قفطان الفضّة
أغلق " بحري" باب المرحاض خلفه بالقفل.كان ضيّقا و قذرا للغاية.تقيّأ بهدوء،ثمّ بلّل يده قليلا و مرّرها على فمه و حرص على أن لا يبتلع قطرة واحدة.مسح يده ببنطلونه من جهة الرّكبة و نظر إلى أعلى.السّقف عال مقارنة بأسقف المنازل،و النّافذة بعيدة و عبارة عن شبكة من الأسلاك المعدنيّة الخشنة،من الأسفل إلى الأعلى و قبل أن يغوص في ثقب كبير بالجدار ينتصب أنبوب مكشوف من الزّنك المطليّ،و فكّر بحري:لو كان سجنا لتسلّقت الأنبوب كحبل و لفررت عبر النّافذة،إنّ فيها مزقا في حوافّها ،و حتما سيكون من السّهل جدّا فتقها .ثمّ استدار ناحية الباب و سوّى قميصه جيّدا و خرج راسما على وجهه ملامح اليقظة و عدم الانزعاج.
لمّا التحق بالطّاولة كان مزاجه قد تعكّر فعلا،و رفاقه قد غيّروا الحديث عن الأجر الأدنى الصّناعيّ..منذ قليل قال أحدهم بأنّه الأجر الخام الذي ستضاف إليه المنح،فيما اتّفق البقيّة على أنّه الأجر الخام قبل طرح الضّرائب،و أمكنه الآن أن يلاحظ على بعضهم علامات السّكر.شرب ثلاثة أكواب من الماء دفعة واحدة،ثمّ استكان ينتظر مفعولها.و انزوى اثنان من رفاقه يلعبان الورق برتابة. كان أحدهما يذكّر الآخر بالنّتيجة عند انتهاء كلّ جولة،و لم يكن خصمه عامل البنزين يناقش أو حتّى يومىء برأسه رغم أنّ صاحبه أخطأ مرّتين.و كان يتابع الّلعب بالضّجر الذي يراقب به عدّاد المضخّة. و استمرّ الآخرون في تصنيف السّلع المدعومة من قبل الدّولة،و قرّر بحري أن يشاركهم بقوّة و غبطة مصطنعة، فإمّا أن يعود الوخز الّلطيف إلى جسمه،و إمّا أن يحدث له شيء ما لا يشبه حالة الإدراك التي سيطرت عليه بالكامل،كأن يتقيّأ بشكل لا يبقي في معدته شيئا،أو أن ينقل إلى المستشفى بعد انهيار من شدّة الإنهاك،أو أن يغمى عليه مثلا..أو حتّى يموت.كانت لديه رغبة في أن يطرأ عليه أمر مغاير.
و قال:
" أتدرون ما الذي حدث بالضّبط ؟
لا شيء..
مجموعة خراف برّيّة تركت العدالة و اقتسام الحشيش بالتّساوي و ثارت لكونها تملك قرونا ملتوية ،لا كالزّرافات.. هل تعتقدون أنّ ثورة كهذه تحتمل أساسا أن تُطرح بشأنها مسألة نجاح أو فشل ؟
ربّما كان الأمر أقلّ سوءْ لو خرجنا مطالبين بإسقاط الموت..
هل فيكم من يجيبني،لم لسنا فرحين ؟
تكلّم صابر ساعي البريد:
- لأنّهم يقابلون ثورة قهر حقيقيّ بمجلّدات قانون مريض..يُعتبر و لا يعتبر..يجوز و لا يجوز،يمكن و لا يمكن ...ثمّ انفعل فجأة:
عبّىء الكلاب في قطار و أرسلهم بهم إلى سيبيريا !..إلى الجحيم..!
قال بحري بإصرار ساخر :لا ليس هذا..! قلت لكم لماذا..لأنّنا نريد قرونا كالتي لدى الزّرافات..هذا كلّ ما نريده.. مللنا قروننا .. ماذا علينا أن نفعل كي نجعلها تفهم أنّنا كرهناها ؟
تكلّم منصور نادل الحانة المجاورة :
- ألا يمكنكم أن تشربوا صامتين ..اعتقدت أنّكم تأتون إلى هنا هربا من طاولات البلّور؟
تابع بحري غير عابىء بسخط منصور:
..و الانتحار الجماعيّ ليس هو الحلّ..لأنّ أحفادنا سيولدون حتما بقرون ملتوية،و سوف لن يتبدّل شيء على الإطلاق..
ثمّ ساقه الكلام فوجد نفسه يعدّد الحجج و يشرح لهم قضيّة الزّواج العرفيّ،رغم أنّه يجهلها تماما،و حدّث نفسه بأنّ الإنسان يعلم كلّ شيء لكنّه يجهل ذلك.و خطر له على نحو ممتع و معقول جدّا أن يبدأ من الغد في صنع مجسّمات لمراكب صغيرة بأعواد الثّقاب،و لا شيء سوى أعواد الثّقاب،مادام الانسان يعرف كلّ شيء و لا يعلم. كان قد شاهد في التّلفزيون ما يشبه ذلك.و قال في سرّه : أنا على ثقة بأنّي أستطيع فعل ذلك،سأبيع منها الكثير،فالتّجربة غير منتشرة.سأجني منها أموالا محترمة إن لم تكن طائلة ، ستكون حياتي أفضل.و سأشتري لمفيدة قفطانا أزراره من فضّة .سأنسيها قلّة الأطفال..و اقتنع :المسألة لا تستدعي دراية.ليس هناك أمر في الدّنيا يستدعي دراية.علينا فقط أن نقذف بأنفسنا داخل المشروع و كفى.
و داعبته الفكرة فطفق يشرب و أحسّ بأنّه استعاد الوخز الّلطيف.و ظلّ طوال الوقت المتبقّي للجلسة يطعّم المواضيع بمصطلح العزيمة الجبّارة.
كان بحري دائما يحكي لزوجته عن قوّة غامضة تجعل أعماله تتراجع إلى الوراء كلّما قرّر القيام بخطوة إلى الأمام،و يوم أسعفه خياله بالتّشبيه المناسب للحالة و ابتسمت زوجته تعبيرا على أنّها تصدّقه حقّا،كفّ عن الشّكوى نهائيّا.
قال لها:
كأنّي مزارع و كأنّ لي محراثا.و لمّا حان موعد الحرث و عوض أن أتوجّه به نحو أرضي،توجّهت به إلى الحدّاد لإصلاحه..
ليلتها و قبل انصرافهم بقليل نطق زبير أصغر الرّفاق،و حلاّقهم:
- على ذكر الفلاّحين..اسمعوا هذه الحكاية..و أقسم لكم أنّها واقعيّة بل أكثر من ذلك،إنّي أعرف الرّجل كما أعرفكم... كان لا يملك سوى جرّار قديم و محراث لا يلامس الأرض في أدنى وضعيّاته..في البداية جرّب وضع كيسين من الرّمل فوقه فنجحت التّجربة و غاصت السّكك في التّراب..فماذا فعل ؟ صار يخيّر الفلاّحين الذين يستدعونه بين أمرين : بين الحرث بالأكياس أو بدون الأكياس..و كان الجميع دون استثناء يفضّلونها بالأكياس بالطّبع ،على الرّغم من أنّ تسعيرة السّاعة التي حدّدها كانت أرفع من غيره..ثمّ مع مرور الوقت زادت الأكياس من شهرته و أصبح مطلوبا في أماكن بعيدة..أمّا اليوم فعليك أوّلا أن تأخذ موعدا من زوجته قبل أسبوع كي تسلّم عليه.
لم يضحك و لم يعلّق أحد،و كانت إذّاك الرّؤوس قد بدأت بعدُ تتدلّى على الصّدور قليلا و الأعين نصف مغمضة.
بدت الحكاية و توقيتها في نظر بحري أغرب من مصادفة عاديّة،و لأنّها طابقت مع ما شبّه به نفسه لزوجته فقد اعتبرها مؤشّرا صارخا بأنّه يمشي في المسار الصّحيح .مسار القفطان .قفطان الفضّة ،و أنّ هناك عناية ما تجعل أفكاره تتجسّد.
علا نشيج أحد اللاّعبَيْنِ ِ حتّى صار مسموعا و أقرب إلى صوت طفل صغير يقلّد فرامل سيّارة.عندها انسحب الجميع بحركة آليّة،و افترقوا كما لو كان تنبيها أخيرا بمغادرة المكان.
في الخارج استعذب بحري الهواء الرّطب و أمكنه أن يسمعه أيضا و هو يلامس أذنيه.بيته بعيد و الوقت متأخّر،لذا كان عليه أن يعين خطواته ببعض الهرولة من حين إلى آخر.أضواء المدينة كانت مطفأة بالكامل،ففكّر بأن لا حاجة ليلبس نظاّرته الشّمسيّة.
لم يكد ينحرف مع أوّل منعطف بعدما قرّر دخول الأحياء عوض اتّخاذ الشّارع المحاذي للمدينة،حتّى سمع طلقا ناريّا من أسلحة أوتوماتيكيّة،و صوت أشياء تتهشّم و براميل تُجرّ على الأرض.أحد الشّباب الفارّين نصحه بالعودة من حيث أتى و إلاّ اشتبهوا به ، و قال بأنّه تركهم يحاولون اقتلاع الموزّع الآليّ للبنك..
كانت خالة أمّه تسكن قريبا من هناك.عجوز تعيش بمفردها من سنين طويلة.كانت دائما تربّي عنزات في بيتها و تحدّثهم بمرح.
طرق الباب بلطف فأجابت مذعورة على الفور: من؟
قال :
- بحري ابن أختك ،افتحي ،لا تخافي..
كانت تعدّل شال الصّوف المشبّك فوق رأسها عندما فُتِح بابُ القصدير على مرّتين .
يَذكر أنّه طلب منها كأس شاي ،و يذكر أيضا كيف لم تبطىء في إحضاره ساخنا و طيّبا.
جلست إلى جواره و قد تهيّأ لينام دون غطاء و دون أن ينزع حذاءه و قالت :
- لا تهتمّ كثيرا بنيّ ، كلّ شيء يفوت..
و لم تضف شيئا.
و لا يدري بحري لم أحسّ بأنّها تلمّح لزوجته التي لابدّ أنّها خائفة و قلقة عليه،و ستبقى كذلك حتّى الصّباح.إذ لم يسبق له أن أمضى ليلة بأكملها خارج بيته.
قبل أن يتمدّد نزع حزام سرواله و أفرغ جيبه و وضع محتوياته جانبا كي لا تزعجه أثناء النّوم كلّما عنّ له أن يتقلّب.كان من بين الأشياء التي أخرجها صدفة بحريّة صغيرة و علبة الكبريت.كانت علبة الكبريت منتفخة بالأعواد لدرجة أنّها تقوّست و لم تعد تُفتح بسهولة.و استحضر المشهد و هو يعيد إلى العلبة الأعواد المقدوحة التي كانت فوق الطّاولة و التي لم تأكل منها النّار سوى الرّأس..
في الصّباح استيقظ باكرا.غسل وجهه بماء وجده في وعاء مصبّرات حديديّ أمام العنزات، كُتب عليه بخطّ يكاد ينمحي :" زيتون أخضر ".رتّب شعره بيديه ،و تحسّس جيوبه ليتأكّد من أنّه لم ينس مفاتيحه و بقيّة السّجائر ثمّ خرج. كان قد أنفق الأوراق الثّلاثة الّتي جلبها معه إلى الحانة بالأمس.و غمره إحساس مرير و هو يسير في الشّارع المحاذي للمدينة بأنّه خسر كلّ ما يملك دون ذرّة أمل في تعويضه.أدخل يده إلى جيبه،و استلّها ببطء تاركا علبة الثّقاب تنزلق من بين أصابعه ،و انتابه شعور و هو يمشي حثيثا بأنّ المسافة إلى بيته هي التي ستجعله يصل متأخّرا،مع ذلك توقّف أكثر من مرّة ليسوّى ملابسه و حاجبيه جيّدا كما يليق بمدرّس يأتمنه النّاس على صغارهم..
***
محمد فطومي
تعليق