عزف على الماء .. قراءة في نص الأديب مصطفى الصالح
" الحالم هو من يبصر طريقه بضوء القمر .. وعقابه أنه يرى الفجر قبل بقية العالم
" أوسكار وايلد
لعل الحلم ، هو البداية الحقيقية التي تشدنا في هذا النص ، الحلم الذي يحقق لصاحبه كل شيء ، ويتغلب على أي شيء ، انه الطريقة التي يحقق بها الفقراء رغباتهم ، ويصنع بها العباقرة مجدهم ..
النص : عزف على الماء ، يبدأ مع السارد بأسلوب الراوي - المتكلم عبر جملة واحدة شكلت البداية ، عبر روح شفافة تخاطبنا في البداية ثم يتحول السرد الى أسلوب الراوي العليم ، ولو أنه كان سيفصل أكثر عن مكونات ونفسية البطل لو استمر بذات الأسلوب ، الى النهاية
وعبر تلميحات ذكية تحتاج فقط أن نقرأ بتركيز ، لنخرج بالمعاني التي أرادها الكاتب ، كما يحب لنا الكاتب أن نشعر بها
أرى انبهارالعيون مرتين: مرة وهي تتجول في تعبي بإعجاب، متناغمة مع دهشة الشفاه لهذا العمل، ومرة أخرى بسحر الإشفاق.. ما قيمة فنان لا ينتصب بجانب حلمه في معرضه!.. كان يفكر وقد اكتنز القلق في ساحته، بينما تضغط قبضتاه بقوة على سبب تعاسته.. يود لو..
هل يختلط الاعجاب بالاشفاق ؟ وهل للاشفاق سحر ؟ البطل يعرف أن الانبهار ليس لجودة العمل وحده ، وانما بمقارنة الجودة بالصانع ، اذ كيف يمكن لهذا الشاب المعاق على عكازين -كما يتضح لاحقاً - أن يحقق هذا الانجاز وهذه الروعة ، لكن الحلم لا يكتمل ، لأن نظرات الاعجاب لا تكفي ، فما فائدة فنان لا يقف بجانب حلمه في معرضه ، لا يتجول على قدميه بين معروضاته ، يفكر ، بينما يقبض على عكازيه .. سبب تعاسته ..
سردٌ لطيف هادئ ، وقدرة جميلة على الايجاز والتكثيف حتى أن لكل مفردة استخدام هام في سياق النص
ويستمر الصالح في ذات السرد ليقنعنا أكثر بأن نشفق على هذا الشاب :
يهمس.. يرسل طرقات خفيفة بهدوء.. تحضر وضحكات عينيها لا تغادر وجوه الحضور.. تنثر ابتسامات فرح مغلفة بنشوة سابحة فوق السحب
الى .... أستعير من العصافير سيقانها
فمن هي هذه التي تحضر وضحكات عينيها لا تغادر وجوه الحضور ، وتنثر ابتسامات الفرح المغلفة بالنشوة .. نجد أنفسنا معلقين بمصيرها ، كما مصيره معلق بها ، مدفوعين بالرغبة لنعرف أكثر ..
وأجدني هنا مندهشاً من الصورة المستخدمة : أستعير من العصافير سيقانها .. فهل تحليق العصافير وشعورها بالحرية والانطلاق بسبب سيقانها القوية ؟ أم لأنها تمتلك الأجنحة التي تعطيها القدرة على الانطلاق .. ألا تبدو رغبة غريبة أن يحب استعارة سيقان العصافير النحيلة بالذات ، ولم يقل سيقان فهد أم غزال ، ولم يرغب بأجنحة العصافير لكي يحلق أكثر ؟ أم تراه محلقاً بأجنحة فنه ، ولم يعد يبحث عن الطيران بقدر رغبته في أن يحط أخيراً على الأرض ، ليمارس تجربة في الشعور بالانتماء ، للانسان العادي ؟
توقف.. قالت بحزم لطيف واضعة يدها على فمها.. أنت لست أقل من غيرك.. ألا ترى أن نعم الله عليك أكثر من نعمه على معظم تلك الطبول المتجولة على أقدام الضجر تعزف التفاهة
تمنعه من الاسترسال في تفكيره ، هنا يبدو أنها تفهمه أكثر من نفسه ، هي أحست به وبشعوره وعرفت ما أراد قوله ، حتى ولو لم يقله ، هنا يدفعنا الكاتب لنستشعر عمق العلاقة بينهما ، وثقتها اللامحدود به .. أنت لست أقل من غيرك ، وتقارن مع تلك الطبول المتجولة على أقدام الضجر ، صورة رائعة مميزة ، تعزف التفاهة ، ككل شيء تافه في هذا الزمن ، حين يتم التطبيل والتزمير لكل تافهة أو تافه يظهر عبر الفضائيات ليمارس تعرية الجسد والصوت ، بينما تصطف كتب الأدباء على الرفوق في أي مكتبة محترمة ، في واجهة المعروضات ، دون أن تلقى اهتمام أحد ..
ولكني كلما نظرت إلى تلك الرسومات أتذكر والدي- رحمه الله- .. أنا سببه، وسببي؛ في ذلك اليوم غازلت الشمس الزهور حتى ارتوت.. كان الندى ناعما والرذاذ يلفح وجوهنا حين ذهبنا لرؤية تلك الألوان الخلابة كي نطبقها على رسومات ( الإيبرو) التي كان بارعا فيها.. تجتاحني الذكريات كشريط حياة تالف من كثرة الإعادة.. أسند ظهره واستسلمت عيناه لحرقة من الداخل..
ثم نعرف أن الولد ابن أبيه ، تعلم هذا الفن منه ، وكانت العلاقة مميزة قبل أن تنتهي من طرف واحد بموت الأب ، ومع استمرار السرد يصر الصالح على امتاعنا بمزيد من الصور الجميلة المركبة ، هل يمكن للزهور أن ترتوي من مغازلة الشمس لها ؟ وهل يكون الندى ناعماً أم سائلاً ؟ هل يمكن لمسه وتحسس هذه النعومة أصلاً .. ؟
بعد أن غادر زوجي بقلبه العازف عن الشدو.. لن أدعك تفشل.. كانت تحدث نفسها وهي تتوجه بجسدها وابتسامتها إلى الحضور.. تتلقى بسرور عبارات الإعجاب والاستحسان.
في السطور السابقة تقول له : والدك
وفي هذه الفقرة تقول له : زوجي
فهل والده هو زوجها ، أمرٌ لم يحسم لغوياً ، ولم يوضح في السياق ، فهل هي أمه أم زوجة أبيه أم احدى قريباته التي تولت تربيته بعد وفاة والده ..
تبدو لي علاقة أكثر الحاحاً ، علاقة تحتمل الأمومة أو شبيهاتها ..
يخترق أمواج التصفيق المتلاطم شاب على عكازتين يجر قدميه على الأرض يتهادى حتى وقف أمام اللوحة فاحتضنته بحنان والدموع تنهمر من مقلتيها.. هتفت بفخر.. هذا هو مبدع كل هذا.. وسيجيب على كل أسئلتكم..
هنا يفصح الكاتب عما لمح له منذ البداية .. هذا الشاب صانع كل هذا الابداع ومنجز كل هذه الروعة هو ذاته الشاب الذي يسير على عكازين ، ليست اعاقة كاملة اذن ، على الأقل يستطيع الوقوف حتى لو كان بمساعدة أداة خشبية ..
يخترق الصفوف ، يجر قدميه ، يقف أمام اللوحة ، تحتضنه بحنان ودموعها تملأ مقلتيها .. تبدو متأثرة أكثر ، ويشدها الحدث وروعته ، حين ترى انجازه وهو ينال التصفيق والاستحسان ، لا شك أنها جزء من هذا الانجاز ، وشريكة في هذا النصر ، بدعمها ومناصرتها ودموعها ..
كطفل يتعلم النطق.. تخرج الكلمات خجلى من فمه.. نظراته جريئة في تفسير خفايا لوحاته
يبدو الشاب خجولاً ، لأنه يصدق بالكاد أن هؤلاء حضروا من أجله ، وهذا التصفيق له ، وهذه الصيحات استحساناً لروعة كان هو صاحبها ومهندسها ..
لكنه جريء بنظراته فقط ، يفسرها عبر عينيه ، رغم خجل الكلمات التي تخرج متأنية من فمه ..
وما أن تصالحت شفتاه مع الكلام حتى ظَهَرَتْ بوجهها المتلأليء بشرا وسعادة، وعينيها الواسعتين البراقتين.. اللتين كانتا تختلسان النظرات إليه من شرفة الانتظار أثناء انهماكه بتوديع لوحة عليها طفولته
واستقبال ألوان على عيون لا تعرف التأتأة!.
نهاية للنص تبدو بداية لمرحلة جديدة ، مرحلة بدون تأتأة أوخجل ، مرحلة عرف فيها طريقه وصنع مجده ، واستطاع أن يقف على قدميه قوياً واثقاً ، فكم من سوي لا يستطيع الوقوف على قدميه ويتعثر كلما مضى في طريقه ، بينما صنع صاحب هذا العكاز مجده وحقق انتصاره على ذاته فتخلص من آخر عقده ، ليبدأ مرحلة جديدة ... مودعاً طفولته ، مستقبلاً ألوانه على عيون لا تعرف التأتأة .. ولم يقل الكاتب على شفاه أو لسان لا يعرف التأتأة ..
اذاً فان التأتأة لم تختفي من لسانه لأن هذا مرض والشفاء منه ليس مرهوناً بالارادة وحسب ، لكن عينيه أصبحت ترى العالم بشكل جديد ، شكل لا يعرف الخوف أو التردد ، وهذا هو السر في الجملة الجميلة بالأخير : ألوان على عيون لا تعرف التأتأة
لا شك عشنا لحظات جميلة مع هذا النص المتقن ، فكل التقدير الى الكاتب المبدع مصطفى الصالح
لأن قلمه يحمل العمق والروعة ، وروحه روح انسان حق ..
أصدق التحايا
تعليق