"ايامع البال": كتاب فريد في نوعه ومضمونه
محمود ابو رجب رائد الأدب التسجيلي في ثقافتنا
نبيل عودة
الكتاب: ايام ع البال (134 صفحة من القطع المتوسط)
الكاتب : الصحفي والأديب محمود ابو رجب
اصدار : دار الخبار – الناصرة/ 2012
قرأت قبل عدة سنوات كتابا للكاتب والصحفي ومحرر جريدة الأخبار التي تصدر فيالناصرة محمود ابو رجب ، حمل عنوان "ايام ع البال" وها هو اليوم يصدركتابا جديدا بنفس الأسم وميزه عن الأول بأنه "القسم الثاني".
الكتاب الأول كان مليئا بحكايات واحداث من جعبة الكاتب وتجربته الحياتية،وقد لا حظت ان بعض القراء تعاملوا مع النصوص كقصص. هي حقا قصص ولكنها صيغت باسلوبسردي تسجيلي لم تفقد روح القصة ولكن كتابتها لم تكن بهدف انتاج أدب قصصي.
هذا النوع من الأدب يعرف في العالم كله بالأدب التسجيلي، وهدفه الحفاظ علىالذاكرة الجماعية، نقل التجربة بطريقة ثقافية ما، والكاتب هنا لا يبلتزم باصولالفن القصصي. ولكن كاتبا قاصا مثل محمود ابو رجب، تظل كتاباته ، حتى السياسية منها، تحمل عبق الدراما القصصية، وفنون القص واللعبة القصصية، ولغة القص المميزة.
طبعا تلعب بنا الذكري كثيرا ـ تنسينا احداثا هامة وتبقي احداثا أقل اهمية ،او تربط بين حدثين بطريقة لا يميزها الكاتب نفسه، خاصة بفعل الزمن والجيل والتراكمالكبير للأحداث. لكن محمود ابو رجب فاجأني بذاكرته القوية حول تفاصيل اعادني اليهابكل توهجها.
من ناحية أخرى يمكن ان نلحظ ان الكتابة التسجيلية، او الأدب التسجيليللدقة، يشمل الكثير من السيرة الذاتية ولكن باسلوب غير مباشر.
في ثقافتنا المحلية لا اعرف كتابا لهذا النوع من الأدب، ولكن قبل فترةوصلني كتاب من انسان نصراوي هو رمزي ابو نوارة، صاحب مكتبة سابقا، يحمل عنوانا لفت انتباهي:"نص راوينصراوي" رمزي ابو نوارة لم يسبق له ان خاض الكتابة في أي من اشكالها، وهواليوم ليس بجيل الشباب ولكنه اكتنز تجربة حياتية عبر معايشته لأهل مدينته الناصرةوقام بنقل هذه التجربة للقراء عبر نص راوي نصراوي.
الذي اريد ان انوه اليه هنا ان هذا الأدب التسجيلي له مكانة هامة ، حتى لوافترضنا اننا فرزنا الكثير من النصوص التي قد نجدها نصوصا قتلتها المبالغةالقصصية.. من منطلق ان الأدب القصصي هو كذبة متفق عليها بين الكاتبوالقارئ..وتتميز القصة بالدمج بين الحلم – التخيل والواقع، بينما الأدب التسجيلييلتزم بالحدث دون اضافة. بالطبع لا يمكن الادعاء ان ما يواجهه الأديب من احداث لاينعكس في اعماله الابداعية ، ان كانت نثرا او شعرا.
مثلا في النصوص الجديدة لكتاب محمود ابو رجب الجديد ،نشم رائحة قرية صفوريةالتي دمرت بالكامل في نكبة فلسطين واستوطن معظم اهلها في مناطق من جبال الناصرةمطلة على صفورية وسهولها.
في الأدب التسجيلي لدى محمود ابو رجب نجده يدمج الحاضر، بالماضي، الثقافي،بالتاريخي وبقضايا الوطن والسياسة ، ليشكل كولاج سردي كثيف المضامين والأحداث ...
طبعا عدا صفورية هناك اوجاع كثيرة يحملها الفلسطيني في قلبه ... ومحمودابورجب عانى على المستوى الشخصي من الهرب من البيت والحياة في اللجوء القسري. واقعافقد جيلا كاملا من طفولته.
ذكريات التعليم والمعلمين والمفتشين الذين عمل معهم ، في فترة عملهبالتعليم، لهم مكانة خاصة في تسجيلاته،حيث يعرفنا على شخصيات تركت أثرها التعليمي على طلاب الناصرة والذين أصبحوا شخصياتلها مكانتها اليوم.. وكان صريحا في كشفه ان بعض المعلمين ما كان يحل لهم ان يعملواساعة واحدة ، رغم انهم خدموا بالتعليم 35 سنة.وهذا النص ذكرني بان معلمي للقواعدالعربية في الصفوف الابتدائية الأولى، لم يكن يعرف تعليم القواعد وأشك انه لم يكنيعرف القواعد مما جعلني اكتب حتى اليوم بالاعتماد على الأذن وليس على المعرفةالصحيحة للقواعد العربية.
تلك كانت ايام تحكم نظام الحكم العسكري بلقمة عيش المعلمين وطرد كل معلميشتم انه يخرج عن برنامج التعليم ( او للدقة: التجهيل). ومع ذلك كان بعض المعلميناصحاب ضمير تفانوا في تعليمنا وتثقيفنا،واكاد اقول اننا اليوم مع اتساعالديمقراطية والليبرالية في جهاز التعليم وفي مجتمعنا عامة، ولم يعد سيف الفصليلوح فوق رأس جهاز التعليم والمعلمين، نجد ان الكثيرين من المعلمين ليسوا بنفسدرجة الاخلاص للطلاب والتعليم.
وهل يمكن ان يخلو كتاب تسجيلي لمن صار ابنا قسريا للناصرة بعد تدمير صفورية وتشريد أهلها، من صورة الناصرة ومواقعهاالتاريخية وحكاياتها؟ فها هو سوق الناصرة القديم ، وبهجة عيد الميلاد وكانت اعيادالطوائف اعيادا لكل ابناء الناصرة. وانظر اليوم فأرى اننا تراجعنا عن كوننا عائلةنصراوية واحدة لا تعرف التمييز بين مسلم ومسيحي الى مدينة مصابة بشرخ مؤلم منالتباعد نشأ مع تطور الجهل وفقدان التوازن الانساني الأولي.
من مميزات سرديات الكتاب ان الكاتب المتبحر بالتراث العربي يتحف حكاياتهباقتباسات تراثية ، مما يضفي على النصوص ، مادة تراثية تكشف عظمة التراث العربي ،وعظمة الحضارة العربية التي نعيش اليوم في ظلال ذكرياتها ، غير قادرين ، على مستوىالعالم العربي كله، على احداث انطلاقة جديدة .
لا يمكن معالجة النص بمفاهيم النقد القصصي. اللغة هنا ليست لغة قصصية، أيلا تحمل نكهة الدراما الا بقدر قليل، ففي هذا الأدب الدراما ليست هي هدف الكاتب.ومع ذلك للكاتب اسلوب مميز في السرد ، يتدفق بطلاوة وبدون تجربة عضلات لغوية.
قرأت نصوصا ممتعة، ربما يسميها البعض تأريخا. او مذكرات، او حكايات منقولة.التسمية ليست مهمة، انه أدب لا يمكن الا ان نقر ان محمود ابو رجب هو رائده فيثقافتنا.
ملاحظتان: اولا، وجدت ان محمود ابورجب قد ادخل بعض التفاصيل لمواضيع لا تعني للقارئ شيئا وكان افضل لو تنازل عنها،لا تضر بقيمة الكتاب ولكنها لا تعطي للقارئ أية اضافة نوعية. بل تشعر القارئ انالكاتب أعطى للقسم الأول من النصوص ، وهي أكثرية نصوص الكتاب، كل طاقتهواهتمامه... والنصوص الأخيرة اتجهت نحو الصيغة الإخبارية.
ثانيا ، تميزت النصوص الأولى في الكتاب بزخم ثقافي وتراثي وصور جعلت النصوصقطعا أدبية فكرية فيها روح السرد القصصي، بينما النصوص الأخيرة كانت مبسطة أكثروسردية بسيطة أشبه بسجل احداث شخصيةتماما، منقولة من مفكرة، وخلت من المميزات الثقافية الواسعة التي ميزت القسمالأول.
ويبقى كتاب "ايام ع البال" بأكثرية نصوصه فريدا ومميزا في مضمونهواسلوب عرضه للأحداث... وربما يجد بعض القراء اهتماما خاصا بكل التفاصيل التياوردها الكاتب في القسم الأخير من "ايام ع البال"!!
nabiloudeh@gmail.com