مَناسك حَمّام الجَدّة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سعاد محمود الامين
    أديب وكاتب
    • 01-06-2012
    • 233

    مَناسك حَمّام الجَدّة

    مَناسِك حَمّام الجَدّة
    قدِمت الجَدّة فاطمة دون رغبتها الى المدينة، من قريتها الكائنة حيث ينحنى نهر النيل ثم يستقيم مسرعًا نحو الشمال يَشق التِيه، تحُفه أشجار النخيل الباسقة، ورمال الصحراء، وآثار التاريخ القديم. فقد الحَ عليها ابنها الوحيد أن تأتى لتعيش معهم فى المدينة. حيث يشغل مركزا مرموقا ويعيش مع زوجته وطِفْليه. عندما علمت بنبأ رحيلها من القرية إنتابتها حالة من الإكتئاب. لأنها تكره الرحيل لإرتباطها العميق بجذورها فى القرية، فأودَعت أغنامها للحاجة نفيسة لترعاهم فى حظيرة أغنامها حين عودتها. وطلبت من ودعَكر أن يتعهد حقلها ونخيلها عند ضفة النهر بالرىّ، ثم غادرت القرية.
    مَرت الأيام وأعقبتها الشهور، وهى تنادى بالرحيلِ حيث ينحنى نهر النيل. وابنها يوعِدها بالرجوع للقرية يومًا بعد يوم حتى يئست. وأصبحت كثيرة الصمت، لاتداعب أحفادها كما كانت ولاتتحدث مع زوجة ابنها.
    وإنعزلت عن مجتمع المدينة، لاترحب بالزوار ولاتخرج مع الأسرة. تجتر ذكريات القرية. وصويحباتها المُسنات، عندما يجلسن ليتسامرن طوال اليوم تحت شجرة النيم الظليلة فى بيتها المتواضع المبنى من الطين كبقية بيوت القرية، تغشاهن غفوة تقدم العمر لاإرادياً عند منتصف النهار، فينمن كأصحاب الكهف . ثم تزول الغفوة فينهضن يحتسين الشّاى ويثرثرن، حتى إذ إنقضى النهار مُفسحًا للليل مكانه، توشحت القرية السواد الحالك، ينبَلِج ضُوء القمر وتتسرب خيوطه الفضية بين أشجار النخيل، لترمى بظلالها التى تتحرك مع نسائم الليل كالأشباح على صَفْحَة النيل . عندها تخرج النسوة لجلب الماء . كانت تتذكر كل ذلك وتتحدث كثيرا قبل أعلان اضرابها عن الحديث وعن الحَمّام. صمتها كدر صفو حياة الأسرة. حياة المدينة الصاخبه الفردية لاتستهويها حيث لاتجد العفويّة، كل شئ مُتكلّف تطالبها زوجة ابنها بأن تغير لهجتها القروية التى تتحدث بها حتى لاتفضحها مع جاراتها، وهى لاتستطيع الى ذلك سبيلاً. وأن ترتدى الثياب التى تختارها لها، وأن تَسّتحِم كلما أمرتها بذلك. الجَدّات المُسنات فى المدينة منبوذات فى حُجرات تنتبذ ركنًا قصيًا من المنزل. وهذا ماأثار حفيظتها وجعلها تتمرد على حياة المدينة.
    إجتمع مجلس الأسرة ليناقش الجَدّة فاطمة لتفك إضرابها عن الكلام والحمّام. اذ صارت تنبعث منها رائحة العرق والملابس المُتسخة. رفضت رفضًا باتًا التفاوض خاصةً الحمّام، لانها تكره حمّام المدينة المُتحضر لاتريد أن تستحم بماء يخرج من ثقوبٍ آلةٍ وهى تقف على حوض أبيض زَلِق هذا جنون. أخيرًا بعد أن هجر أحفادها حجرتها النَتِنة، وأصبحت وحيدة لايستطيع أحد الجلوس قُربها.
    نادت على ابنها وهمست له: أُريد أن استحم
    قفز واقفًا وصفق بيديه فرحًا لقد تركت أمه العِصيان. نادى زوجته وأمرها بتجهيز الحَمّام. صرخت الجدة بأعلى صوتها: لا أريد حمام المدينة أريد حمّامى الذى تعودت عليه فى القرية. داخل حجرتى لن أتحرك من هنا.
    إمتعضت الزوجه وعبّرت عن سخطِها بضرب أقدامها بشدة على الأرض، وقذفت بالمناشف بعيدا فهى لاتعرف حمّام القرية.
    حذرت زوجها بأنها لاتستطع مجاراة عِناد أمه. ولاتعرف طقوس حمّام القرية لانها بنت المدينة.
    قالت لها الجدة: زمان.. زمن ..الزمان ..زين . كنت أريد لابنى زوجة من قريتنا ولم يسمع كلامى تعرف كل شئ ولاتتضجر مثلك. تبا لك
    صمتت الزوجة وهى تنظر اليها نافدة الصبر تكتم غيظًاً، والجَّدة تستعرض بنات القرية ..ه.ها. ام الحسن بنت مقبول..والرضيّة بنت أبوزيد..ه.ها.. كلهن أجمل منك وتكيد لها وتهمهم وتكيد وتكيد حتى غفت فى سبات عميق غفوة تقدم العمر اللاإرادية .
    جاء ابنها وطلب منها أن تشرح لزوجته حمّام القرية. استعدلت الجدة جلستها ومَصّمصت شفتيها مُستهجنه جهل زوجة ابنها قالت: أولا أزيلى هذا السِجّاد من حجرتى..ه.ها.. وضَعى الطست فى منتصف الحجرة..ه.ها.. واملائى الجَرّدل بالماء..ه.ها.. وضعى الصابونة فى لِيفة آآآ لا أريد ليفة البندر أريدها من لحاء شجرة النخيل..ه.ها وأحضرى كوبا لاصب به الماء فوق رأسى..ه.ها..فهمت. وواصلت همهمتها..ه..ه..ها!. أسرعت الزوجة تكتم انفجار يمور فى داخلها كالبركان. وأزالت السِجاد من على بلاط السراميك، ووضعت لها كل ماطلبته. تحركت الجَدّة ببطء وخلعت ملابسها المتسخة والقت بها على الأرض. وتوسطت الطَسّت وجلست القرفصاء، وتناولت الكوب ودلقت الماء فوق رأسها، فتسرب مندفعًا فى انحناءت جسدها المُترهل متخذًا طريقة نحو الأسفل، هى تلاحقة بالصابونة المتمردة الملفوفة داخل اللِيفة، تنفلت من يدها المرتجفه فتَلّعنها الجَدَة، محاولة إزالة الأوساخ التى تراكمت مع العَرق ــ ابتسامة الرضا تُنير وجهها المتغضن ــ فقد انتصرت على زوجة ابنها، فهى لم تمارس مَناسِك حَمِام القرية منذ قدومها، انتشر رذاذ الماء، وتناثرت الرغوة على السراميك وامتلأت أرضية الحجرة بالماء وفقاعات الصابون، وعندما نهضت الجَدّة واقفةً من جلسة القُرفصاء خارج الطَسّت وضعت قدمها على الصابونة فزَلّت.. وسقطت محدثة ضجيجًا عاليًا اذا حاولت التمسك( بجَرّدل) الماء فانزلق هو الآخر مُغرقاً الحجرة بالماء. هرول الجميع لاستجلاء الخبر فوجدوا الجَدة ملقاةٌ على الأرض عارية، أسرع ابنها والقى عليها ثوبها، ونُقلت للمشفى لعلاج الكسور المُركبة التى أصابتها إثر مَناسِك حمَام القرية.
    قطار الشمال ينهب الأرض نهبًا، فى اتجاه منحنى نهر النيل حيث تطلّ الجَّدة من النافذة فترى صويحباتها السُرة، وسعدية، ونفيسه، وصالح صاحب الكَنْتِين والكَجم الجزّار، والحَقِى بائع الخضار، والترزى عبد الكريم وكل القرية التى إفتقدتها فرحةً بقدومها، رَسمت خطواتها فوق الرمال، وعادت أغنامُها الى الحَظِيرةِ.
    مصر ومامصر سوى الشمس
    التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
    والناس فيك إثنان...
    شخص رأى حسنا فهام به
    وشخص لايرى!
  • ريما ريماوي
    عضو الملتقى
    • 07-05-2011
    • 8501

    #2
    قصة خفيفة الدم اصيلة ...
    ويا للجدات االمسكينات، لا يجوز
    قلعهن من بيئتهن وبيتهن اللواتي
    تعودن، ولكن مرات يكون هذا حكم
    الزمان عندما يصبحن بحاجة لمن
    يعتني بهن...

    شكرا لك الأستاذة سعاد....

    تحيتي وتقديري.


    أنين ناي
    يبث الحنين لأصله
    غصن مورّق صغير.

    تعليق

    • سعاد محمود الامين
      أديب وكاتب
      • 01-06-2012
      • 233

      #3
      شكرا لك ريما على ا لمرور يجب على الانسانانيجعل لحياته معنى فى كل مراحل العمر ولايسلم راية الحياة للآخرين ليقرروا انها معاناة كبر السن.
      مصر ومامصر سوى الشمس
      التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
      والناس فيك إثنان...
      شخص رأى حسنا فهام به
      وشخص لايرى!

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        الحمام كان ذريعة للعودة وقت فشلت في اقناع ابنها بالرحيل
        و لكنها في كل الاحوال قد تركت هنا أثرا على السراميك
        و في سراميك وجدان الزوجة التي لم تظهر الكاتبة غضبها جيدا
        و تقبل كيد حماتها !

        طالت القصة ، و لكن ما يشفع لها جمال الأسلوب ، و القدرة على السرد ، و عدم التوقف

        توقفت أمام أخطاء ليتك عدت إلي العمل ، و صححت ما يحتاج إلي عنايتك

        تقديري و احترامي
        sigpic

        تعليق

        • غالية ابو ستة
          أديب وكاتب
          • 09-02-2012
          • 5625

          #5
          ------الغالية سعاد------تحياتي وسلامي
          ربما لم أضحك وأفرح في يومي-----كما حصل الان فرح الله قلبك
          أرجعت لنا الأيام------والجدة لا يعجبها منا شيء----ما أجمل سردك للقصة راااائعة
          دمت وأسعد الله قلبك
          يا ســــائد الطيـــف والألوان تعشــقهُ
          تُلطّف الواقـــــع الموبوء بالسّـــــقمِ

          في روضــــــة الطيف والألوان أيكتهــا
          لـــه اعزفي يا ترانيــــم المنى نـــغمي



          تعليق

          • سعاد محمود الامين
            أديب وكاتب
            • 01-06-2012
            • 233

            #6
            الأخ الأستاذ ربيع
            مشكور على المرور والتعليق وحرصك على سلامة المكتوب من الأخطاء. لقد صححت النص فى نسخته الأصلية بعد أن أهدتنى عيوبه إحد الأخوات وفشلت فى التصحيح هنا راسبة تكنولوجيا. مودتى بلاحدود على توجيهاتك آمل أن تكون مفصلة نوعا للفائدة.
            مصر ومامصر سوى الشمس
            التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
            والناس فيك إثنان...
            شخص رأى حسنا فهام به
            وشخص لايرى!

            تعليق

            • سعاد محمود الامين
              أديب وكاتب
              • 01-06-2012
              • 233

              #7
              الأخت غالية الغالية... سلامى
              سعدت جدا أن جعلتك تضحك على جدتي.. كبر السن عذاب واقتلاع الجذور ألم وحنين والله مفارقة الديار من المآسى التى يعز الصبر حين حلولها( مفارقة ديار تحبها ) الله يرحمهم جميعا لقد اثروا لنا الحياة..
              مصر ومامصر سوى الشمس
              التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
              والناس فيك إثنان...
              شخص رأى حسنا فهام به
              وشخص لايرى!

              تعليق

              • عائده محمد نادر
                عضو الملتقى
                • 18-10-2008
                • 12843

                #8
                الزميلة القديرة
                سعاد الأمين
                نص جعلني أتوقف عند جدتي التي أخذت منها الكثير
                معطاءة وثرية كانت
                لم تبخل على أحفادها بأي شيء حتى بأبسط الأمور
                لكن
                وجدتها هنا وكأنها عقبة تقف أمام الآخرين
                والعصيان الذي فرضته على نفسها والمحيطين بها جعلني أشم رائحتها...........
                النص تأرجح بين الشاعرية في الوصف وبين التقريرية
                لكنه أوصل المعنى للمتلقي لأنه أخذ شريحة مهمة وجدا في المجتمع
                لا نستطيع مع الجدات فعل شيء لأنهن الجدات
                وكم أحببت جدتي ومازلت أحتفظ لها بمكانة كبيرة بداخلي
                ومعذرة بدأت عطلات النت تظهر ولا أدري هل سيصل ردي أم لا
                سأعود لو لم يص
                ودي ومحبتي لك سيدتي
                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                تعليق

                • سعاد محمود الامين
                  أديب وكاتب
                  • 01-06-2012
                  • 233

                  #9
                  شكرا لك على المرور الجدات كنز عواطف لايشبه اى عواطف حزينة لاحفاد المهجر والنزوح لم ينهلوا من تجارب الاجداد تربيت بينهم وساكتب عنهم كثيراعالمهم زاخر ملئ بالدراما
                  مصر ومامصر سوى الشمس
                  التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
                  والناس فيك إثنان...
                  شخص رأى حسنا فهام به
                  وشخص لايرى!

                  تعليق

                  يعمل...
                  X