كل النجوم في سماء المحبة ولا شيء في اليد
حدقت في الساعة الرمادية المعلقة على الحائط بعينين كليلتين ..الصورة ضبابية ..رمقت رقاص الساعة يقطف رؤوس الثواني بلا هوادة يدفنها في سراب الأيام ثم جالت ببصرها في فناء الدار المجصصة بالأسمنت ؛ تتوسطه شجرة تين تشمخ بأنفها منذ عقود؛ تلتف أغصانها ؛ يعانق بعضها بعضا وينسكب ظل ظليل أوحى إلى مرجانة أنها العاشرة صباحا ... فركت عينيها لاستجماع ما تبقى من ضحالة الإبصار ثم حدقت في الصورة ذات الإطار الخشبي البني المصقول أمامها . إطار يحتضن شخص المرحوم بجلبابه الصوفي الأبيض وعمامته التي تغطي كافة شعره إلا من ناصية وخطها الشيب . ووجهه المكتنز المستدير؛ وشاربه الكث.
استغرقت اللحظة في تفكير طفولي ؛ تَرى يد الزمان تدبر مصائر الأشخاص بمشيئة إلهية وقدر محتوم .
سحبت منديلها من ثنايا قفطانها الوردي ونفضت ذرات الغبار العالقة بالصورة . تذكرت كلامه المعسول ؛ وهداياه الموشومة في الذاكرة ؛ ووصاياه التي لم تمل من سماعها طوال حياته . كان يتطلع إلى الغيم في الأفق البعيد ويردد على مسمعها بصوت شجي قوله :" البيت بيتك أنت وحدك يا حبيبتي يا مرجانة .... الأعمار بيد الله ..إذا مت قبلك دبري شأنك بنفسك ".
كانت مرجانة تلتقط من فاه الرجل في جل أوقاتها الكلام الذي يثلج الصدر ويسقي منابت الحب ؛ وأغراس الوفاء في رحابة قلبيهما البريئين...
تذكرت الأولاد الأربعة الذين شقوا درب حياتهم بحزم الرجال الأقوياء؛ لكل واحد منهم نصيب يغنيه ؛ سعداء بما لديهم ؛ فكهين مستبشرين يقضون بين أحضانها لحظات؛ فتوزع بينهم كؤوس المسرات التي تفيض عشقا وحنانا .لكن أيديهم مغلولة بقيد الشح . قيد حديدي لا يرحم...لا درهم منهم يصل إلى جيبها فَيفُك رقبة محنتها..عندما ينصرفون تتقاطر الدموع على الخدين بغزارة الشتاء ؛ يضيق صدرها فيسمع له نشيج بكاء ؛ وصوت مبحوح مضني
ظلت تمعن النظر في الصورة كما لو تود النبش في الذاكرة ؛ لكن كل رجوع مطية للمهالك .شعرت بجسدها يتعرق ووجهها البيضاوي المذبذب يتورد فكبحت شريط أحداثها واستفاقت من هذيانها ؛ ثم اتجهت نحو جرتها في بهو المكان بخطى بطيئة متثاقلة كأنها تجر ذيول الخيبة ؛ انحنت على الجرة وتحدب ظهرها فتأوهت لمغص شديد يلفح أحشاءها ..صبت الماء في الكأس الطيني المنقط بالقطران وارتشفت منه جرعات متتالية منتشية برائحته وهي تعرف أن للقطران مفعوله السحري في تهدئة أعصابها ؛ وطرد الوساوس والأوهام من مخيلتها ؛ فكلما أحست بدوار في الرأس التمست القنينة الموضوعة فوق الرف وغمست فيها عودا قطنيا ( منظف الأذن) حتى يتبلل بالقطران ؛ ثم تنقر به فوق أرنبة أنفها حتى يثبت النقط هناك طوال اليوم؛ فتستعيد عافيتها بهذه الحكمة البراقة ....هذا وقت الإصغاء إلى النفس الجريحة التي تئن من وطأة الإحساس بثقل اللحظة .. أصغت إلى دقات قلبها الذي يعزف بإيقاع رتيب أنشودة دوام الحال من المحال؛ تنهدت ولملمت خيوط الحكاية التي كانت تحرك و جدان المرحوم عندما يكرر على مسمعها عبارة " هذا البيت بيتك " حشرت نفسها في غدها الذي لم يأت بعد...عرفت أن حق الامتلاك رهين بوثيقة إثبات...لكن أين الوثيقة ؟؟
دست يدها في جيبها وسحبت مفتاح صندوق خشبي يرقد في ركن الغرفة كتابوت من العهد القديم ثم هرولت وفتحته بلهفة من يتفقد الأغراض النفيسة .عثرت على مزود صغير وحملته بين يديها كالهدية المزجاة إليها في اليوم السعيد ، ثم فتحته وسحبت كل ما بداخله من الأوراق المكدسة التي خلفها المرحوم ؛عيناها تلتهم كل شيء بما في حوزتها من بقايا الإبصار؛ تنهدت وشرعت في فليها ومعرفتها من الخط الذي كتبت به ؛معتقدة أن ورقة إثبات الملكية لم تكتب إلا بخط أحد العدول ؛ ولخطهم اليدوي صورة مرسومة في ذاكرتها؛ مستوحاة من عقد زواجها الذي دبج بخط اليد...لن تخطئ التقدير هكذا حدثتها نفسها قبل أن تسمع نقرا حادا على الباب ؛ فألقت كل شيء في الصندوق وأغلقته في لمح البصر ؛ ثم دبت في عجالة مفرطة لفتح الباب . استجمعت كل قواها ودحرجت المزلاج بحركات محمومة اتجاه اليمين وجذبت الباب الخشبي الثقيل من مقبضه حتى قرع سمعها صريره الذي يملأ المكان ضجيجا قد لا يتحمله الغرباء.....أضحى الباب مشرعا والطارق أمامه منتصبا : رجل بدين؛ قصير القامة ؛ متكور البطن الذي يبدو من جلبابه الملتف فيه . ذو شعر أشعث ؛ ولحية مسبلة..تبادلا النظرات بعد التحية بابتسامة عريضة ملؤها الإشفاق ؛ ثم زاغ بصرها لمعرفة ما بين يديه ... ورقة شديدة البياض مرقونة بآلة حديثة في أسفلها ختم بلون أحمر. تسلمتها وهي غارقة في بحر الظنون. نظرت إلى الرجل مليا - وقد هم بالانصراف فحاصرته بأسئلة تلهب مشاعر رأفته فيتألم لكل جواب يطعن في مصير حياتها ..
- هذه تخصني شخصيا ؟!
- نعم
- تعرف مضمونها ؟!
- قرار من السلطات المحلية بإفراغ البيت ليتسلمه صاحبه الذي اشتراه من عند زوجك قبل وفاته ....
إنها لحظات عنيدة ..تقسو عليهما بلا هوادة ..تمنى لو غادر المكان قبل أن ينبس بكلمة تعكر صفو اللقاء .. فَقَدَ زٍمامه وأحس أن الأرض ترتج تحت قدميه ؛ فجحظت عيناه وهو يتابع حركاتها و قد تراجعت إلى الوراء وتهاوت إلى الأرض ؛ شعرت بدوار يعصف بكيانها كأنما ألقي بها في هوة سحيقة لا تدري أين قرارها...........
حدقت في الساعة الرمادية المعلقة على الحائط بعينين كليلتين ..الصورة ضبابية ..رمقت رقاص الساعة يقطف رؤوس الثواني بلا هوادة يدفنها في سراب الأيام ثم جالت ببصرها في فناء الدار المجصصة بالأسمنت ؛ تتوسطه شجرة تين تشمخ بأنفها منذ عقود؛ تلتف أغصانها ؛ يعانق بعضها بعضا وينسكب ظل ظليل أوحى إلى مرجانة أنها العاشرة صباحا ... فركت عينيها لاستجماع ما تبقى من ضحالة الإبصار ثم حدقت في الصورة ذات الإطار الخشبي البني المصقول أمامها . إطار يحتضن شخص المرحوم بجلبابه الصوفي الأبيض وعمامته التي تغطي كافة شعره إلا من ناصية وخطها الشيب . ووجهه المكتنز المستدير؛ وشاربه الكث.
استغرقت اللحظة في تفكير طفولي ؛ تَرى يد الزمان تدبر مصائر الأشخاص بمشيئة إلهية وقدر محتوم .
سحبت منديلها من ثنايا قفطانها الوردي ونفضت ذرات الغبار العالقة بالصورة . تذكرت كلامه المعسول ؛ وهداياه الموشومة في الذاكرة ؛ ووصاياه التي لم تمل من سماعها طوال حياته . كان يتطلع إلى الغيم في الأفق البعيد ويردد على مسمعها بصوت شجي قوله :" البيت بيتك أنت وحدك يا حبيبتي يا مرجانة .... الأعمار بيد الله ..إذا مت قبلك دبري شأنك بنفسك ".
كانت مرجانة تلتقط من فاه الرجل في جل أوقاتها الكلام الذي يثلج الصدر ويسقي منابت الحب ؛ وأغراس الوفاء في رحابة قلبيهما البريئين...
تذكرت الأولاد الأربعة الذين شقوا درب حياتهم بحزم الرجال الأقوياء؛ لكل واحد منهم نصيب يغنيه ؛ سعداء بما لديهم ؛ فكهين مستبشرين يقضون بين أحضانها لحظات؛ فتوزع بينهم كؤوس المسرات التي تفيض عشقا وحنانا .لكن أيديهم مغلولة بقيد الشح . قيد حديدي لا يرحم...لا درهم منهم يصل إلى جيبها فَيفُك رقبة محنتها..عندما ينصرفون تتقاطر الدموع على الخدين بغزارة الشتاء ؛ يضيق صدرها فيسمع له نشيج بكاء ؛ وصوت مبحوح مضني
ظلت تمعن النظر في الصورة كما لو تود النبش في الذاكرة ؛ لكن كل رجوع مطية للمهالك .شعرت بجسدها يتعرق ووجهها البيضاوي المذبذب يتورد فكبحت شريط أحداثها واستفاقت من هذيانها ؛ ثم اتجهت نحو جرتها في بهو المكان بخطى بطيئة متثاقلة كأنها تجر ذيول الخيبة ؛ انحنت على الجرة وتحدب ظهرها فتأوهت لمغص شديد يلفح أحشاءها ..صبت الماء في الكأس الطيني المنقط بالقطران وارتشفت منه جرعات متتالية منتشية برائحته وهي تعرف أن للقطران مفعوله السحري في تهدئة أعصابها ؛ وطرد الوساوس والأوهام من مخيلتها ؛ فكلما أحست بدوار في الرأس التمست القنينة الموضوعة فوق الرف وغمست فيها عودا قطنيا ( منظف الأذن) حتى يتبلل بالقطران ؛ ثم تنقر به فوق أرنبة أنفها حتى يثبت النقط هناك طوال اليوم؛ فتستعيد عافيتها بهذه الحكمة البراقة ....هذا وقت الإصغاء إلى النفس الجريحة التي تئن من وطأة الإحساس بثقل اللحظة .. أصغت إلى دقات قلبها الذي يعزف بإيقاع رتيب أنشودة دوام الحال من المحال؛ تنهدت ولملمت خيوط الحكاية التي كانت تحرك و جدان المرحوم عندما يكرر على مسمعها عبارة " هذا البيت بيتك " حشرت نفسها في غدها الذي لم يأت بعد...عرفت أن حق الامتلاك رهين بوثيقة إثبات...لكن أين الوثيقة ؟؟
دست يدها في جيبها وسحبت مفتاح صندوق خشبي يرقد في ركن الغرفة كتابوت من العهد القديم ثم هرولت وفتحته بلهفة من يتفقد الأغراض النفيسة .عثرت على مزود صغير وحملته بين يديها كالهدية المزجاة إليها في اليوم السعيد ، ثم فتحته وسحبت كل ما بداخله من الأوراق المكدسة التي خلفها المرحوم ؛عيناها تلتهم كل شيء بما في حوزتها من بقايا الإبصار؛ تنهدت وشرعت في فليها ومعرفتها من الخط الذي كتبت به ؛معتقدة أن ورقة إثبات الملكية لم تكتب إلا بخط أحد العدول ؛ ولخطهم اليدوي صورة مرسومة في ذاكرتها؛ مستوحاة من عقد زواجها الذي دبج بخط اليد...لن تخطئ التقدير هكذا حدثتها نفسها قبل أن تسمع نقرا حادا على الباب ؛ فألقت كل شيء في الصندوق وأغلقته في لمح البصر ؛ ثم دبت في عجالة مفرطة لفتح الباب . استجمعت كل قواها ودحرجت المزلاج بحركات محمومة اتجاه اليمين وجذبت الباب الخشبي الثقيل من مقبضه حتى قرع سمعها صريره الذي يملأ المكان ضجيجا قد لا يتحمله الغرباء.....أضحى الباب مشرعا والطارق أمامه منتصبا : رجل بدين؛ قصير القامة ؛ متكور البطن الذي يبدو من جلبابه الملتف فيه . ذو شعر أشعث ؛ ولحية مسبلة..تبادلا النظرات بعد التحية بابتسامة عريضة ملؤها الإشفاق ؛ ثم زاغ بصرها لمعرفة ما بين يديه ... ورقة شديدة البياض مرقونة بآلة حديثة في أسفلها ختم بلون أحمر. تسلمتها وهي غارقة في بحر الظنون. نظرت إلى الرجل مليا - وقد هم بالانصراف فحاصرته بأسئلة تلهب مشاعر رأفته فيتألم لكل جواب يطعن في مصير حياتها ..
- هذه تخصني شخصيا ؟!
- نعم
- تعرف مضمونها ؟!
- قرار من السلطات المحلية بإفراغ البيت ليتسلمه صاحبه الذي اشتراه من عند زوجك قبل وفاته ....
إنها لحظات عنيدة ..تقسو عليهما بلا هوادة ..تمنى لو غادر المكان قبل أن ينبس بكلمة تعكر صفو اللقاء .. فَقَدَ زٍمامه وأحس أن الأرض ترتج تحت قدميه ؛ فجحظت عيناه وهو يتابع حركاتها و قد تراجعت إلى الوراء وتهاوت إلى الأرض ؛ شعرت بدوار يعصف بكيانها كأنما ألقي بها في هوة سحيقة لا تدري أين قرارها...........
تعليق