الحصار
نفضت ملابسها لتزيل عنها ما علقبها من غبار الطباشير، وحين نظرت إلى المرآة المثبتة بجانب الباب، قبل خروجها، هالها ما علق على وجهها وشعرها من غبار الزمن، والذي يرفض التساقط كغبار الطباشير.
ومع أنها ابتسمت لصورتها في المرآة، إلاّ أنهاأحسّت بشيء من الانقباض يعصر إحساسها ، لم تتمهل كثيرا أمام المرآة، وخرجت مسرعة،تركب الهواء لو استطاعت، لتصل إلى أطفالها الذين ينتظرونه كصغار العصافير.
فجأة أحست بلسعة كالغصة في الحلق!
تذكرت أنها جاءت بالباص، وأنها تركت سيارتها في البيت، منذ تنازلت عن رخصة السياقة لم تعد تجرؤ على أن تدير رأسها نحوها!
كيف تعود إلى البيت؟؟..صغارها ينتظرونها على جوع ...كصغار العصافير...ليس لديهم أي فكرة عن الوقت و المسافات، وهي بشوق إليهم كشوق الأم إلى صغارها...
لماذا تنازلت عن رخصةالسياقة؟؟؟!!! ليس لديها جواب، ولا تجرؤ حتى على التفتيش على الجواب!!!.. طُلِب منها! فلبت الطلب دون نقاش!
عرضت عليها زميلتها أن تركب معها فرفضت..إنها تخاف.. تخاف كأنها محاصرة!
كيف تعتبر نفسها مُحاصرة؟؟ هذه الكلمة تثير تداعيات موغلة في التاريخ والرعب!
تذكّرت حصار نابليون لعكا! وتذكرت حصار النازيين لموسكو!
لماذا توغل في التاريخ...؟ لماذا لا ترى الحاضر..؟ أهو أيضا مُحاصر ؟؟ أم نحن المحاصرون حتى لانرى بشاعة الحصار..!
تذكرت حصار الاحتلال لغزة !
لكنني لست في غزة ، قالت لنفسها
ومع ذلك أنت محاصرة، ومهددة بالخوف والحرمان والعقاب..إن أنت قدت سيارة،ليس مهما إلى أين، إلى المدرسة، أو العيادة أو إن أنت نقلت مريضا إلى الطبيب أوالمستشفى أو إن ركبت مع زميلتك أو حتى إن ركب معك زوجك.. أنت تركبين معه ممكن! أمّا أن يركب هو معك ..هذا من المحرمات المقدسات عليك وعليها وعليهن!!
"عقاب" !!! قالتها بشيء من الاحتجاج
"لست الوحيدة المعاقبة"
" لكن الجريمة تكبر وتكبر حين يصير العقاب جماعيا"
ممنوع أن تقودي سيارة....ممنوع أن تركبي مع سائقة...ممنوع أن تتنفسي هواءنقيا.. قد يكون ملغوما.. يجب أن يُفتش..كما يُفتش أي مواطن يدخل محطة القطار، أو مركزا تجاريا، أو مؤسسة عامة..
عودي إلى أطفالك دون فلسفة ...إنهم ينتظرون!
كيف يا ربي.؟ إنه فوق استطاعتي ....لا بد أن تستغيثي بأحد... بزوجك!
إنه بعيد...بُعد الأفق...في الجانب البعيد من البلاد!
بأخيك...
في الجانب الآخر من البلاد
أخو زوجك
إنه من المحرمات كرخص السياقة
اتصلت بأخيها الأصغر..الطالب في الثانوية الذي يقود السيارة بدون رخصة سياقة، تحمّس للفكرة كمن استيقظت فيه الشهامة العربية....قاد السيارة كالمجنون.. لا يفكر بشيء سوى أنه يحلق في عالم الشباب...قادها في منعطفات الشوارع الضيقة.. المكتظة بالمارة وطلاب المدارس العائدين من مدارسهم... رأى الشارع أمامه ميدان سباق خاليا من كل شيء.. وفي آخره تقف أخته وحيدة تنتظره...نسي نفسه ونسي المنعطفات الضيقة والمارة ...وفي وحل نسيانه لم يحس بالسيارة حين ضربت أحد المارة، طالبا في الصفالرابع، ونسي أن يتوقف ليرى ما فعل! وواصل تحليقه ...
كيف وصل إلى أخته..؟لا يدري، ما يعرفه أنه انتصر على الوقت، وتركه يلهث خلفه.
وهي تجلس على المقعد الأمامي، بجانبه، أحست بانقباض مؤلم بصدرها، كأنه كابوس يضغط بشدة،...كأنها ارتكبت خطيئة..لم تفطن إلى أنها تجلس بجانب سائق لايحمل رخصة سياقة...فقط أحست بأنها تنتقم ...ممن؟ لم تحدد، ربما من نفسها فأحسّت أنها تحمل شيئا من المسؤولية .."لو لم أتنازل عن رخصة السياقة، لما وقفت وحيدة في الشارع، ولما زُجّ بي في مغامرة "السباق" هذه" !
تاهت في إحساسها بالمسؤولية، وفقدت الصلة بأخيها الجالس بجانبها، يسابق الشارع، كأنه يقود طيارة، وبالشارع وبالمارة ، وصارت كالمُخدّرة تحت ثقل الأفكارالمتضاربة، ولم تحسّ بشيء حتى داهمها جمهور كبير، بعضه يصرخ وبعضه يبكي وبعضه يحركه الغضب نحو السيارة، يصرخون بصوتواحد "هذا هو"
وأمام هذا الغضب الزاحف نحوهما فقدت وعيها، وغاصت في غيبوبة طويلة، استيقظت منها بعد أيام ، لترى حول سريرها في المستشفى زوجها ووالديها ووالد الطالب المصاب، رأت الابتسامة على وجوههم حين فتحت عينيها، وانطلقت الألسن تحمد الله على سلامتها، تقدم منها أبو الطالب المصاب قائلا
عودي إلى أطفالك الذين ينتظرونك
عودي لتحطمي الحصار!!!
تعليق