ابنة حفار القبور
استيقظتُ ذات صباح ؛ فوجدتني أستذكرُ تفاصيل حلم ، تمادى في إذكاء خيالي ، حتى توهمته حقيقة .
من عادتي قبل النوم , أن أضع قليلا من فواكه الموسم فوق المنضدة الصغيرة التي بجانب سريري ,
فألتهم بعضها إذا ما جفَّ حلقي وشعرت بالعطش خلال نومي .
هذه الليلة , وأنا ما بين الصحوة والنوم . مضت يدي تتلمَّس فص البرتقال الذي فوق المنضدة ,
فإذا بها تلامس يداً بشريّة . تملَّكني الفزع , فتحتُ عينيّ فذُهلت , رأيتُ أمامي رجلاً ذا سحنة
مألوفة , ربما أكون صادفتهُ يوماً ما في مكانٍ ما .
بوغتَ بي أصحو، ربت بكف يده قمة رأسي ، ثم قال هامسا :
ــ اهدأ ولا تخف , لن أؤذيك .
انكتمت أنفاسي ، وانعقد لساني ، من هول المفاجئة . ثم هززت رأسي ممتثلا دون أن أنْبَسّ .
رفع يده عن رأسي ، ثم مال نحوي ، وهو لم يزل يهمس قائلا :
ــ جئتُكَ بشيء , ربما اقتناؤك له أحقٌ من احتفاظي به .
التصقتُ بفراشي فاغرا فاهي أُنصت .
ــ إنها طاقية الإخفاء , وضعتها تحت وسادتك . استغل سحرها بما شئت .
استيقظتُ مع آذان الفجر مُثقلاً بهواجسٍ تكاد أن تتجسَّدَ أمامي .
لولا يقيني , أن حوادث أمسية الأماسي تلك ما هي سوى حلم , لمَدَدتُ يدي نحو الوسادة .
إلاّ أني وبفضول مَنْ غابت عنه براءته , أطلقتُ أصابع يدي , لتجولُ وتجول حتى لمَسَتْ
فريستها , فانقضَضتُ عليها انقضاضه لا فكاك منها .
خارت قواي حتى بِتُّ لا أقوى على الوقوف. فجلست فوق حافة السرير وبيدي الطاقية .
شكلها غريب , مُطرزة بأشكالٍ هندسية ليست كالرسوم الفرعونية أو البيزنطية أو الإسلامية
ربما تعود لابن بطوطة أو للسندباد أو ربما جاء بها ماركوبولو من أقاصى البلاد .
وقفتُ أمام المرآة , وبفضولٍ عفوي , وضعت الطاقية فوق رأسي.
يا للهول , إن ما جرى بالأمس كان حقيقة ولم يكُنْ حلما .
مَنّ نفحني هذه الهدية , لم يحدد لي شروطا تُقيِّد سريان مفعولها بل قال لي , استغل سحرها بما شئت .
على أى حال أنا لن أستغِلّ سحرها قط فيما يضُر , ولا أروم لنفسي شيئاً , فقد منحني المولى كل ما
أتمنى من رغد عيش وراحة بال .
حسناً , سوف أنَظَّمْ أموري بناءً على ما جَدَّ في حياتي .
ومَضَ البرقُ فأضاء الممر المؤدي الى غرفة الحمام . قذفتُ بنفسي فوق مقعد ( التواليت ) ثم حلقت ذقني
وفرشت أسناني . وقبل دوى الرعد كنت بغرفتي أتدثَّرُ بملابس تلائم هذا الجو العاصف .
تحسست الطاقية مرّة اخرى , وضعتها فوق رأسي , وحَدَّقتُ في المرآة لأتأكد .
ــ كل شيء تمام .
أغلقتُ باب المنزل وهرولتُ متجها نحو درجات السلم المؤدي للطابق الأول .
كدتُ ألقي تحية الصباح على جاري وهو خارج من بيته , لكني تنبُّهتُ أنني غير مرئي فسرتُ خلفه
حتى خرج من باب العمارة .
الساعة تقترب من الثامنة صباحاً , سوف أذهب إلى العمل كي أنجز بعض المعاملات المهمة
والمستعجلة ثم أطلب إجازة لمدة أسبوع .
عند اقترابي من مبنى الدائرة التي أعمل بها قمت بخلع الطاقية عن رأسي ودخلت غرفتي مارَّاً
بسكرتيرة المدير .
منذ مدة بدأ الشك يُساورني بشأن الغموض الذي يكتنف تصَرُّف السكرتيرة . وبالتحديد عندما تَهِمّ
لمقابلة المدير في أي أمر ما .
أراها في أغلب الأحيان ,لا بل دائما تدخل غرفة المصعد وتغيب لدقائق قبل أن تلبي طلبه وتدخل
غرفته . إلى أين تذهب ؟ وماذا تفعل , لا أدري . اليوم سأرافقها متخفياً وأكشف هذا السر .
رنَّ جرس الهاتف فوق مكتبها , فأجابت بارتباك جلي :
ــ نعم , حاضر , سأحضر الملف حالاً .
وكما توقعتُ , فقد اتَّجَهَتْ السكرتيرة نحو المصعد كعادتها .
وبسرعة خاطفة . وضعتُ الطاقية فوق رأسي وتسللت خلفها .
رأيتُها أمام المرآة التي بالمصعد تُرتب هندامها وتُخفي بمنديلها رتقاً في ثوبها .
أشفقتُ عليها ولُمْتُ نفسي . البنت بريئة , وما قُمتُ بفِعله أخجلني .
إنهُ تصَرُّف طبيعي من ناحيتها كي تحتفظ بوظيفتها , فهي تعلم وكلّنا يعي أن هذا المدير قد فصلَ
السكرتيرة السابقة بسبب إهمالها لمظهرها . فكيف وإن رأى هذا الفتق بفستان سكرِتيرته ؟
سوف يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن وينفذ العقوبات عليها بموجب البند السابع من القانون .
وربما يستعين بحلف الناتو !
لقد أخطأتُ , وما أكثر أخطائي وهفواتي .أكاد أجزم أنها لا تملك النقود اللازمة لشراء ملابس جديدة .
سأعوضها عن ظني الخبيث بها , وأدس بحقيبتها مبلغاً من المال يعينها على تدبير أمورها .
لكني لا أملك من المال سوى القليل وربما لا يكفيني حتى موعد صرف الراتب .
سوف أقترض مبلغا من خزنة الكاتب والتي كان مفتاحها في جيب سترته ، وأعيده عند القبضة .
فتحتُ حقيبتها ودسَسَتُ المبلغ المقترض كما هو . ثم عدت لمكتبي بعد أن خلعت الطاقية .
حين أزف موعد انصراف الموظفين لاستراحة الغذاء , تفرقوا ولم يبق في المكاتب سوى السكرتيرة .
عدتُ معتمراً الطاقية لأراقب ردة فعلها حين تكتشف وجود النقود في حقيبتها .
بعد أن أنهت ترتيب الملفات والأوراق فوق مكتبها . رأيتها تحمل حقيبتها وتتجه نحو غرفة عامل (كافتيريا)
الدائرة . سرت خلفها بحذر .
وضَعَتْ إبريق الشاي فوق (البوتوغاز) وأشعلتهُ . فتحتْ حقيبتها وأخرجتْ منها شطيرة , ثم
أعادتْ دس يدها بالحقيبة وقد استأثرَ بها اكتشاف رزمة النقود .
يبدو أن القدر قد جاد عليها ببعض من غيثه , فبدت كالعاجزة عن تطويع رغباتها إلى أن أدركها
غليان الماء بإبريق الشاي وكأنه ينخس جنبيها . أطفأت شعلة (البوتوغاز) وهرعَتْ نحو مكتبها ,
وضعت رزمة النقود في مظروف وكتبت عليه من فاعل خير , ثم هرولتْ نحو غرفة المُحاسب ,
ودست المظروف بإحدى جيوب سترته .
هي تعلم , كما نعلم نحن أن المحاسب يمر بظروف مالية قاهرة , وربما تكون أصعب من ظروفها .
إذ لا يمر شهر إلاّ ويستدين فوق راتبه راتباً آخر . استأسرني خلقُها , فتمتمتُ في حيرة :
ــ ما أرْوَعِكْ أيَّتُها السكرتيرة , تفكرين بغيرك قبل نفسك .
عاد الموظفون بعد استراحة الغذاء كلٌ إلى مكتبه . وكان المحاسب آخرهم , دخل وبين شفتيه سيجارة
غير مشتعلة . أخذ يبحث عن ولاّعة , لم يجد , قادته قدماه نحو سترته نقَّبَ بجيوبها , فوجد
المظروف وضعه فوق المكتب وأشعل سيجارتهُ ثم أخذ المظروف بيده فتحهُ فوجد به نقودا . وإذا بصوت
المدير على بعد خطوات منه. وبحركة غير إرادية وكعادته فتح الخزنة ووضع النقود داخلها .
دخل المدير ومن برفقته غرفة المحاسب قائلاً لهم وهو يشير بيده نحو الخزنة :
ــ هذه غرفة المحاسب وتلك خزنتهُ , بعد أن تقوما بجردها تفضلُّوا عندي لنشرب القهوة .
تقدم الذي يعتمر كوفية من المحاسب قائلاً له بلهجة آمرة :
ــ أنا وزميلي من وزارة المالية , نقوم بين فينة وأخرى بزيارات مفاجئة للدوائر الحكومية ندقق عهدتها .
فهل تسمح لنا بجرد عهدتك ؟
أجابه بثقة مكتملة كالبدر :
ــ على الرحب والسعة , تفضلا .
انكمشت لحظة قدوم المدققين حتى أصبحتُ كسمسمة لا تُرى بالعين المجردة .
في البدء , قاما بتقليب الدفاتر ثم عد النقود التي بالخزنة . فبلغا مرادهما في وقت قصير .
نهض كلاهما ثم مدَّ الآخر يده يصافح المحاسب قائلا برِضى وهو يبتسم :
ــ دفاترك تمام التمام وخزنتك سليمة , أحسنت , وسوف ننسب لمديرك ليُكافئك .
الحمد لله , لقد خارت قواي ولا أدري كيف حملتني قدماي .
هذه ثاني غلطة أقدمت عليها اليوم ولن يتكرّرَ ذلك أبداَ .
كانت الساعة تُشير إلى الثانية بعد منتصف الليل . مدَّ يدهُ يدسُّ الطاقية تحت وسادتها .
فاستيقظتْ ، رأتهُ أمامها . همَّتْ بالكلام , لكنها أمسكت خِشية إثارته .
رنا بنظره نحوها وقال لها صادقاً :
ــ لا تخافِي يا ابنتي , لن أسيء إليكِ . جئتُكِ بطاقية الإخفاء , استغلّي سحرها بما شئت ربما وجودها
معك أنسب من احتفاظي بها .
كان هناك لصٌّ , وصل قبله بدقائق . سَمِعَ ورأى . انتظر حتى غطَّت بالنوم . فسرق الطاقية من تحت
وسادتها ثم فرَّ هاربا .
استيقظت كعادتها , قبل السابعة بقليل . راودها الحلم كشريط لفلم سينمائي مبتور النهاية . لكنها أبت
أن تضع له النهاية فتفارقها براءتها . سحبت يدها المندسة تحت الوسادة قبل أن تغوص في وحل الأوهام ,
فالتمعت عيناها بنشوة الانتصار . ارتدت ملابسها على عجل وانطلقت إلى عملها .
انتشر الرعب ودبَّت الفوضى في أركان الحي والأحياء المجاورة . سرقة ، قتل , اغتصاب ...
الغريب بالأمر أن هذه الحوادث الإجرامية كانت تحدث في وضح النهار وليس تحت جنح
الظلام كما هي عادة اللصوص .!
ربما ذات يوم , يلتقط الطاقية لصٌّ شريفٌ كروبن هود ، أو صعلوكٌ كعروة ابن الورد !
مرَّ صيف وخريف وشتاء وربيع . لم تفارق السارق الطاقية . كأنه يحمل وزر ذنوبه فوق رأسه .
قهره المرض الذي لا ينفع معه سحر .تضاءل حتى بات يحاكي ذرة من غبار متطاير .
الموت يقترب كما يقترب العنكبوت من فريسته .
ــ ما أصعب الرحيل ! احفر لي قبرا يا هذا .
ــ وماذا سَتُقَدِّم لي مقابل ذلك ؟ روحك ؟! ستذهب للخالق . القوة الجبروت السلطان ؟!
أنا ملك فوق هذه الأرض ، أحفر قبوركم بيدي بنفس الطول ونفس العرض .
صرخ اللص متأفِّفا :
ــ طاقية الإخفاء يا بني آدم .
ــ وماذا أفعل بها ؟
ثم أكمل ساخرا :
ــ خذها معك ربما تخدع بها رضوانَ ، تدخل جنّته دون أن يراك !
سرعان ما تقهقر اللص . تخلى عن صلابته الزائفة فآوى إلى ضعفه الفطري .
أصابه كلام الرجل بطعنة غائرة لا دواء لها .
تراءى في الجنازة التي عُمِلَت له كشبح داخل تابوت .
كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرا . غلب الأرق رغبته في النوم . تبدى الليل أبديّا
الطاقية بين يديه . أخذ يناجيها قائلا :
ــ أنا رجل طاعن بالسن . " على حِفَّة قبري " . لا أطمع بجاه أوعز بعد هذا العمر .
البركة في الشباب . الأيام القادمة لهم . سأهدي هذه الطاقية بما تحمل من سحر لابنتي ثورة
إنها تربية يدي النظيفة . أثق في نقائها وفي نبل أهدافها .
نهض وسار ببطء نحو سرير ابنته . وضع الطاقية تحت وسادتها وانصرف إلى عمله .
شعرت بيد تدس شيئا ما تحت وسادتها . مدت يدها ، تملَّكها الفزع .
ــ إنها الطاقية ، طاقية الإخفاء . هذا ليس حلما ولا تهَيؤات .
استيقظتُ ذات صباح ؛ فوجدتني أستذكرُ تفاصيل حلم ، تمادى في إذكاء خيالي ، حتى توهمته حقيقة .
من عادتي قبل النوم , أن أضع قليلا من فواكه الموسم فوق المنضدة الصغيرة التي بجانب سريري ,
فألتهم بعضها إذا ما جفَّ حلقي وشعرت بالعطش خلال نومي .
هذه الليلة , وأنا ما بين الصحوة والنوم . مضت يدي تتلمَّس فص البرتقال الذي فوق المنضدة ,
فإذا بها تلامس يداً بشريّة . تملَّكني الفزع , فتحتُ عينيّ فذُهلت , رأيتُ أمامي رجلاً ذا سحنة
مألوفة , ربما أكون صادفتهُ يوماً ما في مكانٍ ما .
بوغتَ بي أصحو، ربت بكف يده قمة رأسي ، ثم قال هامسا :
ــ اهدأ ولا تخف , لن أؤذيك .
انكتمت أنفاسي ، وانعقد لساني ، من هول المفاجئة . ثم هززت رأسي ممتثلا دون أن أنْبَسّ .
رفع يده عن رأسي ، ثم مال نحوي ، وهو لم يزل يهمس قائلا :
ــ جئتُكَ بشيء , ربما اقتناؤك له أحقٌ من احتفاظي به .
التصقتُ بفراشي فاغرا فاهي أُنصت .
ــ إنها طاقية الإخفاء , وضعتها تحت وسادتك . استغل سحرها بما شئت .
استيقظتُ مع آذان الفجر مُثقلاً بهواجسٍ تكاد أن تتجسَّدَ أمامي .
لولا يقيني , أن حوادث أمسية الأماسي تلك ما هي سوى حلم , لمَدَدتُ يدي نحو الوسادة .
إلاّ أني وبفضول مَنْ غابت عنه براءته , أطلقتُ أصابع يدي , لتجولُ وتجول حتى لمَسَتْ
فريستها , فانقضَضتُ عليها انقضاضه لا فكاك منها .
خارت قواي حتى بِتُّ لا أقوى على الوقوف. فجلست فوق حافة السرير وبيدي الطاقية .
شكلها غريب , مُطرزة بأشكالٍ هندسية ليست كالرسوم الفرعونية أو البيزنطية أو الإسلامية
ربما تعود لابن بطوطة أو للسندباد أو ربما جاء بها ماركوبولو من أقاصى البلاد .
وقفتُ أمام المرآة , وبفضولٍ عفوي , وضعت الطاقية فوق رأسي.
يا للهول , إن ما جرى بالأمس كان حقيقة ولم يكُنْ حلما .
مَنّ نفحني هذه الهدية , لم يحدد لي شروطا تُقيِّد سريان مفعولها بل قال لي , استغل سحرها بما شئت .
على أى حال أنا لن أستغِلّ سحرها قط فيما يضُر , ولا أروم لنفسي شيئاً , فقد منحني المولى كل ما
أتمنى من رغد عيش وراحة بال .
حسناً , سوف أنَظَّمْ أموري بناءً على ما جَدَّ في حياتي .
ومَضَ البرقُ فأضاء الممر المؤدي الى غرفة الحمام . قذفتُ بنفسي فوق مقعد ( التواليت ) ثم حلقت ذقني
وفرشت أسناني . وقبل دوى الرعد كنت بغرفتي أتدثَّرُ بملابس تلائم هذا الجو العاصف .
تحسست الطاقية مرّة اخرى , وضعتها فوق رأسي , وحَدَّقتُ في المرآة لأتأكد .
ــ كل شيء تمام .
أغلقتُ باب المنزل وهرولتُ متجها نحو درجات السلم المؤدي للطابق الأول .
كدتُ ألقي تحية الصباح على جاري وهو خارج من بيته , لكني تنبُّهتُ أنني غير مرئي فسرتُ خلفه
حتى خرج من باب العمارة .
الساعة تقترب من الثامنة صباحاً , سوف أذهب إلى العمل كي أنجز بعض المعاملات المهمة
والمستعجلة ثم أطلب إجازة لمدة أسبوع .
عند اقترابي من مبنى الدائرة التي أعمل بها قمت بخلع الطاقية عن رأسي ودخلت غرفتي مارَّاً
بسكرتيرة المدير .
منذ مدة بدأ الشك يُساورني بشأن الغموض الذي يكتنف تصَرُّف السكرتيرة . وبالتحديد عندما تَهِمّ
لمقابلة المدير في أي أمر ما .
أراها في أغلب الأحيان ,لا بل دائما تدخل غرفة المصعد وتغيب لدقائق قبل أن تلبي طلبه وتدخل
غرفته . إلى أين تذهب ؟ وماذا تفعل , لا أدري . اليوم سأرافقها متخفياً وأكشف هذا السر .
رنَّ جرس الهاتف فوق مكتبها , فأجابت بارتباك جلي :
ــ نعم , حاضر , سأحضر الملف حالاً .
وكما توقعتُ , فقد اتَّجَهَتْ السكرتيرة نحو المصعد كعادتها .
وبسرعة خاطفة . وضعتُ الطاقية فوق رأسي وتسللت خلفها .
رأيتُها أمام المرآة التي بالمصعد تُرتب هندامها وتُخفي بمنديلها رتقاً في ثوبها .
أشفقتُ عليها ولُمْتُ نفسي . البنت بريئة , وما قُمتُ بفِعله أخجلني .
إنهُ تصَرُّف طبيعي من ناحيتها كي تحتفظ بوظيفتها , فهي تعلم وكلّنا يعي أن هذا المدير قد فصلَ
السكرتيرة السابقة بسبب إهمالها لمظهرها . فكيف وإن رأى هذا الفتق بفستان سكرِتيرته ؟
سوف يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن وينفذ العقوبات عليها بموجب البند السابع من القانون .
وربما يستعين بحلف الناتو !
لقد أخطأتُ , وما أكثر أخطائي وهفواتي .أكاد أجزم أنها لا تملك النقود اللازمة لشراء ملابس جديدة .
سأعوضها عن ظني الخبيث بها , وأدس بحقيبتها مبلغاً من المال يعينها على تدبير أمورها .
لكني لا أملك من المال سوى القليل وربما لا يكفيني حتى موعد صرف الراتب .
سوف أقترض مبلغا من خزنة الكاتب والتي كان مفتاحها في جيب سترته ، وأعيده عند القبضة .
فتحتُ حقيبتها ودسَسَتُ المبلغ المقترض كما هو . ثم عدت لمكتبي بعد أن خلعت الطاقية .
حين أزف موعد انصراف الموظفين لاستراحة الغذاء , تفرقوا ولم يبق في المكاتب سوى السكرتيرة .
عدتُ معتمراً الطاقية لأراقب ردة فعلها حين تكتشف وجود النقود في حقيبتها .
بعد أن أنهت ترتيب الملفات والأوراق فوق مكتبها . رأيتها تحمل حقيبتها وتتجه نحو غرفة عامل (كافتيريا)
الدائرة . سرت خلفها بحذر .
وضَعَتْ إبريق الشاي فوق (البوتوغاز) وأشعلتهُ . فتحتْ حقيبتها وأخرجتْ منها شطيرة , ثم
أعادتْ دس يدها بالحقيبة وقد استأثرَ بها اكتشاف رزمة النقود .
يبدو أن القدر قد جاد عليها ببعض من غيثه , فبدت كالعاجزة عن تطويع رغباتها إلى أن أدركها
غليان الماء بإبريق الشاي وكأنه ينخس جنبيها . أطفأت شعلة (البوتوغاز) وهرعَتْ نحو مكتبها ,
وضعت رزمة النقود في مظروف وكتبت عليه من فاعل خير , ثم هرولتْ نحو غرفة المُحاسب ,
ودست المظروف بإحدى جيوب سترته .
هي تعلم , كما نعلم نحن أن المحاسب يمر بظروف مالية قاهرة , وربما تكون أصعب من ظروفها .
إذ لا يمر شهر إلاّ ويستدين فوق راتبه راتباً آخر . استأسرني خلقُها , فتمتمتُ في حيرة :
ــ ما أرْوَعِكْ أيَّتُها السكرتيرة , تفكرين بغيرك قبل نفسك .
عاد الموظفون بعد استراحة الغذاء كلٌ إلى مكتبه . وكان المحاسب آخرهم , دخل وبين شفتيه سيجارة
غير مشتعلة . أخذ يبحث عن ولاّعة , لم يجد , قادته قدماه نحو سترته نقَّبَ بجيوبها , فوجد
المظروف وضعه فوق المكتب وأشعل سيجارتهُ ثم أخذ المظروف بيده فتحهُ فوجد به نقودا . وإذا بصوت
المدير على بعد خطوات منه. وبحركة غير إرادية وكعادته فتح الخزنة ووضع النقود داخلها .
دخل المدير ومن برفقته غرفة المحاسب قائلاً لهم وهو يشير بيده نحو الخزنة :
ــ هذه غرفة المحاسب وتلك خزنتهُ , بعد أن تقوما بجردها تفضلُّوا عندي لنشرب القهوة .
تقدم الذي يعتمر كوفية من المحاسب قائلاً له بلهجة آمرة :
ــ أنا وزميلي من وزارة المالية , نقوم بين فينة وأخرى بزيارات مفاجئة للدوائر الحكومية ندقق عهدتها .
فهل تسمح لنا بجرد عهدتك ؟
أجابه بثقة مكتملة كالبدر :
ــ على الرحب والسعة , تفضلا .
انكمشت لحظة قدوم المدققين حتى أصبحتُ كسمسمة لا تُرى بالعين المجردة .
في البدء , قاما بتقليب الدفاتر ثم عد النقود التي بالخزنة . فبلغا مرادهما في وقت قصير .
نهض كلاهما ثم مدَّ الآخر يده يصافح المحاسب قائلا برِضى وهو يبتسم :
ــ دفاترك تمام التمام وخزنتك سليمة , أحسنت , وسوف ننسب لمديرك ليُكافئك .
الحمد لله , لقد خارت قواي ولا أدري كيف حملتني قدماي .
هذه ثاني غلطة أقدمت عليها اليوم ولن يتكرّرَ ذلك أبداَ .
كانت الساعة تُشير إلى الثانية بعد منتصف الليل . مدَّ يدهُ يدسُّ الطاقية تحت وسادتها .
فاستيقظتْ ، رأتهُ أمامها . همَّتْ بالكلام , لكنها أمسكت خِشية إثارته .
رنا بنظره نحوها وقال لها صادقاً :
ــ لا تخافِي يا ابنتي , لن أسيء إليكِ . جئتُكِ بطاقية الإخفاء , استغلّي سحرها بما شئت ربما وجودها
معك أنسب من احتفاظي بها .
كان هناك لصٌّ , وصل قبله بدقائق . سَمِعَ ورأى . انتظر حتى غطَّت بالنوم . فسرق الطاقية من تحت
وسادتها ثم فرَّ هاربا .
استيقظت كعادتها , قبل السابعة بقليل . راودها الحلم كشريط لفلم سينمائي مبتور النهاية . لكنها أبت
أن تضع له النهاية فتفارقها براءتها . سحبت يدها المندسة تحت الوسادة قبل أن تغوص في وحل الأوهام ,
فالتمعت عيناها بنشوة الانتصار . ارتدت ملابسها على عجل وانطلقت إلى عملها .
انتشر الرعب ودبَّت الفوضى في أركان الحي والأحياء المجاورة . سرقة ، قتل , اغتصاب ...
الغريب بالأمر أن هذه الحوادث الإجرامية كانت تحدث في وضح النهار وليس تحت جنح
الظلام كما هي عادة اللصوص .!
ربما ذات يوم , يلتقط الطاقية لصٌّ شريفٌ كروبن هود ، أو صعلوكٌ كعروة ابن الورد !
مرَّ صيف وخريف وشتاء وربيع . لم تفارق السارق الطاقية . كأنه يحمل وزر ذنوبه فوق رأسه .
قهره المرض الذي لا ينفع معه سحر .تضاءل حتى بات يحاكي ذرة من غبار متطاير .
الموت يقترب كما يقترب العنكبوت من فريسته .
ــ ما أصعب الرحيل ! احفر لي قبرا يا هذا .
ــ وماذا سَتُقَدِّم لي مقابل ذلك ؟ روحك ؟! ستذهب للخالق . القوة الجبروت السلطان ؟!
أنا ملك فوق هذه الأرض ، أحفر قبوركم بيدي بنفس الطول ونفس العرض .
صرخ اللص متأفِّفا :
ــ طاقية الإخفاء يا بني آدم .
ــ وماذا أفعل بها ؟
ثم أكمل ساخرا :
ــ خذها معك ربما تخدع بها رضوانَ ، تدخل جنّته دون أن يراك !
سرعان ما تقهقر اللص . تخلى عن صلابته الزائفة فآوى إلى ضعفه الفطري .
أصابه كلام الرجل بطعنة غائرة لا دواء لها .
تراءى في الجنازة التي عُمِلَت له كشبح داخل تابوت .
كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرا . غلب الأرق رغبته في النوم . تبدى الليل أبديّا
الطاقية بين يديه . أخذ يناجيها قائلا :
ــ أنا رجل طاعن بالسن . " على حِفَّة قبري " . لا أطمع بجاه أوعز بعد هذا العمر .
البركة في الشباب . الأيام القادمة لهم . سأهدي هذه الطاقية بما تحمل من سحر لابنتي ثورة
إنها تربية يدي النظيفة . أثق في نقائها وفي نبل أهدافها .
نهض وسار ببطء نحو سرير ابنته . وضع الطاقية تحت وسادتها وانصرف إلى عمله .
شعرت بيد تدس شيئا ما تحت وسادتها . مدت يدها ، تملَّكها الفزع .
ــ إنها الطاقية ، طاقية الإخفاء . هذا ليس حلما ولا تهَيؤات .
تعليق