أصـابـع نـاعـمــة تـعـبـث بـالـجـمــر
كم ليال اقتص فيها الأرق من جفنيكِ أحلى الأوقات ؛ وتقلبتِ على جنبيكِ والأفكار الملتهبة تحرق أحلامكِ بلا هوادة .أحصيتِ نبضات قلبكِ مثلما كنت تحصين دقات بندول ساعتك في سكون الليل المطبق .كم غص حلقكِ حتى شرقتِ وأنت تحدقين في صورته؛ شابا وسيما غاب عن أنظاركِ غيابا لم يكن في الحسبان . وضاق صدركِ حتى شرعت أبواب تفكيرك لوساوس كزوبعة في تنور أججت لهيب المعاناة .
انتبهتْ فجأة من غفوتها ثم قالت بصوت جريح : " آه ماذا بعدك يا مراد ...يا ابني طويتَ المسافات وطويتَ حلمي الكبير؛ فأين حط رحالك ؟؟
صوت الذات المكلومة حاصر مروة من كل حدب وصوب ؛ صوت النفس الجريحة بعد انقطاع رسائل ومكالمات هاتفية لابنها الوحيد مراد ؛ بعد تعيينه مدرسا بقرى نائية في أعالي الجبال المحاصرة بطوق التهميش .
فتحت بأصابعها الناعمة النافذة المطلة على حديقتها الزاهية ونظرت إلى الزهرات مشدوهة كمن يراها لأول مرة ...كل أملها أن تسدل الستار على توقعاتها الدفينة .. وكل رجائها أن ترسو أفكارها عند شاطئ الاطمئنان ....تابعت حركات البستاني بعينين كليلتين ؛ يداه تداعبان الورود الجميلة عند تشذيبها من الزوائد الضارة .. من كل ظلمة تحجب عنها ضياء الصباح السعيد ...ما أطيب الحياة حين تشذب من كل مكروه أو ضرر . ما أجمل الطير حين يشدو ويرقص على إيقاع البراءة التي لم يعكر صفوها وهم المصالح .
اغرورقت عيناها بالدمع ثم شالت بخصلات شعرها المتفق على ناصيتها بانسياب حريري. بدا وجهها المستدير ذو البشرة البيضاء أكثر شحوبا ؛ حدقت في المرآة ففزعت لعينيها الذابلتين وتداعت إلى أريكة بجسدها المحطم ....
رن الجرس فلاح خلف الباب البستاني وهو يقول : " سيدتي .. زوجك عبد الغني في انتظارك داخل السيارة .. " ردت بصوتها المبحوح : " دقيقة.... " ثم حملت حقيبتها اليدوية وقرقعت مزلاج الباب؛ وانحدرت خارج البيت ..
امتطت السيارة الفارهة تقودها بنفسها. وانطلقا معا في اتجاه أعالي الأطلس عبر ممر (تزنتاست) . ظل عبد الغني جاثما بجوارها ؛ غارقا في صمته وقد تبعثرت الأفكار في ذهنه . لم يدر سبب هذه المعاناة وهو المشهود له بالغنى في مقاولته التي من نصيب ابنه في نهاية المطاف . ظل ينظر إلى قاع المنحدرات من أعالى القمم ويدعو الله اللطف ..وفي كل المنعرجات يقرع سمعه صوت احتكاك العجلات بالإسفلت . تمنى لوقاد سيارته بنفسه ؛ وشق دروب هذه الجبال الشامخة بمزاج تطبعه السكينة ويخلو من التوتر . ضاق صدره كأنه يصَّعّد في السماء؛ وتملكه خوف رهيب . خلع ربطة عنقه وشرع قميصه ...
أدارت وجهها نحوه وقالت بصوت متهدج : "اقتربنا .."
عند المنحدر خمَّنت التوقف كي تسترجع أنفاسها الملتهبة ؛ وتلملم جراحاتها الدفينة . اتجهت أقصى اليمين فجعلت السيارة تربض في مكانها المناسب ؛ ثم حدقت في ميناء ساعتها اليدوية وتأففت كأنها ضيّعت الرهان دون توقع . تأكد عبد الغني أنها تجني ثمار أوهامها ؛ وأن ابنه قد تجرع في كؤوس من الغبن حقيقة هذه الأوهام ، لأن هدفه المهني لن يبرح مقاولته وهو مهيأ لذلك بلا ريب يقود إلى المعاناة .... نزلا ثم ترجلا قليلا ، لاحظا البطاح المترامية الأطراف مزدانة بحصاها البني ونباتها الشوكي المزهر يغري يالاستمتاع ؛ جال عبد الغني ببصره في كل الأرجاء فبدا له شبح المزارعين والرعاة عند حافة السراب ....الكل يطوي المسافات ولاشيء غير اللقاء .... سمعها تردد هذه العبارة بصوت التوجع كالمطعون بفرط العياء . ثم نظر إلى عينيها الذابلتين والحر يلفح وجهها فانهال عليها بوابل من اللوم والعتاب حتى أجهشت بالبكاء ؛ وتراشقا بالتهم التي تصب الزيت على النار . شعرت مروة لأول مرة في مسار حيا تهما أن لها يدا طولى في تعكير صفو المودة بينهما. انهمرت عيناها بالدمع فدفنت رأسها في صدر زوجها واحتضنها بين ذراعيه كمن يستعد لوداع مر . تسمرا في مكانهما ..أصغيا إلى صوت الناي الذي تناهى إلى سمعهما؛ فالتفتا في لمح البصر وصاح عبد الغني مندهشا : " انظري انه الراعي خلف قطيعه هو صاحب الناي .انظري ..!!." استجمعت مروة كل قواها وأصغت بإمعان إلى مواله الذي ينشده بصوت شجي. فهمت كل عباراته التي يقول فيها (.مااال حالي أنااا .مااال حالي من دون الناس . واحد في حياتو هاني وأنا لقيت الباس .ماااال حالي أنا.......)
حدقت مروة في الراعي ذي العينين الزرقاوين والبشرة البيضاء ، أحست كأنها صعقت فرددت بملء صوتها " ...إنه هو..والله انه هو ... " أصيب عبد الغني بذهول فظل فاغرا فاه كمن تلقى الصفعات على خديه دون توقع ..في موقف كهذا يغرق الإنسان في بحر الظنون إلى منتهى الحيرة ..التفت عن يمينه فوجدها قد هرولت نحو السيارة وانكفأت على مقدمتها آخذة رأسها بكلتا يديها .. لم يفقه الحكاية ؛ ولم يضع يده على منافذ اللغز المحير لاشتباك الخيوط ...تساءل :" أي منطق يدير عجلة المصائر في اتجاه كل المفاجآت خارج دائرة التوقع ...؟ يا الله ما أضعف الإنسان وما أشد قوتك .... !!
اشتد نحيب مروة ونظرت إلى زوجها فرأى دموعا منهمرة على خديها وهي تريد أن تقول شيئا وقد خانها الكلام وثقلت عليها العبارة ؛ ثم تنهدت بملء أحاسيسها الدفينة وقالت بكلام متقطع - وهي تبتلع ريقها - " هذا الراعي ...هذا الراعي مجاز في الهندسة. اجتاز مباراة التخرج بامتياز لكن منصبه كان من نصيب ابني مراد ؛ وهو أقل منه درجة . فرئيس اللجنة من أقاربي ؛ من أعز الناس بين أقاربي توددت إليه في سبيل ذلك .و لما دخلت المكتب وجدت هذا الشاب يقضقض أسنانه كالمقرور؛ وهو يترنح أمام لائحة النتائج فلم يصدق ما حصل ...
لم تكد تنهي حكايتها القاتلة حتى رن هاتفها المحمول فحدقت في شاشته الصغيرة وصاحت بأعلى صوتها ..مراد مراد ولدي مراد ..ثم أجابت :
- ألو...مراد ابني .
-هذه ماما ..؟
نعم ...أنا في الطريق إليك ...
لا لا لا تتعبي نفسك ...عودي إلى بيتك ...فقد قدمت استقالتي .
كم ليال اقتص فيها الأرق من جفنيكِ أحلى الأوقات ؛ وتقلبتِ على جنبيكِ والأفكار الملتهبة تحرق أحلامكِ بلا هوادة .أحصيتِ نبضات قلبكِ مثلما كنت تحصين دقات بندول ساعتك في سكون الليل المطبق .كم غص حلقكِ حتى شرقتِ وأنت تحدقين في صورته؛ شابا وسيما غاب عن أنظاركِ غيابا لم يكن في الحسبان . وضاق صدركِ حتى شرعت أبواب تفكيرك لوساوس كزوبعة في تنور أججت لهيب المعاناة .
انتبهتْ فجأة من غفوتها ثم قالت بصوت جريح : " آه ماذا بعدك يا مراد ...يا ابني طويتَ المسافات وطويتَ حلمي الكبير؛ فأين حط رحالك ؟؟
صوت الذات المكلومة حاصر مروة من كل حدب وصوب ؛ صوت النفس الجريحة بعد انقطاع رسائل ومكالمات هاتفية لابنها الوحيد مراد ؛ بعد تعيينه مدرسا بقرى نائية في أعالي الجبال المحاصرة بطوق التهميش .
فتحت بأصابعها الناعمة النافذة المطلة على حديقتها الزاهية ونظرت إلى الزهرات مشدوهة كمن يراها لأول مرة ...كل أملها أن تسدل الستار على توقعاتها الدفينة .. وكل رجائها أن ترسو أفكارها عند شاطئ الاطمئنان ....تابعت حركات البستاني بعينين كليلتين ؛ يداه تداعبان الورود الجميلة عند تشذيبها من الزوائد الضارة .. من كل ظلمة تحجب عنها ضياء الصباح السعيد ...ما أطيب الحياة حين تشذب من كل مكروه أو ضرر . ما أجمل الطير حين يشدو ويرقص على إيقاع البراءة التي لم يعكر صفوها وهم المصالح .
اغرورقت عيناها بالدمع ثم شالت بخصلات شعرها المتفق على ناصيتها بانسياب حريري. بدا وجهها المستدير ذو البشرة البيضاء أكثر شحوبا ؛ حدقت في المرآة ففزعت لعينيها الذابلتين وتداعت إلى أريكة بجسدها المحطم ....
رن الجرس فلاح خلف الباب البستاني وهو يقول : " سيدتي .. زوجك عبد الغني في انتظارك داخل السيارة .. " ردت بصوتها المبحوح : " دقيقة.... " ثم حملت حقيبتها اليدوية وقرقعت مزلاج الباب؛ وانحدرت خارج البيت ..
امتطت السيارة الفارهة تقودها بنفسها. وانطلقا معا في اتجاه أعالي الأطلس عبر ممر (تزنتاست) . ظل عبد الغني جاثما بجوارها ؛ غارقا في صمته وقد تبعثرت الأفكار في ذهنه . لم يدر سبب هذه المعاناة وهو المشهود له بالغنى في مقاولته التي من نصيب ابنه في نهاية المطاف . ظل ينظر إلى قاع المنحدرات من أعالى القمم ويدعو الله اللطف ..وفي كل المنعرجات يقرع سمعه صوت احتكاك العجلات بالإسفلت . تمنى لوقاد سيارته بنفسه ؛ وشق دروب هذه الجبال الشامخة بمزاج تطبعه السكينة ويخلو من التوتر . ضاق صدره كأنه يصَّعّد في السماء؛ وتملكه خوف رهيب . خلع ربطة عنقه وشرع قميصه ...
أدارت وجهها نحوه وقالت بصوت متهدج : "اقتربنا .."
عند المنحدر خمَّنت التوقف كي تسترجع أنفاسها الملتهبة ؛ وتلملم جراحاتها الدفينة . اتجهت أقصى اليمين فجعلت السيارة تربض في مكانها المناسب ؛ ثم حدقت في ميناء ساعتها اليدوية وتأففت كأنها ضيّعت الرهان دون توقع . تأكد عبد الغني أنها تجني ثمار أوهامها ؛ وأن ابنه قد تجرع في كؤوس من الغبن حقيقة هذه الأوهام ، لأن هدفه المهني لن يبرح مقاولته وهو مهيأ لذلك بلا ريب يقود إلى المعاناة .... نزلا ثم ترجلا قليلا ، لاحظا البطاح المترامية الأطراف مزدانة بحصاها البني ونباتها الشوكي المزهر يغري يالاستمتاع ؛ جال عبد الغني ببصره في كل الأرجاء فبدا له شبح المزارعين والرعاة عند حافة السراب ....الكل يطوي المسافات ولاشيء غير اللقاء .... سمعها تردد هذه العبارة بصوت التوجع كالمطعون بفرط العياء . ثم نظر إلى عينيها الذابلتين والحر يلفح وجهها فانهال عليها بوابل من اللوم والعتاب حتى أجهشت بالبكاء ؛ وتراشقا بالتهم التي تصب الزيت على النار . شعرت مروة لأول مرة في مسار حيا تهما أن لها يدا طولى في تعكير صفو المودة بينهما. انهمرت عيناها بالدمع فدفنت رأسها في صدر زوجها واحتضنها بين ذراعيه كمن يستعد لوداع مر . تسمرا في مكانهما ..أصغيا إلى صوت الناي الذي تناهى إلى سمعهما؛ فالتفتا في لمح البصر وصاح عبد الغني مندهشا : " انظري انه الراعي خلف قطيعه هو صاحب الناي .انظري ..!!." استجمعت مروة كل قواها وأصغت بإمعان إلى مواله الذي ينشده بصوت شجي. فهمت كل عباراته التي يقول فيها (.مااال حالي أنااا .مااال حالي من دون الناس . واحد في حياتو هاني وأنا لقيت الباس .ماااال حالي أنا.......)
حدقت مروة في الراعي ذي العينين الزرقاوين والبشرة البيضاء ، أحست كأنها صعقت فرددت بملء صوتها " ...إنه هو..والله انه هو ... " أصيب عبد الغني بذهول فظل فاغرا فاه كمن تلقى الصفعات على خديه دون توقع ..في موقف كهذا يغرق الإنسان في بحر الظنون إلى منتهى الحيرة ..التفت عن يمينه فوجدها قد هرولت نحو السيارة وانكفأت على مقدمتها آخذة رأسها بكلتا يديها .. لم يفقه الحكاية ؛ ولم يضع يده على منافذ اللغز المحير لاشتباك الخيوط ...تساءل :" أي منطق يدير عجلة المصائر في اتجاه كل المفاجآت خارج دائرة التوقع ...؟ يا الله ما أضعف الإنسان وما أشد قوتك .... !!
اشتد نحيب مروة ونظرت إلى زوجها فرأى دموعا منهمرة على خديها وهي تريد أن تقول شيئا وقد خانها الكلام وثقلت عليها العبارة ؛ ثم تنهدت بملء أحاسيسها الدفينة وقالت بكلام متقطع - وهي تبتلع ريقها - " هذا الراعي ...هذا الراعي مجاز في الهندسة. اجتاز مباراة التخرج بامتياز لكن منصبه كان من نصيب ابني مراد ؛ وهو أقل منه درجة . فرئيس اللجنة من أقاربي ؛ من أعز الناس بين أقاربي توددت إليه في سبيل ذلك .و لما دخلت المكتب وجدت هذا الشاب يقضقض أسنانه كالمقرور؛ وهو يترنح أمام لائحة النتائج فلم يصدق ما حصل ...
لم تكد تنهي حكايتها القاتلة حتى رن هاتفها المحمول فحدقت في شاشته الصغيرة وصاحت بأعلى صوتها ..مراد مراد ولدي مراد ..ثم أجابت :
- ألو...مراد ابني .
-هذه ماما ..؟
نعم ...أنا في الطريق إليك ...
لا لا لا تتعبي نفسك ...عودي إلى بيتك ...فقد قدمت استقالتي .
تعليق