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان
                              إلا النسور الجبال
                              يا شرفة التاريخ
                              يا راية منسوجة
                              من شموخ النساء
                              وكبرياء الرجال



                            • طلحة جبريل

                            التعديل الأخير تم بواسطة ابراهيم خالد احمد شوك; الساعة 08-05-2012, 15:32.

                            تعليق

                            • ابراهيم خالد احمد شوك
                              أديب وكاتب
                              • 09-01-2012
                              • 534

                              #15
                              الفيتوري : قيثارة تجاوزت الجغرافيا ..
                              صوت الشعر لا يموت ..
                              بقلم: جمال محمد ابراهيم


                              أقرب إلى القلب:

                              أنا الشــقيّ بأحبـَـابـي ، وإن يبســوْا
                              كمثلِ مَــا تيْبس الأيــّــامُ أو أفــلـوْا
                              ففيمَ أزْهـو اغترابـاً عنهـمُ .. وأنــا
                              كل الذين عَلوْا في الأرضِ أوْ سَفـلوْا
                              وفيمَ استنهــض الأمــواتَ مُعتـذراً
                              ما دامَ تاريخ أجــدادي هوَ البـَـطــلُ
                              غفوتُ.. لم أغفُ :مثل النهر سابحـة
                              أسماكهُ .. وهوَ في استغـراقـهِ ثمِـلُ
                              نأيتُ.. لمْ أنأَ :كأنَّ المــوتُ يلبسـني
                              حياً .. ويلصقُ في عُمري وينفصِلُ
                              بكيتُ .. لم أبكِ: مرّتْ غيمةٌ فسَـقَتْ
                              غُصناً من الوردِ يدنو ثم لا يَصِـلُ
                              ( 1 )
                              تذكّروا شاعراً نبضه من نبضكم، سمرته المذهبة مجلوّة بمحبتكم ، هذا الشقيّ بأحبابه. هو محمد مفتاح الفيتوري. في عام 2008 وضع الأستاذ أحمد سعيد محمدية كتاباً عـــن الفيتوري، ، يفيض وفاءاً لشاعر كبير تمدّدتْ تجربته الشعرية على مساحة شاسعة من الوطن العربي . لو كانت الجغرافيا تمثل ذلك التحدّي الذي فشلنا في تجاوزه ، لسبب قد يتصل مباشرة بضعف قدراتنا على اكتشاف تراثنا الحضاري، وقيم الرّقي التي أنتجتْ حضارة عربية عبرت إلى أطراف أوروبا ، وبثتْ أضواءًا كانت تحتاجها عصور الظلام هناك، فإنّ التاريخ لكفيل بأن ينشّط الذاكرة الكسلى ، وأن يستدعي فينا تلك القدرات الكامنة في ذواتنا ، لنواجه مصائرنا الجغرافية، ونحقّق لأنفسنا مرتبةً نستحقها في خارطة الحضارات الإنسانية. مِن التاريخ ، جاء شاعرنا الفيتوري، ومشى بعكس الجغرافيا ، بل ضدّها تماماً .

                              ( 2 )
                              أهداني الأستاذ الكاتب اللبناني والناشر الكبير، صاحب "دار العودة" أحمد سعيد محمدية، كتابه عن الفيتوري ، وظننته لأول وهلة تمريناً في الوفاء من صديقٍ محبٍّ لشاعر يستحق ، ولكني وجدتُ في الكتاب سيرة الشاعر الفيتوري على خلفية العثرات العربية المبكية، وقد صيغت بمعرفةٍ وبحميميةٍ وباعجاب . إذاً هي كتابة عن محبّة، وليست نقداً أواستعراضاً تحليلياً لشعر الشاعر الكبير محمد الفيتوري . هذا شاعر يكتب منذ الخمسينات ، وكانت كتابته الشعرية وفيّة لواقعه. في الخمسينات أدرجتْ المناهج المصرية قصيدة له تضمنت صوراً انسانية بالغة الجدة، هي قصيدته عن الحوذي . في ذلك الزمان ، لم يكن يسيراً لشاعر سوداني أن يقتحم حصون المناهج العربية المصرية . قليلٌ من شعر شعراء المهجر وجد طريقه إلى مناهج الشعر العربي في مصر، كما في السودان وعدد من البلدان العربية الأخرى. تمكن الشاعر الأسمر القادم من السودان من أن يجد موقعاً في منهج مدرسي ضم قصائد عربية تدرّس في المدارس الثانوية المصرية. وقتها لم يتجاوز الفيتوري عشريناته والقاهرة تزهو محافلها بالعقاد وطه حسين وصالح جودت وعبد الرحمن شكري ومحمود حسن اسماعيل وكامل الشناوي، ورؤوس كبيرة يصعب أن تُجارى ، لكنه كان ذلك الشاعر الفتيّ الذي شقّ دربه بموهبته، فكسب مكانة ونبوغاً شعرياً باكرا .
                              وإن نظرنا في شعر الفيتوري في السنوات الوسيطة من القرن العشرين ، نجده قد سكن بكامله في هموم القارة الافريقية ، فكانت جلّ انشغالاته بقضايا مواجهة الاستعمار والنظرة الظالمة للقارة السوداء ، يرونها أدنى درجة في مقام الثقافات ، فيما لا يرى شاعرنا في قارته السوداء غير كبرياءٍ مظلوم، وتوقٍ لنهوضٍ قعدتْ به إرادة مستعمرٍ متغطرس رأى السواد سُبة منفّرة ، والبياضَ نعمة مرغوبة . ولقد رأيتُ أن تجربة الشاعر وقد تشرّبتْ من معايشته لواقع ظالم استغرقه زمانا، وتجلّى في تجاربه الشعرية الأولى ، ولكنه كان أكبر من هذا الواقع فتجاوز بحذقٍ سلبية الدوران في فلك الظلم اللوني ، إلى مجابهة الظلم السياسي والاجتماعي والثقافي .
                              كانت إقامة الشاعر في موطنه السودان، في أوائل ستينات القرن الماضي ، إقامة تمناها أن تكون دائمة ، إذ برغم أن القاهرة لم تنكر موهبته ولا استدبرتْ بذله ، لكنّ فتحت له الخرطوم قلبها وعقلها، فرأس تحرير مجلة الاذاعة السودانية، وقد خرجت موشاة بأجود قصائده. وإن شهدت سنواته في الخرطوم استقراراً نسبياً ، لكن الفَراش القلق لن ينسلخ عن طبيعته وتكوينـــه . .

                              ( 3 )
                              صدق الأستاذُ محمدية، إذ رأى في الفيتوري بطلاً من أبطال التراجيديا العربيـة . .
                              (( عاش حياته بين عالمي الأسى والحبور، والفرادة والعادية، متقارب مع الناس ، متباعد عنهم ، شديد الالتصاق بالأهل ، متنافر معهم. . متسكعاً في الأزقّة والحواري ، أو في الفنادق والمطاعم والقصور، وأيضاً في المساجد والمناسك ، أو مع خفافيش الليل في علب الليل. . مع المقاتلين الصادقين . . ومع المدلّسين المزوّرين، وقد رأى وعايش وعاشر زعماء ومناضلين وخائبين ، وباعة أحلام ، وشعراء ومتشاعرين ، وكان عليه – وسط ذلك – أن يصون رهافة حسّه وشاعرية عبارته ، والإمساك – بقدر المستطاع – بالقيم التي رآها تتدحرج على عتبات الحياة العربية. )) ص 10 من مقدمته لكتابه: محمد الفيتوري : ملامح من سيرة مجهولة ، دار العودة ، بيروت 2008.
                              وإنك إنْ نظرت في الكتاب ، فكأن المؤلف يأخذك في صفحاته ، ويحثك حثاً لأن تلهث معه وراء شاعر يقفز من أرضٍ إلى فضاء ، ومن فضاءٍ إلى أرض ، لا يكاد يستقر في بيئة أو مكان ، كما لم يستقر في قصائده على قافية ، أو يهدأ موجه على بحر من بحور الخليــل . لم يكن الفيتوري مستقراً في مكانٍ واحد ، بل هو الساكن في أمكنة كثيرة ، المقيم في القمر كما في الشمس، المستدير كما المربع. . في جينات الشاعر أثرٌ من "جنينة" "المساليت"، لا يغيب عن العينِ الفاحصة . ونعرف أن "الجنينة" في عامية السودان هي الحديقة الغنّاء الغنية بأنواع الزهر والثمر، فإن الشاعر الفيتوري قد جعل من ذاته القلقة ، ومن تعدّد مكوناتها، حديقة ضمّتْ أزهار هويّته الملوّنة ، بربيعٍ بكر وخريفٍ واعد وشتاءٍ بعيد . فأنت تراه كفراشة شعرية تتقافز بأجنحتها الملونة، من الاسكندرية إلى القاهرة ، إلى الخرطوم ، إلى طرابلس، إلى روما، إلى بيروت ، ولكل مدينة من هذه المدن قصص طويلة مع الفيتوري ، ومنها ما ترك أثره في الفراشة ، ومنها ما تخلّق رحيقه منها ، ومنها ما خصم من طمأنينة الشاعر، فأصابه من شوكها وحصرمها ما أصابه . لكنه بقيَ فتياً في ذلك اللهب الصوفي الذي سكن جوانحه ، فكأنه من قبيل الفراش القلق توقاً لاحتراق مستحيل ، المتنقل وكأن لا حاجة به إلى جوازات أو سمات دخولٍ وعبور، بين بلدان فشلتْ في أن تلغي الحدود الوهمية ، فأرهقتْ حتى الفراش الراحل بين عواصمها ، حتى لتكاد أجنحته الرقيقة أن تنكسر ، وهو الذي كسب الصلابة عودا ، ويكاد أن يحتويه ظلام الغياب ، وهو الذي أحبته الشموس وعشقته الأقمار .
                              لم يكن غريباً على الفراش الدارفوري، أن لا يعترف بجغرافيا المكان الأفريقي والعربي ، وأن لا يرى في الحدود حواجز مانعة . يقول محمديّة في كتابه عنه ، إنّه لم يكن غريباً على شعر الفيتوري أن يعبر إلى غرب السودان وإلى شمال العراق ، ومن وهران إلى البصرة ، ومن الإسكندرية إلى عدن ، ويخاطب الشاعر : (( إنك صديقٌ للفقراء والملونين والآملين ، وأنك خليل العقول المستنيرة والمنيرة التي ما زالت ترى في الأمة أملاً ووعدا.)) (ص 144 من كتاب محمدية : الفيتوري : ملامح من سيرة مجهولة).
                              وتستفسر الأديبة اللبنانية غريد الشيخ ، في كتابها عن الشاعر في سلسلة "أيام معهم" :الفيتوري – دار الكنوز الأدبية ،بيروت 2001، عن تنقل الشاعر بين العواصم العربية، فيقول لها الفيتوري : (( لعلّني محظوظ تماماً إذ أجدني انسانا آخر منتمياً بكل جوارحي إلى هذه المواقع .. لا، إنها منابع ذكرياتي ومواقع طفولتي ومسارح أحلامي ، وأنا لا أستطيع أن أقول إن انتمائي إلى هذه يفوق انتمائي إلى تلك ، إنني قطعة لحم بشري تحمل من هذا وذاك . .))


                              ( 4 )
                              لقد استوقفتني رحلة الشاعر إلى بيروت ، فقد لامس نبضها نبضه العاشق . غير أن السياسة التي لن تكون أبداً على تصالح مع الفراشة الراحلة القلقة ، لم تكن رحيمة مع عاشق الحرف العربي المحروق بشموس القارة الافريقية مثل قهوة استوائية غنيّة المذاق . لم يكن الفيتوري غريباً على بيروت – فيما يحكي محمدية – إذ حلّ ضيفاً على مهرجان شعري أقيم ذات عام في ذكرى الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، فكان رصيناً حزيناً رقيقاً، وهو يجزل عطاء شعره في الرّاحل "الأخطل الصغير" ، فتهتزّ قاعة الأونسكو في قلب بيروت ، ولقد سمعتُ الكثيرين يردّدون أبياتاً من قصيدته تلك على أيامي في بيروت ، برغم مضي سنوات طوال على تلك المناسبة . أنشدني منها وزير الثقافة اللبناني السابق الأستاذ الصديق الياس حنا ، وقد احتشدتْ القصيدة بمشاعر فيّاضة بمحبَّةٍ عارمةٍ لبيروت . بيروت "الأخطل الصغير" . بيروت الشعر والكلمة الحرّة والغناء والجمال ، فيما الفجيعة تحاصر الجميع والشر المستطير مقيم :

                              قفْ خشوعاً واخفـــض الــرأسَ
                              فقد أشعلَ الموتى القناديلَ وقاموا
                              . . . . . .
                              عــادتْ المُـعـجـــزةُ الكُـبـــــرَى
                              فلـلموت رغم الموت بـدءٌ وختامُ
                              فتعــــلّـم كيـــــفَ تُـحــيّ أمــــــةً
                              نسـيتْ أنّ البطــولات اقتحـــــامُ
                              أنّ أرضَ الحُــرّ مهمـا اغتربـتْ
                              أرضـهُ فهــيَ على الغيـرِ حَـــرامُ
                              أن تـاريخــاً مشـتْ فــي ظـِــلـه
                              قــدمُ الطغيــانِ تاريـــخٌ مُضَـــامُ
                              يا أميـرَ الشـعـر أغضِبــهَا فـقـــدْ
                              تُخصِبُ الـرّوح وتخضرّ العظــامُ

                              على أنّ لبنان لا يستقر على حال والفيتوري هناك ينازل الشعراء والعشاق والساسة ، فلا تلين عريكته ، ولا هو قابل لانكسار. لكن تنشب الحربُ الأهلية أظفارها الجارحة في لبنان، وينجرح الشاعر في "مارونية" أحبها وتقطعتْ إليها السُّبل ، وسياسة قرَّبتْ بينه وزعيم لبناني شاب، هو بشير الجميّل الذي لم يعمّر طويلاً رئيساً للبلاد فاغتيل، ولكن أثارت هذه العلاقات مع رموز من حزب "الكتائب" ، شكوك التيار العروبي المقاوم نحو الشاعر المرهف القلق بعروبيته وافريقيته . أنشد الفراشُ القلِقُ بكائية على فراق بيروت الجريحة :

                              يسـألـونك عـن لبنــان كيـفَ صَــحا
                              الفينيقُ والنــارُ في التابــوتِ تسْتـــعِرُ
                              . . . .
                              لبنان والشعرُ موسيقَى الإلهِ وبـعضُ
                              الشعرِ مِن كرْمةٍ في الغيبِ تُعتصَــــرُ
                              لـوْ كانَ لي لغـفـرت الإثـمَ مُـعتــذرا
                              عَمَـن أسأوا ومَـن هـانوا ومـَن غدروا
                              ولانكفــأتُ علـى ذاتـي كما انكفـــأوا
                              ولانكسرتُ على ضُعـفي كمَـا انكسَروا
                              لكنّ تلـكَ العذاباتُ التــي ارتسمتْ
                              على وجـوهِ الضحَايا .. كيـف تُغتفــَرُ ؟!

                              آخر المطاف ، رحل الشاعر عن بيروت بأساهُ ، مثلما رحل الكثيرون قبله وبعده . بعض الرّاحلين اختاروا نهايات مأساوية ، مثل الشاعر خليل حاوي الذي أنهى حياته مُنتحراً عشية اجتياح الاسرائيليين لبيروت عام 1982. ولعلّ حسرة الفيتوري تتجلى في قصيدة "لا ليس لبنان" ، وظنّي أنّها من بين أروع ما كُتب عن ما جرى في بيروت :
                              لا .. لا تقل دخلوا في الموت أو رحلوا
                              هنــاكَ مَـن أمــرَ الأبطــــــالَ فانتقـــلوا
                              هُناكَ لبنــان والأرضُ التي غَضِبــتْ
                              لوقعِ أقـــدامِ مَـنْ خـــانوكَ يــا جبـَـــلُ
                              .....
                              ماضيَّ مجدٌ قديـم النّقــشِ أحمــــلهُ
                              على ذراعـي مَيْـتاً حيــثُ ارتحـــلُ
                              ودارتي قطعة مِـن صخرةٍ سقـطـتْ
                              مِن نجمةٍ لم تـزل في الأفـق تشتعــِلُ
                              وبي مِن الـهمّ ما بالكونِ من عربٍ
                              ضاقتْ بهم صحارى التـيـهِ فاقتتـلـوا

                              حسراتٌ افريقية أخذته في شبابه ، وحسراتٌ عربية أخذتْ بعناقه في كهولة الشعر وعنفوانه . بين تلك الأيام كتب بكائياته في الزعيم الراحل عبد الناصر ، فما فرح من خلفوه بها، كما كتب رثاءاً في عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي الذي أعدم في الخرطوم عام 1971، فغضب منه حاكمها النميري . بين هنا وهناك ، ظلت "صوفية" حرفهِ، تراوح بين الانتمائين ، في حراكه وتنقله من حديقةٍ إلى أخرى ، ولكن تفاقم الألم واعتصر قلبه ، وتلاقت خساراته الوطنية والقومية بخسارات شخصية وأسرية . هو الآن يعيش في المغرب بقرب زوجة مغربية حفيّة به ، ترعاه في انكسار جسده الواهن وندعو له معها، بصادق الدعاء بالشفاء وبعمر طويل . هي هناك رفيقة مشوار بديع ، ترعى ذكرياته وشعره العظيم ، وبقي علينا أن نستذكر، هذا الطائر الفريد الذي أمضى عمره وما زال متنقلا بين جنينة سودانية وخيمة ليبية وحديقة بيروتية . في مستقرّه الآن في الرباط ، هو في عيون المغرب ، وفي حمى الحرف العربي هناك . من بين أحرفي هذه ، أرفع اقتراحا لاتحاد الكتاب السودانيين ولوزارة الثقافة الولائية في الخرطوم ، ثم لكوكبة المنتديات النشطة في الساحات الخرطومية ، لأن تعد تكريماً لشاعر فحل ، وضع بصمة سودانية واضحة المعالم في خارطة الشعر العربي ، أقلها أن تتبنى مشروعا لحديقة أو دار للثقافة تحمل اسم الشاعر محمد الفيتوري ..

                              الخرطوم - نوفمبر 2009

                              المصدر:
                              http://www.sudanile.com/2008-05-19-17-39-36/75-2008-12-11-18-28-29/40293-2012-05-19-17-09-27.html

                              تعليق

                              يعمل...
                              X