خـلـف مـرآة نـرسـيـسيـة
ابـتـسـامـة أمـي الـنـاقـصـة تـضـع بـاطـن قـدمـي فـي أول عـتـبـة مـن عـتـبـات الـمـراهـقـة، وعـلـيـهـا أن تـراقـب تـلـك الـمـنـحـنـيـات الـمـفـتـرضـة كـمـا يـنـبـغـي أن تـكـون الـمـراقـبـة.
أرخـيـتُ ذيـلَ جُـلـبـابـي الـداكـن حـتـى مـسَّ سـطـح الأرض مـن تـحـتـي. اسـتـغـنـيـتُ عـن عـمـاد أبـو صـالـح وجـمـعـتُ مـجـمـوعـتـه الـشـعـريـة فـي قـبـضـة واحـدة – كـلـب يـنـبـح لـيـقـتـل الـوقـت – وتـمـتـعـتُ بـمـراقـبـة أمـي.
الـشـمـس تـسـنـد مـرفـقـهـا الـدامـي فـي مـقـدمـة الـسـمـاء. مـعـدات الـشـغـل صـارت جـاهـزة لـتـقـديـم خـدمـاتـهـا لـعـمـال الـمـصـانـع وغـيـرهـم مـن الـمـارة. أكـواب الـشـاي فـارغـة ولامـعـة والأبـاريـق تـحـتـفـي بـمـرور مـائـة درجـة مـئـويـة عـلـى ظـهـر الـمـاء الـذي فـي داخـلـهـا.
قـالـت أمـي لـن أدعـك تـفـارقـنـي لـحـظـة.. سـتـرافـقـنـي كـتـف بـكـتـف حـتـى نـجـتـاز بـنـجـاح مـزالـق هـذه الـمـرحـلـة، وعـلـيـك بـقـراءة الـشـعـر. الـشـعـر وحـده هـو الـذي يـحـتـكـر وظـيـفـة تـهـذيـب الـوجـدان.
الـنـسـاء الـعـامـلات فـي هـذا الـشـارع الـضـيـق يـتـسـلـلـن الـواحـدة تــلـو الأخـرى. يـكـنـسـن الأتـربـة ويـعـرضـن بـضـاعــتـهـن ثـم يـجـلـسـن بـبـقـايـا نـعـاس كـامـن فـي الـعـيـون.
رجـلٌ يـسـتـعـيـن بـقـدمٍ إضـافـي نـحـيـلـة يـقـتـرب مـنـا. الـمـكـان الـذي يـجـب أن تـنـمـو فـيـه لـحـيـة مـهـيـبـة مـتـسـخ بـبـقـايـا لـعـاب قـديـم. رمـق أمـي بـعـيـن واحـدة تـبـدو حـدقـتـهـا أكــثــر اتـسـاعـاً مـن الأخـرى. سـحـب مـقـعـداً صـغـيـراً يـكـاد يـحـاذي الأرض وجـلـس عـلـيـه. حـاولـتُ أن أعـود لـلـكـلـب الـذي يـنـبـح لـيـقـتـل الـوقـت. أشـار الـرجـل بـرأسـه الـمـسـتـطـيـل إشـارة مـشـبـوهـة لأمـي ثـم حـمـلـق فـي وجـهـي. عـرفـتُ بـأن أمـي لا تـريـد أن تـبـعـدنـي مـن أجـلـه. مـدّ يـداً طـويـلـة لـيـتـحـسـس خـدهـا الـنـاعـم. عـجـزت يـده عـن الـوصـول إلـى مـبـتـغـاهـا. اسـتـعـان بـقـدمـه الـثـالـث، رفـع مـقـدمـة عـصـا رفـيـعـة ومـررهـا عـلـى الـعـلامـات الـتـي تـمـيـز خـد أمـي. كـان عـلـى كـل خـد ثـلاث خـطـوط مـن لـحـم ودم. 111 فـي الـخـد الأيـمـن و 111 عـلـى الـخـد الأيـسـر. انـتـفـضـت أمـي، حـاولـتْ أن تـدلـق فـي حـدقـة عـيـنـه الـمـتـسـعـة مـاء سـاخـن، لـم تـصـب الـهـدف، انـدلـق الـمـاء فـي ثـوبـهـا الأزرق الـذي ابـتـاعـتـه لـيـلـة الـبـارحـة مـن مـتـجـر لا يـجـيـد صـاحـبـه بـراعـة الـمـسـاومـة. قـال لـهـا بـعـد أن قـبـض ثـمـن الـثـوب كـامـلاً:
- لـمـاذا لا تـأتـيـن بـصـحـبـة ابـنـك نـرسـيـس؟
- لـيـس لـدي ابـن بـهـذا الاسـم!
- طـيـب.. أيـن هـو جـانـوار.. جـانـوار الـولـد الـطـيـب الـوسـيـم؟
- ابـنـي اسـمـه طـارق ولا عـلاقـة لـه بـهـذه الأسـمـاء الـغـريـبـة.. ثـم لا عـلاقـة لـك بـه
- فـقـط أريـده لابـنـتـي حـالـمـا تــنـضـج رجـولـتـه أكـثـر .. لـمـاذا لا نـقـرأ الـفـاتـحـة الآن وسـأعـيـد لـك ثـمـن الـثـوب ومـعـه ثـوبـاً آخـر. طـارق وحـده هـو الـذي سـيـجـعـل مـن جـذوري جـذوراً نـقـيـة. ابـنـك مـشـع كـالـيـورانـيـوم والـكـل يـعـرف ذلـك. لا تـدعـيـه يـتـمـعـن فـي مـرآة مـصـقـولـة لا تـعـرف مـقـدار بـعـدهـا الـبـؤري أبـداً حـتـى لا يـغـرق فـي مـاء الأنـاء ويـتـأيـن مـع نـفـسـه. ألا تـسـمـعـيـن بـمـأسـاة نـرسـيـس يـا أم نـرسـيـس..!
الـثـوب الأزرق الآن تـحـت رحـمـة الـمـاء الـسـاخـن. عـدتُ سـريـعـاً لـلـكـلـب حـبـيـس الأوراق وأنـا أراقـب الـرجـل فـي مـشـوار اجـتـهـاده لـمـداعـبـة خـدهـا الـنـاعـم رغـم الـشـقـوق الـتـي تـمـيـزه. بـعـثـرتُ الـقـصـائـد مـكـتـفـيـاً بـعـتـبـات الـنـصـوص. تـمـلـمـلـتْ الأوراق واطـلـقـتْ فـحـيـحـاً مـزق دلالـة الـكـلـمـات لـتـتـجـسـد فـي عـيـون كـلـب ضـخـم لـه لـون يـشـبـه لـون الـمـداد. قـفـز الـكـلـب قـفـزة واحـدة وأمـسـك بـعـنـق الـرجـل ذو الـحـدقـة الـمـتـسـعـة وغـرز أنـيـابـه فـيـه.
قـهـقـهـتْ أمـي قـهـقـهـات مـتـتـالـيـة وفـق مـتـتـابـعـة هـنـدسـيـة لا تـنـتـهـي حـتـى فـاض الـمـكـان بـعـمـال ورديـة الـصـبـاح. قـال أحـدهـم بـيـنـمـا عـيـنـاه تـتـسـمـران فـي مـلامـح وجـهـي إن مـا فـعـلـه هـذا الـقـبـيـح بـوجـهـك يـا أم جـانـوار لـن يـمـر مـرور الـكـرام. لـم تـرحـب أمـي بـشـهـامـتـه الـمـفـتـعـلـة، قـدمـتْ لـه كـأس شـاي مـجـانـاً وذكـرتـه بـمـوعـد قـطـار الـزواج الـقـادم بـعـدمـا فـاتـه الأول بـمـحـطـتـيـن وعـلـيـه أن يـأخـذ نـفـسـاً عـمـيـقـاً اسـتـعـداداً لـدخـول الـمـحـطـة الـثـالـثـة ويـبـتـاع مـا تـيـسـر مـن الـصـبـغـات الـهـنـديـة أو الـتـركـيـة لا فـرق ويـدهـن بـهـا شـعـر حـواجـبـه ويـسـكـب مـا تـبـقـى مـنـهـا فـي جـدران قـلـبـه الأجـوف.
قـالـت أمـي بـعـدمـا ذكـرتـهـا بـاقـتـراح بـائـع الـثـيـاب الـنـسـائـيـة وبـأنـنـي قـد أكـون بـالـفـعـل صالح لـتـنـقـيـة جـذورة غير الـنـقـيـة.. إن مـريـم ابـنـة مـديـر مـصـنـع الـبـسـكـويـت لا تـخـلـو مـن إعـاقـة ذهـنـيـة وثـقـل فـي الـسـمـع وغـالـبـاً مـا تـبـدو لـمـن يـراهـا أول مـرة كـمـعـتـوهـة ومـن الـمـمـكـن أن يـضـلـلـهـا أحـدهـم ويـفـعـل بـهـا مـا يـريـد فـعـلـه، وسـبـق أن صـرح والـدهـا فـي مـجـالـسـه الـمـتـعـددة بـأن مـن يـتـأخـذ مـن مـريـم زوجـة لـه سـيـعـامـلـه كـأحـد أبـنـائـه ويـخـلـق مـنـه تـاجـراً نـاجـحـاً. أريـدك يـا طـارق أن تـصـبـح تـاجـراً نـاجـحـاً، وبـعـدهـا يـمـكـنـك أن تـتـزوج بـشـاعـرة قـد تـهـذب وجـدانـك وقـد لا تـفـعـل، وإيـاك أن تـفـكـر فـي امـرأة تـكـتـب نـصـوصـاً قـصـصـيـة.. يـكـفـيـك يـا ولـدي مـقـدار الـفـانـتـزم الـذي سـتـعـيـشـه بـرفـقـة مـريـم.
قـالـت لـي ذلـك ثـم سـحـبـت مـنـي الـمـجـمـوعـة الـشـعـريـة الـتـي تـنـام فـي يـدي وزجـتـهـا فـي مـعـدة الـنـار كـغـذاء جـديـد لـهـا ثـم أشـارت لـكـلـب آخـر قـابـع بـيـن فـخـذي وفـخـذي وهـو يـنـبـح لـيـقـتـل الـوقـت وابـتـسـمـت ابـتـسـامـة غـيـر مـنـقـوصـة وخـبـأت فـي جـيـبـي قـيـمـة مـجـمـوعـة شـعـريـة جـديـدة- الـيـنـابـيـع تـغـسـل أوزارهـا بـيـديـك- قـبـل أن تـبـصـق عـلـى ثـوبـهـا الأزرق.
لا أدري وأنـا أشـاهد اسـتـهـزاء أمـي بـالـرجـل الـذي لا يـعـرف كـيـف يـتـسـلـق قـطـاراً مـسـرعـاً لِـمَ تـذكـرتُ مـريـم وكـيـف حـفـظـتُ تـصـريـح والـدهـا مـديـر مـصـنـع الـبـسـكـويـت كـمـن يـتـخـذ قـراراً لا رجـعـة فـيـه.
ظـلـلتُ أرافـق أمـي فـي شـغـلـهـا الـنـهـاري وكـلانـا يـنـتـظـر أن تـتـمـلـمـل شـعـرة مـن شـاربـي وتـطـل عـلـى الـسـطـح حـتـى نـسـتـطـيـع أن نـقـتـرب مـن ذلـك الـمـصـنـع. لـكـن فـي صـبـاح مـاكـر ظـهـرت فـتـاة جـديـدة فـي الـشـارع. جـاءت بـصـحـبـة الـبـنـت نـوال جـارة أمـي فـي ذات الـمـكـان. رمـت نـوال تـحـيـتـهـا الـصـبـاحـيـة فـي وجـه أمـي كـمـسـافـر يـرمـي حـقـيـبـة ثـقـيـلـة الوزن عـن كـتـفـه. كـانـت سـعـديـة عـابـديـن الـفـتـاة الـجـديـدة تـركـض خـلـفـهـا. قـفـزت نـوال فـوق سـيـاج قـصـيـر وخـلـفـهـا سـعـديـة صـوب دكـان صـغـيـر يـفـتـح ضـلـفـة واحـدة مـن أبـوابـه. شـاب قـصـيـر الـقـامـة يـسـتـلـقـي فـي مـنـتـصـف مـسـاحـة الـدكـان عـلى لـحـاف قـطـنـي مـتـسـخ. مـهـنـة الـشاب فـي هـذه الـدنـيـا أن يـسـتـأجـر مـسـاحـة دكـانـه كـمـخـزن تـضـع فـيـه عـامـلات الـشـاي فـي الـسـوق أغـراضـهـن. الـدكـان مـكـتـظ بـالـطـاولات الـصـغـيـرة والـمـقـاعـد وكـأسـات الـشـاي والـكـوانـيـن. لـم تـمـهـلـه نـوال حـتـى يـفـتـح عـيـنـيـه جـيـداً. ارتـمـت فـوقـه وقـبـلـتـه قـبـلـة طـويـلـة لا أعـرف إن كـانـت حـارة أم بـاردة وداعـبـت مـقـدمـة نـقـطـتـه الـمـحـوريـة ثـم نـهـضـت. تـنـاولـت أدواتـهـا وخـرجـت بـيـنـمـا سـعـديـة تـراقـب الـمـشـهـد فـي ذهـول:
- قـبـلـة صـبـاحـيـة مـفـاجـئـة؟
مـالـت نـوال بـوجـه مـحـايـد:
- اسـمـه أربـاب يـا سـعـديـة.. والـحـصـل مـجـرد اكـسـسـوارات لـتـخـفـيـض أجـرة الـدكـان
مـا أن اسـتـقـرت سـعـديـة فـي ذات الـشـارع حـتـى صـنـعـت جـسـراً بـيـنـهـا وبـيـن أمـي.. وكـنـتُ قـريـبـاً.
كـانـت تـكـبـرني بـأعـوام عـديـدة. عـلـمـتـنـي أشـيـاء ابـعـدتـنـي عـن الـيـنـابـيـع وأوزارهـا وعـن مـريـم. فـبـرايـر الأسـود مـن عـام 2008م هو الـذي جـاء بـهـا إلـى هـنـا. لـم تـكـن تـظـن بـأنـهـا سـتـتـرك مـديـنـتـهـا سِّـربـا الـواقـعـة فـي دارفـور فـي أقـصـى الـجـانـب الـغـربـي مـن الـبـلاد. عـنـدمـا هـاجـمـت قـوات جـاءت مـن الـمـركـز مـديـنـتـهـا وقـتـلـت زوجـهـا واحـرقـت الـمـبـانـي ولاذ آلاف الـسـكـان بـالـفـرار لـم تـجـد مـفـراً غـيـر الـفـرار مـع الـفـاريـن. كـانـت قـبـل الـهـجـوم تـقـضـم أطـرافـهـا الـحـاجـة الـمـاسـة لـلـغـذاء والـدواء ولـكـن أن يـصـل الأمـر حـد إحـراق الـمـلاجـىء هـذا أمـر لا يـجـب انـتـظـار الـمـزيـد مـنـه. تـسـلـلـت مـع الـمـتـسـلـلـيـن حـتـى وصـلـوا إلـى مـخـيـم جـبـل لـلـلاجـئـيـن فـي تـشـاد. كـان الـوضـع فـي الـمـخـيـم لـيـس بـأفـضـل مـن وضـعـهـا فـي سِّـربـا.. دبـرت أمـرهـا بـطـريـقـة سـحـريـة وتـسـلـلـت إلـى حـاضـرة بـلادهـا لـتـجـد نـفـسـهـا تـقـتـسـم فـراشـاً لا يـكـفـيـهـا لـوحـدهـا مـع الـبـنـت نـوال.
خـلال الإسـبـوع الأول مـن حـضـورهـا شـوّه رجلٌ يـنـاديـه الـبـعـض بـشـيـخ أيـوب فـطـرتـهـا. اكـتـسـب أيـوب هـذه الـصـفـة مـن طـبـيـعـة وظـيـفـتـه الـتـي تـسـتـدعـي سـمـة ديـنـيـة مـرافـقـة، فـهـو الـرجـل الـثـانـي فـي مـؤسـسـة نـشـاطـهـا مـكـافـحـة الـثـراء الـحـرام. نـظـفـتْ مـنـزلـه ثـلاث مـرات. فـي الـمـرة الأخـيـرة طـرقـت بـابـه. انـتـبـهـت زوجـتـه، مـسـحـت لـعـابـاً يـتـقـاطـر مـن فـمـهـا وأشـارت لـزوجـهـا أن يـخـتـفـي مـن أمـامـهـا فـي الـحـال. أشـارت لـهـا جـهـة كـومـة مـلابـس تـقـبع فـي بـطـن سـريـر حـديـدي وخـرجـت بـرفـقـة الـشـيـخ.
دخـلـت سـعـديـة الـغـرفـة الـوحـيـدة الـتـي تُـرك بـابـهـا مـفـتـوح لـهـا. سـريـران مـتـقـابـلان بـيـنـهـمـا طـاولـة مـسـتـطـيـلـة وكـرسـيـان وتـلـفـاز كـبـيـر فـي الـمقـدمـة. أدرات مـروحـة الـسـقـف وكـادت تـمـد يـدهـا وتـضـغـط زر تـشـغـيـل الـتـلـفـاز. غـيـرت رأيـهـا واتـجـهـت صـوب الـحـمـام. لـم تـغـلـق الـبـاب خـلـفـهـا، اسـتـقـبـلـت بـانـبـهـار انـهـمـار الـمـاء فـوق جـسـدهـا. فـتـحـت صـنـدوقـاً زجـاجـيـاً مـثـبـت عـلـى الـحـائـط، أمـسـكـت بـقـارورة، أزاحـت عـنـهـا الـغـطـاء، مـلأت بـاطـن كـفـهـا بـالـسـائـل وصـبـتـه عـلـى جـسـدهـا ودنـدنـت بـأغـنـيـة تـراثـيـة مـرحـة مـن مـوطـنـهـا تـحـكـي عـن امـرأة تـوصـي ابـنـتـهـا الـمـتـزوجـة حـديـثـاً. ركـضـت جـهـة الـغـرفـة، ضـغـطـت زر تـشـغـيـل الـتـلـفـاز، وقـع بـصـرهـا عـلـى فـتـاة سـمـراء تـتـوج كـمـلـكـة لـجـمـال أمـريـكـا. وفـجـأة رأت الـرجـل الـثـانـي فـي الـمـؤسـسـة الـتـي تـكـافـح الـحـرام أمـامـهـا بـلـحـيـتـه الـخـفـيـفـة ووجـهـه الأبـيـض الـمـسـتـديـر وفـمـه الـكـبـيـر الـذي يـخـفـي أسـنـانـاً صـغـيـرة لـلـغـايـة. سـدَّ عـلـيـهـا مـنـافـذ الـخـروج بـقـامـتـه. أشـار لـهـا بـعـلامـة الـسـكـوت بـعـدمـا وضـع سـبـابـتـه بـيـن شـفـتـيـه ثـم أمـرهـا هـامـسـاً بـأن تـجـلـس عـلـى الـفـراش وتـكـمـل مـا كـانـت تـشـاهـده. وضـع كـيـسـه الأبـيـض وظـل يـشـاهـد مـعـهـا حـفـل الـتـتـويـج فـي صـمـت مـريـب حـتـى تـم الإعـلان عـن انـتـهـاء الـحـفـل. سـحـب الـطـاولـة حـتـى الـتـصـقـت بـركـبـتـيـه. فـتـح صـندوقـاً مـربـعـاً فـتـصـاعـد دخـان لـه رائـحـة الـعـجـيـن الـمـحـتــرق. أمـسـك بـأوراق حـمـراء وعـضـهـا بـأسـنـانـه ثـم ضـغـط عـلـيـهـا بـإصـبـعـيـه حـتـى بـلـل الـسـائـل الأحـمـر قـطـع الـعـجـيـن الـمـسـتـلـقـيـة داخـل الـصـنـدوق. حـمـل الـطـاولـة ووضـعـهـا بـجـانـب رأسـهـا الـمـسـتـلـقـي عـلـى الـوسـادة. أمـسـك بـقـطـعـة وقـربـهـا مـن فـمـهـا، قـضـمـت قـضـمـة صـغـيـرة ثـم الـتـهـمـت عـدداً مـن الـقـطـع. عـبـث بـمـحـتـويـات الـكـيـس. كـان وجـهـه يـعـلـوه صـفـاء مـن نـوع غـريـب وهـو يـمـلأ بـطـن مـلـعـقـة بـمـادة هـلامـيـة. تـذوقـت سـعـديـة طـعـم الـمـثـلـجـات وهـزت رأسـهـا بـعـلامة الاكـتـفـاء. تـوقـف الـرجـل دون أن يـنـزع عـن جـسـده قـمـيـصـه الـداكـن وإنـمـا اكـتـفـي بـأن قـبـلـهـا كـثـيـراً وفـق مـا تـيـسـر لـه ثـم أطـلـق آهـة صـغـيـرة أعـلـن عـبـرهـا عـن انـتـهـاء الأمـر. قـال لـهـا قـبـل أن يـغـلـق فـي وجـهـهـا الـبـاب ويـخـرج:
- قـومـي لـمـهـامـك وأنـا لـم أعـد إلـى الـمـنـزل مـنـذ أن خـرجـتُ مـع زوجـتـي.
اصـطـادتـنـي سـعـديـة حـتـى قـبـل أن يـنـمـو شـاربـي، وقـالـت إن تـلـك الـلـحـظـات مـع ذلـك الـرجـل الـمـهـم كـانـت يـانـعـة ولـكـن تـنـقـصـهـا الـمـشـاعـر.. اسـتـغـل سـذاجـتـي وغـبـائـي وفـقـري وعـرف بـخـبرتـه كـيـف يـقـول لـي تـذوقـي طـعـم الـمـكـافـحـة يـا سـعـديـة ولا عـلاقـة لـك بـالـثـراء. لـكـن مـا يـحـيـرنـي لـمـاذا اكـتـفـى بـقـبـلات لا مـعـنـى لـهـا ولـم يـذهـب بـعـيـداً..؟ والآن يا طـارق قـد توفـرت لـديـنـا الـمـشـاعـر.. لِـمَ لا نـعـيـد إخـراج الـمـشـهـد وفـق تـقـنـيـة حـديـثـة؟
لـم تـلـحـظ أمـي مـا يـدور بـيـنـي وبـيـن فـتـاة الـمـخـيـمـات إلـى أن جـاء الـيـوم الـذي لاحـظـت فـيـه انـتـفـاخـاً طـفـيـفـاً فـي بـطـنـهـا. كـمـا إنـهـا رأت فـي ذات الـيـوم يـدي تـحـمـل نــصــوصـاً قـصـصـيـة كـتـبـتـهـا امـرأة فـعـرفـت بـأنـي قـد رحـت ضـحـيـة لـفـنـتـازيـا تـبـيـعـهـا عـقـول لا تـعـرف كـيـف تـصـنـع كـوب شـاي فـاخـر بـجـانـبـه قـضـمـة بـسـكـويـت آتـيـة مـن ذلـك الـمـصـنـع الـمـعـتـوه. تـأسـفـتْ أمـي عـلـى كـلاب وهـمـيـة لـم تـعـد تـنـبـح وعـلـى اسـتـهـزائـهـا بـذلـك الـرجـل صـاحـب الـقـدم الإضـافـيـة. خـتـمـت أسـفـهـا بـتـمـزيـق ثـوبـهـا الأزرق قـبـل أن تـضـع فـي جـيـبـي تـذكـرة لـي وأخـرى لـلـبـنـت لـقـطـار يـجـب عـلـيـه أن يـغـادر فـي صـبـاح غـيـر مـاكـر صـوب مـديـنـة سِّـربـا الـواقـعـة فـي قـلـب دارفـور الـتـي تـجـمـل جـانـبـنـا الـغـربـي مـن الـبـلاد.
تعليق