التائبة الجزء الثاني
بعد أن أكمل السيد علي كلامه مع الفتاة قالت له أنت أول شخص يشعر بي ويفهم نفسيتي ويدرك ما أعانيه , ولكن السيد علي قاطعها وقال ان الكلام بالهاتف لا يجدي نفعاً فهل من الممكن ان تأتين الى بيتي غداً صباحاً على هذا العنوان
ضحكت ضحكه قويه وقالت نعم ممكن جداً , فأعطاها العنوان ثم بعد ذلك ودعها وذهب الى فراشه
جلست سكون صباحاً مبكرة على غير عادتها وبدلت ملابسها وتزينت كأنها تريد الذهاب الى سهره ليليه وهي تقول في نفسها سوف أضعه في الاختبار واعرف ان كان من الناس الأخيار حقاً ام مثل جميع الشباب الذين عرفتهم ثم ركبت سيارتها الفارهة وتوجهت الى بيت السيد علي ولما وصلت وجدته يسكن في منطقه متواضعة جداً فأصابتها الرهبة لان الناس بدءوا ينظرون إليها باستغراب
طرقت الباب ففتح لها السيد علي قالت صباح الخير رد عليها صباح الخير ثم مدت يدها لكي تصافحه فتمنع قليلاً وبعدها صافحها قال لها تفضلي بالدخول وأجلسها على احد الكراسي فقامت بنزع بعض من ملابسها وبانت يديها البيضاويتان الجميلتان ورجليها المكتنزتان الا انه غض بصره وقال حدثيني عنك فقالت أنا تحت أمرك خذ ما تريد قال بل اريد ان اعرف شيئاً عن عائلتك فقالت له انا كنت اسكن في بيت مع أبي وأمي وقد توفي أبي قبل فتره وبقينا انا وأمي فقط
و أنا أبلغ من العمر عشرين عاما.. وأدرس في كلية(...)وقد كنت المدلـله لانني الوحيده
فقال لها: وماذا عن أمك؟ وماذا عن أبيك رحمه الله؟
قالت: كان أبي رجل غني مقتدر ماليّا.. أكثر وقته مشغول عنا.. بأعماله التجارية وملذاته العاطفية مما انعكس سلباً على الحياة ألبيتيه.. وهو يخرج من الصباح.. ولا أراه إلا قليلا في المساء.. وقلما يجلس معنا..
والبيت عنده مجرد أكل وشرب ونوم فقط..
ومنذ أن بلغت الى ان توفي قبل عام .. لم أذكر أنني جلست مع أبي لوحدنا.. أو أنه زارني في غرفتي.. مع أنني
في هذه السن الخطيرة في أشد الحاجة إلى حنانه وعطفه.. آه!! كم كنت أتمنى أن أجلس في حضنه.. وأرتمي على صدره..
ثم أبكي وأبكي وأبكي! لتستريح نفسي ويهدأ قلبي!
وهنا أجهشت الفتاة بالبكاء.. ولم يملك السيد علي نفسه .. فشاركها بدموعه الحزينه- - - - - - - - -
بعد أن هدأت الفتاة.. واصلت حديثها قائلة: كم تذكرت مراراً قصة الطفل الذي طلب من والده درهمين ليجمعهما الى ان يصيرا عشرة ويعطيها الى والده لكي يبقى في ذلك اليوم في البيت
لقد حاولت أن أقترب منه كثيرا، ولكنه كان يبتعد عني.. بل إنني في ذات مرة.. جلست بجواره واقتربت منه.. ليضمني إلى صدره..
وقلت له: أبي محتاجة إليك يا أبي.. فلا تتركني أضيع..
فعاتبني قائلا: لقد وفرت لكِ كل ما تتمناه أي فتاة في الدنيا!!.. فأنتِ لديك أحسن أكل وشرب ولباس.. وأرقى وسائل الترفيه الحديثة
.. فما الذي ينقصك؟!!..
سكتُّ قليلا.. وتخيلت حينها أنني أصرخ بأعلى صوتي قائلة: أبي: أنا لا أريد منك طعاما ولا شرابا ولا لباسا.. ولا ترفا ولا ترفيها..
إنني أريد منك حنانا.. أريد منك أمانا.. أريد صدرا حنونا..
أريد قلبا رحيما.. فلا تضيعني يا أبي!! ولما أفقت من تخيلاتي..
وجدت أبي قد ذهب عني.. لتناول طعام الغداء..
وهنا قال لها السيد علي هوّني عليك.. فلعل أباكِ نشأ منذ صغره.. محروما من الحنان والعواطف الرقيقة..
وتعلمين أن فاقد الشيء لا يعطيه!!..
ولكن ماذا عن أمك؟ أكيد أنها حنونة رحيمة؟ فإن الأنثى بطبعها رقيقة مرهفة الحس..
قالت الفتاة: أمي وما أدراك ما أمي ولكنها أهون من أبي قليلا.. وهي بكل أسف.. تظن الحياة أكلا وشربا ولبسا وزيارات وسهرات فقط
لا يعجبها شيء من تصرفاتي.. وليس لديها إلا إصدار الأوامر بقسوة..
والويل كل الويل لي إن خالفت شيئا من أوامرها.. .. لقد تخلت عن كل شيء في البيت ووضعته على كاهلي
وليت الأمر وقف عند هذا.. بل إنها لا يكاد يرضيها شيء.. ولا هم لها إلا تصيد العيوب والأخطاء.. ودائما تعيرني بزميلاتي وبنات الجيران..
الناجحات في دراستهن.. أو الماهرات في الطبخ وأعمال البيت..وأغلب وقتها تقضيه في النوم.. أو زيارة الجيران وبعض
الأقارب.. أو مشاهدة التلفاز او السهر خارج البيت.. ولا أذكر منذ سنين.. أنها ضمتني مرة إلى صدرها.. أو فتحت لي قلبها..
قال لها السيد علي وكيف كانت العلاقة بين أبيك وأمك؟
فقالت الفتاة: أحس وكأن كلا منهما كان لا يبالي بالآخر.. وكل منهما يعيش في عالم مختلف..فأبي له عالمه الخاص وامي لها عالمها
وكأن بيتنا مجرد فندق ( ! ) .. نجتمع فيه للأكل والشرب والنوم فقط..
فقال لها السيد علي هي أمك التي ربتك.. ولعلها هي الأخرى كانت تعاني من مشكلة مع أبيك
فانعكس ذلك على تعاملها معك.. فالتمسي لها العذر..
نعم كانت المشاكل في البيت لا تنتهي فهي امرأة وتحتاج الى الحنان والى من يربت على أكتافها فقال السيد علي
ولكن هل حاولتِ أن تفتحي لها قلبك وتقفي إلى جانبها؟ فهي بالتأكيد مثلك.. تمر بأزمة داخلية نفسية خاصة بعد وفاة والدك ؟!
فقالت الفتاة مستغربة: أنا أفتح لها صدري.. وهل فتحت هي لي قلبها؟.. إنها هي الأم
ولست أنا.. إنها بكل أسف.. قد جعلت بيني وبينها – بمعاملتها السيئة لي – جدارا وحاجزا لا يمكن اختراقه!!
فقال لها السيد علي ولماذا تنتظرين أن تبادر هي.. إلى تحطيم ذلك الجدار؟!!.. لماذا لا
تكونين أنتِ المبادرة ؟!!.. لماذا لا تحاولين الاقتراب منها أكثر؟!!
فقالت: لقد حاولت ذلك.. واقتربت منها ذات مرة.. وارتميت في حضنها..
وأخذت ابكي وأبكي.. وهي تنظر إلي باستغراب!!.. وقلت لها: أماه: أنا محطمة من داخلي.. إنني
أنزف من أعماقي!!.. قفي معي.. ولا تتركيني وحدي.. إنني أحتاجك أكثر من أي وقت مضى..!! وأنا ألان في سن البلوغ
فنظرت إلي مندهشة!!.. ووضعت يدها على رأسي تتحسس حرارتي.. ثم قالت: ما هذا الكلام الذي تقولينه
لقد مررنا جميعاً بهذه المرحلة من المراهقة وتعديناها بسلام ؟!.. إما أنكِ مريضة!!.. وقد أثر المرض على تفكيرك.. وإما أنكِ تتظاهرين بالمرض..
لأعفيكِ من بعض أعمال المنزل.. وهذا مستحيل.. ثم قامت عني ورفعت سماعة الهاتف..
تحادث إحدى جاراتها وكيف سيسهران اليوم وما هي برامج ألسهره.. فتركتها وعدت إلى غرفتي.. أبكي دما في داخلي قبل أن أبكي دموعا!!..
ثم انخرطت الفتاة في بكاء مرير!!
لقد كان دور امي سلبي للغاية وكلما تحدثت إليها اسمع نفس الجواب احمدي ربك على الحياة المترفة التي تعيشين فيها.. وانا ألان حائرة تائهة أتسكع في الأسواق وعلى الأرصفة!!
أراد السيد علي أن يستكشف شيئا من خبايا نفسية تلك الفتاة.. فسألها: إن من طلب شيئا بحث عنه وسعى إلى تحصيله.. وما دمت تطلبين السعادة والأمان الذي يسد جوعك النفسي..
فهل بحثتِ عن هذه السعادة؟؟ فقالت الفتاة بنبرة جادة:لقد بحثت عن السعادة.. في كل شيء.. فما وجدتها!
لقد كنت ألبس أفخر الملابس وأفخمها.. من أرقى بيوت الأزياء العالمية.. ظنا مني أن السعادة ستحصل حين
تتابعني نظرات الإعجاب من فلانة.او فلانه. لكنني سرعان ما اكتشفت الحقيقة الأليمة.. إنها سعادة زائفة وهمية..
لا تبقى إلا ساعة بل أقل.. ثم يصبح ذلك الفستان الجديد الذي كنت
أظن السعادة فيه مثل سائر ملابسي القديمة.. ويعود الهم والضيق والمرارة إلى نفسي.. وأشعر بالفراغ والوحدة تحاصرني من كل جانب..
ولو كان حولي مئات الزميلات والصديقات!!
ظننت السعادة في الرحلات والسفر.. والتنقل من بلد لآخر.. ومن شاطئ لآخر.. ومن فندق لفندق.. فكنت أسافر مع والدي وعائلتي..
لنطوف العالم في الإجازات.. ولكني كنت أعود من كل رحلة..وقد ازداد همي وضيقي.. وازدادت الوحشة التي أشعر بها تجتاح كياني..
وظننت السعادة في الغناء والموسيقى.. فكنت أشتري أغلب ألبومات الأغاني العربية
والغربية التي تطرح إلى الأسواق فور نزولها.. وأقضي الساعات الطوال في غرفتي..
في سماعها والرقص على أنغامها.. طمعا في تذوق معنى السعادة الحقيقية.. ورغبة
في إشباع الجوع النفسي الذي أشعر به.. وظنا مني أن السعادة في الغناء والرقص والتمايل مع الأنغام..
ولكنني اكتشفت أنها سعادة وهمية.. لا تمكث إلا دقائق معدودة
أثناء الأغنية.. ثم بعد الانتهاء منها.. يزداد همي.. وتشتعل نار غريبة في داخلي.. وتنقبض نفسي أكثر وأكثر..
وظننت أن السعادة في مشاهدة المسلسلات والأفلام والتنقل بين الفضائيات.. فعكفت على أكثر من قناة..
أتنقل بينها طوال يومي.. وكنت أركز على المسلسلات والأفلام الكوميدية المضحكة.. ظنا مني أن السعادة هي في الضحك والمرح..
وبالفعل كنت أضحك كثيرا وأنا أشاهدها.. وأنتقل من قناة لأخرى.. لكنني في الحقيقة.. كنت اضحك على نفسي كنت وأنا أضحك بفمي..
أنزف وأتألم من أعماق قلبي.. وكلما ازددت ضحكا .. ازداد النزيف الروحي..
وتعمقت الجراح في داخلي.. وحاصرتني الهموم والآلام النفسية..
وسمعت من بعض الزميلات أن السعادة في أن ارتبط مع شاب وسيم أنيق.. يبادلني كلمات الغرام.. ويبثني عبارات العشق والهيام..
ويتغزل بمحاسني كل ليلة عبر الهاتف.. وسلكت هذا الطريق..وأخذت أتنقل من شاب لآخر.. بحثا عن السعادة والراحة النفسية..
ومع ذلك لم أشعر بطعم السعادة الحقيقية.. بل بالعكس.. مع انتهاء كل مقابلة أو مكالمة هاتفية..اعرف انهم يكذبون علي ويتسلون معي فأشعر بالقلق والاضطراب يسيطر على روحي.. وأشعر بنار المعصية تشتعل
في داخلي.. وأدخل في دوامة من التفكير المضني والشرود الدائم.. وأشعر بالخوف من المستقبل المجهول.. يملأ علي كياني.. فكأنني
في حقيقة الأمر.. هربت من جحيم إلى جحيم أبشع منه وأشنع..
سكتت الفتاة قليلا.. ثم تابعت قائلة: ولذلك لا بد أن تفهموا وتعرفوا نفسية ودوافع تلك الفتيات اللاتي ترونهن في الأسواق..
وهن يستعرضن بملابسهن المثيرة.. ويغازلن ويعاكسن ويتضاحكن بصوت مرتفع.. ويعرضن لحومهن ومحاسنهن ومفاتنهن للذئاب
الجائعة العاوية من الشباب التافهين.. إنهن في الحقيقة ضحايا ولسن مجرمات.. إنهن في الحقيقة مقتولات لا قاتلات.. إنهن ضحايا الظلم العائلي.. إنهن حصاد القسوة والإهمال العاطفي من الوالدين..
إنهن نتائج التفكك الأسري.. إن كل واحدة منهن تحمل في داخلها مأساة مؤلمة دامية.. هي التي دفعتها إلى مثل هذه التصرفات الحمقاء..
وهي التي قادتها إلى أن تعرض نفسها على الذئاب المفترسة التي تملأ الأسواق والشوارع..
وإن الغريزة الشهوانية الجنسية لا يمكن أن تكون لوحدها هي الدافع للفتاة لكي تعرض لحمها وجسدها
في الأسواق وتبتذل وتهين نفسها بالتقاط رقم هاتف هذا..وتبيع كرامتها بالركوب في السيارة مع ذاك.. وتهدر شرفها بالخلوة مع فلان من الناس
فبادرها السيد علي قائلا: ولكن يبرز هنا سؤال مهم جدا، وهو: هل مرورها بأزمة نفسية ومأساة عائلية يبرر لها ويسوغ لها أن تعصي
ربها تعالى.. وتبيع عفافها وتتخلى عن شرفها وطهرها وتعرض نفسها لشياطين الإنس.. هل هذا هو الحل المناسب لمشكلتها
ومأساتها؟؟ هل هذا سيغير من واقعها المرير المؤلم شيئا؟؟
فأجابت الفتاة: أنا أعترف بأنه لن يغير شيئا.. بل سيزيد الأمر سوءا ومرارة..
وليس مقصودي الدفاع عن تلك الفتيات.. إنما مقصودي إذا رأيتموهن فارحموهن وأشفقوا عليهن..
وادعوا لهن بالهداية ووجهوهن.. فإنهن تائهات حائرات.. يحسبن أن هذا هو الطريق الموصل للسعادة التي يبحثن عنها..
سكتت الفتاة قليلا.. ثم تابعت قائلة: لقد أصبحت أشك.. هل هناك سعادة حقيقية في هذه الدنيا؟!!.. وإذا كانت موجودة بالفعل..
فأين هي دلوني عليها فقد مَلِلت من هذه الحياة الرتيبة الكئيبة.. وما هو الطريق الموصل إليها..؟
وبدئت بالبكاء وأراد السيد علي إسكاتها ولكنها ازدادت فقال لها لقد انتهى الحديث وسوف نلتقي غداً أنشاء الله ونكمل حديثنا
انهضي واغسلي وجهكِ ثم اذهبي الى بيتك
انتهى الجزء الثاني
تحياتي
احمد عيسى نور
بعد أن أكمل السيد علي كلامه مع الفتاة قالت له أنت أول شخص يشعر بي ويفهم نفسيتي ويدرك ما أعانيه , ولكن السيد علي قاطعها وقال ان الكلام بالهاتف لا يجدي نفعاً فهل من الممكن ان تأتين الى بيتي غداً صباحاً على هذا العنوان
ضحكت ضحكه قويه وقالت نعم ممكن جداً , فأعطاها العنوان ثم بعد ذلك ودعها وذهب الى فراشه
جلست سكون صباحاً مبكرة على غير عادتها وبدلت ملابسها وتزينت كأنها تريد الذهاب الى سهره ليليه وهي تقول في نفسها سوف أضعه في الاختبار واعرف ان كان من الناس الأخيار حقاً ام مثل جميع الشباب الذين عرفتهم ثم ركبت سيارتها الفارهة وتوجهت الى بيت السيد علي ولما وصلت وجدته يسكن في منطقه متواضعة جداً فأصابتها الرهبة لان الناس بدءوا ينظرون إليها باستغراب
طرقت الباب ففتح لها السيد علي قالت صباح الخير رد عليها صباح الخير ثم مدت يدها لكي تصافحه فتمنع قليلاً وبعدها صافحها قال لها تفضلي بالدخول وأجلسها على احد الكراسي فقامت بنزع بعض من ملابسها وبانت يديها البيضاويتان الجميلتان ورجليها المكتنزتان الا انه غض بصره وقال حدثيني عنك فقالت أنا تحت أمرك خذ ما تريد قال بل اريد ان اعرف شيئاً عن عائلتك فقالت له انا كنت اسكن في بيت مع أبي وأمي وقد توفي أبي قبل فتره وبقينا انا وأمي فقط
و أنا أبلغ من العمر عشرين عاما.. وأدرس في كلية(...)وقد كنت المدلـله لانني الوحيده
فقال لها: وماذا عن أمك؟ وماذا عن أبيك رحمه الله؟
قالت: كان أبي رجل غني مقتدر ماليّا.. أكثر وقته مشغول عنا.. بأعماله التجارية وملذاته العاطفية مما انعكس سلباً على الحياة ألبيتيه.. وهو يخرج من الصباح.. ولا أراه إلا قليلا في المساء.. وقلما يجلس معنا..
والبيت عنده مجرد أكل وشرب ونوم فقط..
ومنذ أن بلغت الى ان توفي قبل عام .. لم أذكر أنني جلست مع أبي لوحدنا.. أو أنه زارني في غرفتي.. مع أنني
في هذه السن الخطيرة في أشد الحاجة إلى حنانه وعطفه.. آه!! كم كنت أتمنى أن أجلس في حضنه.. وأرتمي على صدره..
ثم أبكي وأبكي وأبكي! لتستريح نفسي ويهدأ قلبي!
وهنا أجهشت الفتاة بالبكاء.. ولم يملك السيد علي نفسه .. فشاركها بدموعه الحزينه- - - - - - - - -
بعد أن هدأت الفتاة.. واصلت حديثها قائلة: كم تذكرت مراراً قصة الطفل الذي طلب من والده درهمين ليجمعهما الى ان يصيرا عشرة ويعطيها الى والده لكي يبقى في ذلك اليوم في البيت
لقد حاولت أن أقترب منه كثيرا، ولكنه كان يبتعد عني.. بل إنني في ذات مرة.. جلست بجواره واقتربت منه.. ليضمني إلى صدره..
وقلت له: أبي محتاجة إليك يا أبي.. فلا تتركني أضيع..
فعاتبني قائلا: لقد وفرت لكِ كل ما تتمناه أي فتاة في الدنيا!!.. فأنتِ لديك أحسن أكل وشرب ولباس.. وأرقى وسائل الترفيه الحديثة
.. فما الذي ينقصك؟!!..
سكتُّ قليلا.. وتخيلت حينها أنني أصرخ بأعلى صوتي قائلة: أبي: أنا لا أريد منك طعاما ولا شرابا ولا لباسا.. ولا ترفا ولا ترفيها..
إنني أريد منك حنانا.. أريد منك أمانا.. أريد صدرا حنونا..
أريد قلبا رحيما.. فلا تضيعني يا أبي!! ولما أفقت من تخيلاتي..
وجدت أبي قد ذهب عني.. لتناول طعام الغداء..
وهنا قال لها السيد علي هوّني عليك.. فلعل أباكِ نشأ منذ صغره.. محروما من الحنان والعواطف الرقيقة..
وتعلمين أن فاقد الشيء لا يعطيه!!..
ولكن ماذا عن أمك؟ أكيد أنها حنونة رحيمة؟ فإن الأنثى بطبعها رقيقة مرهفة الحس..
قالت الفتاة: أمي وما أدراك ما أمي ولكنها أهون من أبي قليلا.. وهي بكل أسف.. تظن الحياة أكلا وشربا ولبسا وزيارات وسهرات فقط
لا يعجبها شيء من تصرفاتي.. وليس لديها إلا إصدار الأوامر بقسوة..
والويل كل الويل لي إن خالفت شيئا من أوامرها.. .. لقد تخلت عن كل شيء في البيت ووضعته على كاهلي
وليت الأمر وقف عند هذا.. بل إنها لا يكاد يرضيها شيء.. ولا هم لها إلا تصيد العيوب والأخطاء.. ودائما تعيرني بزميلاتي وبنات الجيران..
الناجحات في دراستهن.. أو الماهرات في الطبخ وأعمال البيت..وأغلب وقتها تقضيه في النوم.. أو زيارة الجيران وبعض
الأقارب.. أو مشاهدة التلفاز او السهر خارج البيت.. ولا أذكر منذ سنين.. أنها ضمتني مرة إلى صدرها.. أو فتحت لي قلبها..
قال لها السيد علي وكيف كانت العلاقة بين أبيك وأمك؟
فقالت الفتاة: أحس وكأن كلا منهما كان لا يبالي بالآخر.. وكل منهما يعيش في عالم مختلف..فأبي له عالمه الخاص وامي لها عالمها
وكأن بيتنا مجرد فندق ( ! ) .. نجتمع فيه للأكل والشرب والنوم فقط..
فقال لها السيد علي هي أمك التي ربتك.. ولعلها هي الأخرى كانت تعاني من مشكلة مع أبيك
فانعكس ذلك على تعاملها معك.. فالتمسي لها العذر..
نعم كانت المشاكل في البيت لا تنتهي فهي امرأة وتحتاج الى الحنان والى من يربت على أكتافها فقال السيد علي
ولكن هل حاولتِ أن تفتحي لها قلبك وتقفي إلى جانبها؟ فهي بالتأكيد مثلك.. تمر بأزمة داخلية نفسية خاصة بعد وفاة والدك ؟!
فقالت الفتاة مستغربة: أنا أفتح لها صدري.. وهل فتحت هي لي قلبها؟.. إنها هي الأم
ولست أنا.. إنها بكل أسف.. قد جعلت بيني وبينها – بمعاملتها السيئة لي – جدارا وحاجزا لا يمكن اختراقه!!
فقال لها السيد علي ولماذا تنتظرين أن تبادر هي.. إلى تحطيم ذلك الجدار؟!!.. لماذا لا
تكونين أنتِ المبادرة ؟!!.. لماذا لا تحاولين الاقتراب منها أكثر؟!!
فقالت: لقد حاولت ذلك.. واقتربت منها ذات مرة.. وارتميت في حضنها..
وأخذت ابكي وأبكي.. وهي تنظر إلي باستغراب!!.. وقلت لها: أماه: أنا محطمة من داخلي.. إنني
أنزف من أعماقي!!.. قفي معي.. ولا تتركيني وحدي.. إنني أحتاجك أكثر من أي وقت مضى..!! وأنا ألان في سن البلوغ
فنظرت إلي مندهشة!!.. ووضعت يدها على رأسي تتحسس حرارتي.. ثم قالت: ما هذا الكلام الذي تقولينه
لقد مررنا جميعاً بهذه المرحلة من المراهقة وتعديناها بسلام ؟!.. إما أنكِ مريضة!!.. وقد أثر المرض على تفكيرك.. وإما أنكِ تتظاهرين بالمرض..
لأعفيكِ من بعض أعمال المنزل.. وهذا مستحيل.. ثم قامت عني ورفعت سماعة الهاتف..
تحادث إحدى جاراتها وكيف سيسهران اليوم وما هي برامج ألسهره.. فتركتها وعدت إلى غرفتي.. أبكي دما في داخلي قبل أن أبكي دموعا!!..
ثم انخرطت الفتاة في بكاء مرير!!
لقد كان دور امي سلبي للغاية وكلما تحدثت إليها اسمع نفس الجواب احمدي ربك على الحياة المترفة التي تعيشين فيها.. وانا ألان حائرة تائهة أتسكع في الأسواق وعلى الأرصفة!!
أراد السيد علي أن يستكشف شيئا من خبايا نفسية تلك الفتاة.. فسألها: إن من طلب شيئا بحث عنه وسعى إلى تحصيله.. وما دمت تطلبين السعادة والأمان الذي يسد جوعك النفسي..
فهل بحثتِ عن هذه السعادة؟؟ فقالت الفتاة بنبرة جادة:لقد بحثت عن السعادة.. في كل شيء.. فما وجدتها!
لقد كنت ألبس أفخر الملابس وأفخمها.. من أرقى بيوت الأزياء العالمية.. ظنا مني أن السعادة ستحصل حين
تتابعني نظرات الإعجاب من فلانة.او فلانه. لكنني سرعان ما اكتشفت الحقيقة الأليمة.. إنها سعادة زائفة وهمية..
لا تبقى إلا ساعة بل أقل.. ثم يصبح ذلك الفستان الجديد الذي كنت
أظن السعادة فيه مثل سائر ملابسي القديمة.. ويعود الهم والضيق والمرارة إلى نفسي.. وأشعر بالفراغ والوحدة تحاصرني من كل جانب..
ولو كان حولي مئات الزميلات والصديقات!!
ظننت السعادة في الرحلات والسفر.. والتنقل من بلد لآخر.. ومن شاطئ لآخر.. ومن فندق لفندق.. فكنت أسافر مع والدي وعائلتي..
لنطوف العالم في الإجازات.. ولكني كنت أعود من كل رحلة..وقد ازداد همي وضيقي.. وازدادت الوحشة التي أشعر بها تجتاح كياني..
وظننت السعادة في الغناء والموسيقى.. فكنت أشتري أغلب ألبومات الأغاني العربية
والغربية التي تطرح إلى الأسواق فور نزولها.. وأقضي الساعات الطوال في غرفتي..
في سماعها والرقص على أنغامها.. طمعا في تذوق معنى السعادة الحقيقية.. ورغبة
في إشباع الجوع النفسي الذي أشعر به.. وظنا مني أن السعادة في الغناء والرقص والتمايل مع الأنغام..
ولكنني اكتشفت أنها سعادة وهمية.. لا تمكث إلا دقائق معدودة
أثناء الأغنية.. ثم بعد الانتهاء منها.. يزداد همي.. وتشتعل نار غريبة في داخلي.. وتنقبض نفسي أكثر وأكثر..
وظننت أن السعادة في مشاهدة المسلسلات والأفلام والتنقل بين الفضائيات.. فعكفت على أكثر من قناة..
أتنقل بينها طوال يومي.. وكنت أركز على المسلسلات والأفلام الكوميدية المضحكة.. ظنا مني أن السعادة هي في الضحك والمرح..
وبالفعل كنت أضحك كثيرا وأنا أشاهدها.. وأنتقل من قناة لأخرى.. لكنني في الحقيقة.. كنت اضحك على نفسي كنت وأنا أضحك بفمي..
أنزف وأتألم من أعماق قلبي.. وكلما ازددت ضحكا .. ازداد النزيف الروحي..
وتعمقت الجراح في داخلي.. وحاصرتني الهموم والآلام النفسية..
وسمعت من بعض الزميلات أن السعادة في أن ارتبط مع شاب وسيم أنيق.. يبادلني كلمات الغرام.. ويبثني عبارات العشق والهيام..
ويتغزل بمحاسني كل ليلة عبر الهاتف.. وسلكت هذا الطريق..وأخذت أتنقل من شاب لآخر.. بحثا عن السعادة والراحة النفسية..
ومع ذلك لم أشعر بطعم السعادة الحقيقية.. بل بالعكس.. مع انتهاء كل مقابلة أو مكالمة هاتفية..اعرف انهم يكذبون علي ويتسلون معي فأشعر بالقلق والاضطراب يسيطر على روحي.. وأشعر بنار المعصية تشتعل
في داخلي.. وأدخل في دوامة من التفكير المضني والشرود الدائم.. وأشعر بالخوف من المستقبل المجهول.. يملأ علي كياني.. فكأنني
في حقيقة الأمر.. هربت من جحيم إلى جحيم أبشع منه وأشنع..
سكتت الفتاة قليلا.. ثم تابعت قائلة: ولذلك لا بد أن تفهموا وتعرفوا نفسية ودوافع تلك الفتيات اللاتي ترونهن في الأسواق..
وهن يستعرضن بملابسهن المثيرة.. ويغازلن ويعاكسن ويتضاحكن بصوت مرتفع.. ويعرضن لحومهن ومحاسنهن ومفاتنهن للذئاب
الجائعة العاوية من الشباب التافهين.. إنهن في الحقيقة ضحايا ولسن مجرمات.. إنهن في الحقيقة مقتولات لا قاتلات.. إنهن ضحايا الظلم العائلي.. إنهن حصاد القسوة والإهمال العاطفي من الوالدين..
إنهن نتائج التفكك الأسري.. إن كل واحدة منهن تحمل في داخلها مأساة مؤلمة دامية.. هي التي دفعتها إلى مثل هذه التصرفات الحمقاء..
وهي التي قادتها إلى أن تعرض نفسها على الذئاب المفترسة التي تملأ الأسواق والشوارع..
وإن الغريزة الشهوانية الجنسية لا يمكن أن تكون لوحدها هي الدافع للفتاة لكي تعرض لحمها وجسدها
في الأسواق وتبتذل وتهين نفسها بالتقاط رقم هاتف هذا..وتبيع كرامتها بالركوب في السيارة مع ذاك.. وتهدر شرفها بالخلوة مع فلان من الناس
فبادرها السيد علي قائلا: ولكن يبرز هنا سؤال مهم جدا، وهو: هل مرورها بأزمة نفسية ومأساة عائلية يبرر لها ويسوغ لها أن تعصي
ربها تعالى.. وتبيع عفافها وتتخلى عن شرفها وطهرها وتعرض نفسها لشياطين الإنس.. هل هذا هو الحل المناسب لمشكلتها
ومأساتها؟؟ هل هذا سيغير من واقعها المرير المؤلم شيئا؟؟
فأجابت الفتاة: أنا أعترف بأنه لن يغير شيئا.. بل سيزيد الأمر سوءا ومرارة..
وليس مقصودي الدفاع عن تلك الفتيات.. إنما مقصودي إذا رأيتموهن فارحموهن وأشفقوا عليهن..
وادعوا لهن بالهداية ووجهوهن.. فإنهن تائهات حائرات.. يحسبن أن هذا هو الطريق الموصل للسعادة التي يبحثن عنها..
سكتت الفتاة قليلا.. ثم تابعت قائلة: لقد أصبحت أشك.. هل هناك سعادة حقيقية في هذه الدنيا؟!!.. وإذا كانت موجودة بالفعل..
فأين هي دلوني عليها فقد مَلِلت من هذه الحياة الرتيبة الكئيبة.. وما هو الطريق الموصل إليها..؟
وبدئت بالبكاء وأراد السيد علي إسكاتها ولكنها ازدادت فقال لها لقد انتهى الحديث وسوف نلتقي غداً أنشاء الله ونكمل حديثنا
انهضي واغسلي وجهكِ ثم اذهبي الى بيتك
انتهى الجزء الثاني
تحياتي
احمد عيسى نور
تعليق