عيسو
لا تجزع . دَعْ قلبك يَزدَهِر بالثقة ويطمئن. إنَّهُ كابوس. افتح عينيك
فيزول عنك لحظة تَعِي أنك كنت تحلم .
فيزول عنك لحظة تَعِي أنك كنت تحلم .
أصبح هذا الكابوس رفيق نومي , حتى بِتُّ لا أكاد أغفو حتى يأتيني .
فيُكبلني من رأسي حتى أصابع قدمي. يشل حركتي تماماً وكأني أغوص
داخل حوض من الرمال المُتحركة , فيَنجَذِبُ جسدي نحو قعر لا حَدَّ لهُ .
انطويتُ على عجزي راجيا الخلاص . فتسربلت بالنصيب , حتى ضاق
حالي من حالي .
أقصى ما أتمنّى , هو أن اُحَرِّك إصبعاً أو أن أرمش فِينصرف عني هذا
الزائر ثقيل الظل .
كنت ,ُ وبكل زيارة له أفتح عيني , فأستيقظ . أحمد ربي وأعود ثانية أكمل نومي .
العجيب أن استحواذ هذا الكابوس على مشاعري وأحاسيسي وانجراري
خلفه كالمضبوع . لم يؤثر على حواسي الأخرى . كنت أرى ما يدور حولي
وكأني لست نائما ، لا بل كنت أصرخ مستغيثا بزوجتي ، أمد يدي نحوها
أحاول ايقاظها كي تنتشلني مما أنا به . لكن بلا فائدة .
ساور الشك قلبي ، فولّى اليقين بقدرتي على الحركة . ربما كنت أتخيّل
فقط أنني أمارس شيئا ما . بينما أنا في واقع الأمر أكون متخشِّبا كاللوح .
الحق أقول لكم , أنني مع بداية كل كابوس كنت افزَعْ وأرتعِبْ وبعد هنيهة
أبدأ بالاسترخاء والاطمئنان , لِتيَقُّني أنه سيزول عندما أفتح عيني
وأكتشف أني كنت بحالة حلم ليس إلاّ .
يبدو أن هذه المرَّة تختلف عن سابقاتها , لقد طال سريان مفعول هذا الكابوس .
كأني اسمع صوت آذان الفجر . كأني أرى أشعة الشمس تشق طريقها
مُتجاوزة الأفق .
ربي ألطُفْ بي . نبضي آخِذٌ بالتناقص ورئتاي مُتقلصتان لا تقويان على
استيعاب الهواء أو شفطه. أشعرُ ببرودة بدأت تنخر أطرافي وتنفذ إلى نخاع
عظمي وإلى ما تبَقَّى من دفء داخل ثنايا جسدي .
الحمدُ لله, ها هي زوجتي تتململ. سوف تصحو وتنهرني كي أذهب لعملي.
لقد نَهَرَتني بالفعل . ولكني لا استطيع , ولم أقوى على الاستجابة لندائها .
فهاتفتها بحماس وحرارة قائلاً لها :
ــ هزّيني يا امرأة ، هِزِّيني يا امرأة , هِزِّيني بقُوّة .
رَفَعَتْ الغطاء عن وجهي , وصَرَخَت صراخاً مُرّاً .
فهاتفتها بحماس أشدّ , ثم مستدركا في رجاء :
ــ أنا لست بميت . هِزِّيني يا بسمة, هِزِّيني .
هرع أولادي إلى الغرفة . تسَيَّد الوجوم الموقف . تطلعوا في ذهول
نحوي ونحو أمهم . أعادوا وضع الغطاء فوق رأسي بعد
أن بحلقوا بي . ارتسمت فوق أساريرهم إشارات توحي بحزن شديد ,
فأجهشوا بالبكاء , وربتوا فوق كتف أمهم يقبلونها ويُبعِدونها عنّي إلى
خارج الغرفة .
بدوت كالغريق , لا حول لي ولا قوة . فاجتاحني غضب ثم هتفت :
ــ اللعنة على الغباء , أنا الذي يحتاج أن تُطبطبوا علية وتقبلوه. هيّا افعلوا
قبل فوات الأوان , عللني اصحو وينزاح عني وعنكم هذا الكابوس .
أنا الآن بنظرهم مَيِّتْ , وسوف أدفنُ حياً .
لكن مهلاً , حتماً سيحتاجون إلى شهادة وفاة . عندها سيكتشف الطبيب
أني لستُ ميّتاً , وآمل أن يقوم بما يملك من خبرة بعمل ما يلزم فأصحوا .
قاموا باستدعاء جارنا الدكتور رمزي على عجل .
سرعان ما تقهقرت حماسته في إنعاشي .
طوى سمّاعة الفحص ودسّها داخل حقيبته ثم قال مستسلماً :
ــ رحمة الله عليك يا عيسو . البركة فيكم وشِدّوا حيلكم .
هتفتُ بلا وعي :
ــ افحصني جيداً يا دكتور الغفلة ولا تتمادى بالثقة , قلبي لم يزل ينبض
ويلعن اللحظة التي تَعَرَّفتُ بها عَلَيك .
غادر أخي يعقوب شقته الملاصقة لشقتي وصوات بسمة زوجتي يلاحقه .
واندفع نحوي مقاوما دموعه في كبرياء .
اتجه أكبر أبنائي نحو عمه . همس بأذنه :
ــ أنت الأقرب لأبي يا عمي , من فضلك انزع عنه ملابسه وهيّئهُ ببدله
عرسه كي يُدفن بها , ولا تنسى أن ترش عليه قليلا من عطره المفضل .
مَنْ هذا الذي سيُكفنني ويُلقي بي في القبر ? ألا تعرف يا ولدي أن عمك يعقوب
هو ألد أعدائي ، فكيف بالله تأتمنهُ على جسد أبيك ؟
سامحك ألله يا رفقة . قمت بتدليل يعقوب على حسابي . ألستُ أنا ابنك البكر ؟
لماذا زرعتِ الكره في قلبه فبات حقده عليّ أبديَّا ! أمن أجل أنني أحببت
إبنة عمي إسماعيل الذي تحقدين عليه وعلى زوجته؟ ياه لكيد النساء !
تمَهَّلْ يا رجل , تمَهَّل , ستكسر عظامي. لا, لا, ربطة العنق هذه لا أحبها,
اني أمسح بها نِعالي .
حتى وبهذا الموقف , ترغب في اذلالي يا يعقوب . قادتك أوهام الأم نحو
كرهي ، فسرقتني حيّا ! وها أنت تقذف بي في القبر حيَّاً .
لا بد أن أضع حداً لهذه المهزلة . أنا أعلم أن هذا الكابوس سيتلاشى سريعا
لحظة أفتح عيني .
لا فائدة , لم أزل مُتَيَبِّساً كقطعة جليد داخل ثلاّجة .
واكفهرَّ وجه عيسو حتى بات يحاكى لون بدلة عرسه الزرقاء .
تناهى إلى أذنيه هدير اناشيد مثقلة بالمعاناة :
ــ " وين الملايين , الشعب العربي فين ؟ "
إنه صوت مذياع المقهى المُلاصق للمقبرة . لقد دفنوه وانصرفوا عنهُ .
ــ " وين الملايين , الشعب العربي فين ؟ "
غشيتهُ كآبة ثقيلة . فهل يمتثل ويرضى بما قُسِم ؟
تدفَّقَ الدم في عروقه كسيل جارف وصرخ بعد ان نفذ صبره :
ــ إني قادم .
فَتَحَ عينيه وأخذ نفسا عميقا من أنفه . ها هي ذي الحقيقة تنجلي . اكتشف
أن الكابوس الذي حلَّ عليه لم يكن حلما بل كان واقعاً , وأنه قد دُفِنَ حقيقة .
وها هم المُعَزّون يتسابقون لبيت العزاء يتناولون جسده ويشربون دمه .
حملق في الظلام الدامس , فبدا يطالعه بوجه الموت . لملمَ قواه واندفعَ
منطلقاً من القبر , اخترق خشب التابوت والتراب اللذي فوقهُ . وطارَ كقذيفة
نحو السماء ثم هوى فوق الصليب الذي وضع كشاهدٍ لقبرِه.
جالَ ببصره فإذا بالقبور حوله مُستباحةٌ , والموتى كلٌ عالقٌ فوق صليبه.
صرخ صرخة مدويّة , ونهضْ . فنهضَ معهُ مَن كان مَيّتاً, وساروا خلفهُ
نحو مصدر الصوت الآتي من المقهى .
فيُكبلني من رأسي حتى أصابع قدمي. يشل حركتي تماماً وكأني أغوص
داخل حوض من الرمال المُتحركة , فيَنجَذِبُ جسدي نحو قعر لا حَدَّ لهُ .
انطويتُ على عجزي راجيا الخلاص . فتسربلت بالنصيب , حتى ضاق
حالي من حالي .
أقصى ما أتمنّى , هو أن اُحَرِّك إصبعاً أو أن أرمش فِينصرف عني هذا
الزائر ثقيل الظل .
كنت ,ُ وبكل زيارة له أفتح عيني , فأستيقظ . أحمد ربي وأعود ثانية أكمل نومي .
العجيب أن استحواذ هذا الكابوس على مشاعري وأحاسيسي وانجراري
خلفه كالمضبوع . لم يؤثر على حواسي الأخرى . كنت أرى ما يدور حولي
وكأني لست نائما ، لا بل كنت أصرخ مستغيثا بزوجتي ، أمد يدي نحوها
أحاول ايقاظها كي تنتشلني مما أنا به . لكن بلا فائدة .
ساور الشك قلبي ، فولّى اليقين بقدرتي على الحركة . ربما كنت أتخيّل
فقط أنني أمارس شيئا ما . بينما أنا في واقع الأمر أكون متخشِّبا كاللوح .
الحق أقول لكم , أنني مع بداية كل كابوس كنت افزَعْ وأرتعِبْ وبعد هنيهة
أبدأ بالاسترخاء والاطمئنان , لِتيَقُّني أنه سيزول عندما أفتح عيني
وأكتشف أني كنت بحالة حلم ليس إلاّ .
يبدو أن هذه المرَّة تختلف عن سابقاتها , لقد طال سريان مفعول هذا الكابوس .
كأني اسمع صوت آذان الفجر . كأني أرى أشعة الشمس تشق طريقها
مُتجاوزة الأفق .
ربي ألطُفْ بي . نبضي آخِذٌ بالتناقص ورئتاي مُتقلصتان لا تقويان على
استيعاب الهواء أو شفطه. أشعرُ ببرودة بدأت تنخر أطرافي وتنفذ إلى نخاع
عظمي وإلى ما تبَقَّى من دفء داخل ثنايا جسدي .
الحمدُ لله, ها هي زوجتي تتململ. سوف تصحو وتنهرني كي أذهب لعملي.
لقد نَهَرَتني بالفعل . ولكني لا استطيع , ولم أقوى على الاستجابة لندائها .
فهاتفتها بحماس وحرارة قائلاً لها :
ــ هزّيني يا امرأة ، هِزِّيني يا امرأة , هِزِّيني بقُوّة .
رَفَعَتْ الغطاء عن وجهي , وصَرَخَت صراخاً مُرّاً .
فهاتفتها بحماس أشدّ , ثم مستدركا في رجاء :
ــ أنا لست بميت . هِزِّيني يا بسمة, هِزِّيني .
هرع أولادي إلى الغرفة . تسَيَّد الوجوم الموقف . تطلعوا في ذهول
نحوي ونحو أمهم . أعادوا وضع الغطاء فوق رأسي بعد
أن بحلقوا بي . ارتسمت فوق أساريرهم إشارات توحي بحزن شديد ,
فأجهشوا بالبكاء , وربتوا فوق كتف أمهم يقبلونها ويُبعِدونها عنّي إلى
خارج الغرفة .
بدوت كالغريق , لا حول لي ولا قوة . فاجتاحني غضب ثم هتفت :
ــ اللعنة على الغباء , أنا الذي يحتاج أن تُطبطبوا علية وتقبلوه. هيّا افعلوا
قبل فوات الأوان , عللني اصحو وينزاح عني وعنكم هذا الكابوس .
أنا الآن بنظرهم مَيِّتْ , وسوف أدفنُ حياً .
لكن مهلاً , حتماً سيحتاجون إلى شهادة وفاة . عندها سيكتشف الطبيب
أني لستُ ميّتاً , وآمل أن يقوم بما يملك من خبرة بعمل ما يلزم فأصحوا .
قاموا باستدعاء جارنا الدكتور رمزي على عجل .
سرعان ما تقهقرت حماسته في إنعاشي .
طوى سمّاعة الفحص ودسّها داخل حقيبته ثم قال مستسلماً :
ــ رحمة الله عليك يا عيسو . البركة فيكم وشِدّوا حيلكم .
هتفتُ بلا وعي :
ــ افحصني جيداً يا دكتور الغفلة ولا تتمادى بالثقة , قلبي لم يزل ينبض
ويلعن اللحظة التي تَعَرَّفتُ بها عَلَيك .
غادر أخي يعقوب شقته الملاصقة لشقتي وصوات بسمة زوجتي يلاحقه .
واندفع نحوي مقاوما دموعه في كبرياء .
اتجه أكبر أبنائي نحو عمه . همس بأذنه :
ــ أنت الأقرب لأبي يا عمي , من فضلك انزع عنه ملابسه وهيّئهُ ببدله
عرسه كي يُدفن بها , ولا تنسى أن ترش عليه قليلا من عطره المفضل .
مَنْ هذا الذي سيُكفنني ويُلقي بي في القبر ? ألا تعرف يا ولدي أن عمك يعقوب
هو ألد أعدائي ، فكيف بالله تأتمنهُ على جسد أبيك ؟
سامحك ألله يا رفقة . قمت بتدليل يعقوب على حسابي . ألستُ أنا ابنك البكر ؟
لماذا زرعتِ الكره في قلبه فبات حقده عليّ أبديَّا ! أمن أجل أنني أحببت
إبنة عمي إسماعيل الذي تحقدين عليه وعلى زوجته؟ ياه لكيد النساء !
تمَهَّلْ يا رجل , تمَهَّل , ستكسر عظامي. لا, لا, ربطة العنق هذه لا أحبها,
اني أمسح بها نِعالي .
حتى وبهذا الموقف , ترغب في اذلالي يا يعقوب . قادتك أوهام الأم نحو
كرهي ، فسرقتني حيّا ! وها أنت تقذف بي في القبر حيَّاً .
لا بد أن أضع حداً لهذه المهزلة . أنا أعلم أن هذا الكابوس سيتلاشى سريعا
لحظة أفتح عيني .
لا فائدة , لم أزل مُتَيَبِّساً كقطعة جليد داخل ثلاّجة .
واكفهرَّ وجه عيسو حتى بات يحاكى لون بدلة عرسه الزرقاء .
تناهى إلى أذنيه هدير اناشيد مثقلة بالمعاناة :
ــ " وين الملايين , الشعب العربي فين ؟ "
إنه صوت مذياع المقهى المُلاصق للمقبرة . لقد دفنوه وانصرفوا عنهُ .
ــ " وين الملايين , الشعب العربي فين ؟ "
غشيتهُ كآبة ثقيلة . فهل يمتثل ويرضى بما قُسِم ؟
تدفَّقَ الدم في عروقه كسيل جارف وصرخ بعد ان نفذ صبره :
ــ إني قادم .
فَتَحَ عينيه وأخذ نفسا عميقا من أنفه . ها هي ذي الحقيقة تنجلي . اكتشف
أن الكابوس الذي حلَّ عليه لم يكن حلما بل كان واقعاً , وأنه قد دُفِنَ حقيقة .
وها هم المُعَزّون يتسابقون لبيت العزاء يتناولون جسده ويشربون دمه .
حملق في الظلام الدامس , فبدا يطالعه بوجه الموت . لملمَ قواه واندفعَ
منطلقاً من القبر , اخترق خشب التابوت والتراب اللذي فوقهُ . وطارَ كقذيفة
نحو السماء ثم هوى فوق الصليب الذي وضع كشاهدٍ لقبرِه.
جالَ ببصره فإذا بالقبور حوله مُستباحةٌ , والموتى كلٌ عالقٌ فوق صليبه.
صرخ صرخة مدويّة , ونهضْ . فنهضَ معهُ مَن كان مَيّتاً, وساروا خلفهُ
نحو مصدر الصوت الآتي من المقهى .
تعليق