حكايةٌ ما
قصر الموت .
قصر الموت .
أحمد عيسى
هذا القصر كله لك !
ينظر أصدقائي إلى القصر المنيف الذي يبدو من بعيد ، جدرانه بيضاء كأنه جاء من قلب التاريخ ، بواباته هائلة ، والسماء فوقه تبدو كأنها حفته بعناية خاصة ، تجمعت حوله سحاباتها وأمطرته بوابل خفيف من المطر ، فبدا متفرداً عظيما .
نعم انه لي ، هل ترغبون في رؤيته ؟
هزوا جميعاً رؤوسهم علامة الإيجاب ، فتناولت مفاتيحي من فوق مكتبي ، ورفعتها أمامهم ليرونها ، فأبدوا جميعاً انبهارهم ، رغم أنهم لم يشاهدوا بعد سوى مفتاح عادي لا يختلف حتى بالحجم عن مفتاح المكتب ..
هيا بنا ، وانطلقنا جميعاً إلى حيث يقبع القصر شامخاً ، الطريق تبدو فارغة إلا من متسولين وهاربين من قوى الأمن ، الطريق تبدو خارجة من العصر الحالي ، كأنها مجرد لمحة من عالم الماضي ، سيارات قديمة متهالكة ، وإطارات مشتعلة ، ومحال مغلقة بالشمع الأحمر ، وجثثٌ ليس لها عنوان ، ودخان يتصاعد في السماء ليغطي المدينة بهالة مقيتة .
تبتعد إحدى صديقاتي في تأفف عن إحدى الجثث ، فترتطم بي .
أسماء .. زوجة صديقي الأغلى على قلبي ، لم أكن أعرف أنها تمتلك هذا الجسم الطري ، أمد يدي لأمسكها من خاصرتها ، وأبدو كأني فقط أساعدها على التماسك ، بينما بركانٌ هائل يتداعى في مشاعري ..
أمام بوابة القصر وقفنا ، أشارت أسماء إليه : ها هو ذا
وانقضت عليه تضرب الباب بقبضتيها ، فقلت ضاحكاً : لماذا تدقين الباب ؟
فقالت : ألم تخبرنا مسبقاً أن هناك خدماً ؟
قلت : أخبرني والدي بهذا وأخبره جده بهذا ، خدم كبار ربما لم يموتوا بعد ، وربما تحللت جثثهم ، لكني في جميع الأحوال أعلم أنهم لن يفتحوا الأبواب لأحد ، لن يخاطروا بأن تبدو خيرات القصر لكل هؤلاء المحرومين ..
وأخرجت مفتاحي ، وبدأت أديره في الباب فلم يفلح الأمر في البداية ، فككته وأعطيته لزميلي أشرف وانطلقت إلى الباب الآخر أحاول به ولم ينجح الأمر أيضاً ، ناديت على أشرف : هل نجح الأمر ؟
فرد : ليس بعد ، لكني أشعر أن المفتاح سينكسر داخل هذا الباب .
تسلقت أسماء على إطار نافذة غرفة الحراسة ، ومدت يديها إلى أشرف ومها ، فصاروا مثلها ، وبدأوا جميعاً في التحرك فوق الإطار ، حتى اقتربوا من النافذة المغلقة ، وبدأت أسماء تحاول كسرها .
يبدو أننا تجاوزنا الحدود ، على الأقل هم فعلوا ، متوتراً صرت أحاول بمفاتيحي واحداً وراء الآخر ، حتى انفتح الباب أمامي ، لكن المفتاح انكسر داخل الباب ، فلم أعد قادرا على إغلاقه ، ذهبت إلى الباب الآخر ، فوجدت المفتاح الذي أعطيته لأشرف عالقاً هو الآخر في الباب ، حاولت إخراجه فانكسر أيضاً داخل الباب ، ووجدت أن باستطاعتي فتح الباب ، دخلت إلى القصر كالمنتصر ، فوجدت الخادم العجوز يهرع لي ، ماذا فعلت أيها التعس ؟
وأمسكني من تلابيبي وصار يهزني بقوة كأنه يريد قتلي ، أبعدته عني في تأفف ، انه قصري وهذه مفاتيحي ، لقد ورثته عن والدي .. يستمر بالإمساك بي بكل ما يمتلك من قوة رغم ضعفه الجسدي : ورثت ماذا أيها التعس ؟
أبعدته عني ، وكان الآخرون قد وصلوا ، فصاح الخادم في لهجة آمرة :
- أغلقوا الأبواب ، بسرعة قبل أن يأتينا كل متطفل في هذه المدينة .
حاولنا إغلاق الأبواب ففشلنا ، وقلت أنا بخجل : أعتقد أن المفاتيح انكسرت داخل الأبواب ، ولم يعد إغلاقها بالقفل ممكناً .
ضرب الخادم خديه بقبضتيه كأنه يلكم نفسه ، وصار يولول كامرأة فقدت بعلها ، وبدأ يركض في كل مكان ، يأتي بكل حجر أو قطعة حديد أو نحاس في القصر ، ويرميها أمام البوابات ، وقال وهو يكاد يبكي :
استعدوا إذاً لاستقبال ثورة ..
وعاد ليمسكني من تلابيبي مرة أخرى : وإياك أن يدخل القصر واحد منهم حياً .. أريدهم جميعاً أمواتا
تجمعنا أمام البوابات المفتوحة ، وصنعنا بأجسادنا نصف دائرة أمام كلاً منها ، وأمام عيوننا الذاهلة كانت الجموع تقترب ، طلب الخادم مني مذعوراً أن نلقي بجذع شجرة النخل أمام البوابة ففعلنا ، وانتظرنا
أجساد بشرية أو شبه بشرية تحاول اجتياز النخلة ، ومع التدافع يتساقطون فوق بعضهم فيؤخرون تقدمهم ، وعندما ينجح أحدهم في ذلك يعاجلهم رئيس الخدم بحجر فوق رأسه فيسقط في الحال .
لاحظت أن أجسادهم هشة وأن أي ضربة تكفي لقتلهم ، بدأت أستسيغ الأمر ، ومع الوقت وجدت أن زملائي جميعاً يستمتعون بالأمر ، الجثث تتراكم حتى صنعت أمامنا حائطاً طويلاً صار يمنعهم هم من الاقتراب أكثر ..
وبين الحين والآخر أجد أحدهم فيصرخ رئيس الخدم : انتبه .. انه أمامك
فأرمي الحجر الذي في يدي بحركة تلقائية لأجد هذا الشيخ يسقط أمامي ، أو تلك الفتاة أو هذا الطفل ، صارت الأجساد متشابهة متداخلة .
شق ذلك الشاب الطريق بقوة جسدية يحسد عليها ، وقفز فوق الأجساد المتراصة ، حتى كاد يصلني ، تراجعت للخلف فاقترب مني أكثر ، شعرت نفسي عاجزاً أمام نظراته التي اخترقت جمجمتي ..
نظر لي في توسل ، فلم أفعل شيئاً سوى الصمت ، طالت نظرة السكوت بيننا ، فمد يده على اتساعها ، وتناول تلك الزجاجة الفارغة من يدي ، وضرب رأسه بها –أمام عيني الذاهلتين – ووضع ما تبقى من زجاج داخل فمه وهو يتساقط أرضاً .
صرخت في رئيس الخدم : لقد جاءوا ينتحرون ، لم نكن نقتلهم لندافع عن أنفسنا ، كنا نلبي رغباتهم وحسب .
لم يرد رئيس الخدم ، ولم أسمع جواباً من زملائي ، غير أن القصر صار أرحب ، أكثر اتساعاً كأنه مدينة .
تعليق