المحترف
بلغ عمران الكاشف الخمسين عاما وهو يتنقل بين الجامعات ولم يحصل حتى على رخصة سياقه، وظل طوال هذه السنين بلا وظيفة أو عمل يعيش منه، وكانت زوجته المعلمة تصرف عليه وعلى ابنيهما وعلى سيارتها المسحوقة كانسحاق العاملين في أيام الصيف الحارة ، بعد أن فضلت حياة الذلّ والقسوة على حياة العنوسة الباردة المملة والموحشة، واحترف عمران الكاشف مهنة المشي في شوارع القرية ، صيفا وشتاء، يتنقل من شارع إلى شارع، متدثرا بمعطف من الصوف، طويل، مفتوح من الأمام، يحاول إخفاء جاكتة كانت مرة فاخرة، لكن الأيام لعبت بها وكتبت على حوافها تاريخا مؤلما وطويلا ، وتركت على ياقتها الكاشحة غبار الزمن الأغبر، وليظهر ربطة العنق التي تلفت أنظار الناس بلونها الفاقع، الطويلة التي تصل حزام الجلد الثمين الذي يشدّ خصره المتراخي، وأحيانا كان يلقيها على عنقه دون أن يربطها، تتدلّى على صدره بطرفيها، يلاعبها الهواء كما يلاعب أوراق الأشجار الآيلة إلى التساقط في خريف عمرها، أو لتحتك بحواف الجاكتة المتمردة على المعطف تتحدى الزمن المتغطرس بعزّ لا يولّي ومجد لا يزول.
وعندما بلغ عمران الكاشف السبعين من العمر، فجأة رمى المعطف والجاكتة وربطة العنق واحترف التصوّف، فلبس جبة بدل الجاكتة، وعباءة بدل المعطف، واعتمر عمامة لفتت أنظار الناس بإتقانها وحجمها المميزين، والتحق بجماعة محترفة التعبد، وصار بين الصلاة والصلاة ينتظر الصلاة، وقد تضايقت زوجته منه كثيرا، وعندما فلتت أعصابها ، بعد يوم عمل مضن مع طلاب يرون في المدرسة سجنا وفي المعلمين سجّانين، ولم تعد تستطيع تحمّل تصرفاته الغريبة، عيّرته بأنه لا يساوي شيئا، وأنه في البيت كالصفر على يسار العدد، وأنها نادمة على كل دقيقة من حياتها عاشتها معه في الذل والإهانة والحرمان والبخل العاطفي والمادي ،
وقالت له بكل صراحة وجرأة أنه طالما ظلّ بلا عمل فلن تنفعه بسملة أو صلاة أو عبادة أو جبة أو عباءة، فغضب غضبا المغرورين إذا أهينوا، وأقسم على مسمع من الجيران أنه لن يركب بعد اليوم سيارة تقودها امرأة، وخاصة هي بالذات، ولن يدعها تشاهد التلفزيون في البيت طالما وجد فيه، وحين اشتدّ به الغضب أعدم الحاسوب والإنترنيت وأقفل وشّ الكتاب!!!
وانضم لمجموعة أكثر احترافا للتعبد ،يمشي في مقدّمتها، ويؤمّ بها، ويعظها بمواعظ تشلّ خلايا الدماغ وتوقف نموّها لافتقارها للموعظة الحسنة والمعلومة المفيدة وروح المنطق والفكر السليم، واحترفف مزاولة الأعمال السحرية، انتقاما من زوجته المتعلمة التي كانت دائما تعيّره بفشله،مستعينا بروحانياته المكتسبة، فاشتهر، وتناقل الناس أخباره، وصاروا يقصدونه للاستعانة بقدراته الغريبة ، وكان لا يبخل على أحد بحجاب أو رقوه أو زجاجة ماء قدّسها بقراءة منه، لشفاء مريض او نصرة ضعيف أو إبطال عمل بين متخاصمين، أو حلّ المشاكل النفسيّة أو العاطفية أو العائلية أو العدائية أو الكيدية نسائية بين كنّة وحماتها أو امرأة وضرّتها أوكيدية رجاليّة بين الجيران .
وقد جاءته ،سرّا، شهيره إبراهيم، وهي امرأة في الأربعينيات من عمرها، تشكو زوجها البخيل الذي يمنع عنها العشاء، ويضربها بعنف ، وقد نزعت عنها ثوبها لتريه آثار الجلد، فدمعت عيناه وقال لها لحظة اندماج عاطفي أنها جوهرة، وأن زوجها لا يعرف قيمة الجواهر، وأنها تستحق من هو فضل من زوجها، وتعهد بأن يثأر لها منه، وأنه سيعمل له عملا يوقف قلبه عن النبض ويشل يديه عن الحركة ليتوقف عن إذلال فراشة رقيقة مثلها!
وبعد ثلاثة أشهر ويوم واحد عادت إليه شهيره إبراهيم، علنا، وآثار الحزن تطل من عينيها، إلاّ أنها لم تكن تلبس شيئا من السواد، وعرف منها أن قلب زوجها توقف عن الحركة بينما كان يصلي، وان ذلك بفضل قدراته وعمله وبركاته، وقد جاءت لتقدم له الشكر وأنها على استعداد لأي مكافأة مالية يطلبها، لكنه رفض المال وقال إنه يحلم بما هو أثمن من المال.
فقالت له إنه يستحق فعلا ما هو أثمن من المال، ووعدته بعد أن تخلع كل آثار الحزن ستعود إليه لتجعل الدنيا تضحك بين يديه.
وبعد شهر تفاجأ بأنها هربت مع شاب في العشرينات من عمره، إلى المدينة بعد أن أعطته كل ما تملك، حيث لا أحد يعرفها ولا تعرف أحدا، وأن آثار الجلد كانت بفعل مقصود، وأن زوجها كان معها كريما إلى أبعد حدود الكرم وأرق من نسيم الصباح وأكثر حنانا من شمس الأصيل.
فغضب عمران الكاشف واحتقر نفسه وأحس أنه جرح في كرامته وأنه أهين وخُدع واستُغل استغلالا رخيصا في لعبة لا تخصّه من قريب أو بعيد ، فرمى العباءة والجبّة وعاد إلى ربطة العنق يعلقها على رقبته دون أن يربطها، ويلبس الجاكتة الكاشحة بتاريخها الطويل وغبار الأيام الذي لا زال عالقا على ياقتها المتآكلة، ومعطفه السميك يحاول جاهدا أن يخفي التاريخ القديم والجديد، وصار يلفّ الشوارع وهو يستند على عكاز فاخر بمقبض مزخرف على شكل رأس أفعى...
بلغ عمران الكاشف الخمسين عاما وهو يتنقل بين الجامعات ولم يحصل حتى على رخصة سياقه، وظل طوال هذه السنين بلا وظيفة أو عمل يعيش منه، وكانت زوجته المعلمة تصرف عليه وعلى ابنيهما وعلى سيارتها المسحوقة كانسحاق العاملين في أيام الصيف الحارة ، بعد أن فضلت حياة الذلّ والقسوة على حياة العنوسة الباردة المملة والموحشة، واحترف عمران الكاشف مهنة المشي في شوارع القرية ، صيفا وشتاء، يتنقل من شارع إلى شارع، متدثرا بمعطف من الصوف، طويل، مفتوح من الأمام، يحاول إخفاء جاكتة كانت مرة فاخرة، لكن الأيام لعبت بها وكتبت على حوافها تاريخا مؤلما وطويلا ، وتركت على ياقتها الكاشحة غبار الزمن الأغبر، وليظهر ربطة العنق التي تلفت أنظار الناس بلونها الفاقع، الطويلة التي تصل حزام الجلد الثمين الذي يشدّ خصره المتراخي، وأحيانا كان يلقيها على عنقه دون أن يربطها، تتدلّى على صدره بطرفيها، يلاعبها الهواء كما يلاعب أوراق الأشجار الآيلة إلى التساقط في خريف عمرها، أو لتحتك بحواف الجاكتة المتمردة على المعطف تتحدى الزمن المتغطرس بعزّ لا يولّي ومجد لا يزول.
وعندما بلغ عمران الكاشف السبعين من العمر، فجأة رمى المعطف والجاكتة وربطة العنق واحترف التصوّف، فلبس جبة بدل الجاكتة، وعباءة بدل المعطف، واعتمر عمامة لفتت أنظار الناس بإتقانها وحجمها المميزين، والتحق بجماعة محترفة التعبد، وصار بين الصلاة والصلاة ينتظر الصلاة، وقد تضايقت زوجته منه كثيرا، وعندما فلتت أعصابها ، بعد يوم عمل مضن مع طلاب يرون في المدرسة سجنا وفي المعلمين سجّانين، ولم تعد تستطيع تحمّل تصرفاته الغريبة، عيّرته بأنه لا يساوي شيئا، وأنه في البيت كالصفر على يسار العدد، وأنها نادمة على كل دقيقة من حياتها عاشتها معه في الذل والإهانة والحرمان والبخل العاطفي والمادي ،
وقالت له بكل صراحة وجرأة أنه طالما ظلّ بلا عمل فلن تنفعه بسملة أو صلاة أو عبادة أو جبة أو عباءة، فغضب غضبا المغرورين إذا أهينوا، وأقسم على مسمع من الجيران أنه لن يركب بعد اليوم سيارة تقودها امرأة، وخاصة هي بالذات، ولن يدعها تشاهد التلفزيون في البيت طالما وجد فيه، وحين اشتدّ به الغضب أعدم الحاسوب والإنترنيت وأقفل وشّ الكتاب!!!
وانضم لمجموعة أكثر احترافا للتعبد ،يمشي في مقدّمتها، ويؤمّ بها، ويعظها بمواعظ تشلّ خلايا الدماغ وتوقف نموّها لافتقارها للموعظة الحسنة والمعلومة المفيدة وروح المنطق والفكر السليم، واحترفف مزاولة الأعمال السحرية، انتقاما من زوجته المتعلمة التي كانت دائما تعيّره بفشله،مستعينا بروحانياته المكتسبة، فاشتهر، وتناقل الناس أخباره، وصاروا يقصدونه للاستعانة بقدراته الغريبة ، وكان لا يبخل على أحد بحجاب أو رقوه أو زجاجة ماء قدّسها بقراءة منه، لشفاء مريض او نصرة ضعيف أو إبطال عمل بين متخاصمين، أو حلّ المشاكل النفسيّة أو العاطفية أو العائلية أو العدائية أو الكيدية نسائية بين كنّة وحماتها أو امرأة وضرّتها أوكيدية رجاليّة بين الجيران .
وقد جاءته ،سرّا، شهيره إبراهيم، وهي امرأة في الأربعينيات من عمرها، تشكو زوجها البخيل الذي يمنع عنها العشاء، ويضربها بعنف ، وقد نزعت عنها ثوبها لتريه آثار الجلد، فدمعت عيناه وقال لها لحظة اندماج عاطفي أنها جوهرة، وأن زوجها لا يعرف قيمة الجواهر، وأنها تستحق من هو فضل من زوجها، وتعهد بأن يثأر لها منه، وأنه سيعمل له عملا يوقف قلبه عن النبض ويشل يديه عن الحركة ليتوقف عن إذلال فراشة رقيقة مثلها!
وبعد ثلاثة أشهر ويوم واحد عادت إليه شهيره إبراهيم، علنا، وآثار الحزن تطل من عينيها، إلاّ أنها لم تكن تلبس شيئا من السواد، وعرف منها أن قلب زوجها توقف عن الحركة بينما كان يصلي، وان ذلك بفضل قدراته وعمله وبركاته، وقد جاءت لتقدم له الشكر وأنها على استعداد لأي مكافأة مالية يطلبها، لكنه رفض المال وقال إنه يحلم بما هو أثمن من المال.
فقالت له إنه يستحق فعلا ما هو أثمن من المال، ووعدته بعد أن تخلع كل آثار الحزن ستعود إليه لتجعل الدنيا تضحك بين يديه.
وبعد شهر تفاجأ بأنها هربت مع شاب في العشرينات من عمره، إلى المدينة بعد أن أعطته كل ما تملك، حيث لا أحد يعرفها ولا تعرف أحدا، وأن آثار الجلد كانت بفعل مقصود، وأن زوجها كان معها كريما إلى أبعد حدود الكرم وأرق من نسيم الصباح وأكثر حنانا من شمس الأصيل.
فغضب عمران الكاشف واحتقر نفسه وأحس أنه جرح في كرامته وأنه أهين وخُدع واستُغل استغلالا رخيصا في لعبة لا تخصّه من قريب أو بعيد ، فرمى العباءة والجبّة وعاد إلى ربطة العنق يعلقها على رقبته دون أن يربطها، ويلبس الجاكتة الكاشحة بتاريخها الطويل وغبار الأيام الذي لا زال عالقا على ياقتها المتآكلة، ومعطفه السميك يحاول جاهدا أن يخفي التاريخ القديم والجديد، وصار يلفّ الشوارع وهو يستند على عكاز فاخر بمقبض مزخرف على شكل رأس أفعى...
تعليق