سحب نظراته الحائرة عن الزريبة ،وململ خطواته على الرمل عائدا نحو الخيمة،
كان الليل في اوج جبروته ،قطعة من صحراء تمتد لعين الناظر الى ما لانهاية، منطقة أبان القحط قدرته الرهيبة على رسم لوحات الموت في ارجاءها ،انقرض الاخضرار وغاب المطر، وتلاشت الحياة الى الحد الأدنى لمعالم حياة كانت هنا وخلت،
في مثل هذه الاوقات من الاصياف الغابرة كانت الخيام تملأ هذا الرحب ،والعشب يتلقى نصيبه من السماء ،
فتزدهي الحياة وتنبت على المرج قصص عشق حقيقية
ويجتمعون كل صيف ليثبّتوها على الارض
يملؤون ارجاء المكان بالأفراح والزغاريد..
صور لمرج أصبح قطعة من سراب الصحاري
يذكر ذلك ويتلبد ذهنه بصور الشر الآتي
أفراد عشيرته قد جمعوا ما تبقى في اليد من لقمة ورحلوا
بعضهم اقتحم المدن البعيدة والقريبة
ولا اخبار تصل عنهم ،تجاوزوا حدود الوطن وذابوا في هجير الصحاري المجاورة.
...............
يتلظى بسعير الصور ، يجر خطوات الحير على الرمال
يدخل الخيمة واجما ،أجساد ملقاة دونما ترتيب
تغط فيما يشبه النوم
لا شيء يشق صمت المكان
إلا حشرجة يصحبها أنين متقطع
يقترب من ذات الجسد ، يلقي بنفسه قربه
يرقب تدافع الهواء في صدره،
............
كلهم نزحوا حين شرع القحط يخط بداية الحكاية
منهم من فعل عند اول جملة،
وانسحب بالجمل وما حمل..
وآخرون تريثوا قليلا حتى تلقوا نصيبا من الهلاك ثم افردوا أجنحتهم للنزوح،
تمنى لو استطاع اللحاق بهم ...
عربد الأرق بعينيه مرة أخرى ،تلمس مواقع خطواته بين الاجساد،
وتسلل نحو الخارج،
ألقى بنفسه على الرمال
منح عينيه لقبة السماء المرصعة،
أصوات الصحراء في الليل تلتقي في أذنك بشكل غريب،
يتساوى فيها البعيد والقريب،
نباح وعواء وفحيح افاعي...
هبوب النسمات وهي تدفع الرمال برفق
يجعل الجو ساحرا
لكن حمولتها من نتانة القطعان التي نفقت على امتداد المرج،
يثير الاشمئزاز حد الغثيان...
يتذكر قولا قديما تواتر اليه عن الاجداد:
"حين تنساك السماء وتشح الأرض عليك فسرّج جوادك وارحل
افعل بكل ما تستطيع من سرعة وهدوء."
هكذا قال الأجداد
هم من منحوا هذه الارض اسماء وديانها وتلالها ومراعيها
وخلفوا قطعانا من بشر وحيوان
ينتصب فجأة جسد مريب يرتطم بقدمه التي غاصت في الرمل،
يبتعد قليلا
ينحني ليرصد الجسد الغريب على امتداد الصحراء،
ضوء القمر بالرغم من هدؤه يفضح أسرار الليل،
يلمح لسانها يراقص الهواء وهي تنسحب هاربة،..
لم يكترث بها،
أطل برأسه داخل الخيمة،
أصاخ بسمعه،
انتصبت شعيرات رأسه
شيء ما يندلق لحظتها في داخله،
صفعته الحقيقة في الظلام،
أنار المكان،
وضع يده على جبين والده ..
تألم بصمت عميق،
سحب الجثة برفق دون أن يوقظ احدأ..
دمعاته كانت تنزلق بسخاء على خديه الأغبرين،
كمشة عظام أضحى هذا الجسد؟
نصف القمر قد غاب خلف الافق
وبدا المكان مهيبا
لملم ماتبقى فيه من جسارة كي يتجاوز الموقف،
ابتعد بالجثمان قليلا عن الخيمة وباشر مراسيم الدفن تحت أعين النجوم.
في صحراء تمتد حتى أعماق ذاكرته..
صحيح أن دمعه كان مدرارا لكنه تمالك فسوى التراب بالتراب
وصلى... وبكى........
مع أولى طلائع الفجر
اجتاز ضفة الوادي الجاف الذي يفصل المرج شطرين
تسبقه زوجته وبناتها الثلاث ،يسرن بهلع أمامه وهو واجم يضرب في الارض بكل قوة ليصل المدينة القريبة قبل نزول الليل...
قبل الغروب بقليل كانوا جميعا يلتقطون انفاس الوصول حول مائدة عارية على رصيف مقهى شعبي، شحوب وجوههم السمراء، وذبول نظراتهم الحائرة ،أهاجا العيون المستفسرة ...تملّى وجوه الأربعة بألم قاتل،
تحرك في مكانه..
ثم هبّ واقفا كمن تذكر شيئا مهما، رمى بخطواته في الزحمة وغاب....
العربي الثابت
العربي الثابت
تعليق