أيقظها رنين الهاتف من كوابيس حزن وجيع قيدها سنين، ليعيدها إلى ذلك الصحو الذي يزرع صمته الشاحب فيّ دربها: ابنتي الحبيبة، لقد تحدد موعد زفاف أختك الأسبوع القادم! زهت بنشوة السرور، للفرح مرور نادر في حياتها، أغوتها فرضية الاستعداد، وألح عليها نداء الأناقة فسارعت للبحث عن فستان يليق بالمناسبة الغالية ولأنها تحب الخصوصية والتميز ارتادت السوق لتختار لون القماش والتصميم الذي يناسبها، وكأن الرداء هو الشيء الممكن اختياره، تماوجت ألوان الأقمشة أمام ناظريها وأغرقتها الحيرة، وكأنها تبحث عن لون له بصمة في الذاكرة، وفجأة أطل اللون يناجيها وهو بيد صبية تتأمله، انبرت للبائع طالبة أن يقتطع خمسة أمتار من أورغنزا البنفسج الغامق، رد البائع موضحا:لكنّه غالي الثمن: لا أعبأ بالثمن، أريده، حملته كحلم وادع من ذكرى لا علاقة لها بالفرح، ليسرقها الحرمان وينثرها في نزف الزمن البطيء.
رحلت بها الذكرى إلى جهاز عرسها حين اختارت فستان البنفسج الواسع لارتدائه في "حفل المباركة" الذي يلي حفل الزفاف بأسبوع، واهتمت بتصميمه كاهتمامها بفستان زفافها،فسهرة المباركة تدعو إليها خاصة محبيها وصديقاتها وترقص بالشموع المضاءة على أصابعها وتقدم "المحلاية" المزينة بالمكسرات، خصوصية هذه الليلة تفوق ليلة الزفاف، لأنها مدخل لعالم الزوجية اجتماعيا وتفاؤل لحياة زوجية سعيدة، فيها تتناثر الثرثرة الخفية والموحية عن أحاديث ليلة الزفاف وستزهو حين تتجنب الصديقات اللواتي لم يدخلن القفص الذهبي محادثتها خوفا من كشف مستور ما حدث مع العروس ليلة الزفاف.
أقبل عليها وتقطيبة تحتل ملامحه: علينا إلغاء حفل المباركة لأننا سنسافر للخليج لاستلام عملي فلا يوجد حجز إلا بعد غدٍ، فغرت فاها ببلادة واضحة وترنحت في دوامات التلاشي، رجته أن يؤجل السفر:أحكموا الطوق الزمني حولي، لا مجال للتأجيل والأمر ليس بيدي.
رأت أمها غزير دمعها وهي تحتضن الفستان البنفسجي، هدأتها قائلة: لا تحزني، ارتدي الفستان "الليلكي" في الحمل، هو واسع، وهل هناك أسعد من فرحة الأمومة، استسلمت للمشيئة واحتفظت به في حقيبة سفر، والتوق جارف للتحليقبه في أجواء فرح، انتظرت فرحا يغلفه حلم أمومة ، لكنه أبى أن يلامس جسدها، ومرت سبع سنوات وقرر الطب أنها لن تكون أمّا، في يوم أقبل زوجها مخترقا وجودها بنظرة فزعة وملامح غامضة قائلا "معي ضيفة، تعرفي عليها" دخلت امرأة حامل ترتدي فستانها البنفسجي، بكت، حشرجة أقفلت الحنجرة، ولمست طرف الفستان بحسرة حرمان، بادرها بلؤم خفي: اعذريني أخذته من خزانتك دون علمك، يجب أن تطأ أحلامك أرض الواقع حتى لو تدثرت بالمرارة فهذه زوجتي التي حققت أملي بالأبوة، وهذا فستانك أحببت أن أراه عليها، سأعوضك بسوار ذهب، انفجر الصمت حادا وتبعثرت خلاياها ردت بصوت مخنوق:لا أريد ذهبا بل أريد فستاني محتضنا أمومة هاربة، أمسكت طرف الثوب بشغف وبكت بكاء مرا، انتابها إحساس بالعري وضياع الأمان وافترشت ساحات الضياع والاغتراب عمرها، وتجذّرت الحسرة وتشعبت حتى أضحت بحجم مآسي العمر وكأن الرمال تحت قدميها شوكية ورشح الأزيار في جسدها.
ارتضت بالأمر الواقع واحتضنت حلم البنفسج كقلب ينبض بأحلى معاني الحب فيحي روحا سحقها لؤم البشر أو كحبيب في الخيال تحاكيه ولكن لا تعرف له اسما ولا رسما وترنمت: "ليه يا بنفسج بتبهج وانتَ زهرحزين".
الليلة سترتدي الرداء البنفسجي الجديد في حفل زفاف أختها، الذي انتظرته بشوق سنين عمرها،ليلة واحدة قد تختزل فيها أسى العمر،ودوّىّ الأنين المكتوم في ظلمة حالكة حين انتابتها أعراض أزمة قلبية مــــــوغلة بخيبــات من الذاكرة ومن فراغ المدىنقلت على حمّالة تحوطها أجهزة طبيّة وصبي الخياط يلوح بفستان البنفسج، وعين دامعة وتلويحة يد مودعة أسملت كلّ حواسها حتى حدود الغيبوبة، وظل الصبي يحمل فستانا لم يجد فرحا في حياة صاحبته وبكت عمرا هرب منها ولم تجد في حناياه لحظة فرح مبهرة.
تعليق