كلمة حق وحكاية في وداع رجل الثقافة موفق خوري*
نبيل عودة
كلمة حق
أربعون يوماً مضت علىرحيل موفق رفيق خوري، مع كل يوم يمضي أزداد قناعة أننا خذلناك يا أبو رفيق.
أحببناك وأحطنا بكبمئاتنا، صفقنا لك يوم كنت تعطي بلا حساب ولا تردّ أحداً خائباً. كان مكتبك يعجّ بكلحَمَلة الأقلام، ولم تميز بين زيد وقيس.
التقيتَ مع الجميع،وعدتَ الجميع، ونفّذتَ وعودك بدون تمييز، رغم قناعتك الذاتية ان البعض لا يستحقخدمات مكتبك لكونهم يفنقدون للمضامين وللمستوى الثقافي الإبداعي البسيط، لكنكبإنسانيتك كنت تصرّ ان تفتح أمامهم كل الأبواب الموصدة ووجهة نظرك تقول اذا لميساعد احتضانهم في كشف مواهبهم فلن يضر، ما ينفع الناس يبقى في الأرض.
الكثيرون استفادوا حقاًمن رحابة صدرك وعطائك، فأصبح بعضهم شعراء ولا شعرَ عندهم، وقصصين ولا نثرَ بسيطاًعندهم، وبنفس الوقت هناك من استفاد حقاً وتطور إبداعه، وهذا يبرر وجهة نظرك، انتكسب ثقافتنا مبدِعاً او أكثر من بين مائة يتخبطون، وهو حقاً مكسبٌ لا يستهان به.
مع ذلك، أولئك الذينجعلتَ منهم أدباءً لهم مكانتهم، او مؤسسات ساهمت في انطلاقتها الفنية والثقافية،اختفوا يوم صرتَ هدفاً يتطاول عليه كل من رأى بك حائطاً لا يمكنهم القفز فوقهوالتلاعب بمنجزاتك التي أحدثت نقلة نوعية غير مسبوقة باتساعها وعمق مضامينهاالثقافية والفنية في حياة المجتمع العربي في اسرائيل.
كنت أتوقع ان أرىالأقلام التي احتضنت أصحابها والمؤسسات التي صلب عودها بفضل غيرتك وملاحقتك ودعمكيقولون كلمة حق في الوقت المناسب، يطلقون صرخة "كفى" ضد حملة التشهيرالتي تجاهلت منجزاتك ورأت بك حاجزاً يعيق مصالحها وكأن قضايا المجتمع العربي فياسرائيل، وما يعانيه من واقع تمييزي ومصاعب مختلفة، لا يكون حلّها الا بإسقاط موفقخوري.
بحكم الصداقة والثقةالكبيرة بيننا عرفت الكثير من التفاصيل، التي لو قمت بكشفها لأحدثت زلزالاًاجتماعياً ثقافياً وقضائياً بقوة عشر درجات على سلم ريختر. لكنك بطيبتك، وبرؤيتكان الأهم صيانة ما انجز من تطور ثقافي وفني، لم تكشف ما لديك.
كان تصرفكَ عقلانياًلأشخاص لا يتصرفون بعقلانية. كنت ترى الهدف الأسمى فيما غرستَه من حراك ثقافيوفني، لذلك لم تلتفت للزعيق والصراخ، المؤسف ان العديدين من الذين حضنتهم وقفوامتفرجين، وربما يعدون أنفسهم لكسب رضى من يبدلك غير قادرين على فهم أمر أساسي انما قام به ابو رفيق هو ميزة خاصة وفهم مميز له، تجاوز فيه الإطار الضيق الذي كانمن المفترض، وزاريا أيضا، ان تعيش فيه دائرة الثقافة العربية، مجرد مكتب صغير،ربما صيغة دعائية لفرضيات المساواة. ولكن ابو رفيق بإصراره حوَّل الدائرة الى جسمحي نشيط ومستقل في نشاطه وقراراته. وهذا لم يعجب البعض...
أقول بحزن كبير، لا ارىدائرة الثقافة العربية، تحت أي صيغة ادارية جديدة قادرة على تقديم ما قدمته انتبدون تردد وبدون قيود.
فقدانك ايها الصديقوالأخ والانسان، هي خسارة قاسية لنا جميعا، وخسارة لأبناء مجتمعك، خسارة لثقافتنا،وخسارة لا تعوَّض لعائلتك الكريمة. لكن ما يطمئن ان القيم التي زرعتها ستظل راسخةفي قلوبنا نموذجاً للعطاء وإنكار الذات لا تعرف مثيلاً شبيهاً لها في واقعنا.
أصحاب القلوب الكبيرةمثلك لا يموتون، بل ينزرعون بقلوب الناس ذكرى طيبة ومثالاً يحتذى به.
نم قرير العين، من أورثعائلته وأبناء شعبه هذا الإرث الإنساني والثقافي والأخلاقي سيبقى حياً في ذاكرتهمأكثر من بعض الأحياء!!
حكاية عن موفق خوري الانسان
بدأ موفق خوري يدرسلنيل شهادة الدكتوراة في جامعة "ليبيتسك" في روسيا في حدود العام 2005.وتبعد المدينة عن موسكو ما يقارب 6 ساعات سفر ، بالقطار.
لطالبِ دراساتٍ عليابدون لغة روسية (يقدم دراسته بلغته العربية وتترجم للروسية) هناك إشكاليات عديدةفي الوصول والاقامة واللغة.
لحسن حظ موفق خوري انابني واسمه توفيق، كان يدرس في نفس الجامعة. قمت بالتنسيق بينهما لتسهيل شؤونالدراسة والإقامة والطعام في مدينة ليبيتسك، وهي مدينة كبيرة يسكنها مليون ونصفالمليون شخص على الأقل. كان ابني يسافر الى موسكو ليستقبله ومع انتهاء البرنامجالدراسي يعيده الى موسكو – الى المطار الدولي.
هكذا نشات علاقات صداقةبين توفيق الطالب في ليبيتسك والطالب الجديد موفق خوري القادم من اسرائيل. وقدساعده على استئجار شقة صغيرة، تكلفتها الشهرية اقل كثيرا من تكلفة الاقامة في فندقليوم واحد او يومين.
كان من المتوقع انيناقش موفق خوري اطروحة الدكتوراة قبل سنتين، ولكن ترجمة الأطروحة من العربيةللروسية كانت سيئة جدا، اذ قام مكتب المترجم بالاستعانة بالترجمة الغبية من غوغل.الأمر الذي افقد ابو رفيق وقتا ثمينا جدا، فعاد ليدفع الاطروحة لترجمة مهنية. خلالهذه الفترة بدأت حملة التشهير المؤلمة، والادعاءات المختلفة ضده، الأمر الذي أفقدهوقتاً ثميناً، وأفقده حماسته لمناقشة الأطروحة، فأجّل مشروعه. وعلمت انه كان منالمتوقع ان يسافر في وقت قريب (ربما في مثل هذه الأيام لو لم يعاجله الموت)لمتابعة نقاشه للأطروحة.
عام 2007 في شهر ايلول،وكان موفق خوري قد عاد في نهاية آب كما أذكر من روسيا، وعاد ابني توفيق في أوائلأيلول، اتصل معي موفق خوري وقال انه "يجب" ان يلتقي معنا ويفضل في بيتنابحضور زوجتي ايضا وأن يكون توفيق حاضرا.
حاولت الاستفسار منتوفيق عن السبب، اذا ربطت فورا ان الموضوع يتعلق بتوفيق، وهذه كلمة"يجب" تقول ان الموضوع ليس موضوعاً عادياً. زيارت موفق لبيتنا لا تحتاجالى "يجب".
لم نحصل على أجوبة.
في مساء اليوم المتّفقعليه، حضر ابو رفيق تسبقه ابتسامته الدائمة، وعند جلوسنا بالصالون تفاجأنا انطائراً غريباً وجميلاً بألوانه أخضر وأصفر وطربوش أحمر على رأسه، سبقنا الىالصالون، متسللاً من النافذة الواسعة للصالون كما يبدو، ويحلق في فضاء الصالون،ضحك ابو رفيق بعمق وقال انه بشارة خير للخبر الذي يحمله لنا، اليس كذلك يا توفيق؟
توفيق ابتسم بصعوبةوارتباك زادتني حيرة لدافع الزيارة.
بعد الترحيب قال ابورفيق ان زيارته لها هدف واحد انه سعيد بالتعرف على توفيق الذي يساعده ويذلّل لهالصعوبات في روسيا، وانه خلال إقامته في روسيا تعرف على فتاة رائعة هي صديقةتوفيق، وزار أهلها في القرية برفقتها ورفقة توفيق.
كل هذا الكلام لا جديدفيه، تلك هي حياة الطلاب، وبالطبع لا يمكن ان يكون هدف الزيارة لشكر توفيق على ماقدمه من مساعدة هي واجب قبل كل شيء.
بعد صمت قصير أضاف انهيحمل خبراً رائعاً لنا، ولكنه لا يعرف وقعه علينا، وبحكم محبته لنا وصداقتناالطويلة، لا يستطع ان يبقي ما يعرفه منذ أكثر من سنة سرّاً.
لم يكن لي ولزوجتي مانقول، كنا نشاهد ما يشبه المسرحية. ابو رفيق يتحدث بسرور وتوفيق صامت يتلوى فيمقعده.
أخرج موفق صورة من جيبقميصه، وقال انظروا الى هذا الملاك.
كانت صورة لطفل جميل،مع توفيق وصديقته وبجانبهما موفق خوري.
وقال قبل ان نبدأبالتخمين: "انه حفيدكما، عمرة سنة ونصف تقريبا".
ليس من السهل وصف مشاعرالجدين، انا وزوجتي. انا شعرت بحنين كبير لألتقي مع الصغير وأضمه، زوجتي بكت منالمفاجأة، وقالت لابنها لماذا لم تخبرنا في الوقت المناسب؟ كان تفكيرها الذي عرفتهفيما بعد ان ابنها حرمها من واجب تحضير ما يحتاجه ولادة حفيد لنا، وما عرفتهأشعرها بحزن شديد لأنها لم تقدم لحفيدها احتياجاته بعد الولادة. وانا لمته علىإخفاء الخبر عنا رغم ملاحظتي ان طلباته المالية ازدادت، بل تضاعفت منذ ولادةالحفيد.
تزوج توفيق من صديقتهوعندهما اليوم ابن آخر، ويعيشان بتفاهم وحب، حفيدنا الأول عمره اليوم ست سنوات،اسمه جوزيف، طالب في الصف الأول في مدرسة التيراسانطة في الناصرة، يتحدث الروسيةبطلاقة ويتحدث العربية بشكل جيد، ويستعمل كل المفردات التي يعرفها للتعبير عنرأيه، ويعرف الشتائم العربية أفضل من أي طفل عربي. وأكلته المفضلة الملوخيةوالأرز.
***
nabiloudeh@gmail.com
تعليق