بنت دوائر الماء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سالم الجابري
    أديب وكاتب
    • 01-04-2011
    • 473

    بنت دوائر الماء

    إلى أي حد يجب أن أكون صريحة ودقيقة؟!.....إلى الحد الأقصى الذي أتحمله من ألم الذكرى.

    قالت لي جفنا يوماً أن أنثى البشر أكثر احتمالاً للألم، ورغم أني لا أعلم إن كان الأمر ينطبق علي أيضاً، إلا أني سأحاول أن أهزم ألمي وأنا أحكي لكم حكايتي.......حكايتي أنا بنت دوائر الماء.


    أيامي الأولى كانت في الكهف المطلّ على بحيرة النجوم!!!، كم كنت جميلة وبريئة وقتها !!! كهفي الدافئ......أعرفه كما أعرف يدي، أحفظ ملمس الأحجار ورائحتها وانكسار زواياها، الصخرة المستوية على باب الكهف، كأنها جذع شجرة مقطوع، حيث تعودت أن أجلس صباحاً ومساءً، الصخرة المتدلية من سقف الكهف كأنها مخرز كبير.....لطالما قفزت لألمس رأسها المدبب وأنا أركض للداخل، الجانب الأيمن.....هناك مرقدي....هناك ذرت الريح بشيء من الرمل الأحمر أفترشته فوق الصخور الصلدة. الجانب الأيسر حيث تلقي شمس الأصيل بأشعتها الحمراء كان المكان المفضل لعصافيري الجميلة، فيها نسجت لي رداء الشمس......أكثر من ثلاثين عاماً قضتها في نسج الرداء، أذكر أني غضبت من مناكفتها لبعضها البعض، حينها لم أكن أعلم أن ذلك كان غزلاً.

    الطريق المنحدر من الكهف للبحيرة، هو أول شيء وطئته قدمي من هذه الأرض الواسعة، كانت خطوات قليلة لكنها كانت بداية لرحلة طويلة جداً.

    الآن عندما أتذكر شعوري ذلك اليوم وأنا أخطو أولى خطواتي خارج البحيرة أشعر بالحزن لضياع البراءة التي كنت أحملها، خرجت بقلب طفلة وعقل طفلة في جسم امرأة. كانت ليلة صافية مقمرة، سحرني جمال السماء......تخيلت ليلتها أني سألمس البدر بيدي لو صعدت على كثيب الرمل، وأني سأقطف نجمتين أو ثلاث وأنظر لتلألئهما بين يدي.

    مشيت في اتجاه شاطئ البحيرة، كان الماء ينحسر عن جسمي شيئاً فشيئاً، أحسست بالتصاق شعري المبتل بظهري، لمسته بيدي وتعجبت من التصاقه ببعضه بعد أن كان سائحاً، عدت خطوات للوراء لينغمس جسمي أكثر في الماء فعاد شعري كما كان.

    أعجبت بنفحات الهواء الباردة، لكنها سرعان ما أجبرتني على العودة لغمس كل جسمي في المياه الدافئة ، سكنت في الماء أستمتع بشعور الدفء، وسكنت المياه من حولي. انعكس لي بدر آخر تحت الماء......حركت يدي نحوه فاضطرب سطح الماء وتموج، واختفى البدر.....وأعدت الكرة مرة أخرى.....تلك كانت أول لعبة ألعبها.

    رفعت وجهي للقمر، أعجبني نوره......أطلت النظر له، أحسست أن خيوطه تداعب عيني وأنفي ووجنتيّ، كنت أغمض عيني وأفتحهما بليونة هانئة.

    كان كل شيء يغريني بالهدوء، أغمضت عيني في بحر السكينة، تحت الماء كنت أحرك يدي في حركة متموجة، شعوري بالتفاف الماء الدافئ حولها كان لا يقاوم، لم يكن لدي أي احساس بالوقت، ولو استمر الأمر لقضيت دهراً مغمضة العينين وعلى شفاهي بسمة حالمة.

    لكن حدث شيء ما......شيء صغير جداً، لكنه كان إيذاناً لي بطبيعة الحياة على هذه الأرض بأنها وطن للتغير وليس للثبات. سمعت صوتاً رقيقاً سرى مع هبات النسيم التي تحرك أهداب القمر على وجهي....فتحت عيني لأنظر.....لم أجد شيئاً.....نظرت عن يميني وشمالي، استدرت للوراء، أيضاً لم أجد شيئاً، لكن الصوت عاد وبشكل أوضح، ثم أصبح يتردد على فترات متساوية.....صرت أتوقع متى سيصدر....ذلك كان أول احساس لي بالوقت.

    ثم حدث تغير آخر كان مذهلاً لي، بدأ النور بالانتشار، وصارت الأشياء أوضح بكثير، سحرني منظر الرمل المتموج حول البحيرة، ثم برزت لي حوافها المعشِبة، كأنها طوق أخضر مطرز بالزهور الصفراء والحمراء ، ثم انتبهت لشيء آخر .....جسمي، كنت أقلب يدي معجبة بمنظر جلدي، أطلت العبث بشعري المنساب......كنت أجمعه وأفرقه بين أصابعي في الماء....أحببت نعومته وانسيابه.

    أفزعني ذلك الصوت الذي كان يبدو بعيداً أول سماعي له، بدا فجأة وكأنه في أذني، من وقع المفاجأة ارتددت للوراء، رفعت بصري فإذا به أمام وجهي مباشرة.....ضئيل يرفرف بجناحين سريعين، رأسه ثابت وله منقار طويل، رأسه أحمر متوهج، بطنه به مسحة من اللون الأصفر، وفجأة أخذ يحرك رأسه في حركة سريعة مبتهجة.....ثم أخذ يدور حول رأسي بسرعة عجزت معها عيناي عن ملاحقته...... ارتفع عالياً وأخذ يصيح في كل الإتجاهات

    -تعالوا انظروا.....لقد ولدت بنت دوائر الماء...تعالوا... تعالوا.....تعالوا.....

    لقصتي بقية
  • سالم الجابري
    أديب وكاتب
    • 01-04-2011
    • 473

    #2
    حينها قرع قلبي بشدة، كانت أول مرّة أحس فيها بدقات قلبي. امتلأ الفضاء فجأة بصوت حفيف قوي، ثم توالت أمواج من العصافير الجميلة، كانت كل مجموعة تمر بي تدور حولي بسرعة خاطفة، لا يكاد بصري يتبعها حتى تخطفه موجة أخرى في اتجاه آخر......لم أشعر بأي خوف منها، بل أحسست بالمتعة ، أدركت أنها تحتفي بي على طريقتها، كنت أود لو أبطأت ونظرت لعيونها.

    وفجأة ساد الصمت، واختفت الطيور من الأجواء.......أحسست بحزن، ثم سمعت أصواتها من كل مكان حولي، تلفتّ فوجدتها تملأ ضفاف البحيرة ........أعداد لا تعد ولا تحصى، كلها تنظر لي، وأنا في منتصف البحيرة، ملأتني فرحة متفجرة، لا أدري مالذي كنت أريد أن أفعله، أخذت بالركض نحو الضفة وأنا أطلق ضحكات حبور طفولية، لكنها طارت وانتشرت بعيداً عني واختفت خلف كثبان الرمل المحيطة.......أصبت بخيبة أمل وشعرت بانقباض في صدري، وتراجعت للماء.


    لحظات وعاد ذلك الذي كان أول من رآني وحيداً، هذه المرّة كان رأسه لأسفل.......اقترب مني حتى صار أمام وجهي، وأنا أنظر له انطلقت من فمي أولى الكلمات

    -لماذا ذهبتم عنّي؟.

    قلتها بصوت متقطع منقبض، نظر لي ثم قال

    - خرجت من الماء وأنت لا ترتدين شيئاً فخجلوا منك..............لا داعي للبكاء يا بنت دوائر الماء.

    كانت أولى الدمعات تتقاطر من عيني، والنشيج يتردد في صدري........بقي الطائر يكلمني حتى توقفت عن البكاء، بعدها أشرقت شمس أول نهار لي في هذه الدنيا. صار الطائر يكلمني عن كل شيء ويخبرني عن كل ما سألت......حتى قال

    -سألتني عن أشياء كثيرة....الشمس والقمر والنجوم والرمل والماء والعشب......ولم تسأليني عن اسمي!!!

    -ماذا تعني؟......وما هو اسمك؟

    -كل منّا له اسم...........أنا اسمي راجي، عندما تريدينني ليس عليك إلا أن تنطقي باسمي هكذا "راجي".

    -وأنا ما هو اسمي؟

    -أنت بنت دوائر الماء.

    -هل هذا اسمي؟......بنت دوائر الماء!!......اسمك أحلى، كلمة واحدة "راجي".

    -هو ليس اسمك.....هو من أنتِ......ليس لديك اسم بعد، يمكنك اختيار أي اسم تشائين.

    -احب اسمك، هل يمكن أن تعطيني إياه؟.

    -راجي اسم مذكر وأنتِ أنثى.

    -أنا لا أعرف بعد ماذا يعني أنني أنثى، لكني أحب الأسم ولا يهمني شيء آخر.......أرجوك أعطني إياه.

    - لكِ ما تريدين يا بنت دوائر الماء، لكن المهم الآن أن ننسج لكِ ثوباً رائعاً يليق بجميلة مثلك .

    -كيف ستصنعون ذلك؟

    -سننسجه من خيوط شمس الأصيل، سيستغرق وقتاً طويلاً جداً لكنك تستحقين ........ خلال ذلك لا يمكنك البقاء في الماء.

    -ماذا سأفعل إذاً؟

    -استتري بشعرك الطويل، اسدليه ليغطي جسمك، سآخذك لكهف أعلى البحيرة، وهناك ستنامين حتى ننتهي من نسج الثوب وعندما تستيقظين لن أكون موجوداً ويمكنك أخذ اسمي.

    لقصتي بقية

    تعليق

    • سالم الجابري
      أديب وكاتب
      • 01-04-2011
      • 473

      #3
      -أين ستذهب؟

      -إنت ستنامين فترة طويلة أطول كثيراً من عمري الصغير، وعندما تستيقظين بعد ثلاثين عاماً سأكون قد متّ.


      -متّ؟!؟!.....ماذا تعني؟......ما هو الموت؟

      -الموت هو............يمكنك القول أنه خروج من الدنيا، ليس عليك أن تقلقي الآن بهذا الخصوص، أنتِ أيضاً لابد ستخرجين في أحد الأيام.

      -لا.....لا أريدك أن تذهب......انتظرني حتى يجهز ثوبي وسنخرج معاً.

      -ليس الأمر كذلك .....ولو كنّا نحن من اختار موعد الدخول لربما سنكون نحن من يختار موعد الخروج......قلت لك لا تقلقي......هيّا معي الآن قبل أن تشتد حرارة الشمس وأنت لا يسترك شيء.

      -سأسير معك، لكن عدني أني حين أصحو وأخرج سأجدك تنتظرني.

      لم يجبني راجي على جملتي الأخيرة، بل أخذ يحثني على السير وراءه بعد أن تأكد أن شعري يغطي جسمي، كان يطير أمامي لمسافة قليلة ثم يلتفت لي وهو يرفرف في الهواء وينظر لحركة قدمي......حين خرجت ووطئت الرمال الناعمة أحببت ملمسها، وقفت أنظر لانسياب قطرات الماء من شعري وعلى ساقيّ لتنتهي بين أصابع قدمي........

      راجي كان يستعجلني

      -ماذا تفعلين واقفة.......هيّا أسرعي.....سيكون لديك الكثير من الوقت بعد ذلك للعب.

      شعرت بالسعادة وأنا أمشي على الرمل، أخذتني ضحكة سعيدة وأسرعت لألحق براجي. كان طريقاً رملياً صاعداً، صخور منبسطة مائلة تنكشف تحت الرمل كل بضع خطوات، لم يطل بنا السير حتى كدنا نصل لأعلى الكثيب، بدأءت ترتفع فوق الكثيب قمّة صخرية، وحين تقدمنا أكثر انكشف لي الكهف ......أمام الكهف مساحة منبسطة من الصخور الصلدة، تتخللها كثبان صغيرة من الرمل الأحمر.

      عند باب الكهف كانت تنتصب تلك الصخرة التي تشبه جذع الشجرة المقطوع، حطّ عليها راجي وهو ينظر لداخل الكهف، عندما وصلت بقربه طار وحطّ بقرب باب الكهف الواسع، تبعته أيضاً.....وقفت بقربه أنظر للداخل، كان الكهف واسعاً وسقفه مرتفع، تتدلى منه صخرة عجيبة كأنها مخرز، كانت أشعة الشمس ترتمي على كثيب رملي مسترخي عند الباب من الداخل......دخل راجي وصار يقفز من مكان لآخر وكأنه يبحث عن شيء.......بعد أن بحث في كل الأرجاء طار في اتجاهي وحط على كتفي، أخذ يمسح رأسه بشعري المنسدل ويتحسسه بمقاره ثم طار وحط في الأسفل على تجمع الرمل...قال

      -كنت أتأكد أن شعرك قد جف ولن يلتقط الرمل حين تجلسين هنا، تعالي واجلسي ...... سأجمع لك بعض الأعشاب المنومة من شاطئ البحيرة، لا داعي لأن تنتظري سنين طويلة حتى يجهز الثوب.

      جلست على الرمل وأنا ألف شعري حول جسمي، غاب عني راجي لبعض الوقت ثم عاد وفي فمه عود أخضر، ثم تبعته طيور أخرى كثيرة وكل منها يحمل عوداً، تجمعت أمامي كومة من ذلك العشب، طلب مني راجي أن آكلها على مهل

      -كليها كلها ولكن على مهل، ستمضين النهار معنا بشكل طبيعي، وحين يأتي المساء ستشعرين بالنعاس، ثم ستنامين طويلاً حتى ننتهي من غزل ثوبك......لا تقلقي .....سنكون دوماً هنا بقربك.

      جلست والنسيم المتدفق من بابالكهف يداعب بعضاً من شعري المنفلت على وجهي، خرج راجي وبقيت معي بعض الطيور، كانتتراقبني في خجل ولم تتكلم معي، ثم لمّا رأتني انشغلت بأكل العشبة المنومة بدأتبإصدار أصوات جميلة رقيقة، لاحظت أن بعضها ريش بطنه أصفر مثل راجي، وبعضها الآخرأرجواني.......كانت ذوات اللون الأصفر تناكف ذوات اللون الأرجواني بمناقيرها،وأحياناً تعلو الأصوات....ولربما تضايقت بعض ذوات اللون الأرجواني وخرجت من الكهفلبرهة ، وتلاحقها الأخرى، ثم تعود جميعاً للداخل.......سألت أحدها عن سبب مضايقتهللآخر فلم يجبني وتراجع للوراء خلف الطيورالأخرى.


      عندما ارتفعت الشمس لوسط السماء بدأت أعداد أخرى من الطيور تعود، وكان بعضهايحمل طعاماً يعطيه للطيور التي كانت معي، فاجأني راجي بدخوله السريع ووقوفه قربأصابع قدمي على الرمل.....قال

      -الحرارة شديدة في الخارج.....أنتِ مرتاحةهنا.

      -راجي.....أريد أن أخبرك شيئاً، هذه العصافير التي بطونها صفراء تضايقالعصافير الأخرى.....إنها تناكفها حتى تضطر تلك المسكينةللخروج .

      -لا تقلقي من ذلك، هذه التي بطونها صفراء هي الذكور، وتلك التي تتزينباللون الأرجواني هن إناث مثلكِ....ما رأيتيه ليست مناكفة، بل هو توددوغزل......الذكور تحاول الفوز بقلوب الإناث، قد تبدو لكِ الأنثى أنها تضيق بهذرعاً، لكنها تحب هذا في كل الأحوال .

      -يوم كنّا في البحيرة أنت قلت لي أننيأنثى........أليس كذلك؟!

      -نعم....أنت أنثى، دوائر الماء لا تلد إلا إناثاً جميلة، إنهالا تلد الذكور على الإطلاق.....بعد ذلك تلد الأنثى ذكوراً وإناثاً كما يحصل عندالبشر.

      -ومن هم البشر؟!

      -بنات البشر يشبهنكِ في كل شيء غير أنك أجمل بكثير.



      ثم تابع راجي كلامه بعد برهة سرحت فيها أفكر في البشر، قال

      -اليوم سنبدأ غزل ثوبك، كم نحن محظوظون لنفعل ذلك.

      -محظوظون!!!....لماذا؟!؟!؟

      -أنت لا تعرفين ماذا يعني مولدك.....إنه يعني أننا مقبلون على سنوات طويلة من الحياة الخصبة الطيبة، هذه الرمال والصخور الجرداء التي ترينها ستتحول إلى جنّة وارفة عمّا قليل، عندما تصحين من نومتك ستستغربين كثيراً.

      -وماذا علي أن أفعل عندما أصحو؟

      -ليس عليك أن تفعلي أي شيء سوى أن تعيشي كحورية في الجنّة، الثوب الذي سنعده لك سيقيك كل شيء، لن تحسي بحر ولاببرد....سيكون لطيفاً كخيوط شمس الأصيل، حين تلبسينه لا يتقدم بك العمر أبداً ولايتغير جسمك، وليس من السهل رؤيتك.....ستبدين للناظر كالخيال .

      -أخشى أن أشعر بالوحدة.

      -لن يحدث ذلك، يمكنك التجول في كل الأنحاء......ستدهشك أمور كثيرة، هناك الكثير من الكائنات لكن....ابتعدي عن البشر.

      -لماذا أبتعد عنهم؟!.....ألم تقل أني أشبه بناتهم؟

      -نعم قلت.....لكني أخشى عليك.

      هذا آخر ما أذكره من حديث راجي، في تلك اللحظة أخذني النعاس وأحسست أني أميل برأسي للأسفل، استطعت أن أفتح عيني لمرّة أو مرّتين، رأيت راجي قريباً جداً من وجهي، وكأني لمحت في عينيه نظرة وداع.

      لقصتي بقية.....

      تعليق

      • سالم الجابري
        أديب وكاتب
        • 01-04-2011
        • 473

        #4
        كنت أحلم أني ألعب في البحيرة مع دوائر الماء، كانت تحملني إحداها وتلقيني بعيداً ثم تختفي، أبحث عنها ولا أجدها....تظهر أمامي فجأة وترشني بالماء.......فتحت عيني وكنت أبتسم، وجدت أمام وجهي أحد الطيور، كان قد بلل جناحيه وجاء يرفرف بهما على وجهي، لطيفاً ومعطراً كان الرذاذ من جناحيه، وددت لو أنه لم يتوقف عن نثره......جلت ببصري فإذا بالضوء ينعكس على جزء من الصخرة المتدلية، رفعت رأسي وأطلقت بصري عبر باب الكهف للخارج، ......خُطِف بصري للجمال، البقعة الصخرية التي أمام الكهف قد غطّاها بساط أخضر من حشائش قصيرة متراصة، الصخور المتناثرة احتضنتها حشائش طويلة مختلطة بزهور ملونة، الصخرة الكبيرة الشبيهة بالجذع التي كانت أمام الكهف مغلفة بوريقات وعيدان متراصة على بعضها البعض، بقع ضوء صغيرة تتراقص فوق الحشائش وتلاحق بعضها البعض......أخذت نفساً عميقاً ......دفقات النسيم البارد تتسلل للكهف بروائح ملونة، أحسستها تتخلل شعري وتدور حول أذنيّ وتنساب عند رقبتي من الخلف......حتى حواف مدخل الكهف تزينت بأقراط خضراء متدلية.


        كانت المشاهد قد سحرتني ولم أفطن لغياب الطائر الذي أيقظني، فاجأني بعد ذلك بدخوله علي وفي منقاره زهرة بيضاء صغيرة لها ثلاث وريقات.......كان يحملها وهو يرفرف، مددت له يدي ليضعها لكنه لم يفعل، بل غرسها في شعري، تعجبت من فعله....سألته


        -لماذا وضعتها في شعري ؟


        -هكذا تتزين إناث البشر، رأيتهن كثيراً يفعلن ذلك، تبدو الزهرة جميلة في شعرك.


        -آهـ.....تذكرت، أين راجي؟......هل خرج من الدنيا؟

        -نعم يا بنت دوائر الماء، كان ذلك منذ زمن طويل جداً، راجي كان قائد الطيور في وقته، والآن أنا القائد، وكم أنا سعيد بالحديث مع جميلة مثلك .

        -راجي أيضاً كان يقول أني جميلة، ليتني أستطيع أن أرى وجهي.

        -سترينه بالتأكيد.......لكن قبل ذلك عليك أن ترتدي ثوبك، لقد انتهينا منه بالأمس، لكني لم أشأ أن أوقظك حتى صباح اليوم.

        كان الثوب معلقاً في صخرة ناتئة من جدار الكهف، وبالكاد استطعت رؤيته مع أن بصري كما علمت لاحقاً أحدّ كثيراً عن بصر البشر، كان ذهبياً يشفّ ما خلفه، فرحت به، وعندما قمت لأتناوله طارت أكثر الطيور للخارج، وبقيت بعض الإناث معي .

        طلبت منّي الطيور أن أقف، كان الثوب من الخفة بحيث حملته إحداهن والباقيات يرفرفن حولي، رفعنه فوق رأسي ثم أسدلنه على جسمي، لم أكد أشعر به لخفته ونعومته، وعندما طلبن مني أن أدخل يدي في الأكمام لم أكد أحرك يديّ حتى انزلقت الأكمام من ذاتها لتلبس يدي......نظرت لنفسي من الأمام والخلف فلم أرَ جسمي، بل كنت أرى ما ورائي من الأمام، وكأني زجاج ذهبي شديد الشفافية.....كان للثوب أيضاً غطاء للرأس ينسدل على الوجه، وحين أسدلته اختفيت بالكامل.

        كنت سعيدة جداً بالثوب، وسعيدة أني الآن أستطيع الخروج ورؤية كل شيء بالخارج، لم أستطع أن أتريث من فرحتي، تسابقت رجلاي أيهما تتقدم نحو الباب، لم ألتفت لتهامس الطيور خلفي......ربما كانت تضحك مني. عندما وقفت أمام الكهف كنت أمام شيء عجيب، لم أستطع سوى الاستسلام لجمال الألوان.....البحيرة التي خرجت منها وكانت محاطة بالرمال وتسطع عليها الشمس أصبحت محاطة بأشجار عالية متشابكة من الأعلى، الشمس كانت تتلألأ من بين الأغصان كلّما هب النسيم، الأشجار مزهرة بزهور بيضاء ناصعة تناثر كثير منها على مياه البحيرة وحوافها، الهواء بارد ومنعش، أحسّسته يتخللني مع أصوات العصافير التي تتردد من مسافات متفاوتة وجهات متقابلة.

        لقصتي بقية...

        تعليق

        • سالم الجابري
          أديب وكاتب
          • 01-04-2011
          • 473

          #5
          تقدمت أريد النزول نحو البحيرة، أحببت أن ألتقط بعض الزهور الطافية، استوقفتني الطيور وهن يرفرفن أمامي، قالت إحداهن

          -بنت دوائر الماء..... الصخور ملساء ورطبة، احذري أن تنزلق رجلك.

          كانت الصخور تعلوها طبقة خضراء لزجة، ولولا تحذير الطيور لي لكنت استعجلت ومشيت عليها ولربما انزلقت، مشيت على الحشائش ونزلت حتى البحيرة، طفت حولها، حيناً أمشي وحيناً أعدو، جلست عند أيكة زهور، ما أجملها، بعضها أحمر وبعضها أصفر وبعضها أبيض، وبعضها مشكّل الألوان، كشفت غطاء رأسي وزيّنت شعري بزهرتين .......كانت إناث الطيور تطير حولي وتتهامس، اقتربت مني إحداها وقالت

          -هل تريدين رؤية وجهك ؟

          -نعم أريد.....أريد أن أعرف إن كنت فعلاً كما تقولون .....جميلة.

          -يمكنك ذلك الآن، اقتربي من الماء وانظري فيه، سترين صورة وجهك.

          استدرت نحو مياه البحيرة، نظرت في الماء......رأيت وجهي وابتسمت من فرحتي، ابتسم لي وجهي......أطلت النظر لملامحي، لانسدال شعري على جانبي جبهتي، أحببت النظر لعينيّ، عشقتهما وددت الدخول إليهما.....أزحت الرداء قليلاً عن رقبتي لأراها مع وجهي، تحسست أنفي وشفتي وأنا أنظر لهما......ذقني....أذني........أيقظتي إحدى إناث الطيور بقولها

          -ما رأيك يا بنت دوائر الماء؟......هل أنت جميلة؟

          لم أستطع أن أجيبها بغير الإبتسام، أحسست بشيء من الخجل......مع أني كنت مأخوذة وهائمة بجمالي. عدت للنظر في صفحة الماء، سقطت زهرة بيضاء من زهور الأشجار على صورة وجهي المنعكسة، تعجبت من دوائر الماء المتتالية ......أخذت تتوسع في رقة وانسياب، لمحت الطيور الدهشة في عيني ......قالت إحداها

          -هل تتعجبين من دوائر الماء؟

          -نعم.....منظرها جميل وغريب.

          -لقد ولدت أنتِ منها......ألا تذكرين؟!.

          -لا أذكر غير أني كنت في الماء.

          انتبهت لصوت خافت من أعلى الشجرة، أخبرتني الطيور أنه سنجاب ، نظرت فإذا بحيوان صغير له وجه جميل وعينان فضوليتان، كان ينظر لي بخجل وتردد، ثم جاء آخر من شجرة أخرى ووقف بجانبه، ثم آخر....وآخر.....صارت مجموعة كبيرة، كلها متشابهة.......تشجع اثنان منها ونزلا لمنتصف جذع الشجرة، قالت لي الطيور أني لو بقيت هادئة لربما اقتربت مني السناجب أكثر. وشيئاً فشيئاً اجتمعت مجموعة منها أمامي، كانت تتشممني بفضول كبير، ملمس فروها ناعم للغاية، عندما أمسح بيدي على رقبتها كانت تسكن وتغمض عينيها، حملت أحدها وقربته من وجهي، تركته يتشمم شعري، كان يفعل ذلك بشغف كبير، قفزت السناجب الأخرى على رجليّ وصدري تريد أن تقترب من وجهي ورقبتي، أحسست بدغدغة جعلتني أضحك وأسقط على ظهري، لكن ذلك لم يردعها عني، بل تكاثرت علي، حتى التي كانت ماتزال على الشجرة نزلت وشاركت البقية. أغمضت عيني وتركتها تفعل ما تريد، حين اكتفت نزلت عني واصطفت بجانبي، كنت سعيدة للغاية بمداعبتها.

          كان هناك الكثير لأراه حول البحيرة، لكن أكثر شيء رأيته ذلك اليوم وأثار فيّ شعوراً قوياً هو حين جاءتني إحدى إناث الطيور وطلبت مني مرافقتها لتريني شيئاً........أخذتني لغصن شجرة متدلي ، لم ألحظ شيئاً حتى دخلت هي بين الوريقات، انكشف لي حينها شيئ معلق وكأنه ثمرة......دخلت هي من ثقب في ذلك الشيء ونادت علي من الداخل لأنظر......كم دهشت!!!.....كانت تلك الأنثى تقف في عشّها وعند رجليها فرخان صغيران، كانا يتطلعان لإمهما بلهفة ويتزاحمان عند قدميها، كانا جميلين وهي سعيدة .......بدت هي أجمل مع فرخيها، وجهها كان يشعّ بالزهو والفخر.....

          لقصتي بقية.....

          تعليق

          • سالم الجابري
            أديب وكاتب
            • 01-04-2011
            • 473

            #6
            اقتربت شمس ذلك اليوم من المغيب، وعدت مع الطيور للكهف، بعضها ذهب للنوم في الداخل على الصخور الناشزة ، وبعضها على الأشجار المجاورة، أنا جلست على الصخرة أمام الكهف أتابع اختلاط الأشجار بالظلام. ساد السكون إلا من أصوات خفيفة تأتي من مكان غير محدد، استطعت رؤية النجوم من بين الأغصان العالية، قررت الصعود لمكان فوق الكهف تخيلته خالياً من الأشجار لأستطيع رؤية السماء، لكني كنت مخطئة في ذلك، عندما وصلت لأعلى الصخور التي تشكل سقف الكهف وجدتها أيضاً مغطاة بالأشجار، لم أقف وواصلت الصعود، سرت لمسافة طويلة بين الأشجار تارة وبين الصخور تارة أخرى، لم أكن أنوي التوقف قبل أن تنكشف لي السماء بآفاقها البعيدة، وكلما أوغلت في الأعالي كانت الأشجار تبدو أقصر حتى صارت أقصر منّي وانكشفت لي أرجاء السماء إلا من الأمام، كانت تغطيها قمة الجبل الذي كنت أمشي عليه، لم يكن قد بقي الكثير عن القمة فواصلت حتى وقفت عليها. كأني أقف فوق كل الأرض، كل شيء كان أدنى عنّي حيث أقف، ولم يكن فوقي إلا النجوم المعلقة في السماء، درت حول نفسي وأنا أتأمل جمالها، خيّل لي أن لمعانها النابض ترحيب بي، بين أسراب النجوم تنتشر سحب سديم وردية مضاءة بنجوم خافتة .

            أطلت الوقوف والنظر، وعرفت أن النجوم تتحرك، بدأت بمعرفة ذلك حين طلعت الثريا من الأفق، أخذتني بجمالها وأخذت بمتابعتها حتى توسطت السماء.....فوقي مباشرة، أحسست بشعور غريب حينها، وكأني أعرف ذلك المكان أو كأني مررت به، لم أستطع أن أفهم ذلك الشعور حتى أخبرني بالسر الراهب الطيّب كيخ.......ليتني أعرف ما حلّ به الآن، لو علم نابور أنه ساعدني على الهروب من مدينة الشمس لقتله.


            وقفت حتى الصباح أتابع النجوم، وقبل بزوغ الشمس بقليل ظهر لي في الأفق قوس مضيء، لم أكن أعرف حينها أنه أحد منازل القمر، أشرقت الشمس، أضاءت قمم الجبال أولاً، ثم شيئاً فشيئاً تكشفت لي المنحدرات والأودية المحيطة، كلها ترتدي اللون الأخضر، وإنما تتميز بدرجات مختلفة منه.

            في طريقي للنزول اكتشفت أن الطريق الذي سلكته لقمة الجبل هو الطريق المعتاد للغزلان في طريقها للبحيرة، ومع أني كنت أرتدي الثوب إلا أنها أحست بي وجفلت مني أول الأمر، ثم اعتادتني ومشينا معاً حتى وصلنا السفح.

            كنت مشتاقة للقاء العصافير لكنها كانت قد غادرت للبحث عن الطعام، نزلت للبحيرة أريد رؤية الفراخ في العش، بقيت أراقبها حتى جاءت أمهما تحمل الطعام، كانت تطعمهما بفرحة ......منظرها كان يحرك شيئاً بداخلي لم أفهمه حينها.
            أحسست برغبة في الاستلقاء على الحشائش، أذكر أني كنت أنظر في عيني أحد السناجب في أعلى الشجرة، ولم أحس بشيء بعدها حتى توسطت الشمس السماء، صحوت على مداعبة السناجب لشعري، حاولت التخلص منها لكنها تكاثرت علي ، بعضها كان يحاول الإندساس تحت ثوبي.......قمت وأنا أكاد لا أقوى على التنفس من شدة الضحك، ركضت عنها في اتجاه الكهف وهي تركض خلفي، وأنا أدخل أحسست برغبة في لمس تلك الصخرة المتدلية، قفزت فاستطعت لمس رأسها المدبب......

            أيام جميلة، كلها حبور وبهجة وبراءة، طعامي كنت أجده في كل مكان من الأشجار، وشرابي من مياه البحيرة العذبة، ولعبي مع مخلوقات بريئة لا تحمل غير رغبة الحياة ولا تريد غير الطعام والشراب واللعب..........بقيت كذلك لوقت طويل، حتى دخل البشر في حياتي.

            لقصتي بقية.......

            تعليق

            • سالم الجابري
              أديب وكاتب
              • 01-04-2011
              • 473

              #7
              كان ذات ضحى، وكنت كعادتي في كثير من الأيام مستلقية بقرب البحيرة، جاءتني إحدى إناث العصافير ترفرف فوقي، كانت تريد قول شيء ما لكنها لم تستطع النطق، كان فمها مملوء بالطعام لصغارها ولشدة إثارتها نسيت ذلك، طلبت منها الذهاب لصغارها والعودة، عادت بسرعة وهي تقفز.....قالت

              -بنت دوائر الماء........هل تريدين رؤية البشر؟

              -ماذا ؟!.....بالطبع أريد ذلك، أين هم؟

              -هناك....عند الجبل البعيد، كنت أجمع الطعام لصغاري ورأيت أنثى بشرية ترعى أغنامها......هيَا أسرعي معي إن كنت تريدين رؤيتها.

              أحسست بإثارة لم أشعر بها من قبل، كيف لا وأنا سأرى المخلوق الوحيد الذي يشبهني. كان الطريق طويلاً، وكان علي أن أهبط أودية كثيرة، ثم أعبر النهر الفاصل بين الجبال ثم أصعد مرة أخرى للتلال التي بأسف الجبل البعيد الذي علمت فيما بعد أن اسمه جبل الشمس.

              عندما تقدمت أنا والعصفورة في التلال طلبت مني أن أنتظرها لتطير عالياً وتعرف مكان بنت البشر، لم تغب طويلاً وعادت لتقودني لقمة تلّ صغير، في الجانب الآخر من التل كان هناك ساتر من الأشجار، أخبرتني العصفورة أن البشرية تجلس في رقعة العشب خلف الأشجار تراقب أغنامها ترعى......من فرط شوقي لرؤيتها اندفعت مسرعة، جريت لأخترق ساتر الأشجار فأحدث مروري بين الأغصان صوتاً، وعندما أشرفت على مساحة العشب الواسعة كانت الأغنام تتنافر فزعة، لم أرَ أحداً آخر......فكرت للحظة أنها ربما تكون مثلي مرتدية رداءً يخفيها.....دققت النظر على محيط تلك البقعة ولم تظهر لي، ثم إذا بها تخرج فجأة من وراء شجيرة صغيرة على بعد خطوات منّي، خرجت وهي ترفع ثيابها وتعيد ربط الحزام على وسطها......أغلقت فمي بيدي لكي لا تسمع ضحكتي، عرفت حينها كم تشبهني تلك الفتاة.....جفنا الجميلة الرائعة، لقد كانت مختبئة لتقضي حاجتها، عندما أخبرتها بعد ذلك بزمن أني رأيتها كاد ينفجر الدم من وجنتيها خجلاً.

              أسرعت في اتجاه أغنامها التي ابتعدت قليلاً، عندما رأتها الأغام اطمأنت وعاودت الرعي، كانت تحمل عصى طويلة تهش بها على الأغنام لتسوقها نحو العشب الوفير، كل هذا وأنا أنظر لها من الخلف، وبي شوق كبير لأنظر لوجهها، أردت أن أعرف إن كانت جميلة، وكنت أخشى التحرك فتحسّ بي الخراف. لكنها وفّرت عليّ حين ساقت خرافها في اتجاهي، وهي تقترب بدأت ملامحها تتضح لي، على بعد عشرين خطوة كان هناك جذع شجرة ميتة ممدد على العشب، جلست عليه واجتمعت حولها خرافها تجتر......تمعنت فيها، بيضاء جميلة، أنفها ووجنتيها محمرتان من برد الجبل، شعرها مفروق من الأمام للخلف في ظفيرة كبيرة تتدلى بين كتفيها، تغطي رأسها بفرو أبيض، ملابسها صوفية ملونة بالأخضر والأحمر والأرجواني على شكل خطوط، قميصها مزيّن بفصوص حجرية ملونة، من وسطها إلى أخمص قدميها رداء صوفي أسود.

              قضت بعض الوقت تعبث بعصاها بين رجليها المتدليتين من من على الجذع، لم أكن أعرف بعد أن تلك عادتها عندما ترتجل الشعر لتغنيه........وبدأت جفنا تغني. أذكر أني تسمّرت عند سماعي لها، بل توقفت عن التنفس لبعض الوقت......صوتها أعذب شيء سمعته، لم يكن قد أخذني شيء من قبل مثل ما أخذني غناؤها، تخيلت أن المكان قد تمدد كثيراً ليتسع لجمال صوتها، ورددت النسمات معها الصوت، وتمايلت الأشجار الملتفة......امتزج كل شيء حولي بعذوبة صوتها فصار أجمل.


              لقصتي بقية.....

              تعليق

              • سالم الجابري
                أديب وكاتب
                • 01-04-2011
                • 473

                #8
                مالت الشمس نحو المغيب، وبدأت جفنا تجمع خرافها، كانت تصدر أصواتاً من فمها كأصوات الطيور تفهمها الخراف وتنساق لها، عرفت أنها ستغادر الجبل، أحسست بالحزن ، ساقت خرافها لطريق منحدر من التلال للجهة الأخرى من الجبل، مشيت وراءها، كنت أقول لنفسي فقط سأنظر إلى أين ستذهب وأعود، وكلما مشيت وراءها أكثر كلما وجدت أن فراقها أصعب، أحسست بألفة كبيرة معها. وهي تسوق الخراف كانت تتغنى بصوت خافت، اقتربت منها كثيراً لأسمع دندنتها العذبة، ويبدو أن الخراف ألفتني فلم تجفل رغم أنها تحس بوجودي.

                كانت فرحتي بقربها كبيرة وأنا أنظر لظفيرتها الطويلة تتأرجح بين كتفيها، كانت تأتيني منها رائحة جميلة لا تشبه أي رائحة شممتها من قبل. سارت جفنا وأنا أتبعها للجهة الأخرى من الجبل، ثم سلكت طريقاً ضيقاً بين الأشجار نحو السفح، كان هناك جدول ماء ينحدر من الجبل بمسايرة الطريق، مشينا بمحاذاته حتى وصلنا للسفح، هناك كان الماء يجري بانسياب ناعم، توقفت جفنا عند صخرة كبيرة تنظر لخرافها التي اجتمعت على ضفة الجدول لتشرب، ثم اقتربت هي أيضاً وأزاحت الفرو الذي كان يغطي رأسها، ، غسلت يديها ووجهها، فكت ظفيرتها ونشرت شعرها، عندها فاحت تلك الرائحة الجميلة بقوة أكثر، كان شعرها معطراً، خلعت حذائها الجلدي وغمست قدميها في ما الجدول، اتكأت على يديها للخلف وأقبلت بوجهها للسماء ثم أغمضت عينيها، فرط شعرها الطويل من على كتفيها وتكومت أطرافه الملتفة على الحشائش.

                كانت متعبة، بقيت على جلستها لبعض الوقت وأغنامها تحوم حولها، أحببت أن أجلس مقابلها وأضع قدمي أيضاً في الماء، لكني خفت أن تحس بي.

                غابت الشمس وبقيت أضواء الأفق، تنهدت جفنا تنهيدة واسعة وقامت متكاسلة، التقطت فردة حذائها بيد وهي تبحث عن الفردة الأخرى، كانت إحدى الأغنام قد التقطت الفردة بفمها فانتزعتها جفنا منها. أصدرت صوت الصفير من فمها فانطلقت الأغنام أمامها على الطريق وأنا وراءها. كانت الأغنام تسير في طريق تعرفها، كان ذلك واضحاً من تزاحمها وراء بعضها البعض، ولم يطل بنا السير حتى انحرفت يميناً كأنها تعاود صعود الجبل، ثم انكشفت لنا فسحة صغيرة محاطة بجدار حجري منخفض، دخلت الأغنام من فتحة صغيرة في الجدار وهي تصدر ثغاءها بشكل مفاجئ وكأنها تنادي أحداً، دخلت جفنا وراء أغنامها وبحركة سريعة من عصاها حلّت رباط عارضة كبيرة لترتد نحو الفتحة فتغلقها، فاجأتني وكادت تتسبب في إصابتي. بالرغم من أنها لا تعلم بوجودي إلا أني حزنت لأنها فعلت ذلك، أحسست أنها لاتريدني أن أدخل، وقفت أنظر لها وأبكي، خالجني ذات الشعور الذي قبض صدري في البحيرة أول خروجي......كم كان تفكيري طفولياً!!!!!.

                راقبتها وهي تمشي متثاقلة خلف أغنامها، كانت الأغنام تسرع نحو خيمة مربعة الشكل في الزاوية البعيدة، خرجت من الخيمة امرأة عجوز منحنية الظهر، استغربت من التجاعيد في وجهها ويديها، لم أكن أعرف حينها أن هذه هي آثار السنين، كانت العجوز تحمل كيساً، اتجهت بخطوات بطيئة نحو بقعة صخرية بين الخيمة والجدار والأغنام تتزاحم، أخرجت من الكيس حبوباً صفراء وألقتها على الأرض فاندفعت الأغنام تلتقطها، جاءت جفنا وسدّت مابين الخيمة والجدار بأغصان مشدودة لبعضها بعناية شديدة لتبقى الأغنام محبوسة بين الخيمة والجدار. بعدها دخلت جفنا والعجوز التي عرفت بعد ذلك أنها أمها الخيمة، ومع تراكم الظلام فوجئت بالضوء ينشر على جوانب الخيمة الصوفية، وخيال جفنا يظهر كلما قامت أو تحركت، كانت المرة الأولى التي أرى فيها النار.

                كانت أصواتهما تصلني مختلطة بأصوات حشرات الليل، كانت جفنا تتكلم وتضحك معضم الوقت، أما العجوز فكانت تعلق بكلمات قليلة، ورغم أني كنت غاضبة من جفنا لأنها أوصدت الفتحة في وجهي، إلا أني تمنيت لو كنت معهما بالخيمة، جلست أستمع حتى خبت أصواتهما فعرفت أنهما نامتا.


                لقصتي بقية......

                تعليق

                • سالم الجابري
                  أديب وكاتب
                  • 01-04-2011
                  • 473

                  #9
                  عدت لكهفي، لكني عدت مختلفة، أحسست أن مكاني ليس هنا، بل هناك عند جفنا، دارت في مخيلتي كل لحظة معها مرات عديدة، لم يفارقني صوتها ولا ملامح وجهها طيلة الليل، أحسست بحنين شديد للبقعة التي تسكنها ، وكأن روحي هناك وأنا هنا.

                  لا أعرف متى غلبني النوم، فتحت عيني على انعكاس أشعة الصبح كالنجوم المتلألأة في حبات الندى التي تكسو العشب، كانت بضع خصلات من شعري قد انفلتت خارج الرداء فأصابتها رطوبة الصباح، خرجت للخارج، أنعشتني رائحة الهواء المعطرة برائحة الغابة الباردة، أزحت غطاء رأسي وأخرجت شعري، تذكرت ما فعلته جفنا بالأمس، جلست مثلها وتركت شعري يتدلى على الأرض وبصري للسماء، رأيت سرباً من فراشات يحوم عند أطراف الأغصان، كنت في ما سبق من الأيام أستمتع بملاحقتها إلا أني ذلك اليوم لم أشعر بشيء سوى رغبتي برؤية جفنا.

                  قمت لأسابق الريح نحو تلال جبل الشمس، اعتقدت أني سأجدها هناك ترعى أغنامها وتغني، لكنها لم تكن هناك، ارتفعت لقمة التل أستطلع التلال المحيطة وأصيخ السمع لعلي أسمع ثغاء الأغنام، لم أرَ شيئاً ولم أسمع شيئاً، سلكت الطريق الذي سلكته وراءها بالأمس، حتى قبل أن أصل للجدار الصخري المحيط بخيمتها كانت أذني تلتقط أصوات ضحكاتها تعطر أنسام الصباح......ضحكاتها جعلتني أبتسم لنفسي وأسرع نحوها، أشرفت على الجدار ونظرت.......كانت جفنا تجلس أمام أمها وشمس الصباح زادت وجهها بهاءً ونورا، كانت أمها تسرح لها شعرها وهي تحتضن ركبتيها، مرة تتكلم ومرة تضحك وأمها لا تكاد تتكلم إلا بكلمات قليلة.

                  بدأت الأغنام في الثغاء على شكل موجات، لابد أنها كانت تسمع صوت جفنا وتود الخروج للرعي، لم أقنع ببقائي خلف الجدار وقررت الدخول والإقتراب لأرى كيف تفعل أمها بشعرها. لم يكن عسيراً علي تخطي الجدار، لكن آلمتني في قدميّ نهايات الحشائش ، يبدو أن الأغنام رعت الأطراف الناعمة وبقيت الأجزاء الصلبة كالأشواك، ومع ذلك حرصت أن أمشي بهدوء حتى مررت بجانب جفنا وأمها دون أن تشعرا بي، جلست خلفهما عند باب الخيمة، كانت الرائحة التي شممتها بالأمس من شعر جفنا تملأ المكان، رأيت أمها تضع يدها في وعاء صغير فتخرجها مبللة بشيء لامع تمسّد به الشعر ثم تمشطه، كان ذلك زيتاً عطرياً للشعر.

                  كانت جفنا تتكلم كثيراً وتضحك بين الجملة والأخرى، وأحياناً تتأوه عندما تشد أمها شعرها، لكنها سكتت واحمر وجهها بشدة عندما قالت أمها أن تاجر الأحجار الملونة سيأتي مع أخوها اليوم، ثم قالت وهي تبتسم وتنظر بين قدميها

                  -هل تعنين ذلك التاجر الذي يشتري الأحجار الملونة من أخي بون؟!

                  -تعرفين من أعني يا جفنا.......يكفيك مكراً......وكأنك لا تعرفين أنه سيأتي اليوم!!!....وكأنك لم توقظيني لتطلبي مني تسريح شعرك!!!

                  سكتت جفنا للحظة أخرى وهي تعض على طرف أصبعها وبصرها للأرض ثم قالت

                  -إذن لابد أن أعد لهما الطعام......ماذا أعد لهما برأيك؟

                  -أهل المدينة يحبون جبن الغنم، ضعي قطعة كبيرة في ماء دافئ لتلين وضعي معها الفلفل الأحمر ليعلم أنك ترحبين به، أخوك بون يحب اللحم المجفف.

                  -والغنم يا أمي! إنها جائعة وتريد المرعى.

                  -لا تذهبي أنتِ اليوم، سأخرج بها أنا لترعى قرب الجدول.

                  -لا يا أمي.....إنها أغنام مشاغبة وستتعبك....سأذهب أنا وأعود سريعاً لإعداد الطعام.

                  -لا، لن تذهبي.......برد الجبل سيجعل وجهكِ شاحباً، وهو متعود على وجوه فتيات المدينة الناعمة. لقد عجنت لك العجين البارحة، عليك أن تخبزيه الآن قبل أن يفسد.....لا تنسي بعد ذلك أن تبدلي ثيابك وتدهني وجهك ويديك بالزيت.


                  للقصة بقية......

                  تعليق

                  • سالم الجابري
                    أديب وكاتب
                    • 01-04-2011
                    • 473

                    #10
                    ودّعت جفنا أمها عند بوابة الحائط الحجري ووقفت تراقبها حتى غابت عن ناظريها للأسفل باتجاه الجدول، عادت باتجاه الخيمة وهي تقفز، كانت الفرحة تنتثر من جديلتها المتأرجحة وعينيها العسليتين.....ما أحلى أنثى البشر حينما تكون مبتهجة!!!.

                    مرّت بجانبي مسرعة ودخلت الخيمة، انحنت في زاوية الخيمة وحملت وعاءً مغطى بقطعة صوفية غليظة، كانت في طريقها للخارج لكنها توقفت وجلست عند صندوق خشبي، فتحت الصندوق وأخرجت مرآة دائرية وضعتها أمام وجهها......كانت تنظر لنفسها وتتبسم، أخذت تمسد الشعيرات النافرة فوق أذنيها وتقلب خديها للمرآة. في تلك اللحظة نبهني للوراء صوت طائر ، كانت صيحة قوية، عندما نظرت أحسست بالخوف، كان هناك رجل طويل يلبس رداء أسود يغطيه من رأسه حتى قدميه، كانت المرة الأولى التي أرى فيها رجل. كان غطاء رأسه يخفي جوانب وجهه ، كان يمشي باتجاه الخيمة دون أن يصدر أي صوت، بهدوء شديد تحركت للوراء لأبتعد عن باب الخيمة، توقف للحظة خفت فيها أن يكون قد أحس بي، سمعت صوت جفنا وهي تضع المرآة وتقفل الصندوق، عند وصولها للباب فوجئت بالرجل الطويل أمامها، سارعت بوضع إناء العجين على الأرض ثم انحنت ساجدة أمامه، لحظات مضت هيئ لي أن الرجل كان يتمتم بشيء ما ثم أزاح غطاء رأسه ومد يده ليمسح على رأس جفنا.

                    كان رجلاً نحيلاً أبيض، شديد الوسامة، له عنق طويلة، لحيته تنساب على خديه بنعومة، نهايات شعره بيضاء، عيناه حادتان ومع ذلك لا تنظران لشيء محدد........ذلك الرجل كان هو نابور الرهيب كبير الكهنة.


                    منظره أدخل في قلبي رهبة كبيرة، خصوصاً أنه أول رجل أراه، سجود جفنا له جعلني في حيرة، لم أكن أعرف حينها أنه كبير الرهبان، حسبت كل أناث البشر يسجدن للذكور. عيناه الشاردتان مخيفتان، كنت أتخيل أنه يراني أو يرى انعكاس صورتي في الهواء، زاد خوفي منه حين سأل جفنا سؤالاً غامضاً وهو يرفع ذقنها بيده لينظر لوجهها

                    -هل رأيتِ أي أحد غريب في الجبال وأنت ترعين الأغنام.

                    أجابته جفنا وهي ما تزال جاثية على ركبتيها

                    -لا يا سيادة الكاهن .....لم أر أحداً.

                    -يبدو أن عندكم ضيوف اليوم........أرى عجيناً كثيراً؟

                    -نعم يا سيادة الكاهن، قدومك فأل حسن لخادمتك جفنا، سيأتي أخي اليوم مع تاجر من المدينة.

                    -هل تعنين أن التاجر يريد الزواج؟

                    أعادت جفنا بصرها للأرض وقالت

                    -نعم يا سيادة الكاهن.

                    -هذا جيد يا جفنا.....سأبعث لكِ مع الراهب كيخ بجرة نبيذ لضيوفك.

                    عندها سجدت جفنا مرة أخرى واستدار نابور ليذهب وهو يعيد غطاء رأسه، بعد أن سار بضع خطوات توقف والتفت تجاهها وهي مازالت ساجدة وقال بجدية واضحة

                    -إن رأيتي أحداً أو رأت أمك أحداً فأخبروني.

                    عندما انصرف تبينت أن قلبي كان يخفق بقوة عجيبة، وخالجني شعور بأنه يقصدني بكلامه لجفنا، وكان شعوري هذا صائباً كما عرفت بعد ذلك.

                    عادت لي الطمأنينة بعد أن توارى نابور وأطلقت جفنا صوتها ليملأ المكان رقّة ، كانت تغني وهي تنظف الفرن، ثم أوقدت النار، قسمت العجين لقطع صغيرة ووضعتها على حجر، بعد أن حمي الفرن صارت تفرد قطع العجين بيديها وتضعها في الداخل الواحدة تلو الأخرى، ثم تخرج الخبز الناضج وتلفه في قطعة الصوف التي كانت تغطي بها العجين، كانت رائحة الخبز شهية للغاية ورغم أني لم أكن قد جربته من قبل إلا أن لعابي كان يسيل له من شدة الجوع ، لم أكن قد أكلت شيئاً منذ الليلة السابقة.

                    جاءت بالخبز ملفوفاً بقطعة الصوف ومرت به من أمامي ووضعته بجانب باب الخيمة من الداخل، خرجت تقصد شجرة في أقصى الحائط، كان هناك وعائان معلقان بأحد أغصان الشجرة العالية، عندما بدأت بتسلق الشجرة تخيلت أني أستطيع أن أدخل وآكل رغيفاً دون أن تلاحظ شيئاً، لكني حين دخلت وكدت أمد يدي لأحل لفافة القماش سمعت نفسي تقول لي أن هذا لا يجوز.


                    لقصتي بقية.....

                    تعليق

                    • سالم الجابري
                      أديب وكاتب
                      • 01-04-2011
                      • 473

                      #11
                      اضطررت لتجاوز الجدول والعبور للتلة المقابلة حيث وجدت أشجاراً مثمرة، تسلقت أحدها وجلست على أحد الأغصان أتناول الثمار وأراقب بيت جفنا من بعيد، كانت تروح وتجيء أمام الخيمة لتجهز المائدة للضيوف ، عادت أمها بالأغنام وأدخلتها الحظيرة. جلست المرأتان أمام الخيمة تنتظران، كانت عيني على الطريق المساير للجدول أنتظر أنا أيضاً رؤية التاجر وبون حين يصلان.

                      لمحت فرار بعض الطيور التي كانت على الأشجار القريبة من الجدول، وبعد لحظات ظهر رجلان يمشيان، ألقيت الثمار من يدي وأسرعت عائدة، عندما وصلت للجدول كان الرجلان أمامي، الذي يمشي في الأمام كان يشبه جفنا، له ذات العينين العسليتين وملامحه فيها الكثير من ملاحة جفنا وعلى ثغره نفس الإبتسامة، لم أشك أنه أخوها بون. الرجل الثاني كان طويلاً وتبدو عليه المهابة، ملابسه أجمل بكثير ومرصعة بالأحجار الملونة ومنقوشة بالذهب عند معصميه وعنقه، كان لا يرتدي شيئاً على رأسه غير شعره الكثيف المنساب على أذنيه.

                      انتظرتهما حتى صعدا باتجاه البيت ثم تسللت ورائهما بهدوء، وقفت عند مدخل الحائط أنظر كيف ستلتقي جفنا حبيبها، عندما رأتهما قامت ودخلت للخيمة بسرعة، ثم خرجت وبيدها قطعة قماش صوفي ركضت بها لحبيبها، عندما اقتربت منه همست له بشيء لم أسمعه وأخذت تلف رأسه بقطعة الصوف وهو ينظر لها بهيام، اقتربت قليلاً لأسمع ما يقول الحبيبان، سمعته يقول لها وهو يأخذ بيدها باتجاه الخيمة أن ريحاً قوية صادفته فأطارت غطاء رأسه، بون كان قد سبقهما لتحية أمه، انحنوا كلهم أمام المرأة العجوز ثم جلسوا. حلّت جفنا لفافة الخبز ووضعتها أمام حبيبها وأزاحت قطعة قماش أخرى كانت تغطي بها آنيتي الجبن واللحم المجفف، لم يكن هو ينظر لشيء سواها، كان يراقب يديها ووجهها وظفيرتها وهي ترمقه بنظرات خجولة. أخوها بون يشبهها في كل شيء، كان يتكلم كثيراً ويضحك، كان يمازح أمه بمعزل عن جفنا وحبيبها، ربما أراد أن يتركهما لبعضهما.

                      كنت أحس بهما، وأتلذذ بنظراتهما لبعضهما، أشعر بخجلها وسعادتها بقربه، كانت تقلب جلستها كل لحضة، وتتحسس شعرها عند أذنيها كل لحظة، هو يراقبها كالتائه في سماء جمالها......انتبهت لنفسي وأنا أفعل مثلها تماماً، أتحسس شعري وأقلب جلستي.

                      أطل من فتحة الحائط رجل يلبس ملابس شبيهة بملابس نابور يدلي جرّة كبيرة بحبل، كان ذلك هو الراهب كيخ الذي وعد نابور بارساله بالنبيذ لخطيب جفنا. قام بون مسرعاً ليلتقي كيخ، انحنى له وحمل عنه جرة النبيذ ثم أفسح له الطريق ليتقدم نحو البقية الذين انحنوا له أيضاً.
                      جلس كيخ وجلس بعده الآخرون، كانت ردّة فعل التاجر غريبة، تغيرت ملامحه الرقيقة إلى ملامح الدهشة والتحفز، كان يتبادل نظرات خاطفة وغريبة مع الراهب، حتى أنه لم يعد ينظر لجفنا التي كانت تحاول فتح سدادة جرّة النبيذ. نجحت أخيراً جفنى وفتحت السدادة، قدمت الجرة لحبيبها وهي جاثية على ركبها، أخذها وشرب منها ثم دفعها للراهب، أخذها الراهب وهو يشكره ودفعها لبون دون أن يشرب، قال إنه يريد أن يكون آخر من يشرب. بدا كيخ وقوراً ، وجهه مستدير ولحيته بيضاء قصيرة ، بشرته صافية بشكل لافت، بدين بعض الشيء ونظراته هادئة.


                      لقصتي بقية.....

                      تعليق

                      • سالم الجابري
                        أديب وكاتب
                        • 01-04-2011
                        • 473

                        #12
                        طوال تناولهم الطعام لم تنقطع النظرات الغريبة بين التاجر والراهب، وكانا حذرين من أن يلاحظهما أحد، لاشك أن جفنا أحست أن شيئاً شغل حبيبها عنها لكنها لم تعرف ما هو. في غمرة استماعهم لثرثرة بون بقصص عجيبة يرويها عن رحلته للبحث عن الأحجار الملونة في الجبال فوجؤا بخروج الأغنام من الحظيرة بعد أن استطاعت فتح الباب، هرعت جفنا وأخوها وأمهما لجمع الأغنام وإعادتها، كان من الواضح أن الإثنان ينتظران ابتعادهم، ولمّا ابتعدو قال كيخ بصوت أقرب للهمس

                        -ما أعجب ما أري ........ ماذا يفعل فارس القصر ومعشوق الأميرات عند راعية غنم جبلية متظاهراً أنه تاجر أحجار؟!!!!

                        ابتسم التاجر بمكر ثم مد عنقه باتجاه الراهب وقال

                        -حتى إن كان هذا عجيباً، فالأعجب منه أن ترى الفيلسوف والفلكي كيخون الذي يشاع أنه ميّت يلبس لباس الرهبان ويحمل في يده جرّة نبيذ.

                        -قل لي يا هيت، مالذي جاء بك؟

                        -آخر عهدك بي يا كيخون منذ عشر سنوات، لقد تغيرت كثيراً منذ ذلك الحين، وما جئت هنا إلا من أجل جفنا وقد امتهنت تجارة الأحجار منذ عدة سنوات.......ربما يهمك أن تعرف أني لم أعد أعمل في القصر.

                        -ماذا !!!! لا تقل لي أن الملك وجدك مع إحدى زوجاته !!

                        -ليس كل ما يشاع عني صحيح يا كيخون، الفضيلة ليست حكراً على أحد كما هي الرذيلة ليست حكراً على أحد، أليست هذه كلماتك التي يرددها النبلاء حين يريدون الوقوع في الرذائل........بالمناسبة، أستطيع تخمين سبب وجودك هنا.

                        -نعم تلك كلماتي، لكنهم يقولونها بشكل معكوس وليس كما قلتها أنت، ياترى ماذا خمنت عن سبب وجودي هنا يا هيت؟

                        -بعد اختفائك بسنة أوكل لي الملك مصادرة مكتبتك وحرق كل ما فيها، احتفظت بآخر الرقع التي كنت تعمل عليها، ولم أفهم اشاراتك على هوامش الحسابات الفلكية حتى رأيتك الآن......ما أتعجب منه الآن كيف لم يعرفك أحد هنا.


                        لقصتي بقية.......

                        تعليق

                        • سالم الجابري
                          أديب وكاتب
                          • 01-04-2011
                          • 473

                          #13
                          -لم يكن ليقلقني ذلك على الإطلاق، فأنا كما عهدتني لا أخالط غير كتبي إلا فيما ندر، حتى هناك في المدينة لم يكن يعرف وجهي إلا قليلون.....ثم إني تبت على يدي الراهب الأكبر نابور وتبرعت بكل أموالي للمعبد.

                          -ما أشدّ مكرك!!!!.....المال يعمي البصائر، على كل حال ان احتجت لمساعدتي فإنك تعلم الآن كيف تصل إلي.

                          أشعرني حوارهما بالضيق لأني لم أفهم الكثير، وفوق ذلك علمت أن هناك شيء ما يخفيه الراهب كيخ. عادت جفنا وأخوها وأمها بعد أن أعادوا الغنم للحظيرة، قام كيخ واقفاً وأعاد لبس غطاء رأسه، فهم الجميع أنه يريد الرحيل فقاموا وانحنوا له، تقدم هيت منه وقال بكل احترام ووقار

                          -سيدي الراهب كيخ، أشكرك على مجيئك وجلوسك معنا وعلى النبيذ الذي أحضرته، أرجو أن تبلغ سيدنا كبير الرهبان احترامي الكبير له وسعادتي بوجودي هنا عند هذا الجبل المقدس، وأرجو أن يبارك زواجنا أنا وجفنا.

                          أعقب هيت كلماته تلك بانحنائة توديع لكيخون الذي لم يقل شيئاً واستدار في هدوء نحو الطريق، التفت هيت لجفنا التي كانت تقف خلفه مباشرة، لم تستطع مواصلة النظر لعينيه من شدة الخجل، تظاهرت أنها تريد العودة للوراء لكنه أمسك بيدها، عندما رفعت وجهها كانت وجنتاها تقطران من دم الخجل وعيناها الناعستان ترجفان، قال لها

                          -ما رأيك لو ذهبنا لعند الصخرة بقرب الجدول؟

                          التفتت جفنا لأمها الواقفة خلفها وكأنها تطلب الإذن، بادر أخوها بون بقوله

                          -ما رأيكما لو تاخذان الأغنام أيضاً؟، إنها مزعجة وستمنعني من النوم!!!

                          أشار هيت برأسه موافقاً لبون لكن العجوز سارعت بالاعتراض على كلام ابنها

                          -لا.....دعوا الأغنام مكانها.....جفنا ستنظر لك، وأنت ستنظر لجفنا، فمن سيرعى الأغنام؟!؟!؟!....اذهبا ولا تتأخرا.

                          راقبتهما وهما يخرجان من الحائط يمشيان نحو الجدول، كانت العجوز تراقبهما أيضاً مع أنها كانت تتظاهر بالانشغال بغزل الصوف، بعد أن نزلا للأسفل أسرعت العجوز خلفهما وأطلت من فوق الحائط، وقفت تراقب للحظات ثم عادت أدراجها، ذهبت أنا أيضاً لأنظر لهما، أطللت من المكان الذي أطلت منه العجوز......يا لجمال ما رأيت، كانا يتناجيان على ضفة الجدول كوردتين، تخيلت نجواهما كلاماً جميلاً وخجلت من الإقتراب منهما ، عندما عدت باتجاه الخيمة كانت العجوز تجدّ في غزل الصوف وبون نائم إلى جانبها، مع انهماكها في الغزل شرعت العجوز أيضاً في الغناء، لم يكن صوتها كصوت ابنتها لكنه كان كافياً لإبقائي مستمعة، كانت أغنيتها تحكي عن ليلة انسكب فيها ماء القمر على زهرة ليمون فولدت طفلة جميلة، وجدت الطفلة إحدى جنيات الغابة فأخذتها لبيتها بين السحاب فوق جبل الشمس، كانت تطعمها رحيق الأزهار، وتنظف جسمها بقطع السحاب الناعمة، وتكحل عينيها من سواد آخر ساعات الليل.

                          لقصتي بقية......

                          تعليق

                          • سالم الجابري
                            أديب وكاتب
                            • 01-04-2011
                            • 473

                            #14
                            كنت أود الإستماع لباقي القصة في الأغنية، لكن العجوز توقفت عن الغناء حين انتهت من الغزل ودخلت الخيمة. الصمت أعطاني فرصة التأمل، كنت أسأل نفسي مالذي يجذبني هكذا للبشر، بالتأكيد ليس الشبه بيني وبينهم في الجسم، هناك عالم داخلي واسع أتشارك فيه معهم كما يتشاركونه هم مع بعضهم، ذلك العالم الداخلي فيه الخجل، وفيه الحب، وفيه المشاعر التي تعتريني حين أسمع الغناء ، ومنه انبعثت قطرات الدم التي احمرت لها وجنتا جفنا أمام هيت، ومن ذلك العالم نبتت الوردتان على ضفتي الجدول. ذلك هو العالم الحقيقي، وليست الجبال والأشجار والثمار......أكثر الأشياء حقيقة هي التي لا ترى.

                            امتلأ قلبي قناعة بأن مكاني هنا في داخل هذا العالم الذي تسكنه قلوب البشر، وليس عالمي الذي ولدت فيه، كنت أكلم نفسي وعيني تتابع العجوز وهي تخرج بقطع الصوف التي نسجتها لتنشرها على غصن جاف تحت أشعة الشمس، ألهمني ذلك ما عليّ أن أفعل إن أردت العيش معهم، لابد لي من التخلص من رداء الشمس الذي يخفيني عن الأعين واستبداله برداء آخر لا يخفيني، تذكرت يوم كنت أنظر للنجوم في أعلى الجبل، عندما هبطت مع الغزلان رأيت الكثير من وبرها عالق في الأشجار على طول الطريق المؤدي للسفح، فكرت في جمعه والطلب من الطيور أن تنسج لي ثوباً منه.

                            كانت الشمس قد مالت عن وسط السماء واقترب وقت العصر، قررت الذهاب لجمع الوبر قبل غياب الشمس، أسرعت بالعودة لمكان البحيرة، وأخذت الطريق الصاعد في الجبل، عند الصعود كنت أجمع الوبر من الأشجار من الجانب الأيمن، وحين بلغت نهاية الطريق عدت أدراجي وأنا أجمع الوبر من الجانب الآخر.

                            حين وصلت للسفح كنت أحمل كرة كبيرة من وبر الغزلان الناعم، وكانت الشمس قد قاربت المغيب وبدأت العصافير تأوي للكهف وعلى الأشجار القريبة، سألت إحدى الإناث عن القائد فنادت عليه، جائني مسرعاً من على أحد الأغصان

                            -نعم يا بنت دوائر الماء، ماذا تريدين؟

                            -أريد أن تنسجوا لي رداءً من الوبر.

                            -لماذا!؟.......لديك أفضل رداء في الدنيا، لماذا تريدين رداءً من وبر؟!؟!

                            -أريد أن أعيش مع البشر.

                            - ألم يحذرك راجي من البشر؟

                            -لا أذكر أنه فعل ذلك.

                            -أعجب لك.....لماذا تريدين الخروج من هذه الجنة التي تحيين فيها برغد والذهاب للبشر حيث عليك أن تفعلي الكثير ؟

                            -نعم أنا هنا أحيى في جنة، لكنها جنّة للجسد فقط، أريد تلك الجنة الخفيّة التي تحيا فيها الروح.

                            -أنا لا أفهم ما تقولين يا بنت دوائر الماء، لكننا سنبدأ من الغد في نسج ثوبك الجديد، لكنك ستفقدين رداء الشمس للأبد.

                            -لا أبالي ..... هل سيستغرق نسج ثوب الوبر وقتاً طويلاً ؟

                            -لا أبداً......الوبر ليس كخيوط الشمس، نستطيع نسجه في يوم واحد فقط.

                            لقصتي بقية........

                            تعليق

                            • سالم الجابري
                              أديب وكاتب
                              • 01-04-2011
                              • 473

                              #15
                              نمت تلك الليلة بصعوبة شديدة بسبب الإثارة التي كنت أحسّ بها ، كنت أتخيل نفسي حين ألتقي جفنا وتراني.......كيف ستبدو الدهشة في عينيها؟!!!.....ماذا ستفعل لو ألقيت نفسي بين يديها وعانقتها؟!......كان بي شوق لأشم شعرها المعطّر. تخيلت نفسي أخرج لها من بين الأشجار وهي تغني ..... أو أسبقها وأجلس على الجدول عند الصخرة وعندما تصل تجدني أجلس مكانها متكئة على يديّ مثلها.
                              عندما استيقظت في الصباح كانت الطيور قد بدأت بنسج الثوب، لكنها كانت على غير عادتها تعمل بصمت، وتعجبت أكثر حين لم أسمع أي أصوات بالخارج، خرجت أستطلع فإذا بكل الطيور مازالت على أغصان الشجر ولم تغدوا للبحث عن الطعام، كلها صامتة ويبدو عليها الحزن، السناجب أيضاً كانت بالأعلى تنظر لي، لكن عيونها الفضولية كانت غائمة ومنكسرة.......طار قائد الطيور من على الشجرة وحط بقربي على الصخرة، قال

                              -هل تريدين معرفة سبب حزننا يا بنت دوائر الماء.

                              -بالطبع..... أنتم والسناجب، حتى الفراشات لا أراها.....ولا غزلان عند البحيرة.......مالذي حدث ؟!؟!

                              -ستغادرين اليوم للبشر....هذا هو السبب!!!

                              -لكنني لن أترككم، سأعود هنا دائماً.

                              -لكنكِ ستتغيرين بالتأكيد، عالم البشر مختلف عنّا تماماً.

                              - كيف هو مختلف؟!.

                              -نحن يا بنت دوائر الماء نحيا كما قُدِّر لنا دون اعتراض، أما البشر فيريدون أن يصنعوا أقدارهم بأنفسهم ويغيّروا أقدار كلّ شيء حولهم.

                              لم أستوعب كلماته حينها، ولمّا لم أجب عليه تركني ليطير نحو غصن قريب، أنتظرت بلهفة أن تنتهي الطيور من الغزل، كنت أسترق النظر لها لأعرف أين وصلت، لم أستطع النظر لعيونها من خجلي منها، كما لم أرد أن ينتقل حزنها لي.

                              كانت الطيور تغزل بمهارة وسرعة، وقبل انتصاف النهار كانت قد أنجزت المهمة، حاولت أن أخفي فرحي قدر ماستطعت لكي لا أجرح مشاعرها، لكن غلبتني ابتسامتي وأنا أمد يدي لأتناول الثوب المعلق، خرجت عني الطيور وبقيت وحدي ممسكة بالثوب، احترت ماذا أفعل، هل أخلع رداء الشمس وأتركه أم أرتدي ثوب الوبر فوقه!!......قررت استشارة قائد الطيور، ناديت عليه فلم يأتي، خرجت لعند الباب ففرت كل الطيور التي كانت على الأشجار، وقفت وقد أخافني طيرانها المفاجئ، انتبهت لنفسي أني أصبحت عارية، أسرعت للداخل وبي خوف شديد، ارتديت الثوب وانكفأت بزاوية الكهف مرتعبة أبكي ضامّة ركبتيّ لصدري.......دخل عليّ قائد الطيور ووقف على صخرة بقربي، سألته ودموعي تجري

                              -لماذا أصبحت عارية؟!......أين اختفى رداء الشمس الذي كان يسترني؟

                              -بنت دوائر الماء......حين أخذت ثوب الوبر اخترتِ قدركِ بيدكِ، وخرجت بذلك عن قدركِ السابق...... لا داعي للبكاء.......الآن ستحتاجين للشجاعة والحكمة أكثر من أي شيء آخر.........سأذهب الآن، لكننا لاشك سنلتقي.

                              خرج عني قائد الطيور وأنا أجفف دمعي، بقيت جالسة لساعة أو أكثر، أدركت أني لابد أن أمضي في الطريق الذي اخترته لنفسي، خرجت من الكهف وكان الوقت عصراً، أحسست بتغير كبير بدون رداء الشمس، أحسست أني أثقل بكثير وحركتي أبطأ، لفحت وجهي نسمات باردة جففت آخر آثار الدموع في عينيّ، ثم بدأت أرتجف وأسناني تصطك ببعضها، أسرعت بالمشي وأنا أضم يدي لصدري، كان أقسى شيء هو المشي على الحجارة الحادة بقدمين حافيتين. حين وصلت للنهر الفاصل بين الجبال كنت أكاد لا أحس بقدميّ من البرد وشعرت برغبة قوية للبكاء، لكن أملي أن تكون جفنا في التلال المقابلة حملني على التقدم، خضت ماء النهر الباردة وأنا لا أدري على أي شيء أضع قدميّ، في منتصف النهر أحسست أني سأنهار وأسقط.....حاولت بكل قوتي أن أنادي باسم جفنا لكني لم أقوى حتى على إخراج صوت. تلك اللحظة العصيبة علمتني درساً مهماً، علّمتني أن الروح أقوى عن الجسد، قررت أن أعبر للضفة الأخرى حتى لو لم تطاوعني قدماي، ولو اضطررت لتركهما في النهر، ولو تخليت عن كل جسدي سأعبر.....هكذا كنت أقول لنفسي، وعبرت النهر......أذكر أني وقفت بعد خروجي من الماء وإذا بالأرض تقترب من وجهي بسرعة ثم تصطدم به.


                              للقصة بقية.....

                              تعليق

                              يعمل...
                              X