أصــابـع نـاعـمـــة تـعـبـث بـالـجـمــر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • البكري المصطفى
    المصطفى البكري
    • 30-10-2008
    • 859

    أصــابـع نـاعـمـــة تـعـبـث بـالـجـمــر

    أصـابـع نـاعـمــة تـعـبـث بـالـجـمــر
    كم ليال اقتص فيها الأرق من جفنيكِ أحلى الأوقات ؛ وتقلبتِ على جنبيكِ والأفكار الملتهبة تحرق أحلامكِ بلا هوادة .أحصيتِ نبضات قلبكِ مثلما كنت تحصين دقات بندول ساعتك في سكون الليل المطبق .كم غص حلقكِ حتى شرقتِ وأنت تحدقين في صورته؛ شابا وسيما غاب عن أنظاركِ غيابا لم يكن في الحسبان . وضاق صدركِ حتى شرعت أبواب تفكيرك لوساوس كزوبعة في تنور أججت لهيب المعاناة .
    انتبهتْ فجأة من غفوتها ثم قالت بصوت جريح : " آه ماذا بعدك يا مراد ...يا ابني طويتَ المسافات وطويتَ حلمي الكبير؛ فأين حط رحالك ؟؟
    صوت الذات المكلومة حاصر مروة من كل حدب وصوب ؛ صوت النفس الجريحة بعد انقطاع رسائل ومكالمات هاتفية لابنها الوحيد مراد ؛ بعد تعيينه مدرسا بقرى نائية في أعالي الجبال المحاصرة بطوق التهميش .
    فتحت بأصابعها الناعمة النافذة المطلة على حديقتها الزاهية ونظرت إلى الزهرات مشدوهة كمن يراها لأول مرة ...كل أملها أن تسدل الستار على توقعاتها الدفينة .. وكل رجائها أن ترسو أفكارها عند شاطئ الاطمئنان ....تابعت حركات البستاني بعينين كليلتين ؛ يداه تداعبان الورود الجميلة عند تشذيبها من الزوائد الضارة .. من كل ظلمة تحجب عنها ضياء الصباح السعيد ...ما أطيب الحياة حين تشذب من كل مكروه أو ضرر . ما أجمل الطير حين يشدو ويرقص على إيقاع البراءة التي لم يعكر صفوها وهم المصالح .
    اغرورقت عيناها بالدمع ثم شالت بخصلات شعرها المتفق على ناصيتها بانسياب حريري. بدا وجهها المستدير ذو البشرة البيضاء أكثر شحوبا ؛ حدقت في المرآة ففزعت لعينيها الذابلتين وتداعت إلى أريكة بجسدها المحطم ....
    رن الجرس فلاح خلف الباب البستاني وهو يقول : " سيدتي .. زوجك عبد الغني في انتظارك داخل السيارة .. " ردت بصوتها المبحوح : " دقيقة.... " ثم حملت حقيبتها اليدوية وقرقعت مزلاج الباب؛ وانحدرت خارج البيت ..
    امتطت السيارة الفارهة تقودها بنفسها. وانطلقا معا في اتجاه أعالي الأطلس عبر ممر (تزنتاست) . ظل عبد الغني جاثما بجوارها ؛ غارقا في صمته وقد تبعثرت الأفكار في ذهنه . لم يدر سبب هذه المعاناة وهو المشهود له بالغنى في مقاولته التي من نصيب ابنه في نهاية المطاف . ظل ينظر إلى قاع المنحدرات من أعالى القمم ويدعو الله اللطف ..وفي كل المنعرجات يقرع سمعه صوت احتكاك العجلات بالإسفلت . تمنى لوقاد سيارته بنفسه ؛ وشق دروب هذه الجبال الشامخة بمزاج تطبعه السكينة ويخلو من التوتر . ضاق صدره كأنه يصَّعّد في السماء؛ وتملكه خوف رهيب . خلع ربطة عنقه وشرع قميصه ...
    أدارت وجهها نحوه وقالت بصوت متهدج : "اقتربنا .."
    عند المنحدر خمَّنت التوقف كي تسترجع أنفاسها الملتهبة ؛ وتلملم جراحاتها الدفينة . اتجهت أقصى اليمين فجعلت السيارة تربض في مكانها المناسب ؛ ثم حدقت في ميناء ساعتها اليدوية وتأففت كأنها ضيّعت الرهان دون توقع . تأكد عبد الغني أنها تجني ثمار أوهامها ؛ وأن ابنه قد تجرع في كؤوس من الغبن حقيقة هذه الأوهام ، لأن هدفه المهني لن يبرح مقاولته وهو مهيأ لذلك بلا ريب يقود إلى المعاناة .... نزلا ثم ترجلا قليلا ، لاحظا البطاح المترامية الأطراف مزدانة بحصاها البني ونباتها الشوكي المزهر يغري يالاستمتاع ؛ جال عبد الغني ببصره في كل الأرجاء فبدا له شبح المزارعين والرعاة عند حافة السراب ....الكل يطوي المسافات ولاشيء غير اللقاء .... سمعها تردد هذه العبارة بصوت التوجع كالمطعون بفرط العياء . ثم نظر إلى عينيها الذابلتين والحر يلفح وجهها فانهال عليها بوابل من اللوم والعتاب حتى أجهشت بالبكاء ؛ وتراشقا بالتهم التي تصب الزيت على النار . شعرت مروة لأول مرة في مسار حيا تهما أن لها يدا طولى في تعكير صفو المودة بينهما. انهمرت عيناها بالدمع فدفنت رأسها في صدر زوجها واحتضنها بين ذراعيه كمن يستعد لوداع مر . تسمرا في مكانهما ..أصغيا إلى صوت الناي الذي تناهى إلى سمعهما؛ فالتفتا في لمح البصر وصاح عبد الغني مندهشا : " انظري انه الراعي خلف قطيعه هو صاحب الناي .انظري ..!!." استجمعت مروة كل قواها وأصغت بإمعان إلى مواله الذي ينشده بصوت شجي. فهمت كل عباراته التي يقول فيها (.مااال حالي أنااا .مااال حالي من دون الناس . واحد في حياتو هاني وأنا لقيت الباس .ماااال حالي أنا.......)
    حدقت مروة في الراعي ذي العينين الزرقاوين والبشرة البيضاء ، أحست كأنها صعقت فرددت بملء صوتها " ...إنه هو..والله انه هو ... " أصيب عبد الغني بذهول فظل فاغرا فاه كمن تلقى الصفعات على خديه دون توقع ..في موقف كهذا يغرق الإنسان في بحر الظنون إلى منتهى الحيرة ..التفت عن يمينه فوجدها قد هرولت نحو السيارة وانكفأت على مقدمتها آخذة رأسها بكلتا يديها .. لم يفقه الحكاية ؛ ولم يضع يده على منافذ اللغز المحير لاشتباك الخيوط ...تساءل :" أي منطق يدير عجلة المصائر في اتجاه كل المفاجآت خارج دائرة التوقع ...؟ يا الله ما أضعف الإنسان وما أشد قوتك .... !!
    اشتد نحيب مروة ونظرت إلى زوجها فرأى دموعا منهمرة على خديها وهي تريد أن تقول شيئا وقد خانها الكلام وثقلت عليها العبارة ؛ ثم تنهدت بملء أحاسيسها الدفينة وقالت بكلام متقطع - وهي تبتلع ريقها - " هذا الراعي ...هذا الراعي مجاز في الهندسة. اجتاز مباراة التخرج بامتياز لكن منصبه كان من نصيب ابني مراد ؛ وهو أقل منه درجة . فرئيس اللجنة من أقاربي ؛ من أعز الناس بين أقاربي توددت إليه في سبيل ذلك .و لما دخلت المكتب وجدت هذا الشاب يقضقض أسنانه كالمقرور؛ وهو يترنح أمام لائحة النتائج فلم يصدق ما حصل ...
    لم تكد تنهي حكايتها القاتلة حتى رن هاتفها المحمول فحدقت في شاشته الصغيرة وصاحت بأعلى صوتها ..مراد مراد ولدي مراد ..ثم أجابت :
    - ألو...مراد ابني .
    -هذه ماما ..؟
    نعم ...أنا في الطريق إليك ...
    لا لا لا تتعبي نفسك ...عودي إلى بيتك ...فقد قدمت استقالتي .
    التعديل الأخير تم بواسطة البكري المصطفى; الساعة 15-06-2012, 22:17.
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    تحيّة جمال كالذي نثرته هنا أستاذنا البكري،و تحيّة لناس الأطلس ،
    تحكّم عجيب بأدوات السّرد قلّما صادفته .
    بصدق، لا يهمّ إن طال النصّ معك.برغم النّواة التي انقسمت أكثر ممّا ينبغي في نظري،ربّما عطّل ذلك تجميع الفكرة العامّة ، و لكنّه إجمالا لم يسئ لها.
    متعة القراءة حجبت عنّي الوجع المبثوث بين الأسطر و ساعدت في آن على إذاعته بشكل أفضل .
    أحسنت أخي.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • ريما ريماوي
      عضو الملتقى
      • 07-05-2011
      • 8501

      #3
      حلوة القصة ومشوقة الاستاذ البكري...
      تبحث هموم ناس من الاغنياء.. وتعبر
      عن اشتياقهم لولدهم الذي رضي بان
      يعمل معلما في مكان بعيد.. لكن ألم يصبر
      ابن الذوات على تلك الحياة أم ماذا؟

      المهم أعجبتني روعة الوصف ودقة التصوير
      ونجحت في دب الخوف في قلبي على ابنهما
      الوحيد... خصوصا لما بينت لنا بأنه حصل
      الوظيفة بسبب الواسطة وتودد أمه لهم..
      واستطاع اقتناصها من شاب آخر اضطر للعمل
      بعد ذلك راعيا للأغنام...


      استمتعت معك، شكرا لك، تحيتي وتقديري.


      أنين ناي
      يبث الحنين لأصله
      غصن مورّق صغير.

      تعليق

      • عبير هلال
        أميرة الرومانسية
        • 23-06-2007
        • 6758

        #4
        أديبنا القدير

        أشهد أن قلمك رائع جداً ..

        أعجبني وصفك الجميل والمميز للطبيعة


        لا اعلم إن أنت تكتب الروايات

        ولكن مما قرأته هنا أجد أنك ستبرع

        بها ..


        قمة الروعة


        بورك القلم


        أرق تحياتي وتقديري


        سعيدة لعودتك إلينا بعد طول غياب
        sigpic

        تعليق

        • البكري المصطفى
          المصطفى البكري
          • 30-10-2008
          • 859

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
          تحيّة جمال كالذي نثرته هنا أستاذنا البكري،و تحيّة لناس الأطلس ،
          تحكّم عجيب بأدوات السّرد قلّما صادفته .
          بصدق، لا يهمّ إن طال النصّ معك.برغم النّواة التي انقسمت أكثر ممّا ينبغي في نظري،ربّما عطّل ذلك تجميع الفكرة العامّة ، و لكنّه إجمالا لم يسئ لها.
          متعة القراءة حجبت عنّي الوجع المبثوث بين الأسطر و ساعدت في آن على إذاعته بشكل أفضل .
          أحسنت أخي.
          الأخ العزيز محمد فطومي تحية شكر وتقدير وعرفان لما أبديته من ملاحظات قيمة حول النص؛ أغتنمها فرصة ذهبية لإدراك أفق انتظار القارئ؛(و تشذيب الكلام الأدبي من الأعشاب الضارة) فبذوقك الرفيع شاركتني في إعادة صناعة النص .أشكرك مجددا على الملاحظة

          تعليق

          • البكري المصطفى
            المصطفى البكري
            • 30-10-2008
            • 859

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
            حلوة القصة ومشوقة الاستاذ البكري...
            تبحث هموم ناس من الاغنياء.. وتعبر
            عن اشتياقهم لولدهم الذي رضي بان
            يعمل معلما في مكان بعيد.. لكن ألم يصبر
            ابن الذوات على تلك الحياة أم ماذا؟

            المهم أعجبتني روعة الوصف ودقة التصوير
            ونجحت في دب الخوف في قلبي على ابنهما
            الوحيد... خصوصا لما بينت لنا بأنه حصل
            الوظيفة بسبب الواسطة وتودد أمه لهم..
            واستطاع اقتناصها من شاب آخر اضطر للعمل
            بعد ذلك راعيا للأغنام...


            استمتعت معك، شكرا لك، تحيتي وتقديري.
            الغالية ريما ريماوي تحيتي وتقديري :
            قلمك البارع غني عن التعريف ؛ فذوقك الفني وإعادة إنتاجك المعنى كشف لي حجب الغيم . لم يكن قصدي أن أسجل عدم صبر الوالدين على ابنهما ؛ ولكن أملي كان معقودا على جعل القارئ يدرك اختلال القيم؛ وغياب الضمير الأخلاقي في استغلال المناصب لصالح الأثرياء . وفي النهاية نتوقع حصاد الجمر. وهي الدلالة الاستباقية في عنوان النص.... حقيقة أعدت إنتاج معنى يزيد النص ثراءا دلاليا ؛ ولا غرابة فأنت أديبة نبيهة تعرفين كيف تتحركين في المساحة التي يشغلها تأويل المعنى الأدبي.
            أجدد لك تحيتي وتقديري.

            تعليق

            • البكري المصطفى
              المصطفى البكري
              • 30-10-2008
              • 859

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة أميرة عبد الله مشاهدة المشاركة
              أديبنا القدير

              أشهد أن قلمك رائع جداً ..

              أعجبني وصفك الجميل والمميز للطبيعة


              لا اعلم إن أنت تكتب الروايات

              ولكن مما قرأته هنا أجد أنك ستبرع

              بها ..


              قمة الروعة


              بورك القلم


              أرق تحياتي وتقديري


              سعيدة لعودتك إلينا بعد طول غياب
              الأديبة الراقية أميرة عبد الله تحيتي العطرة :
              سعيد بقراءتك القصة وشاكر لك مرورك بين أسطرها وأنت تقتطفين زهرات المشاهد الموصوفة، و بذوقك الرفيع تمدحين أسلوبي ؛ فشكرا لك ملء السماء على كل ثناء . أما عن سؤالك فيما إن كنت كتبت الرواية فأقول لك لم أجرب ذلك بعد . لقد وجدت عنوان المصالحة مع ذاتي كامنا في الأقصوصة بعدما عشت لسنوات في انفصال عنها أعبر جسور النقد القديم في استكناه ذات ألآخر؛ ولكل مزاياه وفوائده طبعا.
              دامت لك المسرات.

              تعليق

              • ربيع عقب الباب
                مستشار أدبي
                طائر النورس
                • 29-07-2008
                • 25792

                #8
                جميلة بكري .. جميلة بحق
                كانت عدستك تنقل ببطء تام
                ربما بعد الزووم الأولى كانت اسرع قليلا
                ثم فتحت لمشهد عام و الحقول و المدى
                و دون ان تقصد ، كأنك كنت تلملم الخيوط لتنهي المشهد
                الذي جاء خاطفا و مفاجئا مقنعا بنفس الوقت !

                محبتي
                sigpic

                تعليق

                • البكري المصطفى
                  المصطفى البكري
                  • 30-10-2008
                  • 859

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                  جميلة بكري .. جميلة بحق
                  كانت عدستك تنقل ببطء تام
                  ربما بعد الزووم الأولى كانت اسرع قليلا
                  ثم فتحت لمشهد عام و الحقول و المدى
                  و دون ان تقصد ، كأنك كنت تلملم الخيوط لتنهي المشهد
                  الذي جاء خاطفا و مفاجئا مقنعا بنفس الوقت !

                  محبتي
                  أخي العزيز ربيع تحيتي العطرة : قرأتَ النص فنلتَ شكري وتقديري على ذلك ؛ ووضعتَ اليد على مواطن الحسن فيه؛ من ملاحظاتك التقويمة لجوانب الصياغة المشهدية الملتقطة بواسطة التصوير.فلكَ خالص شكري مرة ثانية .

                  تعليق

                  • موسى الزعيم
                    أديب وكاتب
                    • 20-05-2011
                    • 1216

                    #10
                    من النصوص الجميلة التي قراتها
                    امتاز النص بدقة الوصف ورسم الحالة من خلال لغة متقنة
                    كان العزف على هموم الشباب المتعلم وشكالية الوظيفة
                    والصراع بين قيم المجتمع فقر وغنى
                    كنت مبدعاص اديبنا الغلي تحياتي لك

                    تعليق

                    • البكري المصطفى
                      المصطفى البكري
                      • 30-10-2008
                      • 859

                      #11
                      الأديب الراقي موسى الزعيم تحيتي وتقديري :مررتَ من هنا وسجلتَ ملاحظتك التي أشكركَ عليها ؛ وهي ملاحظة أديب صاحب قلم يعرف للكلام الأ دبي السردي مواطن شعريته ؛ وومواقع تأثيره في النفس.
                      أشد على يديك بحرارة .

                      تعليق

                      • عائده محمد نادر
                        عضو الملتقى
                        • 18-10-2008
                        • 12843

                        #12
                        الزميل القدير
                        البكري المصطفى
                        والله اشتقت لكم جميعا ولنصوصكم
                        أحببت روح النص كثيرا وتلك الومضة التي جاءت على اللب
                        لم يختطف الأغنياء حقوق الفقراء ويسلبونها
                        موجعة هذه كثيرا
                        شكرا على النص الجميل
                        ودي ومحبتي
                        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                        تعليق

                        • البكري المصطفى
                          المصطفى البكري
                          • 30-10-2008
                          • 859

                          #13
                          الأديبةالغالية عائدة محمد نادر ؛ كل شكري لك عرفانا بجميل ودك ونبل خصالك . أقدر ذوقك الرفيع وحسن إصغائك للذوات المكلومة في قصصي كما في أعمالك الأدبية الجميلة والمؤثرة .
                          طابت أوقاتك.

                          تعليق

                          يعمل...
                          X