وعبر.... حدودالليل
لجأ الناس إلى عُلبهم، يفرغون طاقات نهارهم المخزونة، والمشتعلة بالحر الذي خلّفته الشمس الغاربة وهو ينقش الألم على الأبدان، فتمنوا لو تُمطر الدنيا بَرَدا وثلجا ليخرجوا بأقلّ ما يمكنهم من الملابس هربا وتحديا معا لهذا الحرّ الذي لم يحدثهم عن مثله الآباء والأجداد.
واحتمى الناس في غرفهم الحمراء والزرقاء بعد أن شملهم صمت الليل، وناموا على خيبات أحلامهم ونكساتهم وعلى شقائهم وعلى الأخبار التي تسرُ الأعداء والمتشفين، عمّا يجري خلف الحدود الشمالية الشرقية، أو الجنوبية الغربية، من قتل وتشريد ونزوح إلى الشمال أو أقصى الجنوب هربا من الموت الذي يلاحقهم كالطاعون.
وفي الصباح عندما استيقظوا كانت لا زالت الكآبة تلفّ الجبال، وتملأ الوديان، وتضج بها الشوارع والطرقات، وكانت أجهزة الإعلام المرئية أو المسموعة أو المكتوبة تنفث الأخبار التي تسمم الأبدان، تنطلق كالإشاعات، تكبر مع كل خطوة ليكبر معها الألم وينشلّ النبض..
ومع انقشاع آخر ظلام ظهر غريب في الشارع!!
أمّا كيف ظهر ؟ ومن أين جاء؟؟ لا أحد يعلم! كأنه ولد من رحم الليل!
لم يسأله أحد عن ذلك!!
ولمّا أحسَّ بعدم المبالاة وبالصمت المطل من العيون.سأل هو عن شيخ القرية أو عن بيت المختار.
ضحك الناس من سؤاله واستهجنوا، لأن البلدة مليئة بالشيوخ، ولا أحد منهم يقبل بأقلّ من شيخ القريةة، وعهد المخترة عهد باد وانتهى كالأنظمة البائدة .
ظلّ يتنقل من شارع إلى آخر حتى وصل ساحة شبه مستديرة، تحيط بها البنايات من كل الجوانب، وتخرج منها الشوارع إلى كل الاتجاهات... أخذ يتأمل البنايات بشهوة غريبة أحرجت النساء التي تطلّ من الشبابيك التي تفتح صدرها لنسيم الصباح ،وأحرجت الحيطان الخارجية التي لا تُحرج، فبدت له وكأنها محمرة الخدود، خجلى من نظراته التي يغرزها كما تُغْرز الإبرة في الجسم الحيّ، وبدت كأنها تتضايق من نظراته وتخيّل أنها ستثور كالبركان احتجاجا على هذه الوقفة وهذه النظرات، وتخيّل أن البناية المقابلة له تقول لجارتها "إنه ابن ليل..والليل ستار العيوب" وتردّ جارتها قائلة " إنه عميل للموساد والمخابرات .. إياكم أن تبصقوا حتى في وجه الريح أمامه.." وقالت ثالثة "إنه موظف صغير يعمل لصالح لجنة التنظيم، يقدم لها التقارير عن الأبنية غير المُرخّصة مقابل أجر بسيط" وقالت رابعة " إنه عميل سريّ لمؤسسة التامين الاجتماعي ، يترصد الذين يتوجهون إلى مؤسسة التامين كالمعاقين، بعضهم يمشي على ثلاث، ومتفرعة، وحين يعودون إلى بيوتهم يتحركون كراقصي الباليه، ويقفزون كشغوفي الوثوب، ويمشون كما تمشي الخيول الأصيلة، ورمته امرأة من شباك في الطابق الثالث بما في طشت الغسيل من ماء، فانتفض كمن باغتته أفعى، واستيقظ من حلم لا احد غيره يعلم كيف عاشه.
وحينها فقط أدرك انه غير مرغوب به، فغادر الساحة لكنه لم يغادر القرية.
وكعادة الزمن، تكفل بإسقاط حكايته عن ألسنة الناس، وذابت في كأس روتين الأيام ، وانصهرت في آتون الحياة، وشرب الناس ألكاس حتى آخره بهدوء، وعبر غريب حدود الليل، وصار واحدا منهم، وقبلوه رغم نظراته التي لم تتغيّر، كمن يقبل أمرا على علّاته، وصار مثلهم يصوم ويصلّي ويعظ ويُفْتي ويفتخر بانتمائه إلى القرية ، وبتاريخه الطويل فيها، ولما سأله أحد أصدقائه أن يحدثهم عن تاريخه البعيد، اغرورقت عيناه، وانسابت الدموع في خطّين متوازيين متباهيا بماضيه ونَسَبِه الذي لا يعرف عنهما أحد شيئا... واختنقت الكلمات قبل أن تولد، ولم يقل شيئا..وبقي غريبا .... كأنه ولد من رحم الليل !!!!
تعليق