صدع في بناء متهالك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عزت فوزي أحمد الحجار
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 36

    صدع في بناء متهالك

    بخطي مجهدة حائرة تناغمت وهدوء المدينة بعد أن أرهقـها عنــــاء النهــار ، قصـدت طريقي إلى الشاطـئ ، جلست في وضع القرفــصــاء فوق صخرة ضخمة من صخوره الصـــماء ، مستمتــعاً بهـدير الأمـواج ومستــسلماً لما يقذفه البحر من نسمات باردة.. من خلف جدران المقل تتسلل العبرات.. تنصهر وحبات الرمال في بوتقة واحدة، يتناغم معهما شعاع ذهبي أخاذ قد تأهب جيــدًا لاغتيال النور المتبقي من عمر النهار.. الغروب نشيد عبقري الكلمات.. لحن تفــرد وأحتوي أبلغ ما أبدع من نغمات.. همسة زاحفة صاخبة تنذر بقرب التقـــاء الأرض بالسمــــاء.. يبقى المشهـــد واحداً وتتـغير أدوار الأحيـــاء.. فمازال البحـر المترامي مسجوناً بين يابستيه بعد أن أنجبت كل محاولات الفكــاك أبشـــع أثواب الهزيمة،ومازالت صخوره قابضة على أنفاســه ،تحيا حياة الظافر المنتصر ،في حين لا يملك هو سوى أن ينـثر فوق أظهـرها بعضاً من أشياءه ،كأنه بذلك يستنفر غضبها ، لكنه في واقع الأمر يُسـدي لها معـروفاً حينما تلاطف قطراته المتنــاثرة البـاردة صـلابة وجمود تكوينهـا القــاس .. هكذا المشهـــد يتكــرر ، يشـــدني دائمـــاً في أولــه ثم أنصـرف عنه في نهاية الأمر.. قررت اقتحام المدينة مجدداً..كانت هذه المرة قد غطت في نوم عميق..اغتالت خطاي براءة الشــوارع ولا أخفي سعادتي البالـغة وأنا أتجول بمفردي في الطرقـات الفـارغة تماماً.. يشعرني الموقف بأنني سيد الكون وأن كل هذا الفراغ يخصني وحدي ،بدليـل أن أحداً لا ينازعني الآن فيه.. حالة وجد متدفق وانتشاء صامت أخرجني منها نباح شــديد متواصل، نبــاح رغم قوته إلا أنه يحمل في طيـــاته ذلة وانكســار ،ينطلق من منــزل فخم يبدو من مظهره ودقـــة بنائـــه أنه لأحد الوجهــاء..أرسلت نظرات اختــلط فيهــا التطـفل بالفضـول إلى داخل ســور المنزل ،تتـابعت نظـراتي المترقبــة المحملقة..أثارني المشهــــد وأدهشني حــقاً..استحوذ على فكري وتغلغــــل بأعماقي..رأيتـه وليتني ما رأيت..أحسست استبــسالـه وإصراره على بلـوغ غايتـه..يحاول جاهـداً اقتـلاع قيـوده وتحطيم حلقاتـها العنيـــدة.. كجندي أعزل في ميــدان القــتال فقـد دروعه وأدواته وبقيت الإرادة وحلم النصر هما سلاحه الوحيد.. استجمع ما لديه من عافيه عله يفلح في كسر أغــلاله..لم يتوقف عن المحاولة رغم فشله المتكرر.. ظل يصــارع ويقـاتل ،ثم بعد فتره همدت محاولاته تماماً..استلقى جسده..أخرج لسانه المبتل بعرق الهزيمة..التزجا جفنيه بعبرات حانية..لقد كان القيد أكبر من طاقة كائن ارتضى الأســر لسنوات عديدة منذ أن كان جرواً يرتـــع في فضــاء الطفـولة ..كان ملكـــاً وأصبح الآن سادناً ذليــلاً لا يملك من أمر نفســـه شيــئاً ، أعلى درجات طموحه بضع لقيمات يســد بها رمقه ونوبات من تمرد أحياناً تراوده ، فقد أصبحت حراسة قصر سيده ومليكه قدراً لا فكاك منه.. وليست الهزيمة وحدها هو ما جناه من محاولته التعسة ، فقد نهره سيده الذي أزعجه نبـاحه المقزز ، أغرقه بوابل من السبـاب .. صـاح فيه متـوعداً : " إن لم تكف عن هذا النباح يا مانو اللعيـن سوف أكـويك بالنار ..سأقتلع لسانك الثـرثار هذا وأمنـعك طعـامك وأزيــدك قيوداً " .. ثم مضى السيــد قاصـداً حجـرة نومـــه.. انتهت أحداث الموقف معلنة زيادة أوجاعي..فكم تمنيت لو ينجح مانو في بلـوغ غايـــته..دنوت منه .. حدقت في عينيـــه اللتيـــن قد سكنهما النــزيل نفســـه الذي يكــدر صفوي دومــاً بحضوره..لكم تألمت وشعرت بالحسرة من أجله..لكنه رمقني بنظرات حــــادة ،أخافتني حقـــاً عندما التقت وعينــاي المتربصتان..كان صمته وابلاً من رصاص اقتحم كياني وزلزل صحوي الغائب الغافــل ،كأنه يلومني أو يزدريني، لكن الشيء الذي ارقني فعلاً إحساسي بأنه قد علم ما أحاول أن أخفيـــه أنا، بمجرد التقـــاء عينيــــنا..لقد تساوينـــــا في المهــانة غير أن مانو أرغم عليـها ، أما أنا فقد رضيـت بها وباركتـها.. قررت الهـروب..تقدمت عدة خطـوات وقد وليتـه ظهري وانصرفت معتــــــذراً : " عذراً مانو فمثلي لا يمكنه إنصافك أو حتى إبلاغ جمعية الرفق بالحيوان.. إنني مثلك تماماً، أدور حول نفسي في دائرة مغلقة.. أتحرك كيف أشــاء لكنني في النهاية أعود لقيدي.. محاصراً أنا ، حالم بانتشاء رائحة البنفسج واحتساء قدح من نبيذ أعدته فتاة قد أخذت زينتها وأسندت رأسها للقمر وراحت تداعب النجوم بأناملهــا الملســـاء..إنني يا مانو العزيز رفيقك في الوحدة.. تائـه في هـذا الملأ الفسيــح ..أصعد هابطاً فوق عتبات الجلال..أتســـلق خيوط العنكبوت مفعــــماً بأمل الوصول..تنزف يداي دمــاً أسوداً..تصطدم رأسي بقعر أحلامي..أهبط إلى السطح وأصعــد إلى القــــاع..مجدداً أكرر المحاولة ..المحاولة تتركني.. تبصق في وجهي القبيــح.. تلعنني وتلعن كل الأيـــام التي كانت فيها طوع أمري..لا عليك يا مانو الطيب..أنت بأحسن حــال مني..ابتهــج وأجعل ذيلك يرقص فرحاً ،على الأقل لديك لســــاناً يصدح بالثـــرثرة وجسداً ثائـــراً يأبى مصادرة وجوده..أما أنا فلم أعد أرى بوضوح،رغم أني لم أشــك يومـاً ضعــفاً في بصري ،ولم أعــد أعي ما يقتحـم أذناي من كلمات ، كأنني قد فقدت الإحساس والقدرة على التمييــز ،أو أن أيامي قد لفظتني وتبرأت مني، فوقفت منفرداً فوق أطلالي أخطب زمناً قد ولى، وأنفث حولي تفاصيـــل حلمي .. ثم تابــعت غوصي في لجـج الـتـــيـه وقد تشتت فكري واستبــدت بي هواجسي فلم أعد أشعــر بكيـاني مطلقاً ، غير أن الشيء الأكيــد الذي أدركتــه في تلك اللحظة هو أنه مازالت لدي القدرة على الســـير ، لكن قدرتي على مواجهتـها كانت الشيء الذي أتشكك فيه..فكم تمنيت لو يكون لدي نصف شجــاعة مانو أو أن يكون لدي حتى طمــوح المحاولــة ولا أقول الخــلاص لأنه المستحــيل بعــينـه..فهي تمتلكني حــقاً ،نجحت في عزلي عن العـالم فانكمشت بداخلـها وانصهرت جزيئــاتي في خلايـاها.. حتى أنفاسي لا تخرج إلا بمرسوم منها.. يلاحقني دبـيب خطواتها.. تطاردني عيناها ، وهي تعــتقد أن ذلك هو حقـها الطبيعي باعتــبار أنني أصبحت أحـد أشيــاءها النفيســـة بموجب بنود العقد المبرم بيننا بوصفنا زوجين.. وبالرغم من ذلك فأنني أقر وأنا بكامل رشدي ،أنني رأيت الوجه الجميل للحياة من خلف نظارتها السمراء الأنيـقة ، منذ أن احتوتني صبيــاً حيث كنت جسداً مجرداً وحلماً مؤجلاً وأملاً مجهداً .. لكن الذي يؤلمني حقاً أنني الآن أفقد الإحساس بي ..أتحسـسني فلا أجدني..لدي رأس وأطراف ، لكنني لا أحساهما ،رغم ما يحتفر فوق جبين الأرض من آثـار أظنها لأقدامي.. أعياني الارتحال بلا عنوان.. مدني مطيــرة وسمائي تساقط ثلجاً.. عنوة اختزلت حياتي..أعواماً تعبرني غــلاباً ، وبسمات تُرتسم فوق شفتاي غـلاباً ، ويموت الوجد في صدري غـلاباً ، وسكنت جسداً امتلئ شجـناً حتى العنق غـلاباً ، وقمراً أغمض عينيه إلى الأبد وصار منفياً في مداه البعيـــد غـــــلاباً.. والآن أعود مكللاً بعار الهزيمة .. أقطع أوتار قيثارتي وأسكب ألحاني وأقتل جمهوري ثم ألوذ بالفرار.. أزداد توغــلاً في الأعماق.. أتواري رويداً رويداً..لقد اختفيت تماماً الآن .. وقفت حــداداً على ذهابي.. عزائي الوحيـــد أنني مازلت أتنفــس ..حري بي أن أبحـر في ميــاهي ولو كانت راكــدة .. لقد ذاب آخر خــيط أســــود من عمر الليــل في حجـــر النهـــــار .. آن لي الآن أن أعــــود .
    عزت فوزي أحمد الحجار
    في 10/10/2007 ... نشرت بالصحف
    عزت الحجار
  • ميساء عباس
    رئيس ملتقى القصة
    • 21-09-2009
    • 4186

    #2
    من خلف جدران المقل تتسلل العبرات.. تنصهر وحبات الرمال في بوتقة واحدة، يتناغم معهما شعاع ذهبي أخاذ قد تأهب جيــدًا لاغتيال النور المتبقي من عمر النهار.. الغروب نشيد عبقري الكلمات.. لحن تفــرد وأحتوي أبلغ ما أبدع من نغمات.. همسة زاحفة صاخبة تنذر بقرب التقـــاء الأرض بالسمــــاء.. يبقى المشهـــد واحداً وتتـغير أدوار الأحيـــاء.. فمازال البحـر المترامي مسجوناً بين يابستيه بعد أن أنجبت كل محاولات الفكــاك أبشـــع أثواب الهزيمة

    ندخل القصة من خلال بحر محاصر
    وغروب عبقري
    ومفردات وصور قمة الشاعرية تختزل الكثير
    من مرايا الواقع
    فتبدو الحياة واضحة وقد
    رسمها الأديب الجميل عزت الحجار

    قصة متماسكة قوية جزلة
    ومن كتبها أديب مخضرم بحرف الحياة
    ولغة الوجع الرومانسية جدا
    جميلة جدا تلك القصة وممتعة
    ربما أسهبت كثيرا في وصف المناخ
    الذي ترتكز عليه القصة
    لكنا رأينا من خلاله
    جمال روحك وحرفك المتقن
    مرحبا بك زميلنا القدير
    الرائع عزت الحجار
    كل الود والتقدير
    لنعلقها بضعة نجوم وغروب
    ننتظر بشغف جديدك ومشاركاتك
    ميســاء العباس
    مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
    https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

    تعليق

    • فوزي سليم بيترو
      مستشار أدبي
      • 03-06-2009
      • 10949

      #3
      سوف ابدأ بالعنوان وأنتهي به
      صدع في بنيان متهالك
      وما هو هذا البنيان ؟ هل هو حال الكلب الذي ارتضى
      الخنوع سبيلا للعيش ، مقابل لقمة مغمسة بالذل ، وحيّز
      للحركة أقل اتساعا من زنزانة ، مقابل نهب الرؤى
      والأحلام وزرع الخنوع بديلا عن الانطلاق ، إلى أن
      تسرب اليأس وكمن كما يكمن المرض في الجسد منتظرا
      اللحظة المواتية للإنقضاض .
      لقد رضي الكلب بعد محاولات عديدة للإنفلات
      محاولات فاشلة لم ترى النور . فاستسلم ، ليس خوفا
      من تهديدات سيّده / إنما بسبب تصدع بنيانه المتهالك .رأى صاحبنا نفسه في هذا الحيوان
      ارتضى الهوان وقبله شعارا لحياته
      والسيّد هو ذات السيد . ساكن القصر الكبير أو الزوجة
      أو الحاكم .
      آن لي الآن أن أعــــود
      لقد نفَّس عن ما يجول في أعماقه
      وها هو يعود . لأنه بنيان متصدع متهالك .هذه رؤيتي لمضمون النص
      أما اللغة وأسلوب السرد فقد كان الكاتب موفقا فيهما
      إلى درجة الإدهاش .كانت هذه قرائتي للنص في حلقة نقاشها في الصالون الصوتي للملتقىتحياتي
      فوزي بيترو

      تعليق

      يعمل...
      X