اغتراب الإنسان في نص دمعة وشمعة
طرحت القاصة ثلاث طروحات أو ثلاث رؤى في قصة واحدة
أولهما مفهوم فلسفي سيكولوجي هو مفهوم الاغتراب
ثانيهما مفهوم العام والخاص والتشبيهات الدلالية بين الجزء الصغير الإنسان والكل الكبير الوطن أو الشعب
والمفهوم الثالث اجتماعي وما تخلفه الوحدة في كبار السن من أمراض وصراعات نفسية
وفق هذه الرؤيا قرأت النص وقد تكون الكاتبة لا تهدف إلا لمفهوم واحد من هذه المفاهيم لكن الناقد أمامه معطيات ودلالات ومؤشرات ومن خلال القراءة يستنتج ما الذي يسعى إليه
الكاتب في نصه وما هو المضمون ألقصدي الذي يتضمنه هذا النص وليس بالضرورة أن يكون مطابقا بشكل كامل لما يريده القاص
المفهوم الاجتماعي
الكاتبة طرحت مشكلة اجتماعية وإنسانية كبيرة تهمنا نحن كآباء
وكمنظمات إنسانية ومؤسسات دولة معنية برعاية شؤون كبار السن ومشاكلهم واحتياجاتهم والوسائل الكفيلة بتبديد الملل وزجهم في إعمال نافعة تتفق ومقدراتهم وقابلياتهم
الوطن العربي بصورة عامة يفتقر إلى مؤسسات رعاية اجتماعية فالإنسان لم يكن غاية في يوم من الأيام تهم الأنظمة العربية ، يبددون ملايين الدولارات في أعمال بعيدة عن أعمار وبناء الإنسان أمام هذا التهاون والا مبالاة لهذه الشريحة الكبيرة من المجتمع برزت مشاكل جمة منها إن قدراتهم على العطاء قد عطلت بشكل كامل ، وباتوا نهبا للأمراض النفسية والجسمانية والتي معظمها ترجع لأمراض نفسية ومنها أمراض الوحدة والاكتئاب والانطوائية وفقدان الثقة بالنفس الوحدة
مشكلة طالما عانينا منها والتي تكتنف جو كبار السن الذين لا يجدون من يقترب منهم ويشاطرهم أحاسيسهم ويعمل على تحقيق أمنياتهم ، لذا فأن العربي ما أن يصل إلى سن اليأس حتى تبقى غمامة من الأفكار السوداوية تتسرب إلى داخله تحطم كل طموحاته وكنت أسأل نفسي لم آبائنا بعد الكبر يشترون أكفانهم وحنوطهم أهو عرف أم إن الحبال التي تربطهم بالحياة قد تقطعت ، وما عادت تعني لهم الحياة شيئا ،
( مشكلة الاغتراب عند الإنسان )
رغم الصراع الكبير بين الأجيال الجيل القديم و الجيل الجديد لكن كلاهما يعيش حالة اغتراب ، فكلاهما يعيش اغترابا مع النفس والذي أصبح هذا الاغتراب حالة وجدانية طاغية تشكل وحدة من وحدات البناء للنفس البشرية مضافة إلى ازدواجية الشخصية ، وهي مشكلة حقيقية جديرة بالاهتمام والبحث ، ربما هي صرخة بوجه مجتمع فقد الكثير من القيم والتعاليم الإنسانية التي باتت الأجيال الجديدة تتجرد منها شيئا فشيئا ، فالتمرد على هذه القيم يعد منحى نحو التقدم والرقي بالنسبة للجيل الجديد أما جيلنا فيحاول الثبات على هذه القيم وبين هذا وذاك يصبح الاغتراب السمة الغالبة لكلا الجيلين فكل منهما يعيش غربته الخاصة ، فصلة الرحم ، وهذا الوئام والانسجام والعلاقات العائلية المتينة والتي كانت تسود الأسرة العربية أخذت تتفكك شيئا فشيئا
وربما الرابط الوحيد الذي يربط الابن بعائلته هو العامل المادي وحاجته للسكن ، هذه ليست من نسج الخيال بل واقع بدأنا نتلمسه بشكل كبير ،لذا فأن أهمية هذا النص في قيمة ما طرحته الكاتبة من أفكار اجتماعية وهي أفكار جديرة بالمناقشة
تحليل النص
بين حرقة النوى التي تغص بها امرأة وحيدة عاشت سني عمرها على أمل ، بل بصيص من أمل مجرد تلفون يحيي في داخلها ألف ذكرى،
بين دموعها وبين دموع الشمع تشابه كبير فكلاهما صهارة نار ، الدموع المنسكبة منها ملتهبة بنار الجوى والفراق ، ودموع الشمع بنار مادية تتلظى ، وكلاهما ينير الدرب للغير كلاهما لا يحترق إلا جسدا ، ما أن ينضب زيتهما حتى يذويان في صمت دائم تلفهما ظلمة أبدية ، لقد أجادت الكاتبة وبشكل كبير في أن تختار عنوانا كان لوحده نصا ، مستخدمة بذلك نمط من أنماط المجاز الذهني أو التعبيرات المجازية اللغوية التي فارق استخداماتها الكثير من الكتاب ، تضافرت الدموع الإنسانية الغريزية وما تسكبه الشمعة من منصهر لتقول لنا الكاتبة أن حرارة الدموع كحرارة هذا المنصهر من الشموع وبهذا التعبير نصل إلى عمق مأساة هذه المرآة
كانت تُقَلّبُ نظراتها بين زهرات اللوز المُكّدسةِ خلف النافذة..وبين هذا الخواء الذي يلفُّ المكان ،بينما راح الهدوء الحزين يفوح من كل الزوايا والأركان ، قد يتسلى البشر .
يومٌ ويمرُّ كباقي الأيام
كم قاسية هي الوحدة التي راحت تلف المكان مفارقة في غاية الروعة ما فائدة الجمال والوحشة وذلك الصمت الذي يشبه صمت القبور يخيم على جو بلا أنفاس ، من يطيق الوحدة وإن عشنا في جنة بلا بشر ، لم يكن مزاجا سوداويا ، ولا هو بلحظات طارئة قد تزول إنها حالة إنسانية ومشاعر راقية ، قد نشاهد صورها كل يوم فكلما امتد العمر بالإنسان حتى تجد حبال الوحدة تلتف عليه بشكل لا إرادي تطوقه من كل جانب يجد نفسه غريبا وسط أولاده وفي كنف عائلته حتى ، لا أحد يكلمه ، ولا أحد يقترب منه ، فما بالك أن الوحدة مفروضة عليها في بيت كان يضج بحركة غير طبيعية أولاد يمتلأ البيت بهم بشقاوتهم بممازحاتهم بضحكاتهم ، وهي بقايا ذكريات تزيدها أسى ولوعة
تُحدثُ نفسها وسط تنهيدةٍ حرّى ، وهي تنقلُ خطواتها بحذر كأنها تمشي فوقَ أرضٍ زلِقة ..، وراحت تتسكّعُ في زوايا الذكريات ..أينما تلفَّتت تصطدمُ بضحكاتِ
...!
في البلاغة القديمة تستخدم الاستعارة كقيمة تزويقية لكن الكاتبة هنا استخدمتها لتقدم غرضا خاصا بها إنها تعبيرات عن حالة نفسية مكتظة بالمشاعر المتناقضة ، بين واقع معاش و عالم حالم ، فحتى هذه الحركات البسيطة، أرادت أن توصل إلينا بها فكرة إيحائية معينة فالحركة البطيئة عادة ما ترافق الحزن واليأس ، وحين لا تجد موضعا لقدمها دليل حيرة وتخبط ، وكثرة الالتفات دلالة على الأمل المفقود الذي لازال يشكل أحد مقومات وجودها ولكنه أمل بعيد المنال وما تلك الذكريات إلا حالة من التعويض عن الفقد ، الكاتبة هنا ترسم لنا وبشكل دقيق تلك الصراعات النفسية العميقة ، وتترجمها إلى حركات وصور ذهنية ، بعضها مسموعة وأخرى مرئية ، لم تمحى من ذاكرتها طيلة سنوات الفراق التي عاشتها فلا يوجد مكان إلا وبه
ذكرى من هذه الذكريات التي كانت تشكل في يوم ما قمة سعادتها ورضاها
خمسةٌ من فلذات الأكباد أنجبت ..مُتخطِّية دعوات تحديد النسلِ ..، فأين هم الآن ...؟أين حبات القلوب ..حدقات العيون ...وقد توزّعتهم بقاعُ الأرضِ خلف البحارِ والخلجان ...؟؟؟
تقوم الكاتبة بوظيفة إخبار ، لما كنا نجهله أونشك به وهي أنها أم لخمسة أولاد تفرقوا في شتات هذه الأرض خلف البحار والخلجان ، في هذا المقطع تتجسد حكمة أرادت أن تضمنها نصها ولكن بشكل غير مباشر ، وربما جاء على شكل تساؤل ما فائدة الإنجاب إذا كانوا بعيدين عنها ...؟ وهو ليس بدافع أناني بل هو سؤال تريد أن تجطد له جوابا
أولادها موزعون في بلدان غير بلدانهم ، وهنا تأتي صيغة أعم للسؤال ما فائدة أن يكون خير هؤلاء الأولاد لأوطان غير أوطانهم ،
وفق هذه الرؤى حددت الكاتبة مفاهيمها ورؤاها على شكل تساؤلات ، أن ما عنيته بالخاص كون البطلة هي الأم يمكن أن تكون انعكاسا عاما أن هذه المرأة هي الوطن هي بهية في الأدب الشعبي المصري ، وربما لم تعني ذلك لكن الزاوية التي راحت تصور منها الحدث ، واستخدام مفردات جغرافية كالأرض والبحار والخلجان قد يجعل من مدى الرؤيا للقصد أبعد مما هو مرسوم في النص وهي رؤيا فيها أكثر من وجهة نظر
غربة الكاتبة
اعتمدت الكاتبة على غربتها هي حتى وإن لم تكن الشخصية التي صورتها الكاتبة صورة ردائية لها ، لكن غربة الأديب حقيقة معاشة ، وغربة الفلسطيني حتى وإن كان في بلاده نتلمسها في الأدب الفلسطيني ، وغربة العربي والشعور بالضياع سمة من سمات عصرنا الحالي ، لقد كانت هناك هوية للكيان العربي يعتد بها ، وكان هناك شخصية عربية واضحة الملامح ، أصبح الآن بلا هوية تميزه ،لذا فإن هذا الإغتراب هو اغتراب المثقف العربي
لغة النص والأسلوب
من خلال تراكم المعين اللغوي لديها في تصوير الأحداث ، وجعلت من التشبيه الوصفي صفة عامة في النص تستمد منها عبارتها الفخمة والرصينة راحت تقودنا إلى تحليلات قد تتجاوز قصد يتها التي تتفق ومداركها الحسية ،
قد لا أتفق والتحليل البنيوي الذي يجرد النص من الدوافع النفسية والتأثيرات الداخلية للكاتب ، ويعلن موت الكاتب بعد كتابة النص ، لأني من خلال دراسة عدد كبير من النصوص وجدت إن عوامل الكبت ، وكوامن العقل الباطن تتحرك وبشكل لا أرادي مع الخيال
وأشبه الكتابة بعملية التنويم المغناطيس إذ يستقري المنوم من مريضه
عشرات المعلومات التي كانت بحكم المنسية ، لذا فأن التلقائية تمنح العقل الباطن القدرة على استخراج مكنوناته
وهذا الاستنتاج عن تجربة شخصية لذا فإني أؤكد على أن الكاتب لا يستحضر الكلمات في رأسه بل تأتي وكأنها تيار من الماء يجرف معه الكثير من الرواسب في قاع النهر ،
ماذا تبقى لها منهم ...؟؟ صورهم المبتسمةُ فوق الجدران ..؟؟!!توقيعات أزمنة ...ولحظاتٍ في رحلة الأيام ...؟
نعم كانت تعيش الوحدة القاسية ،بكل معانيها وكانت وكأنها تحاور هؤلاء الأولاد لتقول لهم إن خطيئتها هو فرط الأمل الذي وضعته فيهم لذا فهي بهذا الاسترجاع تريد أن تقول لهم كنتم هنا بالأمس واليوم أنتم منعمين بالدفء والسعادة وأنا هنا وحيدة ، هنا أرقد أنا تحيط بي جدران أربعة ، وكل ما هو جميل لم يعد جميلا ، فالزهور النضرة ، والخضرة ، والعطر الذي يضوع لم يعد له معنى
وكأنها ورغم عطائها الكبير لا تعيش لنفسها ، إنما تعيش لهم
هذا الإيثار لا يملكه إلا قلب أم كبير
\...!!
أفكارها السوداء وخواطرها الشاحبةُ تمرُّ في خيالها كما تمرّ سحُبُ الجراد بحقلٍ ...فتتركهُ أرضا جرداء .
نسرح مع الكاتبة ببلاغة الوصف وإتقانها التشبيه اللغوي ببراعة ، فهذه الاستعارات اللفظية أعطت النص متانة في البناء ورصت كلماته ، وهذا الفيض من الجمال جعل من النص مادة مهضومة ، تعاطفنا مع البطلة بشكل إنساني لأنها برعت في رسمها لتلك الشخصية الانطوائية ، فالكاتبة لم تشر إن ثمة علاقة بينها وبين الجيران لكنها أوحت بتلك الانطوائية من خلال الخط البياني للنص ـوبذا قد رسمت الكاتبة ملامح كاملة لشخصية هذه المرأة دون إخبار أو إبلاغ منها ,
تتجهُ بأنظارها إلى الهاتفِ القابع أمامها ...يُشاركها ا...يطولُ انتظارها
:
ما زال الوقت مبكراً ...قد يتصلون ...مشغولون هم ..أجل مشغولون بأعباء الحياة ..، أما كنتِ مثلهم تتلذذينَ
باقتحام مجاهل هذه الحياة ...؟مشغولة بمكابدة الثبات تحت العواصف والأنواء ...؟
ودائما تجد العذر عذرا تريد أن تكذب به على نفسها تبرر انشغالهم عنها بأعذار هي تبتدعها ، ولكنها لن تصدق ذلك ، كيف تصدق وكل هذا الألم يعتصرها يرن الهاتف بعد قطيعة معه تهرول بفرح ، تلتقط السماعة ، وحين تسمع
_ هاي مام ..هابي مَذَر دي ...
تصطدم بغربة اللسان وبغربة السلوك وبغربة العواطف ، وهذا التراث الذي ألقى به في يم الغربة ليكشف لنا أن هذا الإرث اللغوي الذي يجب الحفاظ عليه قد تبدل إلى لكنة غريبة على سمعها ، لقد نسى اللغة الأم أو تناسها وأصبح يرطن بهجين بين اللغة العربية والانكليزية
وليت اللهجة وحدها بل هذا الحنان الكبير الذي أرضعته لهم قد غادرهم أيضا ، غادرهم حب الوطن ربما والشوق إليه
أتعس شيئا على الإنسان أن تقابل لهفته وتشوقه والحب الكبير الذي يكنه للغير بمشاعر ميتة لا حياة فيها ، إنها صدمة تحتاج سنينا كي يفوق منها البشر ، ليت التلفون ما رن ليته كان ميت المشاعر مثلهم لينبئها بأن لا حرارة فيه ، جاء المشهد في غاية المأساوية جاء مشهدا تراجيديا مشحونا بالانفعالات ، يخترق كل الحواجز التي ، تجعل من الصمت شكلا من أشكال السكون ، لابد أن يمزق هذا الصمت ، لابد أن تخترقه صرخة من الأعماق لابد من دموع تغسل مافي النفس من أدران ، بهذه التقنية أرادت أن تقول كل ما يختفي في صدرها من لواعج نفسها
.
..تقعُ عيناها على شجرةِ الصّبار العجوز وقد أنشبت مخالبها في قلب زهرات اللوز الغضّة
هذه العبارة أثارت في داخلي الكثير من الأشجان وكأنها أنكأت الكثير من الجراح في داخلي أسلمتني إلى الذهول ، لأنها القناعة التي توصلت إليها ، وهي التخلص من تلك الأوهام والارتباط القدري بهؤلاء الأولاد كتشبث مخالب الصبار بزهرات اللوز ، ربما شعرت بأنها ستكون عالة عليهم ، بهذه الرغبات المحمومة ، وهو استسلام موضوعي ، إنها أيقنت إن لهم عالهم الخاص الذي لا يشبه عالمهم ، شبهت نفسها بالصبار القميء ، وأولادها بإزهار اللوز الغضة ،
إنها معزوفة هذا العصر التي تنهي قصتها بها ..
_يا لقسوةِ الحياة ...
تقولها ....وبهدوءٍ موجَع ...تُغلقُ الباب
لم تغلق باب الأمل بالحياة بل باب الآمال الخادعة التي ما عادت تحقق لها شيئا
أعتمد النص على المشاعر الفياضة في داخل النفس البشرية ، وأعطت الكاتبة لهذه المشاعر بعدها الإنساني الغريزي والطبيعي ، كانت قصيدة رائعة وجميلة والحق إنها تستحق مثل هذا التكريم
المزيد من الإبداع
ولكم مني كل التقدير والامتنان
تعليق