الجزء 1
كان في العمل, يجلس على مكتب صغير تكدّست عليه طوابق من الدفاتر...
كل ليلة يعزم ان ينهيها و يتمّ ما بها من اعمال و كل يوم يقول غدا...
طوال ساعات جلوسه و عمله ما فارقت عيناه الساعة المعلقة على جدار يقابله..هو يعلم أنّ هذه الساعة متاخّرة عن الزمن بعشر دقائق كاملة, كان مديره عدّلها حسب زمنه هوّ و مع ذلك فهو يكمل عمله حسب الزّمن الذي عدّله هو لنفسه...
لم يبق الكثير فقد حانت النصف ساعة الاخيرة اذا عليه الاستعداد لمغادرة المكتب...
نزل السلّم ببطئ شديد و كأنّه لازال مواصلا للعمل..
خرج ينظر يمنة و يسرة ثمّ قطع الطريق متّجها الى محطّة الحافلات فقد تعوّد على هذا المكان و تعوّد المكان عليه منذ زمن...
استقلّ الحافلة الحاملة للرقم 56...
بادره السائق بالتحيّة قائلا :" سلام سي عمر..بربّي غدوة انشاء الله نبعثلك لبنيّة خرّجلها أوراق الدخل السنوي..."
حرّك راسه معلنا عن القبول و ترنّح الى فناء الحافلة ثمّ رمى بثقله على كرسي اعتاده و كانّه لم يجلس منذ أيام..
أسند رأسه على بلّور الحافلة مغمضا عيناه علّه يظفر بغفوة و لو لحين...
تحركت الحافلة و لم يعد سي عمر يسمع سوى نقاشات تافهة و صياح لبعض تلاميذ حيّه الذي يسكنه الى جانب صفير فرامل الحافلة عند كل منعطف او عند انزال احد الركّاب..و كان تمايل الحافلة كل حين يحرّك راسه و وجهه الملتصق بالبلور في دندنة تزيد من حلاوة غفوته...
أصدرت فرامل الحافلة صفيرا أخر لم يعجب سي عمر...أنّه يعرف هذا الصوت..انّه الصفير الذي ينهي غفوته كل يوم..
فتح عيناه مراقبا النازلين و كأنّه لا يريد أن يفارق كرسيّه ثمّ استند على عمود كان نصب بجانب مكان جلوسه و كأنّي به سبب اختيار سي عمر لهذا المكان..
استند سي عمر معينا لجسمه على الوقوف قائلا " أه..يا جاه ربّي..."
و قصد باب النزول مشيرا بيده الى السائق راسما دائرة في الهواء و كانّه يقول له..غدا..
الجزء 2
نزل سي عمر من الحافلة و أخذته خطواته نحو طريق بيته..خطوات ثقيلة منهكة تحمل ظهرا مقوّسا اعتاد الربط بين الكرسي و المكتب...
اقترب من مكتبة العمّ صالح و هي التي تشغل باله كلّ يوم عندما يسمع الصفير الأخير لفرامل الحافلة فيخشى المروم أمامها..فالعام الدراسي أوشك على نهايته و سي عمر لم يدفع بعد للعم صالح ثمن ما اشتراه من أدوات لأبنائه عند العودة المدرسية لكن العم صالح رجل طيّب و حاج بيت الله الحرام هو يعرف أنّ سي عمر رجل مخلص كما يعرف انّ وضعه المادّي ليس على أحسن حال...
تسارعت خطوات سي عمر دون قصد منه عند مروره أمام المكتبة فساقيه تعوّدا على ذلك الى أن ينعطف يمينا و يختفي حيث شارع بيته..ليس هروبا و إنما حياء و مللا من تكرار كلمة "ما نيش ناسيك يا حاج" كلّما تقابلا...
انعطف يمينا وهو مشغول الذهن يفكّر في حاله التي لم تتغيّر منذ سنين بل منذ أن عرف حاله التي ما انفكّت تزداد سوءا...كان يعترضه طفلا تسوقه درّجة هوائية و هو يصيح " ابعد...ابعد..ابعد ياعمّي..ابعد..." و سي عمر سارح لا يسمع شيئا حتّى اصطدمت به الدرّاجة و سقط هو و الولد و سقطت دفاتره التي كان يحملها معه عازما أن ينهي ما تخلّد بها من اعمال هذه الليلة...
" حلّ عينيك...كي ما تعرفش تسوق اش لزّك.؟.....ولد أشكون انت..؟" صاح سي عمر
نهض الولد و سارع في معالجة ما تبعثر من دفاتر الرجل قائلا :" سامحني أ عمّي و الله لا فاها فرانات و انا نعيّط من بعيد و انت سارح ما سمعتنيش..."
أخذ سي عمر دفاتره و قصد بيته لاعنا حظّه..البيت في الحقيقة ليس بيته و إنما هو مستأجره منذ سنين...
فتح الباب الخارجي فسمع صوت خشنا و مرتفعا...سمع بكاء طفل صغير...
واصل سيره عابرا الحديقة الصغيرة الى قاعة الجلوس...
-"السلام عليكم"..انّه صهره حمّادي جاء من الريف... مسقط راس سي عمر و زوجته زكية ...اتى صهره اذا و معه زوجته فاطمة أو كما يطلق عليها فاطنة و ابنيهما غسّان الصغير ذا السنوات الثلاث...
-" أهلا بنسيبي عمر لعزيز" هكذا اعترضه حمّادي معانقا أياه مكيلا له أربع قبلات حقيقة...
رمى سي عمر الدفاتر على طاولة مقابلة و جلس امام صهره سائلا...
-" أشنيا احولكم غادي.." يسال عن اهل القرية التي فارقها منذ سنة زواجه الاولى...
-"و الله كيما تعرف..زمّة و الامور كابسة شويّة.."
-" الله يفرّج الحال..."
سي حمّادي اعتاد على الحديث بصوت مرتقع و زوجته فاطنة كثيرة الحياء- "بنت ريف"-فهي تبتسم دائما و ان كان الحديث لا يتطلّب ذلك و كانت تلفّ خيطا حول إصبعها ثمّ تفكّه ثمّ تعاود الكرّة مرّات و مرّات طوال حديث زوجها مع سي عمر..
أمّا ابنهما غسّان فكان كثير الحركة و الصياح و الجري بين الغرف واضعا بين ساقيه عصا مكنسة محدثا ضجّة لم يعتادها سكّان المنزل و كان شعره مجعّدا و لون بشرته يميل الى الحمرة الداكنة أو ربّما هي اقرب ان تكون بنّية رسمت على خدوده بعض الخطوط أو الخدوش..كان بدينا يلبس قميصا من الصوف اصغر حجما منه كأنّه لم يغيّره منذ سنته الأولى...
سكت سي عمر برهة ثمّ قال:
-" كي السبّة أخويا طلّيتوا علينا..؟"
-" و الله المرا حشاك مريضة هاني جيبتها لللسبيطار قالوا فمّا طبيب لهنا ضربة ضربة..."
-" أيا ان شاء الله لباس.."
قال سي عمر في نفسه :"هاك كنت ناوي باش تروّح تتمد و ترتّح فخار ربّي و تكمّل شويّة خدمة الليلة...يا اخي الله غالب...مايسالش هانك تمديت على طولك في الشارع فيه الف بركة...."
يتبع....
كان في العمل, يجلس على مكتب صغير تكدّست عليه طوابق من الدفاتر...
كل ليلة يعزم ان ينهيها و يتمّ ما بها من اعمال و كل يوم يقول غدا...
طوال ساعات جلوسه و عمله ما فارقت عيناه الساعة المعلقة على جدار يقابله..هو يعلم أنّ هذه الساعة متاخّرة عن الزمن بعشر دقائق كاملة, كان مديره عدّلها حسب زمنه هوّ و مع ذلك فهو يكمل عمله حسب الزّمن الذي عدّله هو لنفسه...
لم يبق الكثير فقد حانت النصف ساعة الاخيرة اذا عليه الاستعداد لمغادرة المكتب...
نزل السلّم ببطئ شديد و كأنّه لازال مواصلا للعمل..
خرج ينظر يمنة و يسرة ثمّ قطع الطريق متّجها الى محطّة الحافلات فقد تعوّد على هذا المكان و تعوّد المكان عليه منذ زمن...
استقلّ الحافلة الحاملة للرقم 56...
بادره السائق بالتحيّة قائلا :" سلام سي عمر..بربّي غدوة انشاء الله نبعثلك لبنيّة خرّجلها أوراق الدخل السنوي..."
حرّك راسه معلنا عن القبول و ترنّح الى فناء الحافلة ثمّ رمى بثقله على كرسي اعتاده و كانّه لم يجلس منذ أيام..
أسند رأسه على بلّور الحافلة مغمضا عيناه علّه يظفر بغفوة و لو لحين...
تحركت الحافلة و لم يعد سي عمر يسمع سوى نقاشات تافهة و صياح لبعض تلاميذ حيّه الذي يسكنه الى جانب صفير فرامل الحافلة عند كل منعطف او عند انزال احد الركّاب..و كان تمايل الحافلة كل حين يحرّك راسه و وجهه الملتصق بالبلور في دندنة تزيد من حلاوة غفوته...
أصدرت فرامل الحافلة صفيرا أخر لم يعجب سي عمر...أنّه يعرف هذا الصوت..انّه الصفير الذي ينهي غفوته كل يوم..
فتح عيناه مراقبا النازلين و كأنّه لا يريد أن يفارق كرسيّه ثمّ استند على عمود كان نصب بجانب مكان جلوسه و كأنّي به سبب اختيار سي عمر لهذا المكان..
استند سي عمر معينا لجسمه على الوقوف قائلا " أه..يا جاه ربّي..."
و قصد باب النزول مشيرا بيده الى السائق راسما دائرة في الهواء و كانّه يقول له..غدا..
الجزء 2
نزل سي عمر من الحافلة و أخذته خطواته نحو طريق بيته..خطوات ثقيلة منهكة تحمل ظهرا مقوّسا اعتاد الربط بين الكرسي و المكتب...
اقترب من مكتبة العمّ صالح و هي التي تشغل باله كلّ يوم عندما يسمع الصفير الأخير لفرامل الحافلة فيخشى المروم أمامها..فالعام الدراسي أوشك على نهايته و سي عمر لم يدفع بعد للعم صالح ثمن ما اشتراه من أدوات لأبنائه عند العودة المدرسية لكن العم صالح رجل طيّب و حاج بيت الله الحرام هو يعرف أنّ سي عمر رجل مخلص كما يعرف انّ وضعه المادّي ليس على أحسن حال...
تسارعت خطوات سي عمر دون قصد منه عند مروره أمام المكتبة فساقيه تعوّدا على ذلك الى أن ينعطف يمينا و يختفي حيث شارع بيته..ليس هروبا و إنما حياء و مللا من تكرار كلمة "ما نيش ناسيك يا حاج" كلّما تقابلا...
انعطف يمينا وهو مشغول الذهن يفكّر في حاله التي لم تتغيّر منذ سنين بل منذ أن عرف حاله التي ما انفكّت تزداد سوءا...كان يعترضه طفلا تسوقه درّجة هوائية و هو يصيح " ابعد...ابعد..ابعد ياعمّي..ابعد..." و سي عمر سارح لا يسمع شيئا حتّى اصطدمت به الدرّاجة و سقط هو و الولد و سقطت دفاتره التي كان يحملها معه عازما أن ينهي ما تخلّد بها من اعمال هذه الليلة...
" حلّ عينيك...كي ما تعرفش تسوق اش لزّك.؟.....ولد أشكون انت..؟" صاح سي عمر
نهض الولد و سارع في معالجة ما تبعثر من دفاتر الرجل قائلا :" سامحني أ عمّي و الله لا فاها فرانات و انا نعيّط من بعيد و انت سارح ما سمعتنيش..."
أخذ سي عمر دفاتره و قصد بيته لاعنا حظّه..البيت في الحقيقة ليس بيته و إنما هو مستأجره منذ سنين...
فتح الباب الخارجي فسمع صوت خشنا و مرتفعا...سمع بكاء طفل صغير...
واصل سيره عابرا الحديقة الصغيرة الى قاعة الجلوس...
-"السلام عليكم"..انّه صهره حمّادي جاء من الريف... مسقط راس سي عمر و زوجته زكية ...اتى صهره اذا و معه زوجته فاطمة أو كما يطلق عليها فاطنة و ابنيهما غسّان الصغير ذا السنوات الثلاث...
-" أهلا بنسيبي عمر لعزيز" هكذا اعترضه حمّادي معانقا أياه مكيلا له أربع قبلات حقيقة...
رمى سي عمر الدفاتر على طاولة مقابلة و جلس امام صهره سائلا...
-" أشنيا احولكم غادي.." يسال عن اهل القرية التي فارقها منذ سنة زواجه الاولى...
-"و الله كيما تعرف..زمّة و الامور كابسة شويّة.."
-" الله يفرّج الحال..."
سي حمّادي اعتاد على الحديث بصوت مرتقع و زوجته فاطنة كثيرة الحياء- "بنت ريف"-فهي تبتسم دائما و ان كان الحديث لا يتطلّب ذلك و كانت تلفّ خيطا حول إصبعها ثمّ تفكّه ثمّ تعاود الكرّة مرّات و مرّات طوال حديث زوجها مع سي عمر..
أمّا ابنهما غسّان فكان كثير الحركة و الصياح و الجري بين الغرف واضعا بين ساقيه عصا مكنسة محدثا ضجّة لم يعتادها سكّان المنزل و كان شعره مجعّدا و لون بشرته يميل الى الحمرة الداكنة أو ربّما هي اقرب ان تكون بنّية رسمت على خدوده بعض الخطوط أو الخدوش..كان بدينا يلبس قميصا من الصوف اصغر حجما منه كأنّه لم يغيّره منذ سنته الأولى...
سكت سي عمر برهة ثمّ قال:
-" كي السبّة أخويا طلّيتوا علينا..؟"
-" و الله المرا حشاك مريضة هاني جيبتها لللسبيطار قالوا فمّا طبيب لهنا ضربة ضربة..."
-" أيا ان شاء الله لباس.."
قال سي عمر في نفسه :"هاك كنت ناوي باش تروّح تتمد و ترتّح فخار ربّي و تكمّل شويّة خدمة الليلة...يا اخي الله غالب...مايسالش هانك تمديت على طولك في الشارع فيه الف بركة...."
يتبع....
تعليق