مهاجر يطلق أمه !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد لاعبي
    أديب وكاتب
    • 14-11-2011
    • 45

    مهاجر يطلق أمه !

    مهاجر يطلق أمه

    رغم الأزمة الاقتصادية العالمية، فقد عرفت شركة الزيوت أرباحا مدهشة، بفضل خبرة مديرها العام السيد محمود أبو أيمن. على إثر ذلك، قرر مجلسها الإداري إرساله إلى جامعة بون بألمانيا، للتخصص في ميدان الهندسة النباتية. ذلك النجاح الهائل الذي حققه السيد المدير في ميدان التجارة، قابله فشل ذريع في علاقته الزوجية.
    تزوج محمود أم أيمن، ابنة صاحب الشركة، لم يكن الزواج صدفة، كما لم يكن ثمرة حب. منذ البداية، أبانت الأيام لمحمود أن زوجته ليس لها حظ في التعليم، تحب الاعتزاز بالنفس، وإظهار الترف، واالتباهي بالزوج، بشكله البهي الحسن، وطوله الفارع الرشيق، وكأنه دمية تلهو بها في العلن، ثم تتخلى عنها في الخفاء.
    بعد ثلاثة أشعر من الاستقرار في ألمانيا، أخبرت أم أيمن زوجها بأنها حامل. نزل عليه الخبر كالصاعقة. لأن الأبحاث العلمية التي كان يقوم بها، وأسفاره الكثيرة، لم تترك له وقتا للتفكير في الإنجاب. اقترح عليها يومئذ العودة إلى الوطن، كي تلتحق به بعد الولادة، لكنها رفضت الإقتراح، لأنها إن فعلت ذلك، ستعتقد صديقاتها أن محمود تخلى عنها، وتعلق قلبه بألمانية. في الشهرالسابع من الحمل بدأت تظهر على أم أيمن أعراض جانبية. لكن الولادة كانت طبيعية، وفرح الزوجان بالمولود الجديد.
    لما بلغ أيمن السنة الأولى من عمره تبين أنه أخرس، وأن هذه العاهة سترافقه طول حياته. أصبح محمود شديد الحزن. لم يصدق في يوم من الأيام أن يرى طفلا من صلبه، سيكبر أمام عينيه لانُطقَ له. كلما نظر إليه، ولمح على وجهه الصغير ابتسامة عريضة، كلما سالت دموعه من أعماق قلبه. شعر أن حزنا من نوع غير عادي يستبد به.
    أما أم أيمن، فكانت مثل نعجة عليلة عجماء. لا تبالي بما حولها. تزداد كل يوم قسوة وجفاء. تقضي أغلب وقتها في مشاهدة الفضائيات العربية.. لما بلغ أيمن الثالثة من عمره، التحق بروض خاص بالأطفال الخرس، كي يتعلم لغة الإشارة. بعد أسابيع قليلة، أرسلت مرشدة الروض رسالة إلى الوالدين تنصحهما بتعلم هذه اللغة في دروس مسائية، حتى يسهل عليهما التواصل مع ابنهما؛ وأرفقت الرسالة بعناوين المؤسسات التي تقدم هذه الخدمة مجانا. فعلا استحسن محمود هذا الطلب. أما زوجته فلم تبد رغبة في التعلم.. مع مرورالزمن أصبحت تتسع الهوة بينها وبين أيمن. في لحظة ما، ارتكبت خطئا قاتلا عندما قالت لمحمود بجدية متناهية:« نحن لا نستطيع أن نربي هذا الولد، لماذا لا نسلمه للألمان يربوه ونتخذ ولدا آخر غيره؟»
    نظرإليها بلوم شديد، لكنه لم يتكلم، وما عساه أن يقول لأم أصبح يراها أمامه كقطعة ثلج. امرأة ليست عدلا له. هو انسان هادئ النفس، طيب الخاطر. أما هي فأشر الخلق، لها سلوك يبعث على الخزي. أنى أن يكون بينهما لحظة ود؟! فحتى تلك الحركات الفطرية، التي تكون عادة بين زوجين من همس، ولمس، وغمز، كانت غائبة في سماءهما.
    لما استفاق محمود من شروده، اكتشف فجأة أن الشرود نعمة، بحيث لو حصر نفسه فيما نطقت به أم أيمن لكانت الكارثة.. زفر بحدة، ثم قال بحرقة شديدة:« إنه ابني ولن أسلمه لأحد»، تطلع إليها في دهشة، ثم ظل صامتا.
    كبر أيمن فأصبح يلعب مع الأطفال في الشارع، لم يكن يشعر بأنه طفلا غير عادي. بذل أقرانه جهدا كبيرا في التواصل معه بالإشارات، تعلموا بعضها عن طريق شبكة الإنترنيت. أما الجيران كبار السن، فكانوا ينظرون للأطفال بإعجاب شديد، وأحيانا يقفون يستمتعون عن بعد بطريقة تواصلهم. منهم من دفعه الحماس إلى أن يلقي التحية على أيمن، ويسأله عن أحواله بلغة الإشارة فقط.. التحق أيمن بالمدرسة وأصبح من المتفوقين. الشيء الوحيد الذي كان ينقصه هو حنان الأم. لم يعرفه إلا في الكتب المدرسية، لكن لم يشعر به أبدا في البيت؛ بل أكثر من ذلك، كان كلما اقترب من أمه، يحس بالغربة وبالإقصاء. عندما يذهب إلى الجيران يلعب مع الأطفال، يرى الأم الألمانية تحتضن ابنها، وتقبله، وتلاعبه. يتظاهر الطفل بالبكاء فتجامله. يراقب أيمن هذا كله، فيتمنى بداخله لو كانت له أم ألمانية!
    في يوم ما، كان أيمن يلعب في بيت جيران من أصل سوري، فوقع شجار بين الزوجين، تطور إلى تشابك بالأيدي. أراد أيمن أن يبتعد عن طريقهما فاصطدم رأسه بالجدار، وسقط على الأرض. بقي زمنا من الوقت لا يتحرك.. وهو على هذه الحال، سمع الرجل يقول لزوجته:« أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق »، ثم رأى الزوجة تدير ظهرها وتختفي بسرعة في المطبخ.
    نقل أيمن إلى المستشفى، من أجل فحص احترازي، فلاحظ طبيب الأعصاب أن دماغ أيمن أصيب بارتجاج، وعلى إثره نتج نشاط غير عادي في كهربائية المخ. لم تترتب عنه لحسن الحظ أية إشكالات صحية.
    في لحظة من الذهول، بينما محمود وأيمن يدخلان المنزل، اعترضت أم أيمن طريقهما، لم يفطن أيمن إلا وهو يتلقى لطمة قوية على خده. ثم صاحت في وجه محمود:« لماذا ذهب الأخرس إلى السوريين؟» صعق أيمن من شدة اللكمة فصاح لأول مرة! قائلا بلغة عادية!:« أنت طالق،أنت طالق، أنت طالق!» وصمت من جديد. لم يصدق محمود ما سمع وشاهد. احتضن الطفل بقوة، وبكى بكاء حارا. ثم همس في أذنه:« وسيكون كذلك طلاقا ثالثا لا رجعة فيه ».
    انتظر محمود أن يقول أيمن كلاما آخر، أن يسأل أمه لماذا لطمته؟ أو يطلب من أبيه أن يلاعبه. لكن شيئا من هذا لم يحصل. لما خاب أمله، أخذ ابنه مرة أخرى إلى المستشفى من أجل الفحص. اعتقد الطبيب أنه يعرف السبب، لكنه مع ذلك قرر أن يبقى أيمن في المستشفى ثلاثة أيام تحت المراقبة.
    لما عاد محمود إلى بيته، كان قد اتخذ قرارا حاسما، قال لزوجته بلهجة آمرة:« أريد أن أسمع منك الآن، إما أن تتعلمي لغة الإشارة، أو تختارين لنفسك حياة أخرى غير هذه ».
    لما سمعت كلامه هذا، وكان هادئا وجديا، أخذت تغمغم بأصوات أقرب ما تكون إلى أصوات البكم.. لم تعقب، لكنها قررت العودة بمفردها إلى أرض الوطن. أما محمود، فقد أدرك أخيرا، أن الزواج الذي قرر من طرف مدير الشركة، مثله مثل أية صفقة تجارية، قد يتعرض للخسارة كما يتعرض للنجاح.
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد لاعبي; الساعة 09-06-2012, 09:00.
يعمل...
X