غزل ..
أمست فزعة تتخبط؛ يتوشحها سكون غربة و ظلمة كقبر داج ، مرتعدة الأوصال تجلس القرفصاء
تحتضن رجليها النحيلتين وتدس رأسها بينهما ؛ ترتجف خوفا مغمضة العينين
بصوت متلبك : ابتعد عني ابتعد عني .. لم تسمع سوى شرك نعليه
أحكم غلق الباب بقوة؛ خطواته تبتعد شيئا فشيئا ..
دب السكون لترتخي حواسها وأطرافها تباعا ثم تفتح عيناها مع ضوء خافت ورؤيا مشوشة تكاد لا تستبين شيئا إلا أمام مرآها نظرت لصحن ملقى بين أصابع قدميها تتلكأ أتسد جوعتها أم تحجم .
لها من الأيام ثلاثة والجوع يفتك بها
مدت أصابعها للتقاط لفافة خبز محشوة بالتمر،أكلتها بنهم ؛ لم تستوضح ملامح ذلك الوحش ، يفترسها الصمت وطنين بعوض ، تحكم قبضتها على فِراش مهترئ ووسادة . نافذة صغيرة تتطلع من خلالها؛ الليل ينصت لأنفاسها كما يضرب أطنابه أشواطا كدهر في لجة حيرتها .
حارت بوسيلة الهروب من هذا الكابوس، تسبر الغور في إغفاءة لحيظات يقظة ، تسترجع فيها مرحها وصويحباتها وسط حديقتهم الفسيحة أمام بيتهم الفخم المحفوف بشجيرات النخيل التي تراقصت معهن طربا وهن يحتفين بين حين وحين . تستلقي على ألم صحوتها باستفهام مؤلم ؛ من سرقها من بيتها ودفئها وجردها من كل شيء حتى من فستانها؟! تشغلها الحيرة عما يحدث ؛تحاول استرجاع الأمس بذاكرة متعبة ، تجتاحها موجة بكاء تشل تفكيرها لتمسك ولو خيطا يحل هذه الأحجية .
راعها فتح الباب بغير أوانها . تتصاعد أنفاسها خوفا وهلعا لتغمض عينيها كما فعلت من قبل ؛ لابد من رؤية ما يدور حولها ؛ هكذا حدثتها نفسها بحذر كخطو الهوينا تراقب علّ مخاوفها تجهض بمعرفة ما يجول في تلك الغرفة المعتمة ؛ لأول وهلة تفاجأ أن أمامها جسد نحيل خلاف ما صورته بمخيلتها . شاب في مقتبل العمر لم تتسع لها الرؤيا لتكشف ملامحه وقد صوب في وجهها وهج الضوء . لملمت جسدها متدثرة بالفراش المهترئ .
تسأله من أنت وما تريده مني ؟
رد ببرود واستخفاف : هسس لا تتبجحين . ستخضعين لي صاغرة رغم أنفك . بضحكة ساخرة يزيد قبل المضي .. ترى هل بقي لك شيئا من أموال أبيك سوى هذا الجسد الذي أضحى لي وحدي .
تصرخ : ملابسي ملابسي . رَزْعُ الباب يَخرُسها .
تجهش باكية حتى يغلبها نعاس أشبه بإغماء لتغط في نومة جراء جهد ثلاث أيام مربكة وقاسية .
تستفيق على ضوء القمر وهو يشرع لرؤيتها من النافذة الصغيرة ؛ مبتسما أن الأمل لابد أن يصاغ واليسر حل عقدة كل عسير ، كل ما تحتاج بعض صبر وحنكة . تشرع في التدبير وهي تتلمس شعرها الطويل الجميل فإذا بكثير منه يتشابك وأصابعها .
تحك من جلدها إثر لسعات البعوض حتى تكسرت إحدى أظفارها ليداهم حدسها أمرا ؛ لم تكن هنا لثلاث أيام بل أكثر ؛ نظرا لطول أظفارها ، جعلت من الليل ملاذا بتدبير فرجة تنفد بها من حبسها . بعد مضي أيام أيقنت أنها أمام شخص مريض من رهاب الفقر؛ محاولة إقناعه بالعدول عن حبسها وتحريرها من الأسر بات شبه مستحيل أمام جنونه وإصراره على معاقبتها بجريرة الغنى التي لم تكن لها يد فيها. لتهيء الحلول في إيجاد مخرج لها . لم تكن تلك الفتاة التي تنصاع لأمر بذئ ولا لترضى أن تتجرد من كل شي وأعز شيء.
وجال الحديث ونفسها لابد من إبرام صفقة ولتكن مع الشيطان نفسه
فتمثل لها ذلك السجان هو الشيطان بعينه ..
انتظرت ساعة الغداء وتأتي خطواته المرعبة من شدة السكون
وها هو أمامها وهي تشد باللحاف حول جسدها
نظر ممتعضّا : بلغ من عطفي لأمنحك فراشا وتلفيه حولك معاندة قراري!
حاول جذبه قالت بهدوء ما اعتاده منها : أرجوك دعه ، ما هو من أملاك والدي ؛وتستكثر عليّ ما وهبتني إياه ، لعلي أطمع كرما يزيد منك.
تهلل مستبشرا ظنا بخضوعها له .
ردت بسرعة البرق : هل لي بملبس كما منحتني الفراش؟
نظر متعجبا منها : عنيدة
ليلتفت هامّا بالخروج تتخطفه القول : لنبرم صفقة ..
التفت مستفسر النظرات ..لتردف قائلة : تمنحني كسوة ؛ أمنحك الحياة.
بسخرية يرد : أنت في قبضتي وأنا من يمنحك أو يسلمك للعدم .
تلعثمت مستطردة: أو تحسب أن جاه أبي ووجاهته وكل ثراءه وأنا مدللته أن يترك أمري دون البحث والتقصي ؛ أو يترك عقاب؟.
قاطعها بحزم : بائسة ومتعجرفة أنت ، وهل فاتني ذلك ؛ ومن أنا ليبحث عني والدك ، وأنّى له أن يدرك أين أنت ، لن تجدي النفود أمام تجردك أيتها المتكبرة؛ لا حديث بيننا وتذكري لن أجبرك على أمر وإن أنت بقبضتي ولكني وضعت لك الخيار بين خضوعك ووحدتك أبد الآبدين وهذا فارق ما بين الغنى والفقر تذكري ذلك .
نظرت من حولها لاشيء سوى فراغ ووحشة و لابد من أن تضع حلا لما هي عليه لفك أسرها . ومرت الأيام بل مر عام ويزيد وهي بإصرارها وثباتها ؛ وصحن طعام يمر من تحت الباب بين يوم وآخر ؛وطرف حديث قد اعتادت عليه بل ترتقبه بفارغ الصبر ليخفف وطأة ما هي عليه. لتستفيق ذات خلوة على أصوات قرع ودق وخلع حتى بلغت تلك الموجة أعتاب جُحرها
بعد كسر الباب؛ اقتحم رجالا يتوسطهم رجل أشيب هده التعب والحزن . لامست أشعة الشمس جسدها النحيل ، نظروا جميعهم لها بدهشة وإعجاب؛ كيف لفتاة أن تتزين بأبهى فستان يشع بريقا وهي حبيسة هذا المكان البائس؛ شعثة شاحبة مغبرة إلا من فستانها الذي حيك ببراعة بظفرها غزلت من شعراتها كسوة تستتر بها ، لم ترتمِ لأحضان أبيها سألت والعين تدمع : ما فعلتم به؟ مشيرة لجثة رموها تحت أقدامها بين ذهولهم لرؤيتها بعد غياب وبين ريبة ! تعتلي ملامح أبيها المخاوف : رأينا هذه الجثة مرمية في بهو المنزل لرجل مات من أشهر . نظرت إلى صحن الطعام بحيرة أتبعتها حسرة ، ردا على استفهامهم وخوفهم : لم يلمسني قط !
تعليق