أنا وامرأتان وطفلة
ذات ليلة، عبرتِني كالطيف فوقفت أمام النافذة.
من خلف الزجاج أبحرت في الظلمة، كان الليل حالكاً أكثر من أي وقتٍ مضى. نظرت إلى الساعة وقد تماثل عقرباها على العاشرة تماماً. فزع قلبي عندما عرفت أن عشر سنواتٍ تفصلني عنكِ، عشر سماواتٍ تحتجبين وراءها ولا أعلم عنكِ شيئاً.
تحسستُ نفسي ووجهي فوجدت أن رياحَ الزمن قد قذفت بي بعيداً. هززت رأسي أسفاً ونظرتُ للبرية والشارع الذي يشقها نصفين وهو عارٍ تماماً، كلحنٍ يمتدّ بحزنه إلى الأقاصي.
كان القمر تـُـمّـاً، ووجهك يلوح لي كما هو دائماً، في قلبه، لكنه الليلة يطلّ منطفئاً وباهتاً. صرخت سامحيني فلم تجيبي، صرختً ثانيةً بكل شعاعٍ في ذرات بدني وكينونتي التي تفحمت بنار الندم والانتظار، ولم أسمع جواباً.
ضربت على الزجاج وأنا أنهارُ شيئاً فشيئاً وتتراخى يداي وأبكي كجنديٍ جريحٍ وأخرّ على ركبتيّ، كنت أحاول جاهداً أن ألملم الحروف التي تعلقت بنواجذي: سـ..ا مـ..حيـ...ني. فاجأني ضوءٌ خافتٌ تسلل للغرفةِ وسمعت أزيز الباب ووقع خطواتٍ خائفة، فلما التفت كانت امرأةٌ أخرى وطفلةٌ حائرةٌ يقفان خلفي ويرمقانني بحزن !
أمام الورود التي تتكدس في المزهريات وقفت حائراً.
زرقاء، صفراء وبيضاء وحمراء ووردية وألوانٌ شتى. استسلمت لحيرتي، رغم أنني أحب اللون الأزرق السماوي. وبعد أن حزمتُ أمري، أشرتُ إلى إحداها فانتزعت المزينةُ إحدى الزرقاوات من القارورة ثم سألتني لمن سأهديها حتى تقوم بقصها وتوظيبها.
قالت لي: زوجتك أم حبيبتك ؟
قلت لها زوجتي وحبيبتي في آن.
عقدت حاجبها وزمت شفتيها مستغربة:
- غريبة ؟ زوجتك وحبيبتك ؟ ما شاء الله لقد اجتمع لكما الحب والزواج إذاُ !. ولكن لم تخبرني أعيد زواجكما ؟
قلت متأففاً من فضولها وأنا أحسب أنها تريد أن تبحر معي في الحديث:
- انظري إلى تلك الجالسة في السيارة. هذه هي، زوجتي وحبيبتي، وأريد أن أحتفل بعيد ميلادها.
أزاحت الستارة قليلاً ونظرت من خلف الزجاج، ثم ابتسمت:
- اممم، جميلة، إن كانت زوجتك أم حبيبتك لا يهم، ولكنّ الوردة الحمراء لها وقعٌ أكبر. أنا أعمل هنا منذ سنوات، صدقني خذ الحمراء وسأعطيك إياها بنفس السعر، لا تخف.
قلت لها لا بأس، فأخذت زهرةَ حمراء ووظبتها ولفتها بخيطٍ ودريٍ لماعٍ ووضعتها في قرطاسٍ شفافٍ، ثم أعطتني بطاقةً نقشت عليها وردةٌ حمراء تشبه تلك التي اختارتها لي تماماً.
قالت آمرةً:
- اكتب شيئاً حتى أقوم بلصقها.
أخذت القلم وأنا أنظر لها بضيقٍ وكتبت:
عيد ميلاد سعيد يا حبيبتي.
ولما ولجت إلى مركبتي، كنت أراها من خلف زجاج المحل تدسّ عينيها بمواربةٍ فجة. قلت وأنا أمطّ شدقيّ لرسم بسمةٍ مصطنعةٍ ومهذبة:
- إنها زهرة عيد ميلادك يا حبيبتي.
أخذتْها من يدي ونظرتْ لها طويلاً. شكرتْني ثم ندت من عينيها دمعةً لمعت بعد أن انعكس في قطراتها شعاعٌ شاردٌ من شمس العصر:
- اليوم ليس عيد ميلادي.
كالبرق انفجر قلبي وأنا أعيش زحمة مشهدٍ يتكرر منذ سنوات. اندلقت على وجهي خيوط العرق التي جرفتُها بأصابعي. سرى الدم في عروقي سريعاً فبانت حمرةٌ تشربتها أذناي في الحال.
أردفـَتْ بنبرةٍ خافتة:
- لقد مضى على عيد ميلادي ثلاثة أشهر ولم تهدني شيئاً آنذاك. لماذا تحتفل بعيد ميلادي في هذا الوقت من كل عام ؟.
أشحت بوجهي عنها وجفلت عن الحديث فجثم الصمت. نظرت إلى المحل فرأيت المزينة لا تزال ترقبنا من بعيد. قبضت على مقود السيارة وسحقت الدواسة بعنف، بينما كانت الطفلة في المقعد الخلفي تعبث بالوردة وعلى خديها نبتت توتتان بريتان وهي تنزع بتلاتها الواحدة تلوَ الأخرى وترميها من غير اكتراث.
أنتِ الآن معي.عند الشاطئ الذي كنت دائماً أحدثكِ في الهاتف عنه.
سألتكِ عنه ذات مرةٍ بسماجةٍ مفتلعةٍ:
- هل تعرفين صديقي الأزرق؟
وأجبتِ وأنت تتأففين:
- أعرفه، أعرفه، أتعبتني أيها المجنون، إنه البحر،أليس كذلك؟
ثم نضحك كلانا عبرالأسلاكِ التي تحمل صوتينا وأمانينا الرخوة.
الآن نحن بقربه. نتناجى بعد أن كانت تفصلنا المسافات الشاسعة. كنت تطلعين لي في الأفق وأحياناً تلوحين لي كالموناليزا. أينما توجهتُ أرى عينيكِ تلاحقاني.
هيا، فلنقل كل شئ، نحن أمام صديقٍ حميمٍ وأمين. سأبدأ أنا، سوف أقول لكِ كل ما حدث لي منذ أن أضناني البعد والسهاد. نذرتُ أن أبكي أمامكِ وأسرد كل شئ. عن ضياعي وتهتك روحي. عن قلبٍ سفحَ شبابه بين شوارع الزمن العنيد.
دعيني أبكي، دعيني أبكي، لا توقفيني أرجوكِ لعلي أطفئ حرائق القدر. أن أقول لكِ كيف خرجت روحي من هذا الجسد النحيل في اليوم الذي ألبسونا فيه حلة الفراق.
نشجتُ فبللت الخدود ولم يخمد أنيني حتى وجدتكِ تمسحين دموعي بمنديلٍ أبيضٍ ناصع، ولما رفعت رأسي وجدتُ امرأةً أخرى تنام بجانبي وهي تمسح الدموع عن خديّ وتغمد أصابعها فيما تبقى من خصلاتي المعدودة وبجانبنا سريرٌ صغيرٌ، تجلس على طرفه طفلةٌ استيقظت للتوّ وهي تفرك عينيها حتى تتبين ملامحنا التي ابتلعتها العتمة.
كم أبدو مشوهاً في المرآة ؟.
خدٌ شحذتهُ الشفراتُ فأحالتهُ متخشباً ويابساً. شعرٌ شائبٌ وذؤاباتٌ يتيمةٌ في مقدمته بعد أن أصحر وحته خريفٌ قاسٍ. قبل عشر سنواتٍ لم أكن كذلك. نظرتُ إلى المرآة وأنا أحدق في عينيّ اللتين كانتا مثل اللوز. كنت جميلاً وجذاباً، غصناً رياناً أعطبه الندم والانتظار واللوم المرير.
أمسكت بالشفرةِ وأنا أجرها لأجرف الرغوة البيضاء المعطرة بحدها الصقيل وأمسح شعري الذي عفّ أن يخرج طرياً وخصباً بسواده في رأسي حتى ابيضّ في لحيتي أيضاً.
كنت أنظر في المرآة وفجأةً رأيت وجهكِ فيها. كنت تبدين ورائي فرميت الشفرة واستدرت لكِ. قلت بصوتٍ متهدجٍ وأنا أتهيأ للبكاء والانفجار:
- سامحيني أرجوكِ.
لم أستطع أن أمسك نفسي حتى وجدتني أجهش وأنا أصرخ: سامحيني...أرجوكِ اصفحي عني. اختفى طيفك من المرآة ومن أمامي أيضاً فخرجت. وجدتُ المكان خالياً إلا من ألعابٍ متناثرةٍ هطل عليها الغبار، وعلى الجدار تتدلى صورةٌ لامرأةٍ أخرى يسيل شعرها البنيًّ على كتفيها المكتنزين وبجانبها صورة طفلةٍ مبتسمة !.
(1)
ذات ليلة، عبرتِني كالطيف فوقفت أمام النافذة.
من خلف الزجاج أبحرت في الظلمة، كان الليل حالكاً أكثر من أي وقتٍ مضى. نظرت إلى الساعة وقد تماثل عقرباها على العاشرة تماماً. فزع قلبي عندما عرفت أن عشر سنواتٍ تفصلني عنكِ، عشر سماواتٍ تحتجبين وراءها ولا أعلم عنكِ شيئاً.
تحسستُ نفسي ووجهي فوجدت أن رياحَ الزمن قد قذفت بي بعيداً. هززت رأسي أسفاً ونظرتُ للبرية والشارع الذي يشقها نصفين وهو عارٍ تماماً، كلحنٍ يمتدّ بحزنه إلى الأقاصي.
كان القمر تـُـمّـاً، ووجهك يلوح لي كما هو دائماً، في قلبه، لكنه الليلة يطلّ منطفئاً وباهتاً. صرخت سامحيني فلم تجيبي، صرختً ثانيةً بكل شعاعٍ في ذرات بدني وكينونتي التي تفحمت بنار الندم والانتظار، ولم أسمع جواباً.
ضربت على الزجاج وأنا أنهارُ شيئاً فشيئاً وتتراخى يداي وأبكي كجنديٍ جريحٍ وأخرّ على ركبتيّ، كنت أحاول جاهداً أن ألملم الحروف التي تعلقت بنواجذي: سـ..ا مـ..حيـ...ني. فاجأني ضوءٌ خافتٌ تسلل للغرفةِ وسمعت أزيز الباب ووقع خطواتٍ خائفة، فلما التفت كانت امرأةٌ أخرى وطفلةٌ حائرةٌ يقفان خلفي ويرمقانني بحزن !
(2)
أمام الورود التي تتكدس في المزهريات وقفت حائراً.
زرقاء، صفراء وبيضاء وحمراء ووردية وألوانٌ شتى. استسلمت لحيرتي، رغم أنني أحب اللون الأزرق السماوي. وبعد أن حزمتُ أمري، أشرتُ إلى إحداها فانتزعت المزينةُ إحدى الزرقاوات من القارورة ثم سألتني لمن سأهديها حتى تقوم بقصها وتوظيبها.
قالت لي: زوجتك أم حبيبتك ؟
قلت لها زوجتي وحبيبتي في آن.
عقدت حاجبها وزمت شفتيها مستغربة:
- غريبة ؟ زوجتك وحبيبتك ؟ ما شاء الله لقد اجتمع لكما الحب والزواج إذاُ !. ولكن لم تخبرني أعيد زواجكما ؟
قلت متأففاً من فضولها وأنا أحسب أنها تريد أن تبحر معي في الحديث:
- انظري إلى تلك الجالسة في السيارة. هذه هي، زوجتي وحبيبتي، وأريد أن أحتفل بعيد ميلادها.
أزاحت الستارة قليلاً ونظرت من خلف الزجاج، ثم ابتسمت:
- اممم، جميلة، إن كانت زوجتك أم حبيبتك لا يهم، ولكنّ الوردة الحمراء لها وقعٌ أكبر. أنا أعمل هنا منذ سنوات، صدقني خذ الحمراء وسأعطيك إياها بنفس السعر، لا تخف.
قلت لها لا بأس، فأخذت زهرةَ حمراء ووظبتها ولفتها بخيطٍ ودريٍ لماعٍ ووضعتها في قرطاسٍ شفافٍ، ثم أعطتني بطاقةً نقشت عليها وردةٌ حمراء تشبه تلك التي اختارتها لي تماماً.
قالت آمرةً:
- اكتب شيئاً حتى أقوم بلصقها.
أخذت القلم وأنا أنظر لها بضيقٍ وكتبت:
عيد ميلاد سعيد يا حبيبتي.
ولما ولجت إلى مركبتي، كنت أراها من خلف زجاج المحل تدسّ عينيها بمواربةٍ فجة. قلت وأنا أمطّ شدقيّ لرسم بسمةٍ مصطنعةٍ ومهذبة:
- إنها زهرة عيد ميلادك يا حبيبتي.
أخذتْها من يدي ونظرتْ لها طويلاً. شكرتْني ثم ندت من عينيها دمعةً لمعت بعد أن انعكس في قطراتها شعاعٌ شاردٌ من شمس العصر:
- اليوم ليس عيد ميلادي.
كالبرق انفجر قلبي وأنا أعيش زحمة مشهدٍ يتكرر منذ سنوات. اندلقت على وجهي خيوط العرق التي جرفتُها بأصابعي. سرى الدم في عروقي سريعاً فبانت حمرةٌ تشربتها أذناي في الحال.
أردفـَتْ بنبرةٍ خافتة:
- لقد مضى على عيد ميلادي ثلاثة أشهر ولم تهدني شيئاً آنذاك. لماذا تحتفل بعيد ميلادي في هذا الوقت من كل عام ؟.
أشحت بوجهي عنها وجفلت عن الحديث فجثم الصمت. نظرت إلى المحل فرأيت المزينة لا تزال ترقبنا من بعيد. قبضت على مقود السيارة وسحقت الدواسة بعنف، بينما كانت الطفلة في المقعد الخلفي تعبث بالوردة وعلى خديها نبتت توتتان بريتان وهي تنزع بتلاتها الواحدة تلوَ الأخرى وترميها من غير اكتراث.
(3)
أنتِ الآن معي.عند الشاطئ الذي كنت دائماً أحدثكِ في الهاتف عنه.
سألتكِ عنه ذات مرةٍ بسماجةٍ مفتلعةٍ:
- هل تعرفين صديقي الأزرق؟
وأجبتِ وأنت تتأففين:
- أعرفه، أعرفه، أتعبتني أيها المجنون، إنه البحر،أليس كذلك؟
ثم نضحك كلانا عبرالأسلاكِ التي تحمل صوتينا وأمانينا الرخوة.
الآن نحن بقربه. نتناجى بعد أن كانت تفصلنا المسافات الشاسعة. كنت تطلعين لي في الأفق وأحياناً تلوحين لي كالموناليزا. أينما توجهتُ أرى عينيكِ تلاحقاني.
هيا، فلنقل كل شئ، نحن أمام صديقٍ حميمٍ وأمين. سأبدأ أنا، سوف أقول لكِ كل ما حدث لي منذ أن أضناني البعد والسهاد. نذرتُ أن أبكي أمامكِ وأسرد كل شئ. عن ضياعي وتهتك روحي. عن قلبٍ سفحَ شبابه بين شوارع الزمن العنيد.
دعيني أبكي، دعيني أبكي، لا توقفيني أرجوكِ لعلي أطفئ حرائق القدر. أن أقول لكِ كيف خرجت روحي من هذا الجسد النحيل في اليوم الذي ألبسونا فيه حلة الفراق.
نشجتُ فبللت الخدود ولم يخمد أنيني حتى وجدتكِ تمسحين دموعي بمنديلٍ أبيضٍ ناصع، ولما رفعت رأسي وجدتُ امرأةً أخرى تنام بجانبي وهي تمسح الدموع عن خديّ وتغمد أصابعها فيما تبقى من خصلاتي المعدودة وبجانبنا سريرٌ صغيرٌ، تجلس على طرفه طفلةٌ استيقظت للتوّ وهي تفرك عينيها حتى تتبين ملامحنا التي ابتلعتها العتمة.
(4)
كم أبدو مشوهاً في المرآة ؟.
خدٌ شحذتهُ الشفراتُ فأحالتهُ متخشباً ويابساً. شعرٌ شائبٌ وذؤاباتٌ يتيمةٌ في مقدمته بعد أن أصحر وحته خريفٌ قاسٍ. قبل عشر سنواتٍ لم أكن كذلك. نظرتُ إلى المرآة وأنا أحدق في عينيّ اللتين كانتا مثل اللوز. كنت جميلاً وجذاباً، غصناً رياناً أعطبه الندم والانتظار واللوم المرير.
أمسكت بالشفرةِ وأنا أجرها لأجرف الرغوة البيضاء المعطرة بحدها الصقيل وأمسح شعري الذي عفّ أن يخرج طرياً وخصباً بسواده في رأسي حتى ابيضّ في لحيتي أيضاً.
كنت أنظر في المرآة وفجأةً رأيت وجهكِ فيها. كنت تبدين ورائي فرميت الشفرة واستدرت لكِ. قلت بصوتٍ متهدجٍ وأنا أتهيأ للبكاء والانفجار:
- سامحيني أرجوكِ.
لم أستطع أن أمسك نفسي حتى وجدتني أجهش وأنا أصرخ: سامحيني...أرجوكِ اصفحي عني. اختفى طيفك من المرآة ومن أمامي أيضاً فخرجت. وجدتُ المكان خالياً إلا من ألعابٍ متناثرةٍ هطل عليها الغبار، وعلى الجدار تتدلى صورةٌ لامرأةٍ أخرى يسيل شعرها البنيًّ على كتفيها المكتنزين وبجانبها صورة طفلةٍ مبتسمة !.
تعليق