قراءة في ديوان ( زهرة النار )
سعد الدين حسن
الناقد و الروائي المصري المعروف
الشعرية العربية قامت على أربعة أعمدة مركزية هي :
1 – الموسيقى
2 – اللفظ
3 – الخيال
4 – المعنى
و نتوقف هنا ابتداء عند الرقم الأخير ( المعنى ) :
" جاء في لسان العرب مادة ( فسر : فسر الشيء يفسره فسرا : أبانه . و التفسير في الاصطلاح هو التصريح بعد الابهام ، و عرّفه أبوهلال العسكري في ( الصناعتين ) بقوله : أن يورد الشاعر معاني ؛ فيحتاج إلي شرح أحوالها ، فإذا شرحت تأتي في الشرح بتلك المعاني من غير عدول عنها أو زيادة تزاد فيها
و قد قال عنه ابن الأثير في ( المثل السائر ) : إن هذا النوع لا يعمد إلي استعماله إلا لضرب من المبالغة ، فإذا جئ به في كلام ، فإنما يفعل ذلك لتضخيم أمر هذا المبهم و إعظامه ؛ لأنه هو الذي يطرق السمع أولا ، فيذهب بالسامع كل مذهب كقوله تعالى :" و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " . الحجر 66 . ففسر الأمر بقوله أن دابر هؤلاء مقطوع ، و في إبهامه أولا و تفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر ، و تعظيم لشأنه ؛ فيبين المعنى .. و المعنى في حقيقة الأمر هو ( الموضوع الشعري ) عندما يمتزج بالإحساس و نواتجه من الخيال أو ما تختزنه الذاكرة من مهارة الثقافة و اللغة .
أي أن المعنى يوازي الصيغة الشعرية ، التي يعبر عنها أحد منظري قصيدة النثر بقوله :" إن الشاعر أيا كانت طريقته ، ينشئ جملا على نحو معين ، و يتتبع إيقاعا ، يشطب عبارة ، و يضع أخرى محلها ، يوازن بين الغناء و السرد ، و بين التظليل و الإنارة ، يخلق شكلا حيا ، أي نظاما متماسكا من العلاقات ، يجتهد في صقله ؛ ليخلصه من آثار الضعف حتى يبدو و كأنما انبثق وحده كاملا في تجلٍّ مفاجئ .
فماذا عن مدونة هذه الشاعرة الموهوبة ( مالكة حبرشيد ) المفتونة بزهرة النار ؟
ماذا عن مرجعيتها المحلقة في فضاء النص .. وهنا أتوقف عند الرقم الثاني ( اللفظ ) الذي يحيلنا بدوره إلي معجم الشاعرة اللغوي ؛ لأنه يفصح عن تلك المرجعية المحلقة في فضاء النص
يلحظ المتلقي تكرار مفردات ضاغطة و مهيمنة على وجدان الشاعرة من مثل : النار ، الريح ، الحنين ، الحلم ، الحزن ، الليل حيث تستبدله أحيانا بالظلام أو العتمة .. ماذا يعني هذا ؟
هذا يعني أن الشاعرة تتشظى في عالم تجابهه وحدها و يجابهها كله بجل إيجابياتها و سلبياتها بجل إيجابياته و سلبياته .
لكن الشاعرة لا تستسلم لقهر ذلك العالم الوحشي ، إنها تقاوم مقاومة باسلة بذاتها الحاضرة بقصائدها و أساطيرها و أحلامها و تاريخها عبر همها الذاتي و القومي و الإنساني ، فيصبح جرحها بلسما لجرحها
( على ظهر الموج
أنصبُ سريرا
أتمدّدُ ..
أسكنُ الحلمَ بين أهدابي
أرسمُ الابتسامة
فوق جبيني
محاولةً لاستدراجِ الحنين
لإنعاش دورةِ دمي
ينتفضُ كلي
أقتلعُ الأيام الموحشة من جذورها
أرميها بعيدا
على مرأى كلِّ الهياكل الفارغة
ركض على امتداد الأرق ص 53
ثم ماذا عن الرقم الأول ( الموسيقى ) ؟
موسيقى الشعر برأينا ( فلسفيا ) أبعد من كونها قافية و تفعيلة و إيقاع ، إنها بصمة روح الشاعر و رؤيته للعالم .
راجع المقطع الأخير من قصيدة ( زهرة النار ) ص 37 الذي يبدأ بـ قالت الغجرية للفجر
حين دغدغتْ بدنَ الرمل
ستحيا زهرةَ نار ............ إلخ
يحيلني هذا المقطع إلي الأسطورة الإغريقية البليغة ( بروميثوث سارق النار ) .
سرق بروميثوث النار من الآلهة – النار الخلاقة ليضئ ظلام الوجود الإنساني ، فيتصدى له شقيقه الرجعي ( إبيسيثوث ) كلما أشعلها بروميثوث ، حاول ابيسيثوث إطفاءها .. لاحظ أن المتصدي في الأسطورة شقيق بروميثوث ، و ليس أحد الآلهة الذين سرقت منهم النار ؟!
ماتزال هذه الأسطورة البليغة شغالة في العالم حتى هذه اللحظة !
فبالله .. كيف يمكن موسقة هذا الصراع الوحشي بين بروميثوث و شقيقه في قافية أو تفعيلة أو إيقاع ؟
هذا الصراع الذي اتسع اتساعا لا يمكن السيطرة عليه أو استيعابه بعد أن تأكلش ( من أكليشيه ) في مسميات مخادعة من مثل العولمة الكونية .. النظام العالمي الجديد ... إلخ .
و الآن نأتي إلي العامود أو الرقم الثالث ( الخيال )
هاهنا تتألق الصورة الشعرية ، بصورة ملفتة ، و ما أكثرتلك الصور في زهرة النار .. مثلا تأمل هذه الصورة النقية
مثل ثمرة طازجة :
أستأنسُ بعاصفةِ كلماتٍ
مضمخةٍ بنبض حيٍّ
يحملني إليكَ
مهرةً متيمةً
ترمحُ في حقولِ المنى
أنحازُ
إلي شمسِ الحرف
و خضرةِ الإحساسِ الذي
يؤرخُ لمجد الشعر
وثورةِ الحب
انقلاب الريح ص ( 5 )
دون الخيال فالقصيدة عجفاء لا روح فيها . نعم . الخيال الذي يولد الصور الشعرية بكثافة و إيجاز .. ومن ثم فإني أرى أن الخيال هو العامود الأول في العربية ( العامود الثالث حسب تصنيف النقاد )
و الخيال هاهنا في ( زهرة النار ) يرمحُ ، و يصهلُ صهيلا عذبا و أليما .
وراجع جلَّ قصائد هذه المدونة الشعرية ، و صورها البديعة .. و الأمر بالنسبة لي كقارئ للمدونة لا يعنيني من قريب أو بعيد تلك التنظيرات الأكاديمية عن الخيال و الصورة الشعرية وقد وجدتها متحققة بشكلٍ تلقائي ، و مسّتْ قلبي مسًّا .
في الآخر أقدم تحيتي الخالصة إلي هذه الشاعرة الموهوبة موهبة كبيرة بخاصة أن ( زهرة النار ) أول مدونة شعرية .. أقصد باكورة تجليها الإبداعي و الإنساني .. فافرحوا بها معي !!!!
سعد الدين حسن
14 / 10 / 2012
طنطا
تعليق