النطع القطني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي التاجر
    أديب وكاتب
    • 21-12-2008
    • 88

    النطع القطني

    النطع القطني

    - العاهرةُ لا تتوب أبداً.

    غرسَ نظراته الساخرة في عينيها الباكيتين، ثمّ شقّ فستانها وغمرته نشوةٌ بهيميةٌ وهو يطوّقُ نحرها ويخنقها فيفورُ الدمُ من تحت مخالبهِ ويجمدُ تاركاً بقعاً ورديةً كالوشم على جلدها النيئ. كانت ترجوهُ أن لا يفعلَ ذلكَ مرةً أخرى، أن لا يشعل تحت رمادها نار الخطيئةِ التي أحرقت عودها الغض.

    قال لها بعدما أحسَّ أنهُ يلكزُ صخرةً لا تهبه غيرَ صلابتها:

    - المرأة زجاجةٌ يا حبيبتي، تنكسر وينتهي كل شئ، ولا أحد يجمع الجذاذ ؟.

    كزّ على أسنانه المصفرة وأمسك حنكها بأصابعهِ ثمّ صفعها برفق:

    - أنا كسرتُ زجاجكِ الرخو، أنتِ ملكُ يميني.

    ظلت تبكي وهو يلهثُ ويمدُّ أغنيةً فاحشةً تتحشرجُ بين أسنانه التي طحنتها سيجارةٌ لا تفارقه، وقد أسلمت لهُ جسداً ميتاً ومنحته لذةً مخرومة وصمتاً هطلَ على المكان بعد أن لطخها بوحل كينونته البهيمية.


    * * * *
    ضفيرةً كنتُ أحملها كعُرف جوادٍ طائر، أركضُ في الطرقات وألهو، وتسيلُ على جبهتي قذالٌ ذهبيةٌ ترقصُ على إيقاع وثباتي الطويلة، معاً كنا نحملُ حصياتنا الصغيرة ونتقافز بمهارةٍ في وسط الأشكالِ التي نتفنن برسمها على الأرض، ثمّ نثب بقدمٍ واحدةٍ داخلَها ونزنُ أجسادنا كي لا نتهاوى...نتشاجر، نبكي، نضحك، وهو يلاحقني بعينينِ تائهتين، صغيراً كان، لكنه يملك قلباً لا يتسع للهزيمة من أقرانه. يسبقهم دوماً ويكون لهُ زهوٌ مباحٌ تمليهِ عليه قوتهُ وغلبتهُ في كلّ شجارٍ يعترك فيه مع أحدٍ من ندمائه.

    كبرَ معي، فكان يركضُ في بريةِ القلب ممتطياً صهوةَ مهرةٍ شهباء، فارساً تلاعب الريحُ رداءه ويصهلُ خيلهُ في المدى البعيد. أنتظرهُ وأنا أتجلبب بفستانٍ غزلتهُ أصابعُ الحور من ريشِ النوارس الناصعة، ترفلُ أذيالُ فستاني حتى تلامس الأفق، فأتخيلُ السماء تجمعنا وهي تمطرُ أغانٍ عذبة.

    انتظرتهُ طويلاً.

    كنتُ أقول له دائماً وهو يسفحُ تأوهاته:

    - إن أضجر قلبك الهجر، فهذا باب الدار.

    ويردُّ بجوابٍ عهدتهُ منه:

    - سآتي قريباً وأنا أسابق الريح، أريدُ أن أهيئ الظروف قليلاً.

    افترع عودهُ ولمّا يزل يقتعدُ الأرصفةَ ويذرعُ الشوارعَ حتى ملّته، لم يجدْ عملاً كما يقول، فظلّ يطوفُ الأزقة ويلوذُ بالنخيل والدوالي التي تمدُّ خضرتها وأعذاقها المونقةَ خلف بيتنا الطيني، وبقيَ يتربصُ بي كلّما أغدو وأروحُ إلى البيت، أعبرهُ... فيلاحقني ويسكبُ هواهُ وشعراً تعتصرُ فيه حرقةُ عاشقٍ صبٍّ أشرفَ على الهلاك بفضلٍ حبيبةٍ بعيدةٍ أوغلت في الصدّ.
    كانت حروفه غزلاناً تعبر العروقَ وسفناً تخبُّ في دمائي الراكدة، أتلمظُ كلماته وأستعسلها إلى أن هبّ واقفاً في طريقي ذات يومٍ بعينينِ متقدتينِ وفمٍ تيبسَّ من الظمأ، في ثغره تتعرج الكلمات، ثملاً يهذر ويهذي بلا حياءٍ أو خشيةٍ من أحد.

    ظللتُ مطبقةً ببوشيتي وهممتُ بالتحركِ جانباً فاعترض الدرب بجسدهِ الريان، قال لي بصوتٍ آمر:
    - اعبري الآن.

    أشحتُ بوجهي، وأنا أطرق برأسي نحو الأرض:
    - هل ترضى أن يرانا الناس، ماذا سيقولون ؟
    - لن يرانا أحدٌ في هذا الزقاق، صدقيني لقد أضناني البعاد.
    - إن كنت تروم قربي، فأبي ينتظر من يطرقُ عليه باب الدار.

    رفعتُ بوشيتي ووجهتْ عينيّ الدامعتين لوجههِ المعروق. زممتُ فمي تعبيراً عن السخط من تصرفه وقلتُ له بحنقٍ:
    - أنت مخمور، ما الذي تفعله بنفسك ؟.

    تأوهَ وأطلقَ نفساً غزيراً سحبه من أحشائهِ المحترقة:
    - الله...عيناكِ فصّا عقيقٍ طالما منّيتُ النفس بهما.

    عضّ على نواجذه وسحبني من يدي وضمَّني لصدره حتى أهاض أضلاعي، فاحتْ رائحةٌ صدئةٌ من ثوبهِ الذي غصّ بجسده، صرختُ مذعورةً ومستنجدةً فركض بي نحو النخيل التي تسوّر القرية وتحجب عن العيون شرفاً يندلق كل حينٍ وصرخاتٍ تغورُ في تربةٍ رطبةٍ تندسُّ فيها الخطايا والثعابين والأعشاب اليتيمة.

    البيوتُ قليلةٌ ومتباعدة في مؤخرة القرية حيث يقع بيتنا، وهذا ما زاد جسارتهُ على خطفي ووأدِ رغبتهِ الوحشيةِ وسط غاباتِ النخيلِ التي يرقد وراءها البحر، هذهِ التي طالما عشقتُها وريحها الطيبة التي تهبُّ في ليالي القيظ، حتى عزمتُ أن أحرقها وأذرها قاعاً صفصفاً بعد الذي حصل.

    قاومتهُ بشدةٍ لكنّ قبضته عضّتْ على معصمي الأيمن حتى اعوجّتْ أساوري، صرختُ فصفعني، غطّى فمي وخنقني فكتم الصوتَ في حلقي، أوسدني التراب ومرغني في مستنقعات اليأس.
    حملتُ قلباً مكلوماً وجسداً محروقاً بجريرةٍ عظمى، استغشيتُ عباءتي وأنا ألملمُ فستاناً ممزقاً تهلهلَت خيوطهُ التي أيقنت أنهُ من الصعب رتقها، تماماً كجرحي الذي سيظلّ نزيفه أبدياً في ذاكرة القريةِ وألسن الناس. مشيتُ في الطريقِ الذي تناسلَت في أطرافه الأشباح وهي تفغر أفواهها وتزأر في الأمكنة حتى وافيتُ المنزل وتواريتُ في غرفتي أطـبِّبُ الجراحَ وأُهيلُ على حكايتي المرعبة صمتاً ستدكُّهُ معاولُ الألسنة عمّا قريب !.
    غلالةُ الحزن تتبعني أين أحط، أنا البنت الوحيدة بين إخوةٍ ثلاثة، سألني الجميعُ عن القلق الذي رأوهُ يحومُ حول رأسي، وعن الابتسامة التي بقيتْ ترقصُ في خديّ وانطفأتْ على غير ميعاد.

    كنتُ أسمع زغاريد أمي وهي تمسحُ جدائلي وتدعكها بالزيتِ:
    - لقد أصبحتِ عروساً، متى أرى أولادك يملؤون هذا الحوش.

    وتغني...فتطيرُ حمائمٌ ناصعةٌ من قلبها الكبير، تعدني أنها سترقصُ في يوم عرسي فرحاً وتطرب يومَ تراني مزهوَّةً أمشي بين النسوة بخيلاء عروسٍ تغارُ من عينيها الشمس، ثمّ تزفني لبيت العريسِ بنفسها وهي تهيل على رأسي النثار والنقود.

    كنتُ أستعذبُ هذا الغمز منها وأدسّ بين خديّ بسمةً وخجلاً، وسرعان ما أصكُّ فمي بأصابعي وأركضُ لغرفتي لأكملَ رسمَ أحلامي وأزخرفها، وأحتجب عن عيونها حينَ تطلقُ ضحكةً عاليةً وتشهقُ جذلانةً وأنا أعبُّ من خيالٍ أخصبتهُ سِنيُّ العشقِ حتى قمتُ أمثـِّلُ دوري عروساً ألومهُ على تقاعسهِ وطول الانتظار الذي قضيتُ جُـلَّـهُ في حربٍ مريرةٍ مع أبي عندما يأتيهِ أحدٌ ما ليطلب يدي فأتمنّع وأرفض متذرعةً بصغر سني، ولا أجد غيرَ أمي التي تملكُ القدرة على إقناعهِ والوقوف كحارسٍ يدفعُ عني كلَّ يدٍ تهمُّ بالبطش بأحلامي المعلقة.


    * * *

    اليومَ غنّت أمي وهبَّتْ أمانيها لتعبر فناء وغرف المنزل. ظلت تمشّطُ شعري وتضفره وتقرأ الآيات كي لا تحسدني العيونُ المريضة، وبغرابةٍ لم أصكّ فمي، ولم أركض في بريةِ الحلم وأختبئ في غرفتي، قطبت حاجبيّ فقط، واغتصبتُ بسمةً رسمتها على أشداقي ثمّ قابلتها ممعنةً النظر في شمائلها وعلى رأسها ملفعها الأسود القطني والدموعُ تكادُ تنفجر من بين أهدابي.
    آه يا أمي، أشفق عليكِ كما أشفقُ على نفسي، لم تعلمي بأن ابنتكِ التي لم تتركي أملاً إلا وعلقتهِ عليها قد ماتت، ليتها كانت عين حاسدٍ أو فعلة ساحر، إنهُ خنجرٌ مسمومٌ أصابني وتركني أنزفُ من غيرِ عزاء، ربما ستعرفينَ ما حصل وتكون هذه اليد التي تمسِّـدُ شعري هي نفسها التي تخمشُ وتهتك وجهي بعدما تدركين أنني قبرتُ أحلامكِ ورضيتُ بأن تُصبغَ حيطانُ هذا البيت الصغير بعارِ الرغبةِ المتوحشة !.


    * * *

    العشبُ حين تجزّهُ المناجل لا يرجع ثانية لمنبته، والمرأة التي يقطعون الخيط الذي يربط قدرها بالوجود تهوي في جحيم الزمن وتظلُّ في هذا القعر السحيق حتى يُخمدَ رائحتها التراب أو تشدَّ خاصرتها الأكفان.
    في القريةِ فاحت سيرتهُ الصدئةُ فتسللت لكلِّ لسان، الكلُّ ينعته بأنه كيسٌ من اللحمِ لا يحمل غير القاذورات.
    ظلّ يراودها عن نفسها ويلاحقها أينما تروح، تبكي كلما تذكرته يافعاً يشق الريح، والآن ترتعدُ مفاصلهُ وأرجلهُ حتى تعجز عن حملِ جذعه السامق، كان يقفُ في وجهها في الأزقة التي يراها خاليةَ من المارَّة، يهددها بأنّ حكايتها معهُ ستفوحُ رائحتها بين الملأ ويندلق ماء وجه أبيها في الطرقات إن لم تمنحهُ من جديدٍ لذةً يتقوّت بها:

    - أنا أكلت سيرتي الناس، ولم يعد يخيفني أي شئ، لكنكِ لا زلتِ تمتكلين سيرةً غضةً لم تكسرها الألسن.

    تخـيَّـلتْ أباها يذرع الأزقة وهوَ يقاومُ جيشاً من النظرات والحكايات حتى يغدو غير قادرٍ على رفعِ رأسه بينَ الناس، وتذكرت أمها التي سينهشُ لحمها النسوة ولن يتركنها إلا وهي تقتعد المنزل وتستتر بجدرانه عن لمزهن.

    أجابتهُ بصوتٍ يتهدج من البكاء:
    - ارحمني.

    انتزعت بوشيتها ونظرت له عاتبةً:
    - ألم يكفكَ ما حصل؟ أنت تحبّ نفسكَ فقط، أنت أنانيٌ وخائن.

    ضحكَ وهو يشيح بوجهه ويهمّ بالغدوّ:
    - أريد أن أطفئ النار التي تتقد في عروقي الآن، لقد فات أوان العتاب، لم يكن من سبيلٍ إلا أن أمرغكِ في الوحل بيديّ حتى تكونين لي، لي فقط.

    قهقه وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء ويأمرها بأن تلحقهُ لذات المكان الذي انصهرت روحها فوق ترابه. أمهلها بضعَ دقائق حتى لا يذهبَ ويصرخ في الشوارع والطرقات أنه فعل فعلتهُ النكراء، احتدّ وهو يتوعدها بالويل إن هي استبطأت القدوم أو تجاسرت على الرفض، وكطيرٍ جزوا ريشه وكسروا أجنحتهُ وأوثقوه، وجدت نفسها تقاد إلى هناك، مكانَ ستذرفُ لوعتها والنخيلُ تحيطُ بهما وهو يتلمظُ ريقه الدبق منتشياً ثمّ يخورُ ويمضي تاركاً إياها تجهشُ وتصطلي بحميمِ العذلِ والندم.


    * * *

    اقتليني يا أمي، اقتلني يا أبي، صبُّوا على جسدي الزيت وأحرقوني، أنا لا أجسر على البوح أو الصراخ، إنني أموتُ صبراً بهذا الذنب. اليومَ نبتت في الحلق سكينٌ قاتلةٌ حينما أتت أمي تزفّ لي خبر عريسٍ جديدٍ وتدعوني أن لا أرفض هذه المرة، لأنني سأغدو لقمةً تلوكها ألسن الجيران عمن رفضتهم في الماضي، وعلى غير العادة، هززت رأسي وأنا أشق فمي عنوةً علّهُ يجود بابتسامةٍ تسكِّن قلب أمي الذي سينفطر عما قريب.
    زغرودتها تجوسُ الحيّ، بكلِّ حبورٍ ترفعها وتغني لابنتها البكر التي ستغدو عروساً، تهيل عليَّ باقاتٍ من المشموم والأغاني الندية، وتعدني بالرقص في ليلة زفافي، تلك الليلة التي تأتي بصخبها ورهبتها كما يحين موعد الإعدام لسجينٍ حزت الصفاد معصميه، سأكون مضطجعةً فيها على النطع، أغمض عينيّ وأنتظرُ النصل الذي سيزحف على عنقي ويبترها.
    سيولم أبي قريباً لأهل الحي بذبحِ بقرةٍ سمينة ليفي بنذرٍ قطعه على نفسه منذ كنت صغيرةً أحلق بجدائلي في فناء الدار، ولو كان يعلم بتلك الحكاية لانتزع بندقيته المعلقة على الجدار وأفرغ طلقاتها في أحشائي.
    أما هو، فظلّ ينتدّر بما فعله أبي وزغاريد أمي، أرغمني على إطفاء حرائقه مراتٍ أخرى بعد أن هددني بأنه سيخبر العريس المخدوع وأهله، يومها وسمني بالعاهرة، كان مسعوراً وأنا أبكي وأرجوه أن يرحمني، أن يتركني لأصارعَ مارد القدر بيديّ الهزيلتين.
    صرتُ أخافُ كل شئ..الناس، نفسي، أهلي، من الموت المحدق، ومن اللعنات التي سيكيلها لي والداي وهما يسترحمان الناس أن يكفوا عن مضغ سيرتهم.

    قال لي بعد أن أفرد قامته وهمّ بالمضيّ:
    - العاهرة لا تتوب أبداً.


    * * * *

    الليلة سيخضبون كفي بالحناء ويلبسونني فستاناً أخضراً ويظللنني بمناديلهن ثمّ تـنـثالُ أغانيهن فوقَ هامتي، نزّت عيني دموعاً غزيرة أراقت الكحل الذي صبغن به أحداقي. ضحكت أمي وهي تحيطني بذراعيها والنسوةُ يغنين ويصفقن:
    - هذه دموع الفرح يا حبيبتي.

    هجستُ في نفسي:
    - إنها دموع الوداع يا أمي.

    وها قد أتت ليلةُ الإعدام سريعاً. اللحظاتُ تعبرُ وأنا أنتظرُ حتى خرج النسوة اللواتي تحلقن حولي، شيعتني أمي لبيت عريسي حتى عبرتُ لغرفتنا الفائحة بالعود والبخور. اقتعدت السرير وقلبي يقرع آخرَ دقاته كالساعة التي قاربت الثانية عشرة. كان الباب مغلقاً في انتظار السيّاف الذي سيدخلُ وأركع أمامه معترفةً بكلِّ الذنوب وعظام الجرائر.

    خطواتٌ متباعدةٌ كنتُ أسمعها ووجهي يحجبه وشاحٌ شفافٌ أرفعه بين الفينة والأخرى كي أرشف نفساً أقذفه في رئتيَّ حتى وجدتُ قدمين تقتربان شيئاً فشيئاً مني بعدما أزّ باب الغرفةِ قليلاً ثمّ رُتجَ برفقٍ وتؤدة، ومع الخطواتِ القريبة كنت أسترق النظر من تحت الوشاحِ وأعدُّ معها اللحظات التي تفصل بيني وبين الموت !.
    التعديل الأخير تم بواسطة علي التاجر; الساعة 13-08-2012, 16:58.
  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    #2
    نعم...مؤسف حين تجبر المرأة على العهر و توصف بالعاهرة ..
    أحيّيك على القصة ..
    بداية مشوّقة و نهاية مفتوحة...
    جميل تنويع الضمائر، و اللغة مميّزة و الصور رائعة ..
    رغم الفكرة المستهلكة إلا أنك أبدعت .
    لم أفهم معنى كلمة ...ببوشيتي
    تحيّتي و تقديري .
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

    تعليق

    • ميساء عباس
      رئيس ملتقى القصة
      • 21-09-2009
      • 4186

      #3
      عظمى، استغشيتُ عباءتي وأنا ألملمُ فستاناً ممزقاً تهلهلَت خيوطهُ التي أيقنت أنهُ من الصعب رتقها، تماماً كجرحي الذي سيظلّ نزيفه أبدياً في ذاكرة القريةِ وألسن الناس. مشيتُ في الطريقِ الذي تناسلَت في أطرافه الأشباح وهي تفغر أفواهها وتزأر في الأمكنة حتى وافيتُ المنزل وتواريتُ في غرفتي أطـبِّبُ الجراحَ وأُهيلُ على حكايتي المرعبة صمتاً ستدكُّهُ معاولُ الألسنة عمّا قريب !.

      بكل بساطة
      عمر يدفن
      مستقبل يركلها للوراء
      تبتلع كل شيء
      تبتلع قذارة غيرها
      وحتى لأهلها لاتستطيع أن تقول
      أي مجتمع نحن نعيش ؟
      أي تخلف نهرول فيه
      متقمصين ثوب الحضارة
      القاص الراقي علي
      قصة جميلة جدا
      بأسلوبها المتمكن
      لغة جميلة جدا ومشوّقة
      بداية جميلة تشد القارئ
      ونهاية مثقفة واعية
      عندما أقرأ قصة تتناول خزي مجتمعنا
      ويعرض طريقة حياة المرأة بما يصب عليها صنبورا من الألم
      حيث هي تكون مستنقعا لمجتمع يعيث وحلا
      العزيز علي
      يسعدني جداااا
      أن أقرأ قصة تتناول جرح امرأة
      لكن من يد أديب وبعين رجل
      لأقول سنكون بخير
      دمت نقيا
      أنتظر جديدك دائما
      ومشاركتك الأدباء
      كل التقدير
      ميســــــاء العباس
      مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
      https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

      تعليق

      • غالية ابو ستة
        أديب وكاتب
        • 09-02-2012
        • 5625

        #4
        قنصة من عمق الواقع الذي تعيشة فتاة غريرة
        يرميها القدر بها القدر بين مخالب انسان أقل ما
        يقال فيه --انه واطي وعديم الضمير والاصل
        والا لما فعل فيمن أحبته هكذا---ولم يؤنبه ضميره
        بل تمادى-------جميل وانا بقدر ما انا حزينة لتلك النوعيات
        المغدورات قليلات الحيلة------سعيدة ان الكاتب رجل--لعل من
        يدمر فتاة مسكينة بحبها لجيفة بشرية دون ان تعلم فالحب اعمى كما يقولون
        لعل من يفعلها يتدكر ابنة له او اخت ------ويحجم-----كم انا حزينة لوجود
        الضباع البشرية وادعائها للحب
        شكراًلك رجلا انصفت البنت وبينت كم هي مغدورة لا عاهرة وان العاهر الحقيقي ذلك المجرم
        الى ان تتحول مجتمعاتنا الى مجتمعات تنصف المرأة وتجعل من عار الرجل ما يوطئ رأسه على انه الاقوى المعتدي سيبقى الحال على ما هو-----رغم ان عدالة الله لاتتركه
        ومن هتك عرض الناس هتك الله عرضه من حيث لا يدري ولا يعلم
        قصة بقدر ما هي موجعة ----بقدر ما ابدع القاص في ابراز همجية وقبح المعتدي
        دمت اخي بخير----وشكرا على تعاطفك مع الفتاة المغدورة
        يا ســــائد الطيـــف والألوان تعشــقهُ
        تُلطّف الواقـــــع الموبوء بالسّـــــقمِ

        في روضــــــة الطيف والألوان أيكتهــا
        لـــه اعزفي يا ترانيــــم المنى نـــغمي



        تعليق

        • علي التاجر
          أديب وكاتب
          • 21-12-2008
          • 88

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
          نعم...مؤسف حين تجبر المرأة على العهر و توصف بالعاهرة ..
          أحيّيك على القصة ..
          بداية مشوّقة و نهاية مفتوحة...
          جميل تنويع الضمائر، و اللغة مميّزة و الصور رائعة ..
          رغم الفكرة المستهلكة إلا أنك أبدعت .
          لم أفهم معنى كلمة ...ببوشيتي
          تحيّتي و تقديري .
          أختي العزيزة آسيا،

          شكراً لهذا المرور العاطر ،

          وشكراً على التعليق، فقد توسلت باللغة في أن تصل بالمعاناة إلى المتلقي ،




          تعليق

          • علي التاجر
            أديب وكاتب
            • 21-12-2008
            • 88

            #6
            أما عن سؤالك عن البوشية،

            فقد نسيت أن أجيبكِ في الرد الأول،

            على أية حال،


            فهي نوعٌ من أنواع النقاب، ولكنه يغطي الوجه كاملاً، ويكون أسوداً مخللاً حتى تستطيع المرأة أن تنظر منه،

            اشتهرت بلباسه نساء البحرين ،
            التعديل الأخير تم بواسطة علي التاجر; الساعة 15-08-2012, 13:42.

            تعليق

            • عائده محمد نادر
              عضو الملتقى
              • 18-10-2008
              • 12843

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة علي التاجر مشاهدة المشاركة
              النطع القطني

              - العاهرةُ لا تتوب أبداً.

              غرسَ نظراته الساخرة في عينيها الباكيتين، ثمّ شقّ فستانها وغمرته نشوةٌ بهيميةٌ وهو يطوّقُ نحرها ويخنقها فيفورُ الدمُ من تحت مخالبهِ ويجمدُ تاركاً بقعاً ورديةً كالوشم على جلدها النيئ. كانت ترجوهُ أن لا يفعلَ ذلكَ مرةً أخرى، أن لا يشعل تحت رمادها نار الخطيئةِ التي أحرقت عودها الغض.

              قال لها بعدما أحسَّ أنهُ يلكزُ صخرةً لا تهبه غيرَ صلابتها:

              - المرأة زجاجةٌ يا حبيبتي، تنكسر وينتهي كل شئ، ولا أحد يجمع الجذاذ ؟.

              كزّ على أسنانه المصفرة وأمسك حنكها بأصابعهِ ثمّ صفعها برفق:

              - أنا كسرتُ زجاجكِ الرخو، أنتِ ملكُ يميني.

              ظلت تبكي وهو يلهثُ ويمدُّ أغنيةً فاحشةً تتحشرجُ بين أسنانه التي طحنتها سيجارةٌ لا تفارقه، وقد أسلمت لهُ جسداً ميتاً ومنحته لذةً مخرومة وصمتاً هطلَ على المكان بعد أن لطخها بوحل كينونته البهيمية.


              * * * *
              ضفيرةً كنتُ أحملها كعُرف جوادٍ طائر، أركضُ في الطرقات وألهو، وتسيلُ على جبهتي قذالٌ ذهبيةٌ ترقصُ على إيقاع وثباتي الطويلة، معاً كنا نحملُ حصياتنا الصغيرة ونتقافز بمهارةٍ في وسط الأشكالِ التي نتفنن برسمها على الأرض، ثمّ نثب بقدمٍ واحدةٍ داخلَها ونزنُ أجسادنا كي لا نتهاوى...نتشاجر، نبكي، نضحك، وهو يلاحقني بعينينِ تائهتين، صغيراً كان، لكنه يملك قلباً لا يتسع للهزيمة من أقرانه. يسبقهم دوماً ويكون لهُ زهوٌ مباحٌ تمليهِ عليه قوتهُ وغلبتهُ في كلّ شجارٍ يعترك فيه مع أحدٍ من ندمائه.

              كبرَ معي، فكان يركضُ في بريةِ القلب ممتطياً صهوةَ مهرةٍ شهباء، فارساً تلاعب الريحُ رداءه ويصهلُ خيلهُ في المدى البعيد. أنتظرهُ وأنا أتجلبب بفستانٍ غزلتهُ أصابعُ الحور من ريشِ النوارس الناصعة، ترفلُ أذيالُ فستاني حتى تلامس الأفق، فأتخيلُ السماء تجمعنا وهي تمطرُ أغانٍ عذبة.

              انتظرتهُ طويلاً.

              كنتُ أقول له دائماً وهو يسفحُ تأوهاته:

              - إن أضجر قلبك الهجر، فهذا باب الدار.

              ويردُّ بجوابٍ عهدتهُ منه:

              - سآتي قريباً وأنا أسابق الريح، أريدُ أن أهيئ الظروف قليلاً.

              افترع عودهُ ولمّا يزل يقتعدُ الأرصفةَ ويذرعُ الشوارعَ حتى ملّته، لم يجدْ عملاً كما يقول، فظلّ يطوفُ الأزقة ويلوذُ بالنخيل والدوالي التي تمدُّ خضرتها وأعذاقها المونقةَ خلف بيتنا الطيني، وبقيَ يتربصُ بي كلّما أغدو وأروحُ إلى البيت، أعبرهُ... فيلاحقني ويسكبُ هواهُ وشعراً تعتصرُ فيه حرقةُ عاشقٍ صبٍّ أشرفَ على الهلاك بفضلٍ حبيبةٍ بعيدةٍ أوغلت في الصدّ.
              كانت حروفه غزلاناً تعبر العروقَ وسفناً تخبُّ في دمائي الراكدة، أتلمظُ كلماته وأستعسلها إلى أن هبّ واقفاً في طريقي ذات يومٍ بعينينِ متقدتينِ وفمٍ تيبسَّ من الظمأ، في ثغره تتعرج الكلمات، ثملاً يهذر ويهذي بلا حياءٍ أو خشيةٍ من أحد.

              ظللتُ مطبقةً ببوشيتي وهممتُ بالتحركِ جانباً فاعترض الدرب بجسدهِ الريان، قال لي بصوتٍ آمر:
              - اعبري الآن.

              أشحتُ بوجهي، وأنا أطرق برأسي نحو الأرض:
              - هل ترضى أن يرانا الناس، ماذا سيقولون ؟
              - لن يرانا أحدٌ في هذا الزقاق، صدقيني لقد أضناني البعاد.
              - إن كنت تروم قربي، فأبي ينتظر من يطرقُ عليه باب الدار.

              رفعتُ بوشيتي ووجهتْ عينيّ الدامعتين لوجههِ المعروق. زممتُ فمي تعبيراً عن السخط من تصرفه وقلتُ له بحنقٍ:
              - أنت مخمور، ما الذي تفعله بنفسك ؟.

              تأوهَ وأطلقَ نفساً غزيراً سحبه من أحشائهِ المحترقة:
              - الله...عيناكِ فصّا عقيقٍ طالما منّيتُ النفس بهما.

              عضّ على نواجذه وسحبني من يدي وضمَّني لصدره حتى أهاض أضلاعي، فاحتْ رائحةٌ صدئةٌ من ثوبهِ الذي غصّ بجسده، صرختُ مذعورةً ومستنجدةً فركض بي نحو النخيل التي تسوّر القرية وتحجب عن العيون شرفاً يندلق كل حينٍ وصرخاتٍ تغورُ في تربةٍ رطبةٍ تندسُّ فيها الخطايا والثعابين والأعشاب اليتيمة.

              البيوتُ قليلةٌ ومتباعدة في مؤخرة القرية حيث يقع بيتنا، وهذا ما زاد جسارتهُ على خطفي ووأدِ رغبتهِ الوحشيةِ وسط غاباتِ النخيلِ التي يرقد وراءها البحر، هذهِ التي طالما عشقتُها وريحها الطيبة التي تهبُّ في ليالي القيظ، حتى عزمتُ أن أحرقها وأذرها قاعاً صفصفاً بعد الذي حصل.

              قاومتهُ بشدةٍ لكنّ قبضته عضّتْ على معصمي الأيمن حتى اعوجّتْ أساوري، صرختُ فصفعني، غطّى فمي وخنقني فكتم الصوتَ في حلقي، أوسدني التراب ومرغني في مستنقعات اليأس.
              حملتُ قلباً مكلوماً وجسداً محروقاً بجريرةٍ عظمى، استغشيتُ عباءتي وأنا ألملمُ فستاناً ممزقاً تهلهلَت خيوطهُ التي أيقنت أنهُ من الصعب رتقها، تماماً كجرحي الذي سيظلّ نزيفه أبدياً في ذاكرة القريةِ وألسن الناس. مشيتُ في الطريقِ الذي تناسلَت في أطرافه الأشباح وهي تفغر أفواهها وتزأر في الأمكنة حتى وافيتُ المنزل وتواريتُ في غرفتي أطـبِّبُ الجراحَ وأُهيلُ على حكايتي المرعبة صمتاً ستدكُّهُ معاولُ الألسنة عمّا قريب !.
              غلالةُ الحزن تتبعني أين أحط، أنا البنت الوحيدة بين إخوةٍ ثلاثة، سألني الجميعُ عن القلق الذي رأوهُ يحومُ حول رأسي، وعن الابتسامة التي بقيتْ ترقصُ في خديّ وانطفأتْ على غير ميعاد.

              كنتُ أسمع زغاريد أمي وهي تمسحُ جدائلي وتدعكها بالزيتِ:
              - لقد أصبحتِ عروساً، متى أرى أولادك يملؤون هذا الحوش.

              وتغني...فتطيرُ حمائمٌ ناصعةٌ من قلبها الكبير، تعدني أنها سترقصُ في يوم عرسي فرحاً وتطرب يومَ تراني مزهوَّةً أمشي بين النسوة بخيلاء عروسٍ تغارُ من عينيها الشمس، ثمّ تزفني لبيت العريسِ بنفسها وهي تهيل على رأسي النثار والنقود.

              كنتُ أستعذبُ هذا الغمز منها وأدسّ بين خديّ بسمةً وخجلاً، وسرعان ما أصكُّ فمي بأصابعي وأركضُ لغرفتي لأكملَ رسمَ أحلامي وأزخرفها، وأحتجب عن عيونها حينَ تطلقُ ضحكةً عاليةً وتشهقُ جذلانةً وأنا أعبُّ من خيالٍ أخصبتهُ سِنيُّ العشقِ حتى قمتُ أمثـِّلُ دوري عروساً ألومهُ على تقاعسهِ وطول الانتظار الذي قضيتُ جُـلَّـهُ في حربٍ مريرةٍ مع أبي عندما يأتيهِ أحدٌ ما ليطلب يدي فأتمنّع وأرفض متذرعةً بصغر سني، ولا أجد غيرَ أمي التي تملكُ القدرة على إقناعهِ والوقوف كحارسٍ يدفعُ عني كلَّ يدٍ تهمُّ بالبطش بأحلامي المعلقة.


              * * *

              اليومَ غنّت أمي وهبَّتْ أمانيها لتعبر فناء وغرف المنزل. ظلت تمشّطُ شعري وتضفره وتقرأ الآيات كي لا تحسدني العيونُ المريضة، وبغرابةٍ لم أصكّ فمي، ولم أركض في بريةِ الحلم وأختبئ في غرفتي، قطبت حاجبيّ فقط، واغتصبتُ بسمةً رسمتها على أشداقي ثمّ قابلتها ممعنةً النظر في شمائلها وعلى رأسها ملفعها الأسود القطني والدموعُ تكادُ تنفجر من بين أهدابي.
              آه يا أمي، أشفق عليكِ كما أشفقُ على نفسي، لم تعلمي بأن ابنتكِ التي لم تتركي أملاً إلا وعلقتهِ عليها قد ماتت، ليتها كانت عين حاسدٍ أو فعلة ساحر، إنهُ خنجرٌ مسمومٌ أصابني وتركني أنزفُ من غيرِ عزاء، ربما ستعرفينَ ما حصل وتكون هذه اليد التي تمسِّـدُ شعري هي نفسها التي تخمشُ وتهتك وجهي بعدما تدركين أنني قبرتُ أحلامكِ ورضيتُ بأن تُصبغَ حيطانُ هذا البيت الصغير بعارِ الرغبةِ المتوحشة !.


              * * *

              العشبُ حين تجزّهُ المناجل لا يرجع ثانية لمنبته، والمرأة التي يقطعون الخيط الذي يربط قدرها بالوجود تهوي في جحيم الزمن وتظلُّ في هذا القعر السحيق حتى يُخمدَ رائحتها التراب أو تشدَّ خاصرتها الأكفان.
              في القريةِ فاحت سيرتهُ الصدئةُ فتسللت لكلِّ لسان، الكلُّ ينعته بأنه كيسٌ من اللحمِ لا يحمل غير القاذورات.
              ظلّ يراودها عن نفسها ويلاحقها أينما تروح، تبكي كلما تذكرته يافعاً يشق الريح، والآن ترتعدُ مفاصلهُ وأرجلهُ حتى تعجز عن حملِ جذعه السامق، كان يقفُ في وجهها في الأزقة التي يراها خاليةَ من المارَّة، يهددها بأنّ حكايتها معهُ ستفوحُ رائحتها بين الملأ ويندلق ماء وجه أبيها في الطرقات إن لم تمنحهُ من جديدٍ لذةً يتقوّت بها:

              - أنا أكلت سيرتي الناس، ولم يعد يخيفني أي شئ، لكنكِ لا زلتِ تمتكلين سيرةً غضةً لم تكسرها الألسن.

              تخـيَّـلتْ أباها يذرع الأزقة وهوَ يقاومُ جيشاً من النظرات والحكايات حتى يغدو غير قادرٍ على رفعِ رأسه بينَ الناس، وتذكرت أمها التي سينهشُ لحمها النسوة ولن يتركنها إلا وهي تقتعد المنزل وتستتر بجدرانه عن لمزهن.

              أجابتهُ بصوتٍ يتهدج من البكاء:
              - ارحمني.

              انتزعت بوشيتها ونظرت له عاتبةً:
              - ألم يكفكَ ما حصل؟ أنت تحبّ نفسكَ فقط، أنت أنانيٌ وخائن.

              ضحكَ وهو يشيح بوجهه ويهمّ بالغدوّ:
              - أريد أن أطفئ النار التي تتقد في عروقي الآن، لقد فات أوان العتاب، لم يكن من سبيلٍ إلا أن أمرغكِ في الوحل بيديّ حتى تكونين لي، لي فقط.

              قهقه وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء ويأمرها بأن تلحقهُ لذات المكان الذي انصهرت روحها فوق ترابه. أمهلها بضعَ دقائق حتى لا يذهبَ ويصرخ في الشوارع والطرقات أنه فعل فعلتهُ النكراء، احتدّ وهو يتوعدها بالويل إن هي استبطأت القدوم أو تجاسرت على الرفض، وكطيرٍ جزوا ريشه وكسروا أجنحتهُ وأوثقوه، وجدت نفسها تقاد إلى هناك، مكانَ ستذرفُ لوعتها والنخيلُ تحيطُ بهما وهو يتلمظُ ريقه الدبق منتشياً ثمّ يخورُ ويمضي تاركاً إياها تجهشُ وتصطلي بحميمِ العذلِ والندم.


              * * *

              اقتليني يا أمي، اقتلني يا أبي، صبُّوا على جسدي الزيت وأحرقوني، أنا لا أجسر على البوح أو الصراخ، إنني أموتُ صبراً بهذا الذنب. اليومَ نبتت في الحلق سكينٌ قاتلةٌ حينما أتت أمي تزفّ لي خبر عريسٍ جديدٍ وتدعوني أن لا أرفض هذه المرة، لأنني سأغدو لقمةً تلوكها ألسن الجيران عمن رفضتهم في الماضي، وعلى غير العادة، هززت رأسي وأنا أشق فمي عنوةً علّهُ يجود بابتسامةٍ تسكِّن قلب أمي الذي سينفطر عما قريب.
              زغرودتها تجوسُ الحيّ، بكلِّ حبورٍ ترفعها وتغني لابنتها البكر التي ستغدو عروساً، تهيل عليَّ باقاتٍ من المشموم والأغاني الندية، وتعدني بالرقص في ليلة زفافي، تلك الليلة التي تأتي بصخبها ورهبتها كما يحين موعد الإعدام لسجينٍ حزت الصفاد معصميه، سأكون مضطجعةً فيها على النطع، أغمض عينيّ وأنتظرُ النصل الذي سيزحف على عنقي ويبترها.
              سيولم أبي قريباً لأهل الحي بذبحِ بقرةٍ سمينة ليفي بنذرٍ قطعه على نفسه منذ كنت صغيرةً أحلق بجدائلي في فناء الدار، ولو كان يعلم بتلك الحكاية لانتزع بندقيته المعلقة على الجدار وأفرغ طلقاتها في أحشائي.
              أما هو، فظلّ ينتدّر بما فعله أبي وزغاريد أمي، أرغمني على إطفاء حرائقه مراتٍ أخرى بعد أن هددني بأنه سيخبر العريس المخدوع وأهله، يومها وسمني بالعاهرة، كان مسعوراً وأنا أبكي وأرجوه أن يرحمني، أن يتركني لأصارعَ مارد القدر بيديّ الهزيلتين.
              صرتُ أخافُ كل شئ..الناس، نفسي، أهلي، من الموت المحدق، ومن اللعنات التي سيكيلها لي والداي وهما يسترحمان الناس أن يكفوا عن مضغ سيرتهم.

              قال لي بعد أن أفرد قامته وهمّ بالمضيّ:
              - العاهرة لا تتوب أبداً.


              * * * *

              الليلة سيخضبون كفي بالحناء ويلبسونني فستاناً أخضراً ويظللنني بمناديلهن ثمّ تـنـثالُ أغانيهن فوقَ هامتي، نزّت عيني دموعاً غزيرة أراقت الكحل الذي صبغن به أحداقي. ضحكت أمي وهي تحيطني بذراعيها والنسوةُ يغنين ويصفقن:
              - هذه دموع الفرح يا حبيبتي.

              هجستُ في نفسي:
              - إنها دموع الوداع يا أمي.

              وها قد أتت ليلةُ الإعدام سريعاً. اللحظاتُ تعبرُ وأنا أنتظرُ حتى خرج النسوة اللواتي تحلقن حولي، شيعتني أمي لبيت عريسي حتى عبرتُ لغرفتنا الفائحة بالعود والبخور. اقتعدت السرير وقلبي يقرع آخرَ دقاته كالساعة التي قاربت الثانية عشرة. كان الباب مغلقاً في انتظار السيّاف الذي سيدخلُ وأركع أمامه معترفةً بكلِّ الذنوب وعظام الجرائر.

              خطواتٌ متباعدةٌ كنتُ أسمعها ووجهي يحجبه وشاحٌ شفافٌ أرفعه بين الفينة والأخرى كي أرشف نفساً أقذفه في رئتيَّ حتى وجدتُ قدمين تقتربان شيئاً فشيئاً مني بعدما أزّ باب الغرفةِ قليلاً ثمّ رُتجَ برفقٍ وتؤدة، ومع الخطواتِ القريبة كنت أسترق النظر من تحت الوشاحِ وأعدُّ معها اللحظات التي تفصل بيني وبين الموت !.

              الزميل القدير
              علي التاجر
              قرأت النص منذ يومين وواجهتني مشكلة في الرد حيث لا أستطيع الرد بسهولة
              تطير ردودي أو لا أجد مكانا أرد منه
              مشكلة أعاني منها
              المهم
              حين قرأت بداية النص قلت ( لم أخذ التاجر على عاتقه طرق نص بات أكثر من مستهلك )
              لكني حين توغلت عرفت السبب
              طرح رائع وأعرف أنك لا تكتب أي شيء وأن نصوصك لابد وأن تكون مختلفة ولها رؤى من زوايا أخرى
              نص يستحق القراءة فعلا
              أشكرك لأنك تبهرني كل مرة
              تحياتي لك
              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

              تعليق

              • علي التاجر
                أديب وكاتب
                • 21-12-2008
                • 88

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة ميساء عباس مشاهدة المشاركة
                عظمى، استغشيتُ عباءتي وأنا ألملمُ فستاناً ممزقاً تهلهلَت خيوطهُ التي أيقنت أنهُ من الصعب رتقها، تماماً كجرحي الذي سيظلّ نزيفه أبدياً في ذاكرة القريةِ وألسن الناس. مشيتُ في الطريقِ الذي تناسلَت في أطرافه الأشباح وهي تفغر أفواهها وتزأر في الأمكنة حتى وافيتُ المنزل وتواريتُ في غرفتي أطـبِّبُ الجراحَ وأُهيلُ على حكايتي المرعبة صمتاً ستدكُّهُ معاولُ الألسنة عمّا قريب !.

                بكل بساطة
                عمر يدفن
                مستقبل يركلها للوراء
                تبتلع كل شيء
                تبتلع قذارة غيرها
                وحتى لأهلها لاتستطيع أن تقول
                أي مجتمع نحن نعيش ؟
                أي تخلف نهرول فيه
                متقمصين ثوب الحضارة
                القاص الراقي علي
                قصة جميلة جدا
                بأسلوبها المتمكن
                لغة جميلة جدا ومشوّقة
                بداية جميلة تشد القارئ
                ونهاية مثقفة واعية
                عندما أقرأ قصة تتناول خزي مجتمعنا
                ويعرض طريقة حياة المرأة بما يصب عليها صنبورا من الألم
                حيث هي تكون مستنقعا لمجتمع يعيث وحلا
                العزيز علي
                يسعدني جداااا
                أن أقرأ قصة تتناول جرح امرأة
                لكن من يد أديب وبعين رجل
                لأقول سنكون بخير
                دمت نقيا
                أنتظر جديدك دائما
                ومشاركتك الأدباء
                كل التقدير
                ميســــــاء العباس
                أختي الفاضلة الأديبة/ ميساء ،

                كل عام وأنت بخير ،

                ليس حسنةً مني بل من الواجب أن أكتب عن المرأة وأتعاطف معها، فهي الأم والأخت والزوجة الصابرة ، وكم تعلمت من أمي رحمها الله، معنى الحب والإيثار، فحتى اللقمة التي تأتي عليها يدي، تتركها من يديها وتمنحني إياها عن رضاً وطيب خاطر ،

                شكراً لهذا المرور الرائع ،

                تعليق

                • علي التاجر
                  أديب وكاتب
                  • 21-12-2008
                  • 88

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة غالية ابو ستة مشاهدة المشاركة
                  قنصة من عمق الواقع الذي تعيشة فتاة غريرة
                  يرميها القدر بها القدر بين مخالب انسان أقل ما
                  يقال فيه --انه واطي وعديم الضمير والاصل
                  والا لما فعل فيمن أحبته هكذا---ولم يؤنبه ضميره
                  بل تمادى-------جميل وانا بقدر ما انا حزينة لتلك النوعيات
                  المغدورات قليلات الحيلة------سعيدة ان الكاتب رجل--لعل من
                  يدمر فتاة مسكينة بحبها لجيفة بشرية دون ان تعلم فالحب اعمى كما يقولون
                  لعل من يفعلها يتدكر ابنة له او اخت ------ويحجم-----كم انا حزينة لوجود
                  الضباع البشرية وادعائها للحب
                  شكراًلك رجلا انصفت البنت وبينت كم هي مغدورة لا عاهرة وان العاهر الحقيقي ذلك المجرم
                  الى ان تتحول مجتمعاتنا الى مجتمعات تنصف المرأة وتجعل من عار الرجل ما يوطئ رأسه على انه الاقوى المعتدي سيبقى الحال على ما هو-----رغم ان عدالة الله لاتتركه
                  ومن هتك عرض الناس هتك الله عرضه من حيث لا يدري ولا يعلم
                  قصة بقدر ما هي موجعة ----بقدر ما ابدع القاص في ابراز همجية وقبح المعتدي
                  دمت اخي بخير----وشكرا على تعاطفك مع الفتاة المغدورة
                  الأخت غالية ،،

                  كل عام وأنت بألف خير ،

                  نعم،

                  هذا واجب القلم الملتزم، أن يكون مرآةً لقضايا مجتمعه، وأن يكون نصيراً لأي ضعيفٍ ومضطهد، فضلاً أن يكتب عن المرأة،

                  سعدت كثيراً بالردود، فهي جاءت جميعها من العنصر النسائي،

                  ويبدو أن ذلك له أثرٌ كبير على أنفسكن،

                  دمتِ بخير ،

                  تعليق

                  • علي التاجر
                    أديب وكاتب
                    • 21-12-2008
                    • 88

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                    الزميل القدير
                    علي التاجر
                    قرأت النص منذ يومين وواجهتني مشكلة في الرد حيث لا أستطيع الرد بسهولة
                    تطير ردودي أو لا أجد مكانا أرد منه
                    مشكلة أعاني منها
                    المهم
                    حين قرأت بداية النص قلت ( لم أخذ التاجر على عاتقه طرق نص بات أكثر من مستهلك )
                    لكني حين توغلت عرفت السبب
                    طرح رائع وأعرف أنك لا تكتب أي شيء وأن نصوصك لابد وأن تكون مختلفة ولها رؤى من زوايا أخرى
                    نص يستحق القراءة فعلا
                    أشكرك لأنك تبهرني كل مرة
                    تحياتي لك
                    أختي العزيزة والمبدعة الأديبة/ عائدة ،

                    كل عام وأنت وجميع من تحبين والعراق وبغداد بألف ألف خير ،

                    استغربت فعلاً عندما لم أجد تعليقك إلا بعد مدة ،

                    وتساءلت : ما بها عائدة ؟

                    ألم تقرأ النص، أو أنه لم يعجبها ؟

                    فأنت من أكثر من يفهم نصوصي ،

                    نعم،

                    وقعت في الاستهلاك، والفكرة مستهلكةٌ تماما، لكن هناك زواياً أخرى، كالزمان والمكان وثقافة المحكي عنهم، والنص لا شك ولو تكلم عن فكرةٍ مستهلكة، فإنه أيضاً يحوي أموراً أخرى كما ذكرتِ تماماً،

                    أختي عائدة،

                    شكرأ، ودمتِ بخير ،

                    وأعاد الله علينا الشهر الفضيل بأحسن حالٍ،

                    تعليق

                    • عائده محمد نادر
                      عضو الملتقى
                      • 18-10-2008
                      • 12843

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة علي التاجر مشاهدة المشاركة


                      أختي العزيزة والمبدعة الأديبة/ عائدة ،

                      كل عام وأنت وجميع من تحبين والعراق وبغداد بألف ألف خير ،

                      استغربت فعلاً عندما لم أجد تعليقك إلا بعد مدة ،

                      وتساءلت : ما بها عائدة ؟

                      ألم تقرأ النص، أو أنه لم يعجبها ؟

                      فأنت من أكثر من يفهم نصوصي ،

                      نعم،

                      وقعت في الاستهلاك، والفكرة مستهلكةٌ تماما، لكن هناك زواياً أخرى، كالزمان والمكان وثقافة المحكي عنهم، والنص لا شك ولو تكلم عن فكرةٍ مستهلكة، فإنه أيضاً يحوي أموراً أخرى كما ذكرتِ تماماً،

                      أختي عائدة،

                      شكرأ، ودمتِ بخير ،

                      وأعاد الله علينا الشهر الفضيل بأحسن حالٍ،

                      زميلي القدير
                      علي التاجر
                      لقد أضفت للنص والفكرة بعدا آخر
                      أحببت كثيرا ولوجك عالما جديدا وطرحا لم يطرح إلا قليلا حين يعاود المغتصب اغتصاب الذبيحة مرات ومرات
                      كانت هنا رؤيتك الأشمل والتي أعطت لتلك الجريمة وجه آخر لم يتطرق له الكثيرين
                      وكي أكون منصفة لك كنت أنجر مع الذبيحة وكأنني أنا وغمرني نفس شعورها بالخوف من الفضيحة والسكوت أتعبني
                      كنت رائعا وأنت ترسم ظلال الرعب والعار
                      تستحق لقب الأديب فعلا سيدي الكريم
                      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                      تعليق

                      يعمل...
                      X