نص «ذاكرة الأشجار» رواية محمد جبريل الجديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    نص «ذاكرة الأشجار» رواية محمد جبريل الجديدة

    «ذاكرة الأشجار» رواية محمد جبريل الجديدة

    ***
    إلى سميرة


    ***

    الشمس ولدت قبل أول شروق لها
    وسوف تبقى بعد الغروب الأخيـر
    من قصيدة هندية

    ***

    ـ 1 ـ
    خمن أن نهاية الصداقة الطارئة، حين يهبط أحدهما ـ قبل الآخر ـ في المحطة التي يريدها. لكنهما نزلا في المحطة نفسها. سارا، وتكلما، ودعته لزيارتها.
    اعتاد النزول من الأتوبيس في شارع سليم الأول. يخلف وراءه سوق الخضر والبنايات المتوسطة الارتفاع، ومحال بيع الأدوات الكهربائية والأقمشة والخردوات، ومبني كنيسة اللاتين. يميل إلي شارع نصوح الهندي. يخترق تقاطعه مع طومانباي. يستعيد ملاحظته عن الغبار الذي يضيع حرصه علي لمعة الحذاء. تبطئ خطواته أمام بناية حديثة البناء، أمامها بقايا حديد التسليح، وشقفات الطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت والرمال والزلط.
    علي اليسار، بالقرب من نهاية الشارع، تطالعه الحديقة الصغيرة، تحيط بالفيللا البيضاء ذات الطابق الواحد. تشابكت، وغطت معظم الواجهة، أشجار الجوافة والجهنمية والفل والياسمين والبانسيانا بزهورها الحمراء. يجلس الأب في الشرفة الحجرية المستطيلة، يعلو صوته بالأغنيات التي لا يعرف ماهر لغتها. يصعد الدرجات الرخامية إلي الشرفة. يكتفي الأب بابتسامة مجاملة، ثم يعاود الغناء، أو يتجه إلي الباب المتصل بالحديقة. يضغط علي الجرس. يتوقع ـ كما حدث في المرات السابقة ـ أن تفتح شقيقتها الباب. تفسح له الطريق وهي تنادي: سيلفي..
    ***
    لم يقدر أن لقاء المصادفة سيكون انفراجة الباب لكل ما حدث.
    زاحم المندفعين في أتوبيس 153 من ميدان التحرير.
    اندفع نحو كرسي ناحية اليمين. طالعته استغاثتها الصامتة تحت النافذة، القامة المتناسقة، الشعر الحنطي المسدل إلي الكتفين، العينان الزرقاوان الباسمتان، الأنف الدقيق، الشفتان النديتان، الغمازتان اللتان تضفيان عذوبة علي وجهها.
    بدت غريبة في وقفتها داخل محطة الأتوبيس. ليست غربة المكان، وإنما غربة الملامح والزي الذي ترتديه. فستان فوق الركبة، أزرق، قصير الكمين، وحذاء مكشوف، وبيدها مظروف ورقي.
    أومأ لها برأسه، فصعدت لتجلس مكانه. السيدة البدينة ارتمت علي الكرسي بمجرد تخليه عنه، فأفسدت كل شيء. علا صوتها بنبرة توبيخ:
    ـ حجز الكراسي في السينما..
    اكتفيا بتبادل نظرات الارتباك.
    خلا الأتوبيس من معظم ركابه قبل محطة كوبري القبة. وجدت مكاناً، وجلس إلي جانبها. فاجأته بالشكر، وبمؤاخذتها للسيدة البدينة. ودعته في محطة نصوح. تجدد ـ بعد أيام ـ لقاء المصادفة. ابتسما بما يعني تعرف كل منهما إلي الآخر. تشبثت بساعديه، وسبقها في اندفاعهما وسط الزحام حتي جلسا متجاورين.
    قدم نفسه:
    ـ ماهر فرغلي.. موظف بدار المعارف..
    همست باسمها:
    ـ صوفيا جوتييه.
    لاحظت أنه لم يلتقط اسمها، وإن تظاهر بأنه عرفه.
    قالت في نبرة متباطئة:
    ـ صوفيا ميكيل جوتييه.. لكنهم في البيت ينادونني سيلفي.
    ـ مصرية؟
    أدرك ـ في اللحظة التالية ـ سخف السؤال..
    قالت في همسها:
    ـ طبعاً..
    ورفت علي شفتيها ابتسامة:
    ـ هل أبدو أجنبية؟
    حدس أنها أجنبية. لم يتصور ـ في حدسه ـ البلد الذي تنتمي إليه، وإن بدت غريبة عن المكان، كأنها تنتمي إلي عالم آخر..
    أزاحت خصلة متهدلة من شعرها جانباً، وهي ترفع رأسها:
    ـ ربما لأن أبوي من أصل أجنبي..
    تناثرت الكلمات، فعرف كل منهما عن الآخر ما لم يكن يعرفه. اجتذبه غياب التكلف عن كلماتها وهي تتحدث عن أسرتها المقيمة في الزيتون.
    اكتفت بالتلميح في حديثها عن إخوتها. لم تذكر أسماءهم ولا إن كانوا أكبر أو أصغر منها.
    قالت: إخوتي، وواصلت الكلام.
    حدثته عن أبيها النمساوي الأصل، وعن أمها الإيطالية. كان أبوها رئىساً لبنك باركليز، فرع بورسعيد. قتله المصريون في أحداث 1956. الأم أميرة إيطالية سابقة، لا تعي سيلفي أنها رأتها تغادر البيت إلا لزيارات متباعدة إلي شقيقة لها في بولاق. لا تدري كيف التقيا في مصر، ولا ظروف زواجهما، لكنهما أنجبا أربعة أبناء: ولدين وابنتين.
    قال:
    ـ ترفضون تحديد النسل.. مثل المصريين.
    كان يستنكر في نفسه سرعة الانفعال بما يدفعه إلي إبداء رأي قد لا يتدبره، كلمات تسبق تفكيره. يؤلمه الاستياء الذي تتقلص به الملامح، وربما العبارات الرافضة.
    قالت دون أن تجاوز هدوءها:
    ـ نحن مصريون..
    حدثها عن عمله في قسم المراجعة بدار المعارف. يشغله منذ تخرجه في دار العلوم:
    ـ ميزة عملي أن مكتبي يطل علي النيل.
    وهي تئد ابتسامة رفت علي شفتيها:
    ـ هل تجلس للفرجة؟
    ـ لا بأس أن أطل ـ وأنا أعمل ـ علي منظر جميل..
    أشارت إلي مبني هائل علي تقاطع سليم الأول وسنان:
    ـ هذه مدرستي.. النوتردام دي زابوتر..
    قال:
    ـ هل هي قريبة من البيت؟
    ـ مجرد أن أعبر الشارع..
    ـ كانت دار العلوم قريبة من بيتي.
    كلمها عن أعوام دراسته في دار العلوم، عن أساتذته: علي الجندي ومهدي علام وأحمد الحوفي وعمر الدسوقي وتمام حسن. قلد كلاً منهم في محاضراته: المفردات، طريقة الكلام، ردوده علي أسئلة الطلاب.
    أصاخ سمعه لحديثها عن أيام الدراسة: الدخول إلي الكنيسة قبل الحصة الأولي، البنات المسلمات يقضين فترة ما قبل اليوم الدراسي في حوش المدرسة، الصلوات التي تستغرق وقتاً أطول من وقت تلقي الدروس، الملابس البيضاء ترتديها الطالبات في المناسبات الدينية، وفي الأعياء، يترنمن بالقداس، وبالألحان الدينية، زيارات الآباء من معهد الدومينيكان، والمطران من كنيسة البازيليك، استغناء مدرب الكرة الطائرة عن عضويتها لأنها أقصر مما يجب، ادعاؤها ضرورة العودة إلي البيت ـ في أوقات الدروس الصعبة ـ لرعاية أمها المريضة.
    تهمس ضاحكة:
    ـ أمي مريضة بالفعل منذ أشهر!
    لم تشغله ـ في البداية ـ طبيعة العلاقة، ما إذا كانت الصداقة الطارئة ستثبت في علاقة دائمة. اطمأن إلي أن الصداقة ستشهد نهايتها حين يسبق أحدهما الآخر في النزول إلي المحطة التي يريدها، لكنهما تأهبا للنزول في المحطة نفسها.
    سارا متجاورين، تكلما..
    تعددت لقاءاتهما علي باب كنيسة اللاتين، في التقاء ناصيتي طومانباي ونصوح، أمام سراي البرنسيسة الملاصقة لمدرسة النوتردام.
    يهبط من الأتوبيس علي ناصية السور الخلفي لسراي الطاهرة، يمضي بقية الطريق علي قدميه.
    استمهلته ـ ذات عصر ـ قبل أن تميل إلي نصوح الهندي، ويواصل السير في شارع السلطان سليم ـ:
    ـ قلت إنك خريج دار العلوم.
    أومأ برأسه مؤمناً.
    قالت:
    ـ أحتاج إلي دروس في اللغة العربية، ستزورنا لهذه الدروس.
    استطردت لارتباكه الصامت:
    ـ مجرد حيلة لاستضافتك.
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    ـ 2 ـ

    عانى ـ لرؤية الرجل الجالس فى الشرفة يغنى ـ ارتباكاً لم يفلح ، حتى أمام سيلفى ـ فى مداراته . تأمل اللحن ، اجتذبه ، وإن لم يفهم الكلمات .
    ـ أبى .
    ما عدا الأرض الخلاء فى ناصية تقاطع شارع نصوح ، والشارع المتفرع منه ـ لم يعن بأن يسأل عن اسمه ـ فإن البنايات تلاصقت فى الشارع الصغير .
    الفيلا من طابق واحد ، تحيط به حديقة ، الدرجات الرخامية الخمس ، تصعد إلى الشرفة العريضة ، الممتدة بطول الواجهة ، من خلال الباب الحديدى الخارجى ، والعمودين بمساحة المتر ، يعلو كل منهما مصباح زجاجى مكور .
    الشرفة تطل ـ من الواجهة ـ على الشارع الصغير ، ومن الجانبين على الحديقة المتكاثفة الأشجار ، الأرضية على هيئة مربعات الشطرنج . تتناثر فوقها كراسى من الخيرزان ، تتوسطها منضدة ذات سطح زجاجى . السلم الجانبى ، متآكل ، يهبط إلى البدروم . الصالة فى مواجهة باب المدخل المتداخل الحديد والزجاج . الأسقف عالية ، والجدران يغطيها الورق ذو النقوش الملونة . فى مساحة الجدار المواجه بوفيه من خشب الماهوجنى الأسود ، فوقه ثلاثة شمعدانات متجاورة من زجاج المورانو ، وتماثيل صغيرة من الزجاج الملون . يتوسط الصالة أنتريه مطعم بالصدف من أربعة كراسى وكنبة ، تتوسطه طاولة من الخشب المنقوش . علق أعلى الجدار صليب فضى ، إلى جانبه صور فوتوغرافية ، ولوحات تآكلت حوافها . تتقابل الحجرات الأربع المغلقة ، عدا واحدة مواربة . الطرقة ـ على اليسار ـ تفضى إلى حجرة خامسة ، خمن أنها حجرة المائدة ، وإلى الحمام والمطبخ .
    يتنبه لترامى سقوط الثمار من أشجار الحديقة وارتطامها بالأرض . تعيده إلى نفسه ، وإلى حيث هو .
    علا صوت بالسؤال من داخل الحجرة الأولى على اليمين :
    ـ أمنا مريضة وتصرين على البقاء خارج البيت ؟!
    حدّس ـ من الصورة التى رسمتها فى ذاكرته ـ أن الصوت لأنطوان ، شقيقها الأكبر .
    اختلج صوتها بنبرة سخط :
    ـ أبحث عن عمل .
    ـ تستطيعين الانتظار .
    استدرك بنبرة متأثرة :
    ـ أمنا تحتاج إلى رعايتك .
    وهى تضغط براحتيها على عنقها :
    ـ أحاول إنقاذ نفسى قبل أن أختنق !
    سبقت ماهر إلى الحجرة الثانية على اليسار . الستارة القطيفة ، الغامقة الزرقة ، المسدلة على النافذة ، تعيق دخول أشعة الشمس ، لكنها تهب من الضوء ما يعين على الرؤية .
    فى الوسط منضدة صغيرة ، عليها مجلات ومنفضة سجاير ، وإلى الجانب مكتب صغير من خشب الأبنوس . وفى الزاوية دولاب بضلفة من الزجاج ، تكدست فيه كتب مجلدة .
    بدت السيدة الراقدة على السرير ـ أدرك أنها أمها ـ مريضة ، فلا تقوى على الحركة . العينان ساجيتان ، والعروق خضراء تبين من وراء البشرة الأقرب إلى الصفرة ، وهالة الشعر الفضى أضفت على وجهها سكينة . حدس أنها كانت ـ فى شبابها ـ ذات جمال رائق .
    لم يستطع أن يخمن عمرها ، وإن بدت متعبة للغاية .
    مالت سيلفى عليها . مسدت شعرها الأبيض المهوش . همست :
    ـ هذا ماهر .
    قالت ـ بلغة لعلها الإيطالية ـ كلاماً كثيراً ، قدمته به لأمها . فطن إلى أن الأم لا تعى كلماتها ، ولا تعى شيئاً .
    تبين الانفراجات بين الأشجار المتشابكة عن أجزاء من البيت المقابل . خلت واجهته إلا من الطوب الأحمر ، وإن وشت بحداثة البناء ، وخلت مما اتسمت به فيلا جوتييه ، والفيلات والبيوت القديمة ، المجاورة من ميل إلى الارتفاع والنقوش والمقرنصات . امتلأت نوافذ الطوابق الثلاثة العلوية بخزين الطعام وبقايا الأثاث ، وتدلت قطع الغسيل من المناشر الممتدة أمامها . نوافذ الطابق الأول مغلقة ، وإن ترامى اختلاط نداءات وشتائم وأغنيات وصراخ أطفال .
    عرف أن الأب خرج إلى المعاش بعد أن بدلت قوانين التأميم اسم البنك إلى بنك الإسكندرية . قدم من النمسا قبل الحرب العالمية الأولى . التحق ـ بالشهادة المتوسطة ـ موظفاً فى بنك باركليز . تزوج ابنة رئيسه الإيطالى . ترقى فى وظائف البنك حتى حصل على حق التوقيع . ظل فى فرع الموسكى منذ بداية تعيينه ، حتى أحيل إلى المعاش .
    ـ لو أن بنك باركليز لم يؤمم ، ربما ظل أبى فى عمله ..
    ـ وسن المعاش ؟
    فكرت قليلاً :
    ـ خبرته تعطيه الحق فى تجاوزها .
    هل نسيت ـ أو تناست ـ كلامها عن موته بأيدى المصريين فى معارك 1956 ؟ ما حكاية قتل المصريين للرجل فى أثناء عمله مديراً لفرع بنك باركليز ببور سعيد ؟ ولماذا نسجت هذه الحكاية التى تبدو ـ من فتاة فى سنها ـ حقيقية وصادقة ؟ لماذا اخترعت ما لا يوجد سبب لاختراعه ؟ هل كانت تتصور ابتعاده عن حياة أسرتها ، فأرادت استمالته بالحكاية الغريبة ؟
    كان يستطيع أن يسألها ، أو يسأل نفسه : كيف يعمل الأب فى بور سعيد ، ويقيم فى القاهرة ؟
    خشى أن مجرد التلميح طريق النهاية التى لا يرجوها . بدت سيلفى تكويناً فى صورة المستقبل . ربما تقوضت الصورة تماماً لو أنه جذب خيط السين والجيم . ربما قالت ما روته لاختبار مشاعره ، أو لعلها أرادت ـ فى البداية ـ أن تبعده عنها ، ربما أى شيئ سيتعرف عليه بتوالى الأيام .
    وهو يمسد شعره بأصابعه :
    ـ أظن أن تأميم الصحف أفادنى .
    شجعته ـ بإيماءة ـ على تكملة كلامه .
    قال :
    ـ ضُمّت دار المعارف إلى الأهرام . وسط أبى رؤساءه فى إدارة توزيع الأهرام . عيّنت بدار المعارف فور حصولى على ليسانس دار العلوم .
    تكررت زياراته للفيلا حتى اعتادوا رؤيته ، لا يعرف إن سألوا سيلفى عنه ، أم أن هذا هو أسلوب حياتهم ؟
    كلمته عن مشوارها اليومى إلى وسط البلد . تبحث عن عمل بالثانوية العامة . لم تجد فى نفسها ميلاً لدخول الجامعة . اقتصر بحثها على الفنادق وشركات الطيران والسياحة . لو لم أجد سوى العمل فى الحكومة ، فسأظل فى البيت ، ما أتقاضاه من أبى يوفر لى الحياة التى أريدها ، وإن كنت لا أتصور أنى سأظل مع أنطوان فى بيت واحد [ غالب الحرج فى أن يسألها إذا كانت قد صدقت فى ما قالته هذه المرة ؟! ]
    وسمت العفوية كلماتها وهى تحكى مغامرتها الأولى فى تدخين سيجارة . أطالت الوقوف داخل دورة مياه المدرسة ، وتأكدت من زوال رائحة الدخان ـ تخشى أنطوان ـ فى النعناع الذى مضغت أقراصاً منه .
    لاحظ اهتمامها بما يرويه عن المواردى . تسأل ويجيب ، تستوضح ، تظهر التأثر والحزن والألم والإشفاق . تبتسم ، وتضحك ، يعلو صوتها بالتعليقات ، المواردى لا يعرف الهدوء ، اختلاط الصيحات والنداءات والضحكات ، وضربات حجارة الطاولة على طاولات المقهى ، أول الشارع . نصوح يختلف ، هو هادئ دائماً .
    روى لها عن صحوه على أذان الفجر فى جامع السيدة زينب ، عبارات أخته زينب المحتجة حول من يملأ القلة الموضوعة على نافذة المنور ، حرص أبيه على أن يكشف أغطية الأوانى ، يتذوق ما فيها من طعام ، صرخة أمه للمساحيق التى غطت بها شقيقته الصغرى هناء وجهها . ضحكة هناء لتهديد الأم : إذا فعلت ذلك ثانية فسأضربك !. كلمات أبيه عن تحسن صحته ، بعد أن اختار الذهاب ـ سيراً على القدمين ـ إلى عمله بإدارة التوزيع فى " الأهرام " ، بدلاً من ركوب المواصلات . مشوار لا بأس به من المنيرة إلى شارع مظلوم .
    تحولت الابتسامة إلى ضحكة ـ لم يقو على إسكاتها ـ حين استعاد ما قالته أمه : لن نستطيع استضافة فتاتك ، هى خواجاية من الزيتون ، ونحن أولاد عرب من المواردى !
    استيقظ ذات صباح . وجدها ترنو إليه من سقف الحجرة .
    عرف أنه أحبها ..
    هل تحبه ؟
    ***
    يجيش فى نفسه الشوق لرؤيتها : وهو فى مكتبه المطل على النيل ، وهو يراجع بروفات الكتب ، وهو يركب الأوتوبيس فى تنقله بين دار المعارف وبيوت المؤلفين ، وهو يجلس إلى أسرته فى حجرة القعاد .
    مثلت فى حياته مالا تمثله زميلات دار المعارف ، ولا بنات الجيران ، ولا البنات القريبات ، ولا حتى أخته زينب التى يعدها صديقة حقيقية .
    لم تعد صورتها تفارق عينيه ، ولا يفكر فى غير الأوقات التى يقضيها إلى جانبها ، فى البيت ، أو فى الشارع ، أو فى " أسترا " على ناصية ميدان التحرير وشارع محمود بسيونى ، هو أنسب الأماكن للجلوس بعيداً عن الأعين ، وإن حرصا على الابتعاد عن حركة الطريق . يغيبان عن بعضهما يومين ، أو ثلاثة ، فلا يشعر أنهما قد افترقا لحظة .
    اجتذبته بما يصعب عليه تحديده ، آفاق لا حدود لها ، ربطته بقيود خفية ، لا يراها . لا بد أن هذا هو ما تشعر به .
    هو يحبها ، ويعرف أنها تحبه .
    روت عن مشاهداتها المتباعدة لعروض الأوبرا الأجنبية . تنزل من الأوتوبيس فى ميدان العتبة . تخترق زحام شارع الموسكى ، إلى مبنى بنك باركليز ، بالقرب من بداية الشارع . تنتظر أباها حتى موعد انصرافه ، ساعة أو أقل . يصحبها فى الطريق نفسه . يعبران الميدان : قسم شرطة الموسكى ، ومبنى المطافى ، والبريد المركزى ، إلى ميدان الأوبرا . تعرف أن تمثال إبراهيم باشا قبالة باب الأوبرا . شاهدت عروضاً إيطالية وفرنسية . رددت مع أبيها ـ فى طريق العودة ـ ألحاناً مما استمعا إليه .
    حدثته عن سيمفونيات سترافنسكى وبيتهوفن وموزار وباخ وواجنر . استعاد الأسماء ، أو تظاهر بأنه يعرفها .
    قال :
    ـ أحب الغناء من أبيك ، لكننى لا أحب عروض الأوبرا ، لا أفهم الكلمات ، وأجد فى الألحان مجرد زعيق !
    ورفع راحتيه كالمعتذر :
    ـ أفضل أن أكون صادقاً فى ما أتذوقه ، ولا أنساق إلى مالا أفهمه !
    اتجهت بنظرها إلى الأرض تدارى ابتسامة :
    ـ ليس الأمر صعباً إلى هذا الحد !
    وعدت بأصابعها :
    ـ إنهاـ عادة ـ مجرد أربع حركات موسيقية ، لو أنك أعطيتها اهتمامك فستجد فيها ما يستحق السماع .
    وضغطت على الكلمات :
    ـ لو أنك أعطيت انتباهك ، ربما تبدل رأيك .
    ـ الموسيقا الشرقية هى التى تجتذبنى ، تطربنى ، لا تعادلها عندى موسيقا أخرى .
    تمنى لو أن فمه ظل مغلقاً . يؤلمه أنه ـ إذا تحدث ـ قال كلاماً سخيفاً ، وبلا معنى . لم يكن يحسن التعبير عما فى نفسه ، أو يخفيه .
    روت حلماً استقرت به نفسها : وقفت ـ متحيرة ـ أمام طريقين تظللهما أشجار مشابهة لأشجار حديقة الفيلا .
    عادت من أحد الطريقين ، بعد أن تساقطت ـ بمجرد الخطو ـ أمطار طينية . اصطبغ بالسواد جسدها ، وما عليها من ثياب . وضعت قدمها ـ بالخطوة الأولى ـ فى الطريق الثانية . تشجعت ـ بالأوراق الخضراء المتساقطة ـ على مواصلة السير .
    رأت ـ فى نهاية الطريق ـ شخصاً يشبهه . تأملته . هو نفسه من كان يقف تحت شجرة هائلة تماثل أشجار الحديقة .
    مدت ذراعيها ، تحاول التأكد مما رأته .
    صحت على لكزة دومينيك المترفقة فى كتفيها :
    ـ من تكلمين ؟
    شيء ما فى نبرة صوتها دفعه ـ بينه وبين نفسه ـ إلى استعادة ما قالته : هل رأت حلماً ، أو أنها تومئ بما تصورت أنه لا يشغله ؟
    ***
    ناوشه السؤال ، وإن خنقه فى داخله : هل عرفت شباناً قبله ؟
    فطن إلى أنه ليس أول من عرفته . وشت تصرفاتها بما حاولت إخفاءه . بدت الآفاق ـ بمجرد التلميح ـ غير واضحة ، وقد تطالعه بما يبعدها عنه .
    يضايقه الكثير من تصرفاتها ، وما ترويه ، لكن شيئاً غامضاً يربط بينه وبينها ، ليس الحب وحده ، لكنه شعور بالألفة والطمأنينة .
    كان يمنى نفسه ـ قبل أن يلتقى سيلفى ـ بعلاقة حب . لم يرسم للفتاة ملامح فى ذهنه ، ولا تصور كيف تبدأ العلاقة ، ولا كيف تنتهى .

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #3
      ـ 3 ـ

      أهمل السؤال : كيف دخل عياد حياتهم ؟
      وجده يجلس ـ فترة بعد الظهر ـ إلى دومينيك ، يكلم سيلفى وجان . تتسم عباراته بالألفة ، وما قد يبدو جرأة . أنطوان ـ وحده ـ بدا أنه لا يطيقه .
      فى حوالى الثلاثين ، قمحى البشرة ، أوضح ما يميزه شعر أكرت ، وعينان بنيتان ، لامعتان ، وأنف متضخم ، وشفتان ممتلئتان . أميل إلى الهدوء ، لا يبين عن حقيقة مشاعره ، ولا يبدو عليه التأثر ولا الانفعال بما يوجهه إليه أنطوان من أسئلة وملاحظات ، ولا ما يتشابك أمامه ـ أحياناً ـ من مناقشات بين أنطوان وجان . عدا أحاديثه الهامسة مع دومينيك ، فإنه يظل صامتاً ، لا يتكلم إلا ليلقى سؤالاًً ، أو ليجيب عن سؤال .
      العربية لغة الأسرة مع ماهر وعياد ، وإن لجأوا ـ فيما بينهم ـ إلى لغتين ، عرف ماهر من سيلفى أنهما الفرنسية والإيطالية .
      لم يكن عياد يغير كرسيه فى زاوية الشرفة التى تقف على أعمدة حجرية ، تطل واجهتها على الشارع ، ومن الجانبين على الحديقة . معظم وقت الزيارة تبادله دومينيك مناقشات هامسة ، كأنهما يتكلمان عن أسرار لا يريدان لأحد أن يعرفها . تومئ دومينيك لعياد مستأذنة ، تتنقل داخل الفيلا ، ما بين الصالة ، والحجرات الخمس ، والمطبخ ، والحمام . لتجديد هواء حجرة الأم ، تحرص ـ فى أوقات متقاربة ـ على فتح النافذة ، بينما تظل الستارة مسدلة . تنهى ما تنشغل به . تعود إلى الأحاديث الهامسة .
      ربما اختار ماهر الجلوس فى طرف الشرفة ، يتشاغل بالتطلع إلى حركة الطريق الهادئة ـ ساكنة تماماً فى معظم الأوقات ـ من خلال الفروع والأغصان والأوراق .
      كان عياد يتجه بأسئلة متباعدة إلى المسيو ميكيل . طلب نصيحة أنطوان فى نقود يريد إيداعها البنك . واجهه بعينين تطلبان النصيحة ، بداية مناقشة قد تخرج أنطوان عن صمته .
      قال أنطوان وهو يشير إلى الحجرة اليمنى :
      ـ جان .
      عرف عياد أنه يريد أن ينقل له شعوراً بعدم رغبته فى الكلام .
      قد يفاجئه أنطوان بملاحظة ، يهملها ، أو يحاول ـ فى كلمات قليلة ـ توضيح موقفه .
      لم تنشأ بينه وبين ماهر علاقة من أى نوع ، لا صداقة ولا عداوة . كان يعبر ماهر بنظراته . إذا التقت النظرات ، اكتفى بإيماءة ، وإن تحدثا ـ فى أوقات قليلة ـ متباعدة ، عن ظروف عمله فى دار المعارف ، ومخاوف عياد من قوانين التأميم ـ عرف أنه يشرف على مصنع صغير للنسيج بالوايلى ، وأن تردده على البيت بدأ لمراجعات حسابية أجراها له المسيو ميكيل ـ وأحوال الجو ، ومباريات الكرة .
      ضايق أنطوان أن دومينيك لم تبتعد عن عياد حين أظهر معارضته لزواجهما . أظهر ضيقه ـ ذات عصر ـ وهو يخترق الردهة إلى داخل البيت . لم ينظر ناحية دومينيك وعياد فى جلستهما داخل السور المطل على الحديقة .
      أشار لها من حجرة الصالون .
      واجهته بعينين زرقاوين ، واسعتين ، قلقتين ، ووجه صبغته الحمرة ، وشفتين مرتعشتين ، وعروق نافرة فى عنق شبيه بعنق الغزال .
      عدلت ـ بعفوية ـ الإيشارب الحرير الذى أحاطت به رأسها ، والفستان الشيت المزين بزهور ملونة ، والشبشب المنزلى الذى أخطأت فيه موضع قدميها .
      قال فى صوت تعمد أن يكون مرتفعاً :
      ـ هل تجدين أن هذا الرجل يناسبك ؟
      ـ ما يعيبه ؟
      ـ هل هو من بيئتنا ؟
      ـ لا أجد فيه إصبعاً ناقصاً ، ولا أجد فيه إصبعاً زائداً .
      وهو يحرك قبضته أمام وجهها :
      ـ أمرتك ألا تصادقى شاباً من غير ديننا !
      ـ هو صديق أبى وصديقى .. وخطيبى أيضاً ..
      وزفرت فى ضيق :
      ـ وهو مسيحى ، اختلافه فى المذهب .
      وشت لهجته بالحسم :
      ـ نحن كاثوليك ..
      وزاد ارتفاع صوته كأنه يصرخ :
      ـ هل ضاقت بك الدنيا ؟!
      ثم من بين أسنانه :
      ـ أنا لست روفيانو !
      ارتجفت شفتاها. همت أن تقول شيئاً ، يعبر عن الرفض ، أو الغضب .
      غالبت حشرجة :
      ـ كف عن هذا الكلام !
      شعرت أنه ليس لديها ما تضيفه ، فظلت صامتة .
      عرف ماهر من سيلفى أن الكلمة تعنى القواد .
      ظلت دومينيك تستقبل عياد ، يجلسان فى الشرفة الدائرية ، الواسعة ، المطلة على الشارع ، أو فى الصالة ، يتحدثان ، ويتهامسان ، حتى يتقدم الليل ، فينصرف .
      تعرف دومينيك أن الجرأة لا تنقصه ، باح لها بخشيته أن يفقدها . يمنعه أنطوان من دخول البيت فلا يلتقيان . لن تتاح له فرصة اللقاء فى الكنيسة ، أو سوق الخضر ، أو الطريق . هذا هو عالمها ، يصعب أن تجد فيه لحظات تنصت إليه ، ترد على أسئلته ، تأخذ منه وتعطى .
      لم يكن يأخذ مع سيلفى أو يعطى ، مجرد كلمات مجاملة ، يتجه كل منهما بكلامه إلى دومينيك . مرة وحيدة ، أبدى ملاحظة حول الحرية التى تنطلق فيها سيلفى دون أفق . ردد كلمات من صلاة الشكر : " من أجل هذا نسأل ، ونطلب من صلاحك ـ يا محب البشر ، امنحنا أن نكمل هذا اليوم المقدس ، وكل أيام حياتنا ، بكل سلام ، مع خوفك ، كل حسد ، وكل تجربة ، وكل فعل الشيطان ، ومؤامرة الناس الأشرار ، وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين " .
      ومض الغضب فى بريق عينيها ، ورفعت كتفيها ، ومضت إلى الداخل .
      ***
      قال أنطوان لأمه فى لحظات إفاقة :
      ـ نحن نحرص على زيارة الكنيسة ، ونهمل إقامة الشيطان فى بيتنا .
      أضاف للحيرة فى عينى الأم :
      ـ أنا أرى التصرفات ، لكن الشيطان يختفى حيث لا نراه !
      اكتفت السيدة كاترين بنظرة ساهمة . بعد أن أوقفت دومينيك عن الدراسة ، صار زواج الابنة ـ وحده ـ شاغلها . تملكها القلق لتأخر زواج دومينيك . خشيت أن يقعدها المرض ، لا يتقدم لخطبتها أحد ، تظل العمر عانساً .

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        ـ 4 ـ

        تدخل الكنيسة فى طريقها إلى شارع نصوح . تصر السيدة كاترين أن يترددوا على الأب يوحنا ، فى عودتهم إلى الفيلا . تعبر الحديقة الصغيرة ذات السور الحديدى ، وأشجار البانسيانا ، العالية ، إلى صحن الكنيسة ، والأبواب الخشبية الثلاثة ، باب كبير ، يتوسط بابين صغيرين ، تصعد إليها ثلاث درجات رخامية .
        الخادم مشغول فى نفض الغبار عن الأيقونات والصلبان المعلقة على الجدران ..
        تشعل شمعة ، وترسم الصليب على صدرها ، وتؤدى ـ بتمتمات ـ بعض الصلوات والأدعية ، تجثو على سجادة الركوع ، تستغرق ملامحها فى الترتيل .
        قال الأب لدومينيك :
        ـ لك صوت جميل ..
        وواجهها بنظرة متسائلة :
        ـ لماذا تتكاسلين عن الترنم فى الكنيسة ؟
        أقعدتها أمها فى البيت . أعدتها لبيت الزوجية . علمتها الجلوس على ماكينة الخياطة ، وتطريز الستائر ، والغسيل ، والكى ، والطبخ ، وصنع الحلوى . تشغل نهارها ، ووقتاً من الليل ، فى العمل ، تكنس ، وتمسح ، وتغسل ، وترتب ، وتنفض .
        تواظب على القداس اليومى . تحرص أن تجلس فى الصفوف الأولى ، تتابع القداس بخشوع ، تكثر من الجلوس أمام كشك الاعتراف ، ربما حضرت صلوات المساء .
        قبل أن يتردد عياد على البيت ، وتطمئن إليه ، كانت تحرّم على نفسها مجرد النظر إلى أى شاب ، ولو بجانب عينها ، ولو باللمحة .
        لم تكن تسامح نفسها إذا تحركت مشاعرها لرؤية شاب . تلتقيه فى الطريق ، أو سوق الخضر ، قد يطل من نافذة ، أو يقف داخل دكان . تظل الملامح فى بالها . تعرف أنها أخطأت بما يستدعى الاعتراف . ترسم علامة الصليب ، وتسرع خطواتها إلى الكنيسة . تزور الأب يوحنا فى حجرته ، أو تضغط على جرس الاعتراف ، لتروى .
        تكون ـ فى داخلها ـ إحساس بأنها تمتلك من الحصانة ضد الإثم ما يعينها على مواجهة أية مغريات ..
        أقسى أيامها حين يداهمها صداع ، أو وجع فى جنبها . يداخلها معه حزن لا تدرى مصدره . تطيل النظر إلى السماء ، كمن تناجى الظلمة والقمر والنجوم والسحب . تضيق بالأسئلة والملاحظات . تلزم حجرتها ، لا تفارقها إلا لدورة المياه . يدفع من يتصادف وجوده الباب الموارب حين يعلو صراخها . ألفوا سيطرة نوبات التشنج عليها . تعاودها على فترات متباعدة . تتطوح ذراعاها وقدماها ، وتتسع عيناها ، وتتصلب ، ويسيل الزبد الأبيض من جانبى فمها . تظل فى تشنجها وهى بين ذراعى أنطوان أو جان ، لا يتركها إلا بعد أن تهدأ .
        لم تعد الأدوية تعيدها إلى حالتها وصفائها النفسى ..
        رفض أنطوان نصيحة الشيخ جميل غازى إمام جامع العزيز بالله ، بأن يقام لها زار . لم يفهم المعنى فى البداية ، ثم رفضه تماماً ..
        ـ هذه طقوس إسلامية !
        ـ ما يهمنا أن تخرج الجان من جسدها ..
        ـ الجان؟!
        ثم وهو ينفض رأسه :
        ـ لا أومن بهذه الخرافات !.
        اعتادت التردد على الكنيسة ، والصلاة فيها ، صباح كل أحد . تظل إلى ما بعد انصراف الجميع . يستقبلها الأب بابتسامة مرحبة . يسألها عن الأسرة . يعرف أفرادها بالاسم .
        عرفت من الأب سر القربان المقدس ، وسر الزيت المقدس ، وسر التعميد ، وسر المناولة .. أسرار كثيرة حدثها عنها الرجل ..
        لا تكتفى بالأحد يوماً واحداً تزور فيه الكنيسة . ربما ترددت عليها مرة أو مرتين فى اليوم الواحد . تشعر بالضيق ، أو بالوحشة . ترتدى ما تصل إليه يدها ، وتمضى إلى الكنيسة . تنتظر فراغ الأب مما يشغله . يهبها إنصاته ، ثم يشير عليها بما ينبغى أن تفعله .
        أودعت الأب كل أسرارها . لم تعد تخفى شيئاً . حتى العلاقة بين إخوتها بعد رحيل الأبوين ، روتها له ، وطلبت نصيحته . أظهرت تخوفها من سعى أنطوان لبيع الفيلا ، قبل أن يهاجر إلى أمريكا . هى الآن ـ وحدها ـ تعيش فى الفيلا . ساعدها عياد فى منعه من تحقيق غرضه .
        تلقت ماء التعميد على يد الأب يوحنا .
        عندما طلب الأب أن تسمى ـ عند التعميد ـ كريستينا ، رفضت الأم ، وأصرت على تسمية دومينيك .
        ألفت قداس الأحد : المجامر والتراتيل والصنوج والترانيم والبخور ذا الرائحة المميزة والدكك الخشبية والصلاة وتناول الخبز السماوى ولذعة النبيذ وطبق العطاء ..
        كان الأب يوحنا على ثقة من أن الخالق يساعد العباد على أمور حياتهم ، وما يطرأ من مشكلات . وكان يرفض النذور والقرابين . يرى أن أفعال المرء هى طريقه إلى الجنة ، أو النار ..
        يعرف بيوت الأسر الكاثوليكية فى الزيتون ، ويعرف أحوالهم ، والمشكلات التى يواجهونها . لا تقتصر معرفته على ما يفض به المترددون على الكنيسة عن أنفسهم وراء الستارة المسدلة ، إنما هو يزور البيوت ، ويكلم من يلتقى بهم فى الطريق ، ويلحظ الغائبين ، ويدعو الجميع ، فيزورونه فى الكنيسة . يسأل ، ويجيب ، ويناقش ، ويبذل النصيحة . إذا تأخر أحد المترددين على الكنيسة عن قداس الأحد ، قرع الأب باب بيته فى يوم تال ، يسأل عن السبب . يعيب على الكاثوليك من أبناء الزيتون أنهم يهملون تعميد أبنائهم ، ولا يعنون بالتردد على الكنيسة ـ دومينيك استثناء جميل ـ وأداء طقوس الدين ، أو يترددون على الكنيسة لمجرد أداء الواجب . ربما ترك الكنيسة إلى بيت ينتظره فيه من يعوزه القربان المقدس ، أو سماع الاعتراف ، أو تلقى المسحة الأخيرة
        يقبل الهدايا للكنيسة ، ويرفض الهدايا لنفسه :
        ـ لا أحب أن أقف فى موضع الحرج !
        ***
        ظل الأب صامتاً ، يحمل فى يده المرشة المضمخة بالماء المقدس . يحرص أن يلزم الجميع الصمت أوقات القداس . حتى السعلة ، أو العطسة ، يتجه ناحيتها بنظرة غاضبة . يغيظه الكلام داخل الكنيسة ، وعدم الإنصات إلى عظاته ، أو إلى طقوس الصلاة .
        الصولجان المذهب يحيط برأس الأب . يستعيد إكليل الشوك على رأس تمثال المسيح فى مدخل الكنيسة ، وإن خلا من إيحاء وجود الدم .
        استقر الحضور على الدكك الخشبية . الشمامسة الصغار يرتلون الترانيم ، ويهزون مجامر البخور . أصداء الترانيم تتردد فى الأسقف العالية ، المتداخلة ، والجدران . كورال الكنيسة يشدو قداساً بموسيقى باخ وموزارت وبوتشينى .
        خفض الحضور الرءوس ، وشبكوا الأيدى على الصدور .
        هذا هو العالم الذى تحبه : المذبح ، وتضوع البخور ، صليل الأجراس الصغيرة ، أردية الكهنة الفضفاضة يختلط فيها الأبيض بالبنى ، وتحيط بها ـ فى المناسبات ـ الخيوط المذهبة ، العصا العاجية ذات القبضة المذهبة ، الشموع المضاءة ، عزف الأورغن ، وتراتيل الجوقة ، ، وأصوات المصلين المتناغمة ، والعيون المسبلة ، وعلامة الصليب ، والتمتمات ، والألحان السماوية ، وترتيل الآباء والشمامسة ، والقربان المقدس ، والزيت المقدس ، والمعمودية ،والمناولة المباركة ، وصلاة السبحة ، وصلوات الغروب ، والتاسوعات ، وطقوس التبخير ، والرنو إلى المغفرة .
        مالت إلى حجرة الأب فى يسار الواجهة . اعتادت الرائحة العتيقة ، لا تدرى مصدرها ، ولا تستطيع تحديدها .
        الصليب يعلو الجدار ، وتمثال العذراء تحمل المسيح ، وعلى الأرفف تماثيل صغيرة لقديسين وشموع ومباخر . تقبل يده ، وتنصت إلى دعواته ونصائحه : عندما نتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح .. تناول القربان المقدس والصوم والإخلاص فى التوبة يوصلنا إلى اكتشاف يسوع المسيح .. علينا أن نكون شاهدين للمسيح ، نعطيه كل شيء .. حتى حياتنا .. علينا أن نتأسف عن قبائح تصرفاتنا وكلماتنا وندينها .. عندما تتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح . الأب والابن والروح القدس ، الخالق الأزلى الأبدى ، المالئ كل مكان ، العالم بالأسرار قبل كونها .. كيف نخشى التوبة وقد أنقذنا الله من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته ؟ .. احتمى بالمسيح ، وتشبثى بنعمته ، وقوة دمه الغفورة .
        قالت دومينيك للأب يوحنا :
        ـ ارتكبت خطيئة ..
        قال الأب :
        ـ افتحى باب قلبك لأن المسيح واقف على الباب يطرق ..
        واحتضنها بنظرة مشفقة :
        ـ أن نعترف بخطيئتا ، فهذه بداية صحيحة ..
        واتجه إليها بنظرة متأملة :
        ـ هل هى خطيئة جسدية ؟
        وهى تغالب شعوراً بالأسى :
        ـ ربما ..
        ـ كيف ؟
        تعمدت أن يعلو صوتها لتقضى على التردد فى داخلها :
        ـ تركت يدى للشاب الذى أعرفه .. ظل يضغط عليها ، ثم تركها ..
        أردفت وهى تعانى الانفعال :
        ـ شعرت أنى موافقة .
        ـ لعله كان خائفاً ..
        ثم فى نبرة مهونة :
        ـ هل هو خطيبك ؟
        ـ ينوى خطبتى .
        وتهدج صوتها بالانفعال :
        ـ قال إنه يحبنى .
        ـ ما فعله ليس حباً ..
        وظل على نبرته المهونة :
        ـ إحساسنا بالذنب والخطيئة يقرّبنا من هاوية العقاب إلى حياة النعمة ..
        همست لتخفى التوتر فى صوتها :
        ـ أرجو ألا تبوح لأمى بما رويته لك ..
        قال :
        ـ هل رويت لى شيئاً ؟
        وهى تشير إلى الكشك الخشبى فى مدخل الكنيسة :
        ـ ما رويته لك الآن ..
        اعتادت التردد على القسيس فى الكنيسة . يجلس فى الكشك الخشبى ذى الستارة من القماش السميك . ينصت إلى اعترافها ، إلى ما ترويه عما ترى أنه خطايا ينبغى أن تستغفر عنها . تثق أنه يعرف أنها تعرف صوته ..
        هز رأسه دلالة الفهم :
        ـ أنت لم تقولى .. وأنا لم أستمع ..
        أشاح بهيئة من لا يعنيه الأمر :
        ـ للكنيسة قوانين .. وهى تحظر على الكاهن أن ينقل ما استمع إليه من أصدقائه ..
        وفاضت ملامحه بالإشفاق :
        ـ الكنيسة ليست للخاطئين ولا للمؤمنين . إنها لكل رعاياها ..

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #5
          ـ 5 ـ

          مال من شارع نصوح الهندى إلى شارع السلطان سليم ..
          كانت الكنيسة تلقى ظلها على الشارع ، يمتد إلى الناحية المقابلة ، حتى بداية الطريق إلى محطة الزيتون .
          تجاوز باب الكنيسة الحديدى المفتوح ، وواصل السير فى السلطان سليم . ألف قداس الأحد : المجامر والتراتيل والصنوج والأرغن والترانيم والشموع وتضوع البخور ذى الرائحة المميزة والماء المصلى عليه وصلصلة الجرس والأيقونات وتراتيل الشمامسة والدكك الخشبية والصلاة وتناول النبيذ وقضم الخبز السماوى .
          الأب يرتدى لباسه الكهنوتى . وثمة صليب خشبى يهزّه فى يده ، يعظ ، وينصح ، ويتحدث عن المسيح والعذراء مريم ، وعن فعل الخير والخطيئة والحياة الآخرة والثواب والعقاب والجنة والنار . يتأمل الوجوه من حوله . يعرف بعضها ، وتغيب عنه معرفة الآخرين .
          كان يجد فى قداس الأحد مناسبة للالتقاء بالأصدقاء . بالذات من يقطنون بعيداً عن الزيتون . يطيلون الوقفة ـ بعد انتهاء القداس ـ فى الساحة الصغيرة أمام الكنيسة ، وعلى الرصيف . تلتقى الخيوط فى أسئلة وأجوبة ومناقشات . يتناقصون حتى يعود الهدوء إلى الكنيسة ، وما حولها .
          كره عظات الأب ونصائحه وتحذيراته ، أحاديثه عن الله والتوبة والجنة وعذاب الآخرة . مشكلة الأب أنه يقدم على مائدة كلماته طعاماً وحيداً لا يبدّله . مهما بدا الطعام لذيذاً ، ومستساغاً ، فإن توالى تقديمه قد يصيب النفس بالصدود : لا تفعل .. لا تفعل .. لا تفعل . الناس ـ خارج الكنيسة ـ يتصرفون بعكس ذلك . لن تبنى الأخلاق الطيبة حياته .
          تأملت دومينيك جسده النحيل ، ووجهه الأبيض ، المسحوب ، الملىء بالنمش ، وحاجبيه الملتصقين فى منتصف الجبهة ، وعينيه البنيتين ، السريعتي الحركة ، وابتسامته الدائمة كأنها جزء من ملامحه ، وحرصه أن يرتدى ثياباً زاهية الألوان :
          ـ جان .. هل تؤمن بالله ؟
          واجه نظرتها المتوجسة بابتسامة متوددة :
          ـ هل تشكين ؟
          ضربت الأرض بقدميها :
          ـ لا ترد على سؤالى بسؤال . هل أنت مؤمن بالله ؟
          ـ طبعاً ، وإن كان لى ملاحظاتى حول تصرفات القسيس ..
          ووشى صوته بعصبية واضحة :
          ـ إنه يفرض الوصاية على حياتنا .
          رمقه أنطوان بنظرة مرتابة ..
          قال :
          ـ أنا أومن بالله ، ولست فى حاجة إلى قسس لتأكيد هذا الإيمان ..
          وعبر الصمت الذى حل فجأة :
          ـ فى رأيى أن الكنيسة مجرد وسيلة لجباية الأموال !
          حين رشم علامة الصليب على وجهه وصدره ، قال لنظرة أنطوان المتسائلة :
          ـ أنا أدعو أبانا الذى فى السموات ..
          ورحلت نظراته إلى بعيد :
          ـ ثم أتبع دعائى بدعاء آخر .. أن يظل فيها .
          دارى أنطوان قلقه بابتسامة فاترة :
          ـ من هو ؟ ومن هى ؟
          وهو يطوح قبضته :
          ـ إله السموات .. أدعوه أن يظل فيها ..
          قال أنطوان :
          ـ أنت قليل الأدب .
          اعتادت الفيلا مشاجراتهما الصغيرة . تعلو الأصوات ، تتكور قبضات الأيدى ، تتقلص الملامح ، لكن الهدوء ما يلبث أن يحيط باللحظة المتوترة ، فيودعها الصمت .
          قال جان :
          ـ أنا أقول رأيى ..
          ورسم على شفتيه ابتسامة باردة :
          ـ للمسيح عالمه .. ونحن لنا عالمنا .
          وشوح بظهر يده :
          ـ ليأخذ الله شموعنا وصلواتنا ، وليترك لنا حياتنا نعيشها .
          ثم وهو ينهى المناقشة :
          ـ هل أذكرك بقول المسيح : مملكتى ليست من هذا العالم !
          اعتاد التردد على الكنيسة . يحضر القداس . يتلقى القربان المقدس . يؤدى الصلوات ، ويرسم علامة الصليب ، يشارك فى حفلات عقد القران . ربما شارك فى أداء الترانيم ، أو قرع الجرس ، أو جال بالمبخرة فى زوايا الكنيسة . يسيطر عليه شعور بأنه يفتعل ما يؤديه ، لا يمارس شيئاً حقيقياً . هو يردد أقوالاً ، ويقلد حركات لا يفهمها ، أو لا يثق بجدواها ، وإن انسجمت مشاعره مع ألحان الأرغن .
          عاب على معظم المترددين على الكنيسة أن عبادتهم تقتصر على التمتمة بالألفاظ :
          ـ أنا أذهب إلى الكنيسة ، أصلى ، وأردد الأدعية والأناشيد ، دون أن أعرف لماذا أفعل ذلك ؟!
          وقلب شفته السفلى :
          ـ الله يعرف ما أريده ، فهو لا يحتاج إلى صلواتى وأدعيتى !
          قال لأبيه وهو صغير :
          ـ هل نحن أقباط ؟
          ـ لا .. نحن كاثوليك ..
          ـ ما الفارق ؟
          ـ الأقباط مسيحيون مثلنا .. لكننا نختلف فى المذهب ..
          ـ ماذا يعنى المذهب ؟
          ـ طريقة تدينهم تختلف عن طريقة تديننا ..
          كان يشارك فى أداء القداس دون اعتقاد ، ولا إيمان حقيقى . لم تكن الصلوات تعنى له شيئاً ، أى شىء ، إنما هى مجرد كلمات مكررة ، وأدعية ، ترددها الألسنة ـ بآلية ـ وراء الأب يوحنا . يسلم نفسه إلى الشرود . يبدو عليه الضيق والتململ . يكثر من التلفت وتأمل سقف الكنيسة ، وزواياها ، والنوافذ الزجاجية الملونة ، الضوء الشفيف يفترش مساحات أمام المذبح ، وثمة تمثال ليسوع شبه العارى ، مصلوباً ، على رأسه إكليل الشوك ، وفى جنبه الطعنة الدامية . المرتلون يؤدون الصلوات ، ويتلون المزامير والأدعية .
          يستعيد ـ وهو يصلى ـ عبارات كان يرددها وراء الأب فى الكنيسة ، أو استمع إلى أمه وهى تقولها تحت صورة العذراء .
          يرى أن الكنيسة تبسط ظلها على البيت .
          جعلت أمه من البيت فرعاً لكنيسة اللاتين ، تحولت إلى قس يرعى ، وينصح ، ويوجه ، ويحذر من العقاب ، تحاول أن تؤدى الدور نفسه الذى يؤديه قس الكنيسة .
          لا يعبأ بالتحذيرات التى توجهها له الأم ، فى سلوكياته داخل الكنيسة . يبدى الملاحظات ، ويتحدث ، ويعلو صوته . ربما رنت نظراته إلى فتاة بين المصلين .
          هو يتردد على الكنيسة ، يعترف ، يحضر الصلوات . لكن الصدق يغيب عن مشاعره ، تصرفاته لا تصدر عنه . يصلى دون أن يعطى الكلمات انتباهه ، مجرد كلمات يرددها دون أن يعى معانيها .
          يميل ـ بالعادة ـ إلى حجرة الأب فى يسار الواجهة . الصليب يعلو الجدار ، وتمثال العذراء تحمل المسيح . يقبل يده ، ويستمع إلى كلماته المتكررة عن مهمة الكنيسة ، واللاهوت ، وحثه له على حضور اجتماعات الصلاة وحفلات القداس ..
          قالت السيدة كاترين :
          ـ إذا كنت تنكر الله ، فاحتفظ بعدم إيمانك فى نفسك !
          يؤمن بالمسيحية ، بالآب والابن والروح القدس ، لكنه لا يؤمن بالكنيسة ، تعاليم الكنيسة التى لا تنتهى تجعل قبولها صعباً ، حتى من يرضخون ، يدفعهم إلى القبول تديّن يهمل الوصايا والتنبيهات والمحاذير .
          ماذا يريد الله منا ؟ هل نعبده ؟ وما حاجته إلى عبادتنا ؟ أليس هو الذى خلق الكون ، ويتصرف بالحياة والموت ؟ وإذا كنا ـ كما يقول الأب يوحنا ـ أبناء الله ، فهل يؤذى الأب أبناءه الخاطئين ؟ وما الخير ؟ وما الشر ؟ ولماذا لا تقضى إرادة الله بمحو الشر ؟
          ألقى نظرة على الكرسى الذى يجلس وراءه الأب لسماع اعترافات المترددين على الكنيسة . استعاد أمنية قديمة أن يجلس موضع الأب ، ينصت إلى عشرات الحكايات التى تلهب خياله .
          قال الأب يوحنا :
          ـ ذكر فى الكتاب المقدس : من لطمك على خدك الأيمن ، فحول له الأيسر ..
          قال جان :
          ـ هذا ما يقوله الإنجيل ..
          أردف من بين أسنانه :
          ـ أما أنا .. من يخدشنى أسيّح دمه !

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #6
            ـ 6 ـ

            أدركت ـ حين مالت على أمها لتقبلها ـ أنها لم تتعرف إليها . ومضت عيناها ببريق خاطف ، ثم أسبلت جفنيها ، وظلت صامتة ..
            قالت :
            ـ أنا سيلفى ..
            قال أنطوان :
            ـ اتركيها الآن .. إنها لا تعى شيئاً ..
            تمتمت دومينيك :
            ـ باسم الصليب حولك .. باسم الصليب ..
            تضايقها عبارات المواساة التى يتحدث بها الطبيب عن أمها . لا كلام عن أمل الشفاء ، والعودة إلى مألوف حياتها ، مألوف حياتهم . تجلس فى الصالة ، أو فى حجرتها . تلاحق دومينيك بمطالبها . لم تعد تجد فى الأمر ما يؤلمها ، أو يثير ضيقها . تدعو أن تترك السرير ، تقف على قدميها ، تجلس ، تمشى ، تتكلم ، تتمنى حتى الأوامر التى طالما ضاقت بها .
            فطن الطبيب إلى أن الأم تعيش لحظاتها الأخيرة ، وأن الحشرجة تصدر أنفاساً واهنة تغالب الصمت . رفع الطبيب عينين تشيان باليأس . عرفوا أن الأم تحتضر . لم يحدد الطبيب المرض ، وإن همس وهو يغلق حقيبة أدوات الكشف :
            ـ الحالة متقدمة !
            ومال على أذن أنطوان :
            ـ ادعوا لها ألا تتعذب أكثر مما عانت .
            أضمر أنطوان مصارحة الطبيب له ، بأن ما تعانيه الأم هو مرض الموت :
            ـ الأدوية لتخفيف الألم ، لكنها لن تمنع النهاية .
            أدرك أنها لن تترك سريرها حتى يمنحها الأب يوحنا مسحة الموت .
            كان يعد لها الفطور ، يرتب الوسادة الطبية تحت ظهرها ، يحيطها بوسائد من القطن ، وعجلات من المطاط ، كى لا تصاب بقرح الفراش ، يساعدها فى الجلوس على القصرية ، يضع الملاءات المتسخة فى الغسالة . يتحمل غضبها وشراستها . تظهر التأثر لأقل سبب . تطلب رفع الوسادة ، تشكو الحر ، ترفض الماء البارد والساخن . تصرخ من تآكل ظهرها بالهرش . يثيرها الصمت والأصوات العالية .
            نال منها الضعف . تجد صعوبة فى الانتقال من السرير إلى الكرسى المقابل . تمضى دقائق تسند ظهرها على الكرسى ، تريحه من عناء النوم ساعات متصلة .
            تتحدث عن شخصيات تلتقى بها ، وأصوات تخاطبها . فاجأتهم بالإيطالية ، خاطبت بها أشخاصاً تراهم وحدها . ذكرت أسماء لا يعرفون أصحابها . يعرفون المفردات ، يصلونها بحيث تؤدى المعنى الذى تقصده ، أو تقترب منه . ما أقلقهم أنها لم تعد تتحدث بالإيطالية منذ سنين بعيدة . أصرت أن تكون اللغة بما يتكلمون به خارج البيت .
            صارت عيناها حفرتين أحاطت بهما هالتا سواد . لم تعد قادرة على الابتلاع . تعلم من الممرضة كيف يغذيها بالمحلول عبر الأنبوب المطاطى .
            إذا طال الصمت والسكون ، مال أنطوان بأذنه ، يتسمع صوت أنفاسها . يرفع رأسه ـ فى اطمئنان ـ ويتنهد .
            فتحت عينيها : طالعتها الوجوه المتسائلة ، والمشفقة ، والحزينة ..
            همست بوصيتها أن تدفن فى ثوب الزفاف .
            تحشرج صوت دومينيك باللهفة :
            ـ اعطها حقنة كورامين .
            كور الطبيب سماعته فى يده :
            ـ أملنا فى رحمة الله !
            بدا على أنطوان اقتناع أنها ستجد فى الموت خلاصاً وراحة ، وأنها تفرح به ، وإن لمح فى نظرتها الثابتة ، الشاحبة ، ما يشى بالخوف أو الفزع ..
            رشم الأب الصليب على رأسها ووجهها وجسدها . كرر كلمات لم يفهمها . ثم كرر الرشم بالصليب ..
            لاحظ ماهر أن زيارات الأب للبيت تلقى حفاوة . ما عدا جان ، فإن أفراد الأسرة يوقرونه ، ويرحبون له ، ويهمسون له بما يعانون .
            تحدثت سيلفى عن الأوقات التى كانت أمها فيها صاحبة الأمر والنهى . قبل أن يقعدها المرض ، لم تكن تأذن لأفراد الأسرة أن يخالفوا رأيها ، ولا أن يبدوا اعتراضاً ، أبوكم يكتفى بالغناء ، ومهمتى أن أقود السفينة .
            تصحب أبناءها إلى الكنيسة ، أو تسبقهم ، أو تلحق بهم ، لا أحد ـ إلا للمرض ـ يتخلف عن قداس الأحد . إذا استغرق الأب فى شروده ، وعلا صوته بالأغنيات ، أدت الصلوات قبل تناول الطعام .
            قرب المسافة بين الكنيسة والبيت ، يدفعها للتردد على الكنيسة مرة ، أو مرتين ، فى اليوم الواحد . تزور الأب فى مكتبه ، تكلمه فى أحوالها الشخصية ، تطلب رأيه فى ظروف الأسرة ، تجد فى كلماته النصيحة والعزاء ، وما يعينها على التصرف . تدعوه ـ فى زياراته للبيت ـ كى يرش الماء المقدس فى الأركان والزوايا ، وعلى الأثاث .
            تبدى حرصها على ما فى الفيلا ، الجدران والحديقة والأثاث والتحف الصغيرة . هى كل ما تبقى من البيت القديم . لن تستطيع الأسرة استعادة ما يتحطم ، أو يتشوه ، أو يضيع .
            منذ فاجأتها الأزمة القلبية ، أسلمت نفسها لرعاية أبنائها ، وعلاج الأطباء . توافق على تأكيداتهم بأن الأزمة عابرة ، تستجيب للملاحظات والأوامر ، تتعاطى الدواء ، تؤمّن ـ ولو بهزة الرأس ـ على الدعوات ، لكن الهاجس فى داخلها أنها تعيش أيامها الأخيرة .
            تنبه ماهر ـ فى لحظات إفاقة الأم ـ إلى أن سيلفى تقلدها فى طريقة كلامها , والمفردات التى تستخدمها ، والضحكة التى لا تعلو عن الهمس .
            قال لسيلفى :
            ـ أخذت من أمك الكثير .
            ـ يقال إنى أقرب فى الشبه إلى أبى .
            أدرك أنها لم تعرف ما يقصده .
            جاء إلى الفيلا فى آخر أيام الأسرة . الأم تموت ، والأب ذاهل عما حوله ، والأبناء يكثرون من الأسئلة ، ويختلفون ..

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #7
              ـ 7 ـ

              دخل الأب يوحنا بردائه الكهنوتى ، وابتسامته المحايدة . كانت سيلفى قد أخبرت ماهر أن الأب سيأتى ـ فى لحظة ما ـ لتقديم المسحة الأخيرة .
              نترت دومينيك من كتفه ورقة شجر يابسة تقاذفها الهواء .
              حاول أنطوان أن يضفى على الحجرة طقس الموت . أسدل ستائر النافذة العريضة المطلة على الحديقة . جلل زواياها بجدائل من القماش الأسود ، ووضع على البوفيه ـ لصق الحائط ـ ست شموع فى شمعدانات فضية ، ووضع فى مواجهة السرير إكليل زهور .
              حرص على أن يعدها بنفسه . ألبسها أحدث فساتينها ، وجرى بالبودرة على وجنتيها ، وعلى فمها بأحمر الشفاه . حتى الحذاء الذى دس فيه قدميها لم تكن قد ارتدته سوى مرة واحدة ، وضمخ جسدها بعطر الورد الذى كانت تفضله . نزع خاتم الزواج من إصبعها . أعطاه للمسيو ميكيل ..
              وضع أنطوان على سقاطة باب الفيلا شريطاً أسود . استبدل بمفرش المائدة ذى الزهور الملونة مفرشاً من البلاستيك . أدار إلى الجدار صورة الأم ..
              رنا ماهر إليها بنظرة متأملة ، فى سكونها الهادئ داخل التابوت . من الخشب الماهوجنى . مبطن بالساتان الأزرق . المقبض من المعدن المذهب .
              لم تفلح المساحيق فى إزالة شحوب الوجه ، وأحاطت الزهور بالرأس ، وتَغَطّى الجسد المسجى بالمخمل .
              تأمل الحانوتى ومعاونه وسائق السيارة . بدت نظراتهم حيادية ، ساكنة ، يؤدون عملاً .
              سارت العربة ذات الأشرطة السوداء على حوافها ، والملائكة الصغيرة ، المجنحة ، المطلية بلون الذهب ، على جانبيها . أبطأ السائق لتتواءم العربة مع خطوات المشيعين . مضت الجنازة فى شارع نصوح الهندى إلى الكنيسة ، بالقرب من تقاطع الشارع مع شارع السلطان سليم . سار وراء النعش عشرة أشخاص : الأخوة الأربعة وعياد وماهر ، ورجال من الجيران .
              بدت سيلفى متغيرة بفستانها الأسود ذى الكمين الطويلين ، ونظارتها الشمسية ، هى أقرب إلى النحافة ، وكومت شعرها أعلى رأسها ، وخلت يدها حتى من ساعة اليد .
              لم يتصور ـ بعد أن أخلى حمل النعش لأنطوان ـ أنه حمل النعش الذى كانت السيدة كاترين راقدة فيه . غمره شعور صعب عليه فهمه .
              ترامى قرع جرس الكنيسة ، ببطء ، وعلى تباعد . خيل إليه أن صوت الجرس يختلف ـ هذه المرة ـ عن المرات الكثيرة ، السابقة ، التى ترامى فيها صوته إلى الفيلا . ما يشبه الأسى يسرى فى الدقات المتباطئة ، تخلّف نهاياتها أنيناً خافتاً ، ممطوطاً ، كأنه البكاء .
              هل هو ما تسمعه أذناه بالفعل ، أم أنه لا يجاوز التوهم ؟
              جلس فى الصف الأول المواجه للمذبح .
              الشمعات الحمراء الثلاث فوق التابوت المغلق ، وأريج البخور يضوع المكان .
              مثل الحضور ثلاثة صفوف قصيرة فى الوسط . ظلت بقية دكك الصالة خالية . وفى المواجهة صف بمساحة المكان من شمامسة صغار ، أولاد وبنات ، يقرءون من الكتاب المقدس ، وتعلو أصواتهم ـ بإشارات من الأب ذى الجسد الممتلئ ، والبشرة البيضاء المشربة بحمرة ـ بالصلوات والتراتيل . يعمق من تأثيرها عزف الأورغن ، وأضواء الشموع ، وتضوع البخور .
              أنصت إلى كلمات الأب التى تتحدث عن انفصال الراحلة عن غربة هذه الحياة إلى فردوس النعيم ، لتبلغ المساكن السعيدة ، وتنسى أحزانها وشقاءها ، ودعوة الأب أن يبلغ الله الراحلة مساكن القديسين ، ويغفر لها جميع خطاياها فى الملكوت السرمدى . وترديده قول بولس الرسول : إذا كان الله معنا ، فمن يكون علينا .
              أنهى الأب كلماته بالقول : آمين .
              ردد ماهر الكلمة مع الحضور .
              قلد الحضور فى ما فعلوه . حرك شفتيه مترنماً بالأنغام التى رددوا كلماتها . وضع علامة الصليب على صدره . ركع مثلهم ، حتى فردوا قاماتهم ، ففرد قامته .
              منذ سنوات بعيدة ، زار الكنيسة ـ مع أمه ـ لحفل زفاف . اجتذبه الجو الكنسى : الملابس الكهنوتية ، أنغام الأورج ، الصلوات المنغمة ، رائحة البخور . التماثيل والأيقونات والتيجان والزجاج الملون . ثمة سحر يتسلل إلى نفسه ، مشاعر غامضة لم يستطع تحديدها .
              عندما علت الأصوات بالتراتيل ، حاول مجاراتها . حرك شفتيه دون أن يتأكد من أنه ينطق الكلمات نفسها .
              قال لأمه :
              ـ أحببت صلوات الكنيسة للطقوس التى تقدم فيها !
              وتهدج صوته بصدق مشاعره :
              ـ وأنا أستمع إلى الأورغن .. تمنيت أن أكون مسيحياً ..
              رمقته أمه بنظرة غاضبة :
              ـ تهذر ؟
              كانت تعيب عليه طبيعته الانفعالية ، ما يخطر فى باله يقوله ، أو يفعله . ربما وجه أقسى الملاحظات فى سهولة وجرأة ، لا يتدبر وقعها فى نفوس الآخرين . تشفق عليه من أنه يعرض نفسه لمشكلات ، يواجه مآزق صعبة .
              قال يحاول استرضاءها :
              ـ مجرد ومضة تلاشت .. نسيت نفسى فى عزف الأورغن والتراتيل ..
              قال القسيس بلهجة مهونة :
              ـ قدرنا أن نموت ، وطبيعى أن يسبق الآباء أبناءهم فى الرحيل ..
              تأمل المعنى . قال :
              ـ أطال الله أعماركم !
              أدى القسيس ـ خمن أنه يقيم فى المقابر ـ بعض الصلوات .
              عمق من الصمت الذى لف الجميع ، صوت احتكاك التابوت بحواف القبر الطينية والحجرية ، وهو يهبط ليستقر فى القاع ..
              بعد أن بلغ النعش قاع التراب ، رش عليه الأب الماء المقدس وهو يردد الأدعية . ألقت دومينيك باقة الورد التى أمسكت بها فوق النعش . ثم بدأ التربى فى إهالة التراب بالجاروف .
              همست الأفواه بالصلوات ، وتحركت الأيدى بعلامة الصليب .
              شعر بالارتباك ، وأنه يجب أن يبدى تأثره بطريقة ما. رسم الحزن على ملامحه ، وجرى على عينيه بظهر يده .
              تبين أنهما مندتان بالدمع .
              استداروا عائدين .
              وهو يغادر المكان ، تطلع ماهر إلى ما كانت الجنازة قد اجتذبته عن رؤيته : مستطيل الرخام حفر فى أعلاه بحروف إيطالية اسم كاترين فرنسيس ، مدى المقابر إلى البنايات البعيدة ، الشواهد الرخامية ، الصلبان ، صور العذراء ، ووليدها ، الملائكة بأجنحتها المحلقة ، أشجار الجازورينا ، مساحات النجيل الأخضر ، أحواض الزهور والصبار على جانبى الممرات المرصوفة بالبلاط . ما لم يكن يعرفه ولا رآه من قبل .

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #8
                ـ 8 ـ

                عرف من ارتجاف رموشه وشفتيه ، وتقلص ملامحه ـ أنه يريد أن يقول شيئاً ، نطقت عيناه بما يحاول مداراته . كانت العصافير فى أشجار الحديقة قد زادت من صياحها ، يشى أن الليل اقترب .
                قال جان :
                ـ صحيح أن أمنا تبرعت بجزء من أموالها للكنيسة ؟
                قال أنطوان :
                ـ هل كانت أمنا تملك شيئاً لتتبرع بجزء منه ؟
                ـ أعرف أنها تملك سندات فى البنك ..
                اكتفى ـ دلالة الموافقة ـ بإيماءة خفيفة من رأسه :
                ـ أنفق منها أبى على علاجها ..
                ـ تعنى أن أبى حصل على رصيد السندات ..
                وهو يومئ ناحية حجرة الأبوين:
                ـ اسأله إن كنت لا تصدق ..
                ـ هل الرجل هنا ؟!.. إنه حى كالميت ..
                ـ لا تخطئ فى أبينا ..
                ـ أنا لا أخطئ فى أحد .. إنما أتهمك أنت .
                ـ حتى الفيلا سأشتريها من أبى بعقد مسجل ..
                بحلق فى دهشة :
                ـ كأنه لا يوجد فى حياتك شيء لم تعمل حسابه .
                وعلا صوته فبدا كالصراخ :
                ـ سيكون عقداً باطلاً ..
                دون أن يجاوز هدوءه :
                ـ من حقك أن تثبت العكس ..
                ـ سافل !
                هز سبابته فى وجهه :
                ـ لا تنس أنى أخوك الأكبر !
                كان المسيو ميكيل ينادى على الأم . يدركون أنه نسى وفاتها . نسى أنها ماتت . يتصور أنها داخل إحدى الغرف .
                لوجهه ملامح مسترخية ، وعينان زرقاوان ساجيتان ، وخدان متهدلان مشربان بحمرة ، ونمش يمتد إلى العنق والكتفين . ينزع ـ بين فترة وأخرى ـ شعرة من شاربه . يتأملها بعفوية ، ثم ينترها بإصبعيه . خمن من اتساع بيجامته ، أن جسده كان ممتلئاً .
                بدا سريع التأثر ، والتشويح بيده دلالة الاستياء ، أو الغضب .
                فسرت دومينيك شرود نظراته بتذكره لمواقف من حياة أمها داخل البيت ، صداها الغرف والجدران وقطع الأثاث واستعادة اللحظات .
                قلت أغنياته ، وخفت صوته ، ربما قطع اللحن ، وعاد إلى الصمت والشرود . يشك ماهر أنه يلحظ وجوده .
                فى لحظات تنبه وعيه يتحدث إلى ماهر . يستعيد ماضى الزيتون عندما كانت ضاحية تقتصر بناياتها على الفيلات والبيوت التى لا تعلو عن طابقين ..
                سأله ماهر :
                ـ هل رأيت سراى البرنسيسة ؟
                حرك رأسه بالنفى ..
                قالت سيلفى :
                ـ تحولت إلى مدرسة للبريد ..
                قال المسيو ميكيل :
                ـ كان أهلها من الطبقة العليا .. سوبر ستارز .. خصصت البرنسيسة لخيلهم سبيلاً فى سور قصرها ..
                عرف أن المسيو ميكيل ـ منذ خرج إلى المعاش ـ لم يعد يترك البيت إلا لتسلم المعاش الشهرى . يصحبه أنطوان فى تاكسى إلى الموسكى . ينتظر تقاضيه مبلغ المعاش ، ويعيده إلى البيت ، لا حياة اجتماعية على أى نحو . معظم وقته يمضيه فى الشرفة ، يعبر من حوله بنظراته ، كأنه لا يرى أحداً ، أو أنه مشدود إلى ما لا يراه أحد . يرتفع صوته بالأغنيات الأوبرالية . قد يتجه ـ بخطوات متباطئة ـ إلى المطبخ ، يشرب ، أو يأكل مما يجده فى الثلاجة .
                تصور ـ أيام معرفته الأولى بالأسرة ـ أن أمور البيت كانت فى يد الأم ، هى التى تفصل ، وتقرر ، وتسيطر ، وتفرض روحاً استبدادية .
                لم يكن المسيو ميكيل ضعيف الشخصية أمام آراء السيدة كاترين وتصرفاتها . كان أميل إلى التسامح ، وإلى ملاحظة الحياة أكثر من أن يعنى بالمشاركة فيها . جزيرته الخاصة يحيطها ، ويملأها ، بالأغنيات الأوبرالية . يراجع واجبات سيلفى المدرسية . يناقشها فى أجوبتها . ويعيب عليها رداءة خطها بالفرنسية . يجلس إلى مائدة الطعام فى المواعيد التى تحددها الأم ، لا يشارك فى المناقشات ، يكتفى بإيماءة ، أو بكلمات مقتضبة ، فى الرد على الأسئلة . أحيل إلى المعاش ، فهو يعيش رحلة ما قبل النهاية ، مرحلة انتظار ما يغيب بحياته .
                أصر على رفض اعتزام الأم وضع سلك شائك حول سور الفيلا : هل قفز الجيران على بيتنا من قبل ؟ لماذا يقفزون الآن ؟
                قال ماهر لسيلفى :
                ـ أنطوان وجان هما سليم الأول وطومانباى فى التاريخ . شنق الأول الثانى ، لأنه رفض التنازل !
                ثم وهو يظهر الحيرة :
                ـ أخشى أن ذلك ما سيحدث بين الأخوين .
                تأملته عيناها بارتياب :
                ـ ماذا تقول ؟.. أنطوان يقتل جان ؟!
                رسم ابتسامة مهونة :
                ـ لا أقصد القتل بهذا المعنى . أقصد أنه ربما أخذ منه كل شئ ..
                لم يشعر تجاه أنطوان ـ منذ زيارته الأولى إلى البيت ـ بمشاعر طيبة .
                تسرب إلى صوتها نبرة حزن :
                ـ أنطوان أخذ كل شئ بالفعل .. الفيلا ومجوهرات أمى وودائع أبى فى البنك .. كل شيئ !
                ـ هل تكتفون بالفرجة ؟
                قالت فى حزنها :
                ـ أمى ماتت .. وأبى فى دنياه يغنى .
                وجد فى تصرفات أنطوان ما يفسر إصرار سيلفى على التمرد ، ما يرد على إلحاح السؤال : لماذا ترفض ؟!
                تعددت زياراته إلى البيت .
                يهبط من الأوتوبيس على ناصية شارع السلطان سليم الأول . يميل من جانب سراى الطاهرة إلى الشارع . يخلّف وراءه المسلة الفرعونية وسط الحديقة الواسعة . يسير فى الشارع إلى تقاطعه مع شارع نصوح الهندى . يرفع رأسه ـ بعفوية ـ إلى برج الكنيسة الذى يمتد ظله ، وظل الأشجار الكثيفة داخل الحديقة ، على الطريق ، ويتقلص ، بارتفاع أوقات النهار . يميل فى شارع نصوح الهندى ، حتى الفيلا ـ فى نهاية الشارع ـ محاطة بالسور الحديدى والأغصان والأشجار العالية .
                يخوض ـ مع المسيو ميكيل ـ حوارات لا تنتهى عن معنى الحياة والموت : إذا كان قدرنا أن نموت ، فلابد أن نموت .. الموت يعنى أننا لم نعد أحياء ، هذا كل ما فى الأمر .. إذا جاء الموت فإن كلمة كان تجعل كل الأسماء والأحداث ذكرى ، تصبح ماضياً .. نحن نعيش تحت الضوء أعواماً محدودة ، ونعيش فى الظلام إلى الأبد ..
                يهمل نظرة يثبتها الأب فى عينيه ، يظل يتابعه بها .
                اختفى عمره الحقيقى خلف ملامحه الهادئة ، وعينيه الصافيتين ، وغزارة شعر رأسه ، وذقنه التى يحرص ـ كل صباح ـ على حلاقتها . قالت سيلفى إنه فى المعاش منذ سنتين ، وكان قد جاوز الخامسة والسبعين .
                لم يسأله المسيو ميكيل : من أنت ؟ ولا لماذا أنت هنا ؟ وما صلتك بسيلفى ؟
                يتحدث إليه كأنهما متجاوران فى القطار ، أو فى المقهى ، العلاقة العابرة التى لا صلة لها بما قبل ، ولا بعد ، تستغرق اللحظات فى ذاتها ، وتنتهى .
                لاحظ فى نفسه ميلاً للحديث عن لقاءاته بكبار المؤلفين ، راتبه المرتفع ، ظروفه الأسرية الطيبة . أرجع إلحاحه على الحكى إلى شخصية أنطوان المتعالية ، لا يشغله أن الفجوة تتسع بينه وبين الباقين .
                حين سأل أنطوان سيلفى عن تعرفها إلى ماهر : أين بدأ ؟ وكيف ؟ ظلت ساهمة .
                قال أنطوان فى لهجة ساخرة :
                ـ قد أكون رأيته يبيع الكتب القديمة على رصيف جامع العزيز بالله !
                واجهته سيلفى بملامح غاضبة :
                ـ ماهر يحمل شهادة جامعية لم يحصل عليها أحد فى بيتنا !
                اطمأن إلى إحساسه بأن أهل الفيلا ـ حتى عياد ـ لن يكونوا أصدقاءه ، لن يجلس إليهم ، ولا يناقشهم فى أمر ما . بدوا منشغلين عنه بما لا يتبينه . حتى علاقاتهم الشخصية تحوطها الظلال بغلبة العزلة والصمت . كل منهم مشغول عن الباقين .
                قال المسيو ميكيل لدومينيك وهى تتهيأ للذهاب إلى الكنيسة :
                ـ الله يريد منا أن نتذكره كل الأيام ، وليس يوم الأحد وحده !
                قال ماهر :
                ـ تتكلم عن الحياة الآخرة ، ولا تتحدث عن الدين ؟
                قال المسيو ميكيل :
                ـ ينبغى أن يكون تدينى عن إرادتى الحرة !
                وشاعت فى صوته نبرة تسليم :
                ـ أنا لا أحب الدين ولا أكرهه . إنه حالة علينا أن نتقبلها كما هى .
                ثم رفع رأسه كأنه توصل إلى قرار :
                ـ أحب الله ، وأومن به ، دون طقوس لا معنى لها ..
                وعلا صوته ـ فى اللحظة التالية ـ بغنائه الأوبرالى . لا تشغله النظرات الملتفتة ، أو المتسائلة ، أو الرافضة .
                أدرك أنطوان أن الأب لم يعد من هذا العالم ، يحيا فى عالم خاص صنعه لنفسه .
                لما اشتد المرض على السيدة كاترين ، تداخلت أوقات صحوها بأوقات الغيبوبة ، الألم والأنين والهذيان والهمسات المتحشرجة .
                تكلم المسيو ميكيل بلغة غير مفهومة ، حدس أنطوان أنها الألمانية ، هى لغة الأب التى طالما خاطبه بها فى طفولته ، بقى منها حروف وكلمات وأصداء . رفع الأب يديه فى هيئة المستغيث . تمتم باللغة نفسها . تكررت دعواته المستغيثة ، هى مؤمنة بك ، وأنا أيضاً ، أوقاتنا فى الكنيسة أطول من أوقاتنا فى البيت ، لماذا لا تنقذها ؟
                زاد المرض من قسوته حتى الموت . تبدلت تصرفات المسيو ميكيل وتعبيراته . مال إلى العزلة ، لا يأذن لأحد باختراقها . لم يعد يردد الدعوات ، ولا يعنى باستقبال الأب يوحنا ، ولا يدخل فى حوارات مع ماهر فرغلى ، وإن ظل على ترديده للأغنيات الأوبرالية .
                يقضى فى الشرفة معظم النهار ، ومساحة من الليل ، يعلو صوته بالغناء ، يتأمل ـ بنظرة غير محدقة ـ تكاثف الأشجار أمامه ، وحركة المرور القليلة فى الشارع الصغير الموصل بين نصوح الهندى وسنان ، وما بداخل النوافذ المفتوحة فى البيت المواجه .
                دفع المسيو ميكيل أنطوان وجان للحصول على دبلوم التجارة الثانوية ، ثم ألحقهما بالبنك . أهمل احتجاج الأم وصراخها . إذا كانت الوظيفة هى الهدف ، فقد حصلا على وظيفة يفوق راتبها ما يحصل عليه أصحاب المؤهلات العليا . أهملت الأم حزنها على اكتفاء الأب بقصر تعليم الولدين على المرحلة الثانوية . تمنت أن يواصلا تعليمهما الجامعى .
                أضاف إلى حزنها قعود دومينيك فى البيت ، بعد حصولها على الابتدائية . خافت السيدة كاترين من تأثيرات المرض . ماذا لو أن الغيبوبة أصابتها فى المدرسة ، أو فى الطريق ؟.
                وضعت أملها فى سيلفى ، حرصت أن تستكمل دراستها فى " النوتر دام دى زابوتر " ، وتلتحق بالجامعة ، اسم الكلية لا يهم ، المهم أن تحصل سيلفى على الشهادة العليا . اكتفت بالقول : لن تترك سيلفى التعليم حتى النهاية . لم تحدد طبيعة النهاية ، ما إذا كانت ستكتفى بشهادة الثانوية العامة ، أم تدخل الجامعة ؟
                أظهرت الانزعاج لما أخبرتها الراهبة فى " النوتر دام " عن الأجوبة التى كتبتها سيلفى على فخذها فى امتحان اللغة العربية :
                ـ هل هذا ما تعلمته من جارنا المزور ؟ هل تريدين دخول السجن مثله ؟
                حدثته سيلفى عن جار الطابق الأرضى فى البيت المقابل ، أخ غير شقيق لمطربة وممثلة معروفتين ، خطاط ، يجيد تقليد اللوحات الأصلية ، وإن دخل السجن مرة .
                همس ماهر بالسؤال الذى شغله :
                ـ لما دعوتنى إلى زيارتكم ، هل كنت تعرفين أنى سألتقى بأبيك ؟
                ـ طبعاً .
                ـ ماذا عن قتله بأيدى المصريين ؟!
                شوحت بيدها :
                ـ انس !
                عرف أن الكثير مما روته له سيلفى ـ قبل أن تدعوه لزيارة البيت ـ لم يكن حقيقياً ، وأنها ـ دون أن يدرك السبب ـ كذبت عليه .
                هل أرادت أن تحسن تقديم أسرتها ؟ هل خشيت من فقده ؟ هل كذبت لأن هذه هى شخصيتها ؟ . ليست دميمة فتحاول التعويض بالاختلاق ، واختراع ما ليس صحيحاً .
                لماذا تكذب إذن ؟!

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #9
                  ـ 9 ـ

                  نزلا من الأوتوبيس فى محطة الأسعاف . عبرا الطريق فى اتجاه مبنى الشهر العقارى .
                  اخترقا زحام العرضحالجية والنداءات والشتائم والشهود وباعة الاستمارات والطوابع وكتب القانون .
                  صعدا الدرجات الرخامية فى المبنى ذى الطوابق الثلاثة ، يعلوه ـ متآكل الأطراف ـ العلم المصرى ذى الألوان الثلاثة . فى دائرة تحته نقش للعلم المصرى القديم ذى الهلال . الأعمدة العالية ، والبواكى فى واجهة الطابق الأول ، تفصل بينها وبين البناية طرقة طويلة بامتداد الواجهة ، أرضيتها من البلاط الرمادى المربع ، تطل عليها نوافذ من الحديد والضلف الخشبية .
                  تبعته إلى الصالة الواسعة ، فى المواجهة . اصطفت فى داخلها مكاتب ، انشغل الموظفون وراءها بأوراق ودوسيهات ومناقشات مع المترددين على المكاتب .
                  مال على الموظف الجالس وراء المكتب ، على يسار المدخل :
                  ـ نريد أن نتزوج ..
                  لم يكن قد أعد نفسه لعلاقة زواج ، الصداقة علاقتهما المعلنة ، حتى نظرات أنطوان المتوجسة أهملتها ، وصمتت عن التوضيح .
                  نبهه شيء ما فى نظراتها ، وارتباك تصرفاتها ، وملاحظة النظرات المتسللة ، وميل صوتها إلى الهمس .
                  واربت الباب ، فدفعه مقتحماً :
                  ـ هل تتزوجيننى ؟
                  قال الرجل :
                  ـ ما يمنعكما ؟
                  ـ هى مسيحية وأنا مسلم ..
                  ـ تزوجا بعقد مدنى ..
                  ـ لا أفهم ..
                  ـ عقد لا شأن للمأذون به ..
                  ـ هل هو عقد صحيح ؟
                  هتف الرجل :
                  ـ أنت فى إدارة حكومية ..
                  استطرد وهو يرنو إلى سيلفى بنظرة متسائلة :
                  ـ كم عمرك ؟
                  ـ الحادية والعشرون .. وأشهر ..
                  لحقه صوت الرجل :
                  ـ يحسن أن تحصل على موافقة الكنيسة .
                  ***
                  التقى بها الأب يوحنا فى شارع سليم الأول . ابتسم لارتباكها الواضح :
                  ـ لماذا لا تزورين الكنيسة ؟
                  ـ أتردد عليها أحيانا .
                  وأغمضت عينيها كالمتنبهة :
                  ـ زرتها قبل شهر ..
                  قال الأب :
                  ـ كنت تترددين عليها دائماً ..
                  ورنا إليها بنظرة متوددة :
                  ـ إنها مساوية للبيت فى حياتنا .
                  وربت ظهر كفها بطرف إصبعه :
                  ـ احرصى على صلاة الأحد ..
                  لم تعد تتردد على مكتبه داخل الكنيسة ، أو تجلس للاعتراف . حدّست أن أنطونيو روى له ما يدفعه إلى مجاوزة الإنصات .
                  لو أنه أرهقها بالأسئلة ، ربما اخترعت من خيالها ، وبدّلت ما حدث . هو الأب يوحنا ، وليس أباها ولا أمها ولا إخوتها ، ولا حتى ماهر . خافت أن يؤذيها بما لا تتوقعه .
                  منحتها عيناه إيماءة مشجعة :
                  ـ أنتظرك لتؤدى طقوس الاعتراف ..
                  تغيرت ملامحها :
                  ـ لم أفعل ما يدفعنى إلى الاعتراف !
                  قال أنطوان للأب يوحنا :
                  ـ لا أحد يملك إقناعها ..
                  رسم الأب علامة الصليب على صدره :
                  ـ إن كل ما يحدث هو بمشيئة الرب !
                  قال الأب لسيلفى فى لهجة محرضة :
                  ـ الكنيسة ترحب بك ، ولو لمجرد الزيارة !..
                  وضغط على الكلمات :
                  ـ لا يكون المسيحى كذلك إلا من خلال عضويته فى الكنيسة ..
                  فى دهشة :
                  ـ أصبح راهبة ؟
                  ـ بل تكثرين من التردد عليها
                  ران على صوتها انكسار :
                  ـ أحاول .
                  وهو يهز رأسه فى عدم اقتناع :
                  ـ إذا لم يستخدم الإنسان عضلة ما فلابد أنها ستضعف .
                  وواجه عينيها :
                  ـ أذكرك بالزائدة الدودية !
                  وتقلصت ملامحه بالتأثر :
                  ـ أخشى أنك فقدت روح الصلاة ..

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #10
                    ـ 10 ـ

                    الوقت أصيل . الشمس علت الجدران ، فاكتست المرئيات بالشحوب .
                    الشارع الطويل المترب ، الفاصل بين مبنى الكنيسة والبيوت المقابلة ، يشغى بتلاغط الأصوات والصيحات من الأبواب والنوافذ المفتوحة ، ومن الدكاكين ، ونداءات المقهى ـ أول الشارع ـ وعربات اليد ، والباعة ، والأطفال المشغولين باللعب ، والكلاب ، والقطط .
                    ينتهى إلى باب الكنيسة الخشبى الضخم ، على ضلفتيه ، تكوينات سوداء من الحديد فى هيئة صلبان .
                    غالب التردد قبل أن يضغط الجرس جانب الباب . داخلته رهبة من البناية ذات الأسوار العالية . حاول أن يتصور ما بالداخل ..
                    فتح له شاب يرتدى جلباباً بنياً ، خمن أنه من الرتب الأقل فى داخل الدير ..
                    طالعه مبنى الكنيسة المبنى بالحجارة البيضاء ، فى المسافة بين السور العالى ، الخارجى ، والممر الأسفلتى الذى يحيط بالمبنى .
                    دخل الراهب تسبقه ابتسامته ، ويداه المرحبتان .
                    ـ أنا أبوكم لوقا ..
                    التفت ماهر ـ بتلقائية ـ ناحية سيلفى .
                    شجعته بإيماءة من رأسها ..
                    طمأنه عرضها بأن تظل معه إن أصر أنطوان على رفض السماح لهما بالزواج .
                    أدرك أن عليه ـ عليهما ـ تحدى كل الظروف والتوقعات ، حتى يتزوج سيلفى . تصور أن خطبته لها ـ فى توالى زياراته ـ أقرب إلى البديهية التى جاوزت الأسئلة والأجوبة والمناقشات .
                    فاجأه أنطوان ـ ذات مساء ـ برفضه له ، ولفكرة الزواج [ أبوها مشغول بالغناء ! ] . رفض مجرد المناقشة ، لا مناقشة !
                    ـ إذا أردت أن تتزوجى هذا المسلم فلا تنتظرى منا مليماً .
                    أضاف فى لهجة متحدية :
                    ـ كل ما ستأخذينه حقيبة ثيابك .
                    وربت صدره بأصابع مرتعشة :
                    ـ أبونا مريض .. أنا الآن مكانه ..
                    ملأ الغضب صوتها :
                    ـ مادام أبى حياً ، فلا شأن لك بى !
                    قال الأب لوقا :
                    ـ الزواج الوحيد الذى توافق عليه الكنيسة هو ما يقوم على العقيدة الكاثوليكية ..
                    عرف ما لم يكن يعرفه ، ولا تصور أنه يشغله : الطوائف الكاثوليكية فى مصر سبع : الأقباط ، الروم ، الموارنة ، اللاتين ، الأرمن ، السريان ، الكلدان . تتفق جميعها فى الاعتراف بالرئاسة العليا للبابا فى روما . وحدة الاعتقاد الدينى فى جميع العقائد . وحدة قانون الزواج والإجراءات . وحدة نظام المحاكم الكنسية التى تبت فى مواد الزواج . عدم إجازة الطلاق والاستعاضة عنه بالتفريق الجسمانى .
                    قال الأب لوقا :
                    ـ ثقا من تعاطفى ، لكننى لا أعد بمساعدة ، لا أستطيع أن أفعل ما يوفق مسعاكم .
                    لم تشده إليه ملامح مميزة ، وإن ذكره بالأب يوحنا ، يصغره بأعوام كثيرة ، لكن الرداء المتداخل اللونين ، والجو الكنسى ، والكلمات المتضمنة عبارات دينية ، تستعيد صورة الراهب الذى ميزه فى زياراته إلى بيت المسيو ميكيل ، وإن لم يتبادلا الحوار . حركته دائبة بين مكتبه المطل على الباحة الداخلية للكنيسة ، والمكتبة المتعددة الضلف الزجاجية . ربما فضل الجلوس على مقعد منفرد بالقرب من المكتب والكرسيين المتقابلين أمامه .
                    واتجه إليهما بابتسامة تطلب تصديقهما :
                    ـ ذلك يعتمد على المطران .
                    لاحظ تبادلهما نظرات الحيرة . قال :
                    ـ مقره فى كنيسة البازيليك بمصر الجديدة ، قد يجد حلاً لمشكلتكما .
                    عرفت أن أنطوان كان يقف فى الرصيف المواجه للكنيسة ، هو أنطوان بقامته الطويلة ، النحيلة ، وشعره المنسحب إلى منتصف رأسه ، وصدغيه الغائرين ، وأسنانه المفلوجة ، وعينيه الدائمتى التلفت .
                    هل يراقبها ؟
                    أدارت وجهها إلى الناحية المقابلة . تهبه التصور بأنها لم تره ، أو أنها تتجاهله . لم تشغلها اللحظة التالية ، وما إذا كان سيختار المواجهة ، أم يدفعه فهمه إلى تناسى المشكلة .
                    كان دائم الانتقاد لمظهرها ، وغيابها ـ معظم الأوقات ـ عن البيت ، وتحريض أبيه ، فلا تحصل إلا على مصروف محدد .
                    ضاقت بأن تكون طريقها الوحيدة هى المؤدية إلى المدرسة ، أو إلى حيث يحدد أبوها وسيلة المواصلات إلى مبنى البنك ، تصحبه فى مشاويره وسط البلد .
                    تملكتها الرغبة فى المغامرة ، لا تدرى إلى أين تذهب ، تمضى من نصوح ، تخلف طومانباى وسليم وكنيسة اللاتين ، تركب القطار من محطة الزيتون ، تهبط فى محطته النهائية بكوبرى الليمون ، تخترق تقاطعات ميدان رمسيس ، تسير فى الشوارع التى لم تشاهدها من قبل ، تتعرف على الزحام والبنايات العالية والحدائق ودور السينما والمسارح والمطاعم والكافيتريات والمحال والبوتيكات وباعة الصحف ، وما تقرأ عنه فى " البروجريه " .
                    قاموسه لا تنفد مفرداته من المحاذير والممنوعات . تملأ سمعها ، فتسقطها . تهمل الالتفات إليها ، تصم أذنيها عن السماع ، وتبين ما يفيدها ، وما ترفضه . يثيرها السؤال : أين تذهبين ؟ أو : أين كنت ؟
                    واجهته بعينين غاضبتين :
                    ـ هل أسألك ؟!
                    ـ من حقى أن أعرف .
                    ـ لماذا ليس من حقى ؟
                    ـ ماذا تريدين ؟
                    وهى تدفع خصلة شعر متهدلة على جبهتها :
                    ـ ماذا تريد أنت ؟
                    أزمعت ـ لتسكته ـ أن تعيد إليه ما يوجهه من أسئلة . تضع أمامه حائطاً مسدوداً يصعب عليه اختراقه .
                    لا تخشاه ، ليس ثمة ما تخشاه . كان يهددها بأبيها ، لا أحد يهددها به ، منذ رحل أبوها .
                    ***
                    قالت أمه وهى تضع أطباق الطعام على المائدة :
                    ـ لا نراك إلا عند مجيئك للنوم .
                    وعلا صوتها بالاستنكار :
                    ـ هل ضاقت بك الدنيا فلم تجد بنتاً من دينك ؟!
                    أعادت ملاحظتها بإقدامه على الفعل ، دون أن يتدبر رد الفعل فى التصرفات المقابلة .
                    قال أبوه :
                    ـ لو أن الحب يجمعكما بالفعل .. اقنعها بدخول الإسلام .
                    وعلا صوته بنبرة مشفقة :
                    ـ لا توجد قيود تحول دون تبديل غير المسلمين لدينهم ..
                    ونظر إليه بمعنى أنه يقرأ مخاوفه :
                    ـ المسلمون وحدهم يواجهون حكم الردة !
                    انتزعت أمه بسمة فاترة :
                    ـ أنت تضيع عمرك على زواج ، لن يحدث !

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #11
                      ـ 11 ـ

                      كنيسة البازيليك ذات القباب الهائلة ، المتداخلة ، تتوسط الميدان ، والأبراج المتقابلة ، ومستطيلات الدوائر المصمتة ، ونقوش الصلبان ، والأفاريز المحيطة بالأسطح المتعددة ، والنوافذ الزجاجية الملونة .
                      خمن أنها بنيت فى الخلاء ، ثم أخذت الشوارع والحدائق ـ من حولها ـ شكل الدائرة ، تهب ميدان الأهرام اتساعاً ، بامتدادها ـ من الواجهة ـ إلى سينما الحرية ، وسينما نورماندى ، والكوربة ، وبالميرا ، والأمفتريون ، وملاهى أدهم ، وشركة مصر الجديدة ، وجروبى بشرفته الواسعة المطلة على مبنى الوزارة المركزية ، وشركة مصر الجديدة ، وسينما بالاس ، ونادى سبورتنج ، ومن اليمين ، صف من البنايات ذات النسق الموحد ، تشى الطوابق العالية والأعمدة المنقوشة والأقواس الحجرية والمقرنصات والزخارف والبواكى ببدايات الحى ، وتقاطعات الطريق إلى شارعى دمشق وبيروت ، وشارع السباق ، والميرلاند . فطن إلى مئذنة ـ على ناصية الميدان ـ تلاصقت الأشجار حولها ، أشبه بغابة تفضى إلى شارع بيروت . أدرك أنها لمسجد مما اعتاد وجوده بالقرب من أية كنيسة . من اليسار طريق مترو النزهة ، وكنيسة الموارنة ، والشوارع المتجهة إلى شارعى الثورة والعروبة ، وقصر البارون إمبان بقبابه ، وأبراجه المخروطية ، وامتزاج عمارته والتماثيل الصغيرة ـ فى الواجهة ، وعلى الجانبين ـ بين النسقين الهندى والمغولى . من الخلف مستوصف الدليفراند ، على ناصية شارع هارون الرشيد ، يستعيد فيه زحام شارع السد ، الدكاكين والأسواق والمقاهى والسيارات وعربات الكارو والحنطور واليد والباعة الجائلين والتندات واللافتات وامتداد المفارق ، حتى المدرسة الإنجليزية .
                      وهو يشير إلى الأبراج والقباب المتلاصقة :
                      ـ بناية كبيرة .
                      ومضت شفتاها ببسمة اعتزاز :
                      ـ أنا كاثوليكية ، تابعة للفاتيكان ، فى هذه الكنيسة يقيم مندوب البابا ..
                      الدرجات الرخامية تصعد إلى الباب الخشبى الضخم ، يفضى إلى قاعة رخامية ، على جانبيها أعمدة تعلو إلى السقف العالى ، وحجرات مواربة ، أو مغلقة . تمازج الهدوء والسكينة والرائحة الذكية الغائبة المصدر .
                      وقع أقدامهما على الأرضية الرخام يعمقه الصمت السادر . تشاغلا ـ ربما للتخلص من الارتباك ـ بالنظر إلى الصور والأيقونات والتماثيل والأثاث القليل المتناثر فى الحجرة الواسعة .
                      تبادلا النظرات فى جلستهما ـ متقاربين ـ على الكرسى المواجه للباب المفتوح . خمن أن الحجرة لاستقبال الزوار . تناثر فى أركانها مقاعد خشبية أشبه بما صف فى قاعة الصلاة بكنيسة الزيتون . الزجاج الملون الشفاف يعكس ضوء النهار . الجدران خالية ، إلا من رسم كبير ملون ـ وسط المكان ـ للسيد المسيح فى وقفة دعاء . وثمة نجفة لا تتسق بساطتها مع فخامة المكان .
                      النحنحة المترامية من خارج الحجرة ، دفعتهما إلى الوقوف بتلقائية . القامة الطويلة ، والنظرة المتجهمة ، والملامح الساكنة ، حركت فى داخله إحساساً بعدم الارتياح ، ولعله شعور بالكراهية . أعرف إنك لن توافق ، لكن الظروف أجبرتنى على الوقوف أمامك ، ولابد أن أنتزع موافقتك .
                      تكلم ماهر فى ما قدما لأجله .
                      استنكر ـ فى داخله ـ ما لجأ إليه من عبارات قد لا ترضى المطران ، أو تضايقه ، أفضّل السير فى الطريق المضيئة ، ليتك تعاملنا كما يعامل الأب أبناءه ، تعاهدنا على أن يحترم كل منا ديانة الآخر ، وعبارات أخرى كثيرة أملاها الارتباك ، لم يعدّها ، ولا تدبر وقعها فى نفس الرجل الذى واجهه بعينين ملتمعتين ، ساكنتين .
                      اتجه المطران بنظرته إلى سيلفى :
                      ـ أنت مسيحية .. وضع الله هذا الشاب فى طريقك لاختبار مدى إيمانك ..
                      وجد فى انكسار عينيها ما شجعه ، فاستطرد :
                      ـ عليك أن تثبتى قوة هذا الإيمان ..
                      كانت لهجة المطران هادئة ، لكن النبرات بدت متوعدة ، كأنها تتعمد بث الخوف فى نفسها . آلمته الجرأة التى تصرفت بها الفتاة . خالفت دينها وأسرتها ، وفرت مع شاب لا تعرف أصله ، لتتزوج منه
                      قال إن ما حدث هو غواية من الشيطان ، كى تتحدى سيلفى إرادة الله . هددها بأنه لن يكون لها مكان فى الكنيسة الكاثوليكية .
                      واكتست نبراته صرامة :
                      ـ قد تواجهين بهذا القرار متاعب لا نهاية لها .
                      ثم وهو يلوح بسبابته أمام وجهها :
                      ـ لا بد أن تراجعى قرارك .
                      هذا هو الزوج الذى تريده . لا تتصور باباً يغلق عليها مع شخص آخر .
                      قال المطران :
                      ـ إذا تزوجت خارج الكنيسة ، ستواجهين مصيرك بلا أهل ولا كنيسة ..
                      ثم وهو يهز إصبعه فى وجهها :
                      ـ ستواجهين مصيرك بمفردك .
                      لاحظ زمّها شفتيها كمن تهم بالبكاء :
                      ـ ما تنوين فعله يهبط بك إلى مرتبة المومسات ..
                      ضغط ماهر على يدها لتتماسك أمام كلمات المطران القاسية ..
                      أصر على الموافقة ، وتصر على الرفض ، الموافقة حقى ، أما الرفض فلابد أن تبتلعه فى النهاية ، لا شأن للدين ولا الكنيسة ، ولا شأن لك ، بقرار زواجنا .
                      قالت ، وهما يتجهان إلى محطة الأوتوبيس فى الكربة :
                      ـ لماذا لا تتحول إلى المسيحية ؟
                      أشار إلى صدره بعصبية :
                      ـ أنا ؟
                      قالت :
                      ـ لماذا أتحول إلى الإسلام ؟
                      ـ لأنه يوافق على زواج الرجل بالكتابية ، بغير المسلمة .
                      وهى تعبر بيديها :
                      ـ المسيحية لا توافق . المشكلة واضحة !
                      ***
                      واتاه السؤال . ألقاه دون تدبر :
                      ـ الإسلام يوافق على زواج المسلم من الكتابية .. لماذا ترفض الكنيسة ؟
                      لم يكن محسن عبد العاطى ـ زميله فى إدارة النشر ـ يخفى اعتزازه بأنه من حملة كتاب الله ، وكان ماهر يطمئن إلى إلمامه بقضايا الزواج والطلاق والمواريث ، وإن شدد على عدم تفقهه فى المذاهب السنية الأربعة ، ولا مذاهب الإسلام الأخرى .
                      مط محسن عبد العاطى شفته السفلى :
                      ـ اسأل الكنيسة !
                      ـ حصل . قال الأب : كفر !
                      بحلقت عينا محسن فى استغراب :
                      ـ هل كنت تتوقع موافقته ؟!

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #12
                        ـ 12 ـ

                        نزل من المترو فى محطة الأسعاف ..
                        مضى ـ للمرة الأولى ـ ناحية شارع بولاق . مبنى مصلحة الكهرباء والبنايات القديمة والدكاكين المتلاصقة والزحام . مال ـ كما حددت له العنوان ـ من الشارع الجانبى ، قبالة سينما على بابا . مقهى ـ على الناصية ـ تشغل مساحة الطابق الأرضى . امتلأت بالطاولات والدخان والصيحات والنداءات والشتائم . الحارة الضيقة تفصل بينه وبين البيت الذى يقصده ..
                        تحسس طريقه ـ فى ظلمة السلالم الحجرية ـ يلتفت ـ بعفوية ـ إلى الظلمة المتكاثفة . توقفت خطواتها فى الطابق الأول ، وضغطت الجرس ..
                        الخالة إيفون . هى الشقيقة الكبرى لأمها . رآها يوم جنازة السيدة كاترين ، واليومين التاليين .
                        تقترب من الستين ، وإن بدت ـ على امتلائها ـ نشطة ، وخفيفة الحركة ، وتكثر من الكلمات المرحبة ، وتعبيرات الوجه واليدين . الوجه مستدير ، ممتلئ ، والجبهة عالية ، والصدغان متهدلان ، والعينان طيبتان ، لا تخلوان من مكر . لها شارب خفيف فوق شفتيها ، ترتدى فستاناً من الكستور المشجر ، بطول قامتها ، تحيط معصمها بسوار من الخرز الزجاجى ، وتدس قدميها فى شبشب من البلاستيك المتشابك .
                        ما رسمه خياله لم يتفق مع ما شاهده .
                        طرح التساؤل نفسه فى الأختين الأميرتين ، تقيم الصغرى فى فيلا بالزيتون ، والثانية فى بيت قديم ببولاق ؟
                        الردهة الضيقة تفضى ـ على اليسار ـ إلى حجرة صغيرة ، بها كنبة فرشت بسجادة من مزق الأقمشة الملونة ، وكرسيان من خشب الزان ، ومنضدة مستطيلة ، فوقها بوتاجاز مسطح وأوعية . على الجدار المطلى ـ بالجير ـ بلون سماوى ، صورة نصفية كبيرة للعجوز الجالس قرب الشرفة ، ونتيجة انتهى عامها ، فلم تنزع من موضعها . الشرفة الخشبية ، المتشققة ، تطل ـ من الجانب الأيمن ـ على شارع بولاق ، تطأها قدما الخالة إيفون ، فتحدث صريراً .
                        استعادت أيام ما قبل 1956 :
                        ـ لم يعد إلا القلة من الجاليات الأجنبية . لا بأس من أن يعودوا إلى أوطانهم . أنا وعمك لويجى .
                        أشارت إلى زوجها ..
                        استعاد ماهر ملامحه فى الجنازة ، بجسده الممتلئ ، ووجهه المكور ، وأذنيه العريضتين ، وعينيه الخاليتين من الرموش ، والذقن العريضة ، والندبة البنية الداكنة بحجم الترمسة فى خده الأيمن . تتباين التجاعيد فى وجهه مع شعره المصبوغ بالسواد . يرتدى بلوفر من التريكو ، فى هيئة مربعات لونية ، يغلب عليها اللون الأسود .
                        افتر فمه عن أسنان مهشمة ، مصفرة .
                        ووشى صوتها بالتأثر :
                        ـ ولدنا فى القاهرة ، لا نعرف مدينة سواها ، ولا نتصور أننا نبتعد عنها .
                        لاحظ فى صوتها غنة واضحة . إن ابتسمت ضاقت عيناها ، بدتا خطين يعلوهما حاجباها المقوسان .
                        وتطلعت إلى الصورة المعلقة على الجدار :
                        ـ الشجرة الصغيرة يسهل نقلها . إذا كبرت فإن محاولة النقل تميتها .
                        ورف على شفتيها ظل ابتسامة :
                        ـ خمس سنوات بعد الحرب أثبتت صواب ما فعلناه .
                        كانت سيلفى قد حدثته عن الخالة إيفون :
                        ـ روت لى من الحكايات ما يكفى لأن أستعيدها على امتداد العمر . أتصور أنى نسيت ، لكننى ألتقط طرف الخيط ، فلا أصل لنهايته .
                        وهو يغتصب ابتسامة :
                        ـ إيطاليا بلد جمهورى . حدثتنى سيلفى عن أمها الأميرة .
                        قالت الخالة إيفون :
                        ـ نحن إيطاليون بالفعل ..
                        واتته جرأة :
                        ـ لكنها ليست أميرة ..
                        دون أن تجاوز بساطتها :
                        ـ قيام الجمهورية بدل أوضاع العائلات ..
                        وأشاحت بيدها :
                        ـ ذلك زمن قديم ، نحن الآن مواطنتان من مصر .. هى من الزيتون ، وأنا من بولاق ..
                        وربتت صدرها :
                        ـ أنا من بولاق .
                        ثم فى نبرة متأثرة :
                        ـ لا أحد من أبناء أختى يزورنى ، عدا سيلفى !
                        وخنق التأثر صوتها :
                        ـ حتى كاترين ـ أدعو لها بالرحمة ـ كانت سيلفى تنقل عنها السلام .
                        خمن أن سيلفى تعانى ـ فطن إلى تأثرها بما كان لدى الأم ـ ربما ـ من ميول استعراضية ، تستخدم مفردات الأم ، وتحاكى ما كانت تحرص عليه من تصرفات .
                        حدثته عن الاعتزاز الذى كانت تنظر به السيدة كاترين إلى نفسها . هى أعلى فى المكانة الاجتماعية من زوجها . من حقها ، وواجبها ، أن تفرض سيطرتها على البيت ومن فيه ، تتحكم ، وتصدر الأوامر والتحذيرات ، تحدد أوقات الطعام والفراغ والسهر وسماع الأسطوانات . وكانت ترتدى ثياباً أنيقة كما يليق بحفيدة أميرة إيطالية ، وتحرص على ثياب الخروج داخل البيت .
                        يدفعها الشعور بالتفوق إلى إبداء ملاحظات قاسية . يتظاهر المسيو ميكيل بالموافقة ، وإن حرص ألا يترك لها فرصة حقيقية للسيطرة عليه .
                        عرف ـ من تناثر كلمات أنطوان الملمزة ـ أن المسيو ميكيل تعرف ـ بعد إحالته للمعاش ـ إلى بائعة أربعينية ، لحيمة الجسد ، مكحولة العينين ، فى سوق الخضر القريب من الكنيسة . تحدث عن السأم الذى يدفعه للتردد على فرشتها داخل السوق . يضيفان إلى البيع والشراء حكايات تشرق وتغرب ، تتراوح ردود أفعالها بين البسمة والضحكة العالية . يضيفها إلى الكفين والقدمين المخضبة بالحناء ، واهتزاز الثديين إذا تحركت ، أو تكلمت ، وأساور الذهب الملتمعة فى ساعديها ، ومنديل الرأس الأسود الذى عصبت به رأسها ، زينت أطرافه بحواش مطرزة ،
                        فطن أنطوان إلى أن العلاقة جاوزت الحكى لما رأى أباه يغادر ـ ذات مساء ـ بيت البائعة فى عطفة خزام .
                        لزم المسيو ميكيل البيت دون أن يشير إلى ما كان ، ولا إلى بواعث انقطاعه عن البيت . هل رأى أنطوان ، الذى تظاهر بأنه لم يره ؟
                        صادق أبونا امرأة من الشارع ، وها نحن نحاكيه .. صداقة أبينا والمعلمة فتحت الطريق للعلاقات الكاثوليكية الأرثوذكسية الإسلامية .. لو لم تمرض أمنا ، وانشغل أبونا بأمورنا ، بدلاً من الغناء الغبى والصرمحة وراء النسوان ، ما كنت [ ينظر إلى سيلفى ] تركت الدراسة ، وأمضيت وقتك خارج البيت .. هذا الرجل القبطى ، هل كان يتردد على الفيلا لو أن أبى عرف واجباته ؟.. أثق أن سكوت أمنا عن تصرفات زوجها هو الذى سيدخلها الجنة .
                        قال أنطوان :
                        ـ نحن ندفع ثمن الإقامة فى الزيتون .
                        قالت الأم :
                        ـ عندما أقمنا بالفيلا ، كان الحى كله فيلات وقصوراً وحدائق وزراعات ..
                        وأشارت بيدها إلى ما حولها :
                        ـ لم نكن نتصور هذه الأيام !
                        وقالت فى نبرة متصعبة :
                        ـ راح زيتون الحلم الجميل ، وجاء الكابوس الذى لا يرحل !
                        كان الزيتون ـ فى ذاكرة السيدة كاترين ـ حياً للأجانب والأثرياء ، القصور والفيلات والحدائق والشوارع النظيفة . لا تذكر ـ بالتحديد ـ متى تبدل الحال . ربما فى أعوام الحرب العالمية الثانية . انتقلت ـ بعدها ـ إلى الحى أسر من الأحياء المجاورة والبعيدة . علت البنايات ، وافتتحت دكاكين الحرفيين ، وأقيمت أسواق الخضر والفاكهة .
                        لم تكن تخفى استياءها من تغير صورة الحياة فى الزيتون . غاب ما كان يتسم به الحى من هدوء وتجاور للقصور والفيلات والحقول والحدائق . اختفت السواقى فى أطراف الحقول ، وأشجار الموالح والجوافة والموز والبانسيانا والكافور . تحولت الخضرة إلى أراض بور ، ثم بنيت فوقها العمارات والورش والمخازن والأسواق ، تخللتها الشوارع الضيقة والحوارى ، وقدم السكان الجدد بالزحام والضجيج والتلوث ، أعداد بلا حصر ، جاءوا من الأحياء البعيدة والقريبة .
                        ترامت إلى الفيلا ـ فيما يشبه الصدى أو الهمس ـ تلك الصفة المقتضبة : الخواجات . حتى الحرفيون ورواد المقاهى فى شارع سنان كانوا يتهامسون بالصفة ، عند قدوم أفراد الأسرة من ـ وإلى ـ طريق جسر السويس .
                        قالت :
                        ـ سادة الزيتون الآن من لم يكونوا يجرءون على السير فى شوارعه !
                        وأغمض التأثر عينيها :
                        ـ كنت أكره الأشجار لأنها تحجب الرؤية .. الآن أحبها للسبب نفسه !
                        ورافق إغماض العينين تحريك الرأس :
                        ـ لم يعد حولنا ما يغرى بالرؤية !
                        قال جان :
                        ـ أهذا رأيك بعد أن ازدحم ما حولنا بالبنايات ؟
                        ـ إنها ما لا يغرى بالرؤية !
                        لاحظ ماهر غضب الخواجة لويجى لغياب المكرونة عن المائدة . نحن طلاينة ، المكرونة لا تخلو من مائدة الإيطالى !
                        غالب ماهر ارتباكه :
                        ـ ما على المائدة يكفى .
                        ورسم على شفتيه ابتسامة :
                        ـ بصلة المحب خروف .
                        قالت الخالة إيفون :
                        ـ تتركين ديانتك من أجل الزواج ؟
                        قالت سيلفى :
                        ـ ماهر وافق أن أظل على المسيحية .
                        قال ماهر وهما يهبطان درجات الشهر العقارى :
                        ـ الشهر العقارى يصر على موافقة الكنيسة ..
                        قالت :
                        ـ كما ترى .. لن توافق الكنيسة ..
                        ـ والحل ؟
                        ـ ما تريده سأفعله ..
                        غالب تردده :
                        ـ هل تعلنين إسلامك ؟
                        أضاف للذهول فى عينيها :
                        ـ ستظلين مسيحية . إعلان الإسلام للفرار من ضغط أهلك ورفض الكنيسة ..
                        ـ دعنى أفكر ..
                        ـ لسنا متعجلين !
                        حركت رأسها فى ما يشبه اليأس :
                        ـ كل الطرق مسدودة ..
                        قالت الخالة إيفون :
                        ـ هذه الطريق أيضاً ليست صحيحة . نعتنق ديناً لأننا نؤمن به وليس لأنه يجمعنا بمن نحب !
                        ـ ماذا أفعل ؟
                        شعر فى صوت سيلفى بتماوج الحيرة والقلق .
                        قالت الخالة :
                        ـ كما اتفقتما ، فليظل كل منكما على دينه .
                        زفرت فى ضيق :
                        ـ الكنيسة ترفض .
                        ـ لكن القانون يوافق .
                        واتجهت إلي ماهر بنظرة متسائلة :
                        ـ لو أن سيلفى أرادت أن تذهب إلى الكنيسة .. هل توافق ؟
                        وهو يومئ برأسه :
                        ـ هذا شأنها .
                        ـ مسايرة للظروف ؟
                        ـ أظن أنى لست شديد التدين !
                        قالت الخالة إيفون لسيلفى كالمتنبهة :
                        ـ الدراسة .. ألا تنوين استكمالها ؟
                        قالت :
                        ـ لن أكون الوحيدة التى تدرس فى أثناء زواجها ..

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          عضو أساسي
                          • 14-10-2007
                          • 867

                          #13
                          ـ 13 ـ

                          أخذت منه الورقة ، وأعادت قراءتها :
                          " مكتب الإمام الأكبر شيخ الأزهر .
                          بعد حمد الله والصلاة والسلام على خير رسله ، وأفضل خلقه ، محمد صلى الله عليه وسلم . تشهد مشيخة الأزهر أن السيد ............... والذى كان يعتنق قبل اليوم ، الديانة المسيحية ، ومذهبه فيها ........... قد حضر إلينا راغباً فى اعتناق الدين الإسلامى .. "
                          قالت :
                          ـ هل أملأ هذه الورقة ؟
                          ـ قبلها تقرأين الفاتحة وآيات من القرآن ، وتنطقين بالشهادتين .
                          ـ فقط ؟
                          ـ هل تتصورين شيئاً آخر ؟
                          نفضت رأسها بمعنى أنها لا تعرف .
                          عدل الشيخ عباءته على كتفيه ، ورنا إلى سيلفى بنظرة متسائلة :
                          ـ تريدين اعتناق الإسلام ؟
                          أومأت بعينيها ..
                          فاجأها الشيخ ، فاجأهما ، بمؤاخذة بعض طالبى التحول من المسيحية إلى الإسلام . يطلبونه لتيسير الزواج من مسلمين ، أو الطلاق من مسيحيين ..
                          حدجها بنظرة متوجسة :
                          ـ هل تحفظين القرآن ؟
                          هزت رأسها ..
                          ـ هل تحفظين القرآن ؟
                          عاودت هزت رأسها ..
                          ـ كله أو بعضه ؟
                          رنت إلى ماهر بنظرة استغاثة .
                          علمها الفاتحة ، وسوراً قصيرة من جزء عم ، وقلدته فى الوضوء وحركات الصلاة .
                          قال الشيخ ليحرك صمتها :
                          ـ هل أنت جادة فى اعتناق الإسلام ؟
                          ثم وهو يتفرس فى وجهها :
                          ـ هل تعتنقين الإسلام عن رضا ؟
                          ونقل نظرته إلى ماهر :
                          ـ المسلم الحق لا يكره أعزاءه على الإسلام .
                          ونقر على المكتب بطرف القلم فى يده :
                          ـ إذا كان قد اشترط لزواجكما أن تعتنقى الإسلام ، فهذا إكراه .
                          قال ماهر :
                          ـ لم يدفعها أحد .
                          ودون أن يتدبر كلماته :
                          ـ أنا لم أناقشها فى الدين أصلاً ..
                          استطرد موضحاً :
                          ـ لا تشغلنى ديانتها ، وما إذا كانت مسلمة أم مسيحية ..
                          وغالب انفعاله :
                          ـ يشغلنى أن أتزوجها بلا عقبات .
                          نحى الشيخ الأوراق جانباً :
                          ـ إذا اعتنقت الإسلام فلأنها تريد اعتناقه !
                          وهما يغادران دار الإفتاء ، تصاعدت الأسئلة فى نفسها ، وإن ظلت صامتة : هل يكفى الحب للتحول عن الدين الذى نشأنا عليه ونعرفه ، إلى دين آخر لا نعرف عنه ما يدعونا إلى اعتناقه ؟ وهل أحبته بالفعل ، أو أنه الشاب المصادفة فى طريق أزمتها ؟
                          قال :
                          ـ سنعود ، لتعلنى إسلامك .
                          ثم وهو يدارى ارتباكه بابتسامة فاترة :
                          ـ سيصبح من حقنا أن نتزوج على يد مأذون !
                          فاجأته بالقول :
                          ـ هل أتخلى عن الكاثوليكية بالفعل ؟ ..
                          حدق فيها ، كأنه يحاول قراءة عينيها :
                          ـ ماذا تقصدين ؟
                          ـ هل أسلم لأتزوجك !
                          يعجز عن التقاط حقيقة مشاعرها . ابتسامتها الدائمة ، المحايدة ، تخفى المعنى حين تتكلم معه ، أو تظل صامتة .
                          ـ أعرف أنه سيكون مثل إسلام نابليون وهتلر ..
                          أرجع ما قال إلى الانفعال الذى لا ينكره فى نفسه .
                          رفعت عينين متسائلتين :
                          ـ وما شأنى بهما ؟
                          ـ كان إسلامهما لهدف ..
                          وشحب صوته فبدا كالهمس :
                          ـ وإن لم يتحقق !

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            عضو أساسي
                            • 14-10-2007
                            • 867

                            #14
                            ـ 14 ـ

                            حين مات الأب ، بدا كل شىء كأنه إعادة لما عاشوه عند رحيل الأم . كل الخطوات منذ لحظات الوفاة حتى العودة من مدافن مار جرجس . رحل الأب دون معاناة ، شهق بالألم ، وظلت عيناه الزرقاوان المفتوحتان ساكنتين .
                            مد أنطوان يده ، فأغمضهما .
                            عانت الأم حتى بدا موتها متوقعاً ، ربما تمنوا ـ كل واحد بينه وبين نفسه ـ أن تأتى النهاية التى طال توقعها . أجهدهم الإشفاق ، والترقب ، وأوقات الأزمة ، واستدعاء الطبيب ، والأدوية فى مواعيدها ، وعودة الأب يوحنا إلى الكنيسة دون أن يعطيها المسحة الأخيرة .
                            ما كاد ظل الحزن الثابت ـ بعد رحيل الأم ـ يتحرك ، يستعيدون أيامها كمادة للتذكر ، وليس للحزن ، ربما ابتسموا ، أو علت ضحكاتهم ، لتصرف أو لقول .. ما كاد الحزن يشحب ، حتى رحل الأب .
                            عاد الحزن ظلاً ثابتاً ، كما كان .
                            قالت سيلفى :
                            ـ بعد وفاة أمى ، توقعت أن يلحق بها أبى .
                            أردفت فى تأثر واضح :
                            ـ من المستحيل أن يعيش بدونها !
                            تملك الأب فى يوم رحيلها ما يشبه الشرود ، أو الذهول . غنى ، ونادى باسم كاترين ، ورفض طلب أنطوان أن يستبدل ملابسه ، وتابع خروج التابوت من البيت بعينين ساهمتين ، ولم يشارك فى الجنازة . ظل فى البيت بمفرده ، حتى عادوا من المقابر . لم يظهر الاهتمام ، ولا وجه أسئلة من أى نوع .
                            بدا التغير واضحاً فى تصرفات العجوز . ظل على ميله إلى الغناء . يعلو صوته بألحان أوبرالية ، لكنه أطال الصمت ، والانطواء على نفسه . يكتفى بساندوتشات تعدها له دومينيك أو سيلفى ، لا يجلس إلى المائدة . ينتقل بين الشرفة وحجرة النوم . غلب عليه الحزن وبطء الحركة .
                            لم تتصور سيلفى أن البيت يخلو ـ فى بضعة أشهر ـ من أمها وأبيها . بدا المستقبل محملاً بالتوقعات القاسية .
                            قالت سيلفى :
                            ـ يجب أن نؤجل خطبتنا مرة ثانية ..
                            رمقها بارتياب ، خمن أنها تخفى ما لا تبوح به .
                            قالت :
                            ـ قد يكون التأجيل حتى أجد عملاً ، ويتاح لنا العثور على شقة مناسبة .
                            اتجه إليها بالسؤال :
                            ـ كل بحثنا فى الزيتون .. لماذا لا نبحث بالقرب من بيتنا فى المواردى ؟
                            ثم وهو يغالب توتره :
                            ـ متى تزورين أسرتى ؟
                            ـ لن أحتاج إلى دعوة ..
                            ورفعت إصبعها فى وجهه :
                            ـ لأزور أسرتك وليس للبحث عن شقة . يصعب أن أبتعد عن الزيتون .

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              عضو أساسي
                              • 14-10-2007
                              • 867

                              #15
                              ـ 15 ـ

                              تغيرت الجلسة .
                              جلس أنطوان على رأس المائدة ، وأخوته على الجانبين . أعاد أنطوان كلمات الصلاة التى كان يرددها أبوه قبل تناول الطعام " تباركت يا رب ، يا من تعولنا منذ حداثتنا ، وتهبنا خيراتك ، وتهيئ الغذاء للجميع ، لأن أعين الكل تترجاك ، فأنت تعطيهم طعامهم فى حينه ، تفتح يدك فتشبع كل حى رضى ، لك المجد والتسبيح والبركة والشكر على كل ما أعددت لنا من الطعام الموضوع على هذه المائدة المعدة لغذاء أجسادنا ، اجعله شفاء وقوة لحياتنا الجسدية ، امنح خلاصاً ونعمة وبركة وطهراً لكل المتناولين منه ، ارفع عقولنا إليك كل حين ، لطلب طعامنا الروحى غير البائد ، اعطنا أن نعمل للطعام الباقى للحياة الأبدية ، وهب لنا نصيبنا فى الاشتراك فى وليمتك السماوية ، امنحنا خبز البركة وكأس الخلاص ، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح ، انعم علينا بحياة مطمئنة هادئة ، وسعادة فى النفس ، وصحة فى الجسد ، وقداسة فى الروح ، علمنا أن نطلب رضاك فى كل شيء ، حتى إذا أكلنا أو شربنا أو عملنا أى شيء ، نعمله لمجد اسمك القدوس ، لأن لك المجد إلى الأبد ، آمين ".
                              دعا الله أن يبارك أفراد الأسرة ، ويبارك البيت ، ويحفظ على الجميع نعمة الحياة ..
                              فعلوا ما كانوا يفعلونه عندما يصلى أبوهم . أحنوا رءوسهم ، وأخفضوا أعينهم ، ورسموا علامة الصليب ، وحاولوا التأمل .
                              ***
                              قال جان :
                              ـ أنطوان أخذ كل شئ لنفسه .. لم يترك لنا شيئاً ..
                              ثم فى نبرة مفعمة بالأسى :
                              ـ مشكلة أنطوان تصوره أن كل ما فى البيت ملكه الشخصى ، هو الوريث الوحيد حتى من قبل أن يرحل أبى !
                              بدا أن أنطوان لم يعد يعطى حساباً لأى شيء ، لا علاقات أسرية ، ولا أخوة ، ولا حتى قوانين تمنعه من التصرفات الخاطئة ، ما يريده يأخذه ، لا يسأل ولا يناقش ، دائم التوجس ، يرمق ما حوله بعينين متلفتتين .
                              ورفع عينين متحيرتين :
                              ـ كيف نواجه الظروف فى الأيام المقبلة ؟
                              رسم الأب على صدره إشارة الصليب :
                              ـ تذكر قول إنجيل متى : " فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه . يكفى اليوم شرّه " ..
                              ***
                              امتلأت نفسه بالشكوك والمخاوف وعدم الاطمئنان . تحددت ملامح الصورة بما لم تتحدث عنه ، ولا كان يعرفه . الأم إيطالية من نابولى ، والأب نمساوى الأصل ، مصرى الجنسية ، وظل إلى المعاش موظفاً فى فرع بنك باركليز بالموسكى . لم تكن الأم قد ماتت ، وإن كانت تعانى مرض الموت ، ولا قتل المصريون الأب فى بور سعيد . غناؤه الأوبرالى أعلن تقدم صحته ، ورواياتها التالية تحدثت عن عمله فى فرع بنك باركليز بالموسكى حتى أحيل إلى المعاش .
                              لم يعد يدرك أين الصدق وأين الكذب فى كلامها .
                              قال :
                              ـ هل لازلت تذكرين آيات القرآن ؟
                              أدركت ما يعنيه :
                              ـ لا أذكر أى شيء إلا يتمى المفاجئ !
                              تناوشته الأفكار ، واختلطت . لم يعد يشغله شيء محدد ، لا شيء إطلاقاً . تحولت المواقف والرؤى والتصورات إلى ما يشبه التكوينات الشاحبة ، يصعب تبينها .
                              بدت تصرفاتها لغزاً يصعب حله ، اختلطت الحقيقة والخيال ، لا يدرى ـ وهو ينصت لها ـ إن كان ما ترويه قد حدث بالفعل ، أم أنها تخترع حكايات لا أصل لها .
                              لم يتصور أن الملامح البريئة تخفى كل هذه القدرة على الكذب . الكذب يتساقط من شفتيها ، يتناثر مع رذاذ لعابها ، بما يفرض الأسئلة ، أو أنه بصقات تقذف بها دون أن تعى تأثيراتها .
                              يأخذه الذهول من جرأتها على الاختلاق بالكذب ، وما صوره خيالها . الكذب حبل ، غاب طرف بدايته ، ولا تبدو له نهاية . كيف لم يفطن إلى كذبها ، وأنها تروى ما لم تعشه . هى تكذب ، وتكذب ، وتكذب . تروى الكذبة ، توشيها بالأضواء والظلال ، تحورها ، ربما تلغى حكايتها الجديدة حكاياتها السابقة . ترسم البراءة على ملامحها ، ترفع عيناً تطلب تصديقه .
                              لماذا كذبت عليه ؟
                              كتم السؤال فى نفسه .

                              تعليق

                              يعمل...
                              X