محطة القطار الأخيرة
ــــــــــــــــــ
تتجاذبني الأفكار في رحلة عودتي من قريتي التي هجرتها منذ سنوات ، تنكرت لها ولوالدتي
التي تركتها خلفي فيها تعاني الوحدة .. وهاهي رحلت في هدوء كالذي عاشت فيه دائما ..
أرضعتني حنانا فأطعمتها جفاءا وبعدا ..، ظننت أنني أحقق لها كل رغباتها عندما أرسل لها
ماتريد ونسيت أنها كانت تحتاجني أنا ..
لم تشعرني يوما بتقصيري بل كانت دائمة الدعاء لي فكانت سببا فيما وصلت إليه من نجاحات
أخذت رشفة من فنجان قهوتي ونظرت إلى دوائر دخان سيجارتي وهي تحاصرني مكبلة ذكراتي
التي توقفت عند لحظة رؤيتي لوجهها وهي مستلقية بعد أن فارقتها روحها الطيبة ، وشبح ابتسامة
هزيلة تقاسمها ملامحها الساكنة ..
وانحدرت دمعة هاربة محوتها قبل أن يلمحها أحد من زملاء رحلة القطار ، وذهبت بعيدا سنوات
تأكلها سنوات إلى يوم تخرجت في كلية الحقوق وحينما تخطاني قطار التعيين في محطة التدريس
فيها من أجل آخر سبقته في التفوق ولكنه يحمل وساطة أكبر من كل مؤهل ، صدمتني الحقائق
الزائفة فتبدلت منذ هذا اليوم .. أصبحت انتهازيا استقطب الفرص لصالحي .. أدوس على الأعناق
في سبيل وصولي لما أريد وكأن حائط قيمي ومبادئي شيد على حافة هاوية فسقط بي إلى قاع واقعي
المريض .. فتلقفني أستاذي الذي أدرك لوني الأسود الذي يزين أعماقي المهزومة ..
وتابعت رحلة ذكرياتي والقطار يلتهم المسافة وسحب حزني على فراق أمي تطوق روحي ،.و..
وتعلمت في مكتب أستاذي كيف أجعل رمز العدالة معصوب العينين ..
تعلمت كيف استفيد من ثغرات القانون لأحقق طموحي وأجمع المال كي أحشره
في ثقوب نفسي القلقة ..
وكان لابد أن يتفوق التلميذ على أستاذه وإلا فما فائدة الدرس ؟
وأخذت بعض القضايا الكبيرة لحسابي دون علمه وأصبح لي مكتبي الخاص فذاع صيتي وانطلقت شهرتي
في السعي وراء الباطل بامتياز ..، فكانوا موكليني من تجار السموم والنصابين من رجال الأعمال وسيدات
المجتمع اللامعات في تجارة واحدة بعينها ..
ومع سقوطي تناسيت كل ما يربطني بالماضي الذي يصر على أن يذكرتي بفقري وضعفي ..،
حتى أمي نسيتها ولم أتذكرها بالتفاتة حتى رحلت ..، واستوقفتني لحظة الموت بحقيقتها المجردة وتساءلت :
لماذا نتحول إلى وحوش كاسرة نلتهم كل ما يقابلنا وفي لحظة نترك كل شيء خلفنا تاركين ما جمعناه ..؟!
فقررت هجر طريق الأفاعي الذي سرت فيه طويلا ..
وضعني الموت على أول سلم التمرد وتركني أعاني ثقل الاحساس وعنف تلاطم أمواج الحقيقة
التي صحوت عليها فجأة ..
وكلما التهم القطار المسافة عائدا إلى صخب حياتي كلما زاد تصميمي على ترك كل شيء والتشبث
بآخر فرصة التي لاحت لي وربما لن تتكرر مرة أخرى ..
ووصل القطار إلى محطته الأخيرة ووجدت من ينتظرني من محامي مكتبي واتخذت طريقي
إلى الخروج وكل واحد منهم يطلعني على سير القضايا التي بحوزته ..،
جرفتني التفاصيل ونسيت ما كان من أمري ، خبت لحظة المواجهة بداخلي ولفتني مشاغلي في عباءة
الواقع بعيدا عن قراراتي التي اتخذتها في لحظة إدراكي لمعنى الموت التي انتهت ..
انتهت بمجرد وصولي إلى محطة القطار ... الأخيرة.
/
/
ماجي
تعليق