كل النجوم في سماء المحبة ولا شيء في اليد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • البكري المصطفى
    المصطفى البكري
    • 30-10-2008
    • 859

    كل النجوم في سماء المحبة ولا شيء في اليد

    كل النجوم في سماء المحبة ولا شيء في اليد
    حدقت في الساعة الرمادية المعلقة على الحائط بعينين كليلتين ..الصورة ضبابية ..رمقت رقاص الساعة يقطف رؤوس الثواني بلا هوادة يدفنها في سراب الأيام ثم جالت ببصرها في فناء الدار المجصصة بالأسمنت ؛ تتوسطه شجرة تين تشمخ بأنفها منذ عقود؛ تلتف أغصانها ؛ يعانق بعضها بعضا وينسكب ظل ظليل أوحى إلى مرجانة أنها العاشرة صباحا ... فركت عينيها لاستجماع ما تبقى من ضحالة الإبصار ثم حدقت في الصورة ذات الإطار الخشبي البني المصقول أمامها . إطار يحتضن شخص المرحوم بجلبابه الصوفي الأبيض وعمامته التي تغطي كافة شعره إلا من ناصية وخطها الشيب . ووجهه المكتنز المستدير؛ وشاربه الكث.
    استغرقت اللحظة في تفكير طفولي ؛ تَرى يد الزمان تدبر مصائر الأشخاص بمشيئة إلهية وقدر محتوم .
    سحبت منديلها من ثنايا قفطانها الوردي ونفضت ذرات الغبار العالقة بالصورة . تذكرت كلامه المعسول ؛ وهداياه الموشومة في الذاكرة ؛ ووصاياه التي لم تمل من سماعها طوال حياته . كان يتطلع إلى الغيم في الأفق البعيد ويردد على مسمعها بصوت شجي قوله :" البيت بيتك أنت وحدك يا حبيبتي يا مرجانة .... الأعمار بيد الله ..إذا مت قبلك دبري شأنك بنفسك ".
    كانت مرجانة تلتقط من فاه الرجل في جل أوقاتها الكلام الذي يثلج الصدر ويسقي منابت الحب ؛ وأغراس الوفاء في رحابة قلبيهما البريئين...
    تذكرت الأولاد الأربعة الذين شقوا درب حياتهم بحزم الرجال الأقوياء؛ لكل واحد منهم نصيب يغنيه ؛ سعداء بما لديهم ؛ فكهين مستبشرين يقضون بين أحضانها لحظات؛ فتوزع بينهم كؤوس المسرات التي تفيض عشقا وحنانا .لكن أيديهم مغلولة بقيد الشح . قيد حديدي لا يرحم...لا درهم منهم يصل إلى جيبها فَيفُك رقبة محنتها..عندما ينصرفون تتقاطر الدموع على الخدين بغزارة الشتاء ؛ يضيق صدرها فيسمع له نشيج بكاء ؛ وصوت مبحوح مضني
    ظلت تمعن النظر في الصورة كما لو تود النبش في الذاكرة ؛ لكن كل رجوع مطية للمهالك .شعرت بجسدها يتعرق ووجهها البيضاوي المذبذب يتورد فكبحت شريط أحداثها واستفاقت من هذيانها ؛ ثم اتجهت نحو جرتها في بهو المكان بخطى بطيئة متثاقلة كأنها تجر ذيول الخيبة ؛ انحنت على الجرة وتحدب ظهرها فتأوهت لمغص شديد يلفح أحشاءها ..صبت الماء في الكأس الطيني المنقط بالقطران وارتشفت منه جرعات متتالية منتشية برائحته وهي تعرف أن للقطران مفعوله السحري في تهدئة أعصابها ؛ وطرد الوساوس والأوهام من مخيلتها ؛ فكلما أحست بدوار في الرأس التمست القنينة الموضوعة فوق الرف وغمست فيها عودا قطنيا ( منظف الأذن) حتى يتبلل بالقطران ؛ ثم تنقر به فوق أرنبة أنفها حتى يثبت النقط هناك طوال اليوم؛ فتستعيد عافيتها بهذه الحكمة البراقة ....هذا وقت الإصغاء إلى النفس الجريحة التي تئن من وطأة الإحساس بثقل اللحظة .. أصغت إلى دقات قلبها الذي يعزف بإيقاع رتيب أنشودة دوام الحال من المحال؛ تنهدت ولملمت خيوط الحكاية التي كانت تحرك و جدان المرحوم عندما يكرر على مسمعها عبارة " هذا البيت بيتك " حشرت نفسها في غدها الذي لم يأت بعد...عرفت أن حق الامتلاك رهين بوثيقة إثبات...لكن أين الوثيقة ؟؟
    دست يدها في جيبها وسحبت مفتاح صندوق خشبي يرقد في ركن الغرفة كتابوت من العهد القديم ثم هرولت وفتحته بلهفة من يتفقد الأغراض النفيسة .عثرت على مزود صغير وحملته بين يديها كالهدية المزجاة إليها في اليوم السعيد ، ثم فتحته وسحبت كل ما بداخله من الأوراق المكدسة التي خلفها المرحوم ؛عيناها تلتهم كل شيء بما في حوزتها من بقايا الإبصار؛ تنهدت وشرعت في فليها ومعرفتها من الخط الذي كتبت به ؛معتقدة أن ورقة إثبات الملكية لم تكتب إلا بخط أحد العدول ؛ ولخطهم اليدوي صورة مرسومة في ذاكرتها؛ مستوحاة من عقد زواجها الذي دبج بخط اليد...لن تخطئ التقدير هكذا حدثتها نفسها قبل أن تسمع نقرا حادا على الباب ؛ فألقت كل شيء في الصندوق وأغلقته في لمح البصر ؛ ثم دبت في عجالة مفرطة لفتح الباب . استجمعت كل قواها ودحرجت المزلاج بحركات محمومة اتجاه اليمين وجذبت الباب الخشبي الثقيل من مقبضه حتى قرع سمعها صريره الذي يملأ المكان ضجيجا قد لا يتحمله الغرباء.....أضحى الباب مشرعا والطارق أمامه منتصبا : رجل بدين؛ قصير القامة ؛ متكور البطن الذي يبدو من جلبابه الملتف فيه . ذو شعر أشعث ؛ ولحية مسبلة..تبادلا النظرات بعد التحية بابتسامة عريضة ملؤها الإشفاق ؛ ثم زاغ بصرها لمعرفة ما بين يديه ... ورقة شديدة البياض مرقونة بآلة حديثة في أسفلها ختم بلون أحمر. تسلمتها وهي غارقة في بحر الظنون. نظرت إلى الرجل مليا - وقد هم بالانصراف فحاصرته بأسئلة تلهب مشاعر رأفته فيتألم لكل جواب يطعن في مصير حياتها ..
    - هذه تخصني شخصيا ؟!
    - نعم
    - تعرف مضمونها ؟!
    - قرار من السلطات المحلية بإفراغ البيت ليتسلمه صاحبه الذي اشتراه من عند زوجك قبل وفاته ....
    إنها لحظات عنيدة ..تقسو عليهما بلا هوادة ..تمنى لو غادر المكان قبل أن ينبس بكلمة تعكر صفو اللقاء .. فَقَدَ زٍمامه وأحس أن الأرض ترتج تحت قدميه ؛ فجحظت عيناه وهو يتابع حركاتها و قد تراجعت إلى الوراء وتهاوت إلى الأرض ؛ شعرت بدوار يعصف بكيانها كأنما ألقي بها في هوة سحيقة لا تدري أين قرارها...........
    التعديل الأخير تم بواسطة البكري المصطفى; الساعة 25-09-2012, 08:49.
  • ريما ريماوي
    عضو الملتقى
    • 07-05-2011
    • 8501

    #2
    مسكينة .. ومسكين الإنسان عندما يرد إلى أرذل العمر،
    حتى أولاده لا ينفعوه.. حزنت جدا..
    حتى من كان يعطيها الشعور بالأمان، خذلها بعد موته،
    ولم يبق أمامها ملجأ إلا الموت نفسه..

    قصة أليمة، كنت معك فيها.

    شكرا لك، تقديري واحترامي.

    تحيتي.


    أنين ناي
    يبث الحنين لأصله
    غصن مورّق صغير.

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3
      نعم كل النجوم جمعتها لك
      فهي ملك يمينك ياحبيبي
      و هذا صك الملكية .. و حين كانت تصيد النجوم
      وقفت مذهولة .. و لم تحتمل الحقيقة !

      قصة مكتوبة بعناية فائقة
      لغة
      و بناء
      و أسلوب تناول
      و اختيار اللحظة كان قويا كما كان التكثيف قويا
      و لكن .. أتساءل عن التزامن بين الفعلين .. فأقول كان عندها علم بشيء سوف يقع و يتم
      بهذا الخصوص .. فلم غاب عنا .. لم حجبته أنت أيها الكاتب الجميل
      و ما كان ليؤثر في النهاية أبدا
      إلا أن نكون على وجه العملة الآخر من الحزن !!!!

      محبتي
      التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 25-09-2012, 17:06.
      sigpic

      تعليق

      • أم عفاف
        غرس الله
        • 08-07-2012
        • 447

        #4
        حدث مؤلم صوّر بعدسة فنّان خبير
        قصّة تتقاطر أسى حيكت فيها اللغة بعناية فائقة ونسجت المعاني لتؤلف مأساة امرأة ليس لها من مواسم الحصاد غير الخيبات
        أسعدتني القراءة لحضرتكم
        مودّة

        تعليق

        • البكري المصطفى
          المصطفى البكري
          • 30-10-2008
          • 859

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
          مسكينة .. ومسكين الإنسان عندما يرد إلى أرذل العمر،
          حتى أولاده لا ينفعوه.. حزنت جدا..
          حتى من كان يعطيها الشعور بالأمان، خذلها بعد موته،
          ولم يبق أمامها ملجأ إلا الموت نفسه..

          قصة أليمة، كنت معك فيها.

          شكرا لك، تقديري واحترامي.

          تحيتي.
          الأديبة المقتدرة ريما ريماوي تحيتي وتقديري:
          شعورك نبيل؛ وأنت تدركين معاناة بعض الأمهات اللواتي يؤدين الثمن غاليا عند كبرهن ..وقد أضحت الأم في الأسر النووية على هامش الاندماج في محيط الأمومة . ومع اختلال القيم الإنسانية والدينية تحولت الأم في أرذل عمرها إلى كائن مطالب بالاستقرار في دور الرعاية إن وجدت مع الأسف الشديد...فالقيم المادية قد غزت المدنية الحديثة ؛ وبسببها تقلصت حظوظ وحجم هذه الرعاية المطلوبة شرعا.

          أجدد لك التحية.

          تعليق

          • البكري المصطفى
            المصطفى البكري
            • 30-10-2008
            • 859

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
            نعم كل النجوم جمعتها لك
            فهي ملك يمينك ياحبيبي
            و هذا صك الملكية .. و حين كانت تصيد النجوم
            وقفت مذهولة .. و لم تحتمل الحقيقة !

            قصة مكتوبة بعناية فائقة
            لغة
            و بناء
            و أسلوب تناول
            و اختيار اللحظة كان قويا كما كان التكثيف قويا
            و لكن .. أتساءل عن التزامن بين الفعلين .. فأقول كان عندها علم بشيء سوف يقع و يتم
            بهذا الخصوص .. فلم غاب عنا .. لم حجبته أنت أيها الكاتب الجميل
            و ما كان ليؤثر في النهاية أبدا
            إلا أن نكون على وجه العملة الآخر من الحزن !!!!

            محبتي
            الأخ العزيز ربيع ..سررت لحضورك وأنوه بملاحظاتك التي وصفت بها طبيعة النص؛ وملاحظاتك حول طريقة تشكيل النهاية وكأنها كانت معلومة لدى الشخصية .لكن أقول إن غايتي هي شد انتباه المتلقي وتكسير أفق انتظاره بخلق المفاجأة كي لا تتلاشى الأحداث في منتصف الطريق.
            دامت لك المسرات

            تعليق

            • البكري المصطفى
              المصطفى البكري
              • 30-10-2008
              • 859

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة أم عفاف مشاهدة المشاركة
              حدث مؤلم صوّر بعدسة فنّان خبير
              قصّة تتقاطر أسى حيكت فيها اللغة بعناية فائقة ونسجت المعاني لتؤلف مأساة امرأة ليس لها من مواسم الحصاد غير الخيبات
              أسعدتني القراءة لحضرتكم
              مودّة
              الفاضلة أم عفاف؛ تحيتي العطرة :
              أشكرك على عنايتك.. وبذوقك الرفيع استخلصت المعنى ؛ وقدرت حجم المعاناة الإنسانية ؛خاصة وضعية المرأة التي لازالت تجني ثمار الأفكار السلبية؛ وتنائج اختلال القيم ..
              دمت أديبة مميزة.

              تعليق

              • نجاح عيسى
                أديب وكاتب
                • 08-02-2011
                • 3967

                #8
                مساء الخير استاذ بكري ..
                لا أدري يا صديقي هل هو من غدر بها وخدعها ..
                أم أنه كان قد تصرّف بالبيت تحت إلحاح الحاجة
                وإلحاح العوز ، وقد خاف أن يخبرها بما فعل ..حتى لا يخذلها ..
                ولكن ليس لنا إلا أن نقول ..تحدث كثيراً ..
                وكم تفاجأت زوجة ..بعد إنتقال الشريك إلى الرفق الأعلى بزوجة
                أخرى غيرها كان قد تزوجها الزوج سراً ..وقد تُفاجأ بأشياء أخرى لا مجال
                لحصرها الآن ...
                قصة جميلة ولغة قوية ..وحبكة متينة ...
                تحياتي وتقديري وأمسية سعيدة ..

                تعليق

                • البكري المصطفى
                  المصطفى البكري
                  • 30-10-2008
                  • 859

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة نجاح عيسى مشاهدة المشاركة
                  مساء الخير استاذ بكري ..
                  لا أدري يا صديقي هل هو من غدر بها وخدعها ..
                  أم أنه كان قد تصرّف بالبيت تحت إلحاح الحاجة
                  وإلحاح العوز ، وقد خاف أن يخبرها بما فعل ..حتى لا يخذلها ..
                  ولكن ليس لنا إلا أن نقول ..تحدث كثيراً ..
                  وكم تفاجأت زوجة ..بعد إنتقال الشريك إلى الرفق الأعلى بزوجة
                  أخرى غيرها كان قد تزوجها الزوج سراً ..وقد تُفاجأ بأشياء أخرى لا مجال
                  لحصرها الآن ...
                  قصة جميلة ولغة قوية ..وحبكة متينة ...
                  تحياتي وتقديري وأمسية سعيدة ..
                  الأديبة الراقية نجاح عيسى تحيتي وتقديري :
                  لاتبحثي في الأدب عن المعنى الذي ينقبض ،لأن ثراءه كامن في تأويله؛ وتأويله سبيل يقود إلى متعته . أتفق معك ؛ إذا تم تركيزنا على الوظيفة الإصلاحية بالأساس نشعر بأن شريط الأحداث يقدم صورة لغموض شخصية الرجل في تصور المرأة ؛ بحكم عوامل ثقافية تؤصل سلوكه في ذاكرتها. ولهذا كثيرا ما تُقرأ نواياه وخلفياته من هذا المنطلق ..فهو معين ومساعد ومشفق وودود ....لكنه غير مكثرت..متقلب..نرجيسي..إن قرأت القصة بهذه الصورة باحت لك بصوتها الإصلاحي المسطر في عنوان عريض هو( اختلال العلاقة وهشاشتها بين الرجل والمرأة مهما بلغا من الحميمية ؛ وساهما في تضخيم حجمها ) وإن قرأتها من منظور الكشف عن المعاناة الإنسانية تغير الإحساس واختلف نوع التصور . لأن الرجل والمرأة يغرفان من معين الهموم المشتركة، وربما شعر البطل بهذا الإحساس نفسه فلم يخبر زوجته بما حصل كي لا يعجل بتنغيص حياتها.
                  أجدد لك التحية ؛ وأشكرك على الملاحظة.

                  تعليق

                  • وفاء الدوسري
                    عضو الملتقى
                    • 04-09-2008
                    • 6136

                    #10


                    تمنى لو غادر المكان قبل أن ينبس بكلمة تعكر صفو اللقاء .. فَقَدَ زٍمامه وأحس أن الأرض ترتج تحت قدميه ؛ فجحظت عيناه وهو يتابع حركاتها و قد تراجعت إلى الوراء وتهاوت إلى الأرض ؛ شعرت بدوار يعصف بكيانها كأنما ألقي بها في هوة سحيقة لا تدري أين قرارها...........

                    الأستاذ: البكري
                    سرد متقن.. من قلم ماهر، باهر، متمكن جدا
                    دمت مبدعا
                    تحية وتقدير


                    التعديل الأخير تم بواسطة وفاء الدوسري; الساعة 01-11-2014, 22:32.

                    تعليق

                    • البكري المصطفى
                      المصطفى البكري
                      • 30-10-2008
                      • 859

                      #11
                      الأديبة الراقية وفاء عرب تحيتي الخالصة ؛أشكر لك ذوقك الرفيع ؛ وتجربتك الفريدة التي تتيح لك إمكانية التعرف على مكامن جمال القول حين يفتح مغالق من صفحات الإنسان المقهور؛ الضعيف الذي يتجرع غصص الحرمان .
                      أجدد لك التحية ودامت لك المسرات.

                      تعليق

                      يعمل...
                      X