هذه جثتي
اقتربت من الجمع الذي أحاط بالجثّة الملقاة على قارعة الطّريق وهمست في أذن زعيمهم :"هذه جثّتي " ولكنّه لم يعرني اهتماما وواصل يرفع الغطاء عنها ويتفحّص الإصابات وهو يتمتم "يا لطيف ...الله يرحمه" عاودت الاقتراب منه وهمست له ثانية :" تلك جثّتي ...", أبعدني بيده دون أن ينظر إليّ ...
كانت الجثة مشوّهة الملامح فالحادث كان مريعا ..كان حادثا بحجم الألم أو أكثر.و كانت الدّماء تغطّي الرّأس والبطن واليدين,,,وكنت أتتبّع حركات شرطيّ المرور الذي كان يجري أبحاثه وقياساته .قلت لعون المرور : " تلك جثتي .. لكنّه نهرني واستخفّ بي واستعان برفيقه ليبعدني من جواره ...كان في الناس "دياقو" معتوه القرية ...كان واقفا عند الرّاس من الجثّة ...نظر إليّ وشخص ببصره في وجهي وجعل يصيح " هو ...هو...هو.." ثمّ أطلق ساقيه للريح واتبعه الجميع ومن خلفهم كانت سياره الإسعاف وسيارة الشرطة تصدران النّعيب الموحش ...كنت مع جثّتي لوحدنا وقد خلت الطّرقات من المارة ولزم الناس بيوتهم فما كان لنا إلاّ أن نعود إلى البيت اليد في اليد ...
نفس الشرطيّ ولكن بزيّ مختلف ونفس الناس ولكنّهم تقدّموا في السنّ كثيرا ونفس الفضوليين ولكنّهم هذه المرّة كانوا يدخّنون ويمضغون العلكة ويقتربون أكثر من الجثّة المعلّقة في شجرة الزّيتون ...اقتربت من المسؤول المحلّي وقلت له :" هذه جثّتي" ...ابتسم لي في هزء وأشاح عنّي بوجهه فواصلت التقدّم نحو الجثّة المتدلية ...الحبل الأبيض الذي اشتريته بدينارين والعقدة التي أصررت على أن تكون ثابته والجذع القويّ الذي كنت أقدّر أنه سيحمل ثقلي ...وحينما استدرت وجدت عون الأمن مسودّ الوجه وقد أطرق في الأرض فاقتربت منه وهمست في أذنه :"لم أُعذّّب كانت ثوان قليلة انتهى بعدها كلّ شيء ..." زمجر في وجهي ودفعني بعنف وجعل يجرّني ويقذع لي في القول ...كنت على وشك الابتعاد عن مسرح الأحداث حينما صادفت "دياقو" فرأيت فيه نجاتي ,,,قلت "لدياقو":"تلك جثّتي" فأسرع ناحية اللفيف وأطال تفحّص الجثة ثمّ صاح بأعلى صوته:"هو هو هو " وتفرّق الجميع في الحقول والمزارع ولم يقو عون الأمن المتقدّم في السنّ على العودة إلى سيارته فألقى بنفسه في الوادي وغاب إلى الأبد ...ها نحن لوحدنا ... أنزلت الجثّة من الشّجرة وعانقتها ثمّ عدنا إلى البيت اليد في اليد ...
كنت على شاطئ البحر وكان اليوم عاصفا ...وكانت جثّتي ملقاة على الرّمال تصفعها الأمواج العاتية ..انتظرت طويلا أن ينتبه الناس إلى الحادث المريع ...كانت الجثة غائصة في الرّمل ...تمنيت أن يمرّ من ينقل الخبر ولكنّ الرّيح كانت تدفع بالجميع خارج دائرة الحادث ...كانت الكوابيس تزداد حدّة وكان الشاطئ خاليا والأمواج تزداد قوّة وعنفا والشّمس كانت تميل إلى المغرب ولم يعد لي من أمل في أن يجتمع الناس حول جثّتي وأن يصيح فيهم "دياقو" :"هو هو هو "كان الطّقس باردا باردا وجثّتي كانت تتجمّد تدريجيّا وكنت أموت على الرّمل المبلّل كما تموت السّمكة المنتفضة على الشاطئ ...أطرافي تتجمّد وتتفتّت وتذوب في الرّمل وتحملها الأمواج إلى الأعماق البعيدة ...أنا أضيع... وأصبح الموج قوّة قاهرة تحول بيني وبين جثّتي ...صحت في الفراع:"تلك جثّتي" لكن هيهات ....
توفيق بن حنيش 29أوت 2012
تعليق