[frame="1 90"]
جذع روح
لم يبدُ لي بتلك البشاعة التي أراها في أعين الزملاء كلما وقعت أعينهم عليه ، والتي جعلتهم ينفرون منه. كنت أرى خلف هذا الوجه الدميم رُوحًا طيبة كساها جسم مترهل ، شفتان غليظتان ، وشعر أشعث كث ، وعينان بيضاوان تتخللهما شرايين حمراء .
كان سعد أضحوكة الطلاب... يباغتونه كلما وقعت أعينهم عليه...
_ أنت نسيوك في الفرن ولا أيه؟
_ فين الفيل ياعم أبرهة؟
ولم أنس بعد تلك الفتاة التي فزعت عندما رأته كان يمد لها يده على استحياء بالقرط الذي سقط منها سهوًا. وقعت عينها عليه فانتفضت وركضت بعيدًا... أخذ يَعدو وراءها مطمئنًا إياها
_ الحلق وقع منك يا آنسة... والله ما أقصد أي حاجة... أنا عايزك تخديه مني بس.
أوقفته لكمة قوية لم تأت من يد رجل الأمن الذي أمسك به ، أتت من عيون الجمع الضاحكة ، والأفواه المقهقة كالأشباح... كان ينظر لهم ويبتسم ، لكنني كنت أسمع أنينه الهادئ في جوف الليل ، ينصب في أذني كقرع الطبول! ، وأنا نائم في المسكن الذي جمعنا منذ اليوم الأول للدراسة...
*****
_ نفسك في إيه يا سعد؟
_ نفسي أركب البحر... تعرف... قريت في رواية إغريقية عن واحد ركب البحر ولقى نفسه على جزيرة فيها ناس شبهه وعاش معاهم !
_ أنا قلت الروايات هتجننك مصدقتنيش... بكرة تقولي عايز أركب صاروخ وأطلع القمر!
_ قمر إيه بس اللي هيبقى فيه ناس شبهي؟
_ مش بعيد عن ربنا... ويمكن كمان تلاقي هناك (ستُّونا) وتغنيلك شيكولاتة شيكولاتة الواد ده ياناس شيكولاتة!!
ورحت أؤدي له دور ستُّونا وهي تغني بحركات استعراضية ، وكان يبتسم فيضيء وجهه ويحتضنني . وقتها فقط يخلو بنفسه ، ويركن إلى فرشاته ، يرسم أمواجًا متلاطمة... تتأرجح فوقها مركب صغير، يقوده جذع شجرة له عينان ! ينظر خلفه بفزع لكَمِّ القراصنة الذين يلاحقونه. بعدها يروح يلتحف أحلامه ويتوه في دروب النوم!
*****
كان مُربكًا. يرسم، ويقرأ، ويعمل على مشروع تخرجه ، الذي قال لي عنه يومًا : إنه حياته. وأحيانًا يكتب على الجدران كلامًا مبهمًا. كل عباراته كانت تبدو طلاسم بحاجة لعرَّاف ليفك رموزها . جملة واحدة كانت تدور في عقلي، وتمسك بتلابيبه...
"تعجبت يومًا من تسمية الطبقة المحيطة بالجمجمة بـ (الأم الجافية)، حتى أدار اليقين رأسي إلى أن عقلي أبٌ جاحد !، وأني طفل لقيط في دروب الحياة ، يشحذ النفس من رئة ضامرة لواقع مصدور "
_ يعني إيه الكلام ده يا سعد؟
_ ركز في التفاصيل الصغيرة هتفهم!
ولم ينبس بعدها... وضع اللوحة أمامه، وغاص بين ألوانها الحمراء والسوداء.
*****
لم أكن أعلم عنه أي شيء ، سوى أنه من قرية ريفية ، وأنه يحب الرسم والقراءة ، ويعمل بجِدٍّ على مشروع حلمه. احترمت خصوصيته ولم أساله يومًا عن عائلته... سألته فقط عن المشروع الذي بنى عليه حياته... أخبرني أنه (محرك) يعمل بذبذبات الصوت ، قادر على دفع مركب صغير لمسافات طويلة ، وتكلفة تشغيله لا تتعدى ثمن بطاريتين لتشغيل راديو صغير يبث الصوت للمحرك...
_ يادي المركب اللي هتجننك... يابني شوف لنا اختراع ينفعنا، جهاز مثلًا يذاكرلنا... جهاز تحط فيه البطاطس تطلع مطبوخة , بدل مرمطة الطبيخ اللي احنا فيها دي ياسعُّودة... هي دي الأفكار... مش تقولي مركب وبحر.
_ أنت يوم ميلادك إيه؟
لم أتعجب من سؤاله، كانت هذه مقدمة سعد، التي من خلالها يعطيني معلومة هامة ، فيبدأ بطرح سؤال غريب ، وكنت دائمًا كما الأعمى ، بحاجة إلى من يأخذ بيدي لأتفادى غموض كلماته ، وأرسو على الجانب الآمن منها فأفهم...
_ يوم عشرة.
_ إعكسه... حط الصفر مكان الواحد... واكتبه على الورقة دي!
_ مش فاهم!
_ الواحد هو أنت !. الصفر البداية !. حياتك مقلوبة. أنت رجل يخاف الاقتراب من البداية. اعدل حياتك , ستعبر البداية
_ بداية إيه يا سعد ورقم إيه... بص أنا عازمك على مركب في البحر... مش نفسك تركب مركب من زمان... يلا أقوم ألبس.
ونهض سعد واحتضنني، كثيرًا ما كان يحتضنني... لم يصدق المفاجأة... ارتدى ملابسه في حركة ميكانيكية ، وخرجنا.
كان يسرع الخطى جانبي ، كطفل كافأه أبوه فذهب به إلى الملاهي. استأجرنا مركبًا... كان ينظر بعيدًا بلهفة لم أدرِ كنهها، وصدره يعلو ويهبط ، تكلمت كثيرًا عن حياتي وعائلتي وحبي له ، لكنه لم يسمعني . كان غارقًا في ابتسامته التي تتسع فتحتضن السماء ، لكن دومًا كانت تبددها غيمة لا تمطر إلا وجعاً !
*****
ثلاث ساعات أمضيتها أمام لجنة المناقشة. تخطيت البداية كما نصحني سعد ، اجتهدت في ابتكار مشروع تخرجي ، واستذكرت دروسي جيدًا... ركزت في التفاصيل الصغيرة... جعلت (الواحد) ينظر بكبرياء للـ (صفر) خلفه ويودعه بكبرياء.
صرفنا أحد أساتذة اللجنة بابتسامة :
_ ناجح بدرجة جيد، اتفضلوا.
من فرط سعادتي، كدت أنسى سعدًا الذي جاء دوره ، وستناقشه اللجنة بعد قليل.
جلس وحيدًا, لم يتحمس لفكرة مشروعه أحد ، بل لم يتحمس أحد لهيئته ! .. منذ الطلة الأولى له على اللجنة ، شعرت رئيسة المناقشة بإحساس بالضيق. حمل سعد المحرك ووضعه أمام اللجنة... بدأ في شرح فكرة العمل، أخرجت السيدة من حقيبة اليد زجاجة عطر، وسكبت معظمها على يدها متأففة ، وأخذت تستنشقه... أوقفته عن الاستطراد بنظرة حانقة ، وسؤال عن اسمه :
_ اسمك إيه؟
_ سعد صالحي
_ اتفضل أخرج ، ناجح بمقبول .
_ لكن أنا لسة ماقلتش حاجة عن المشروع !... أرجوك امنحيني وقتًا أشرح فيه ، لأني محتاج توصية اللجنة بتنفيذه على نفقة الكلية؟
_ المشروع تنفذه لتنجح، وأنت نجحت خلاص، أتفضل بقولك متضيعش وقت اللجنة.
ابتسم سعد في واقعة فتاة القرط !... وابتسم عندما دخل المُحاضر ذات يوم ، واستعاذ بالله ثم أمره أن يجلس في آخر (المدرج )!... وابتسم عندما سأله الزملاء عن فيل أبرهة !... وعندما انقلب المركب بنا في البحر فقلت له : الله يخرب بيت الروايات الإغريقية... أنا دلوقتي عرفت معنى كلمة (إغريقية) إننا هانغرق في الآخر يابن عم صالحي...
لكنه لم يبتسم هذه المرة...
خرج مطأطأ الرأس، خائر الإرادة... فاقدًا للزمن، على وجهه شبح دمعة ، لم تعرف يومًا طريقًا لبؤبؤ عينيه... خرج متأبطًا لحلمٍ بمرتبة (محرك )! وأضافوا هم (مقبول)، حاولت اللحاق به ، لكنه اختفى فجأة...
*****
رجعت للسكن... وجدت عبارته الشهيرة التي تنتهي بـ "رئة ضامرة لواقع مصدور" وحيدة تبكي أقرانها من الجُمل على الحائط ! ، مسح كل شيء سواها. ولم أجده ولا اللوحة...
ركضت بكل ما أوتيت من قوة نحو الشاطئ...كان هناك مركب صغير، مثبت عليه محرك يعمل بذبذبات الصوت !، والنوَّة تضربه من كل اتجاه . لم يقدهُ هذه المرة جذع شجرة !، كان جذع روح مقتلعة تعول بها عواصف النفوس !.. فألقيت بنفسي خلفه أدفع عنه خطر القراصنة
تعليق