ترجّل من العربة التي أقلّته من المطار.
كأنه لم يتغيب عن موطنه كل هذه السنوات الطوال.
ظل واقفا والليل يدلق على روحه هدوءا صاخبا، وسكونا بضجيج لا يسمعه إلا هو.
وقف متأملاً بيته مستعرضا سكانه في مخيلته، زوجته وأطفاله.
تمددت جدران البيت وكبرتْ حتى وسعتْ كل زوايا الخواء بدواخله ..
وقف متفرساً في كل ما حوله، يُمْلي ناظريه وهو يجوب بهما كل أنحاء المكان...
جال ببصره في الشارع يستعرضه بيتاً .. بيتاً
وجوه الجيران تتأرجح ملامحها في ذاكرته ..
طفتْ أحداث ومساجلات على سطح ذاكرته المتعبة ..
إنتابته مشاعر شتى قبْل أن يطرق الباب الذي غاب عنه خمس سنواتٍ طوال.. شرب خلالها الشوق حتى الثمالة ولم يرتوِ.
خالطه شعور طاغٍ بالندم، فغربته الطويلة كانت بلا جدوى، فلا هو مكث بين دفء الأسرة، ولا هو عاد بما كان يؤمله من غربته.
غالَبَ دموعا تقف على أطراف مقلتيه وهو يتأمل بقايا عربته ( التاكسي ) تقبع أمام منزله ..
دون أن يشعر هتف هاتف من دواخله المتلهفة :
( أهذا أنت يا رفيق الدرب ؟ أراك تقف متماسكاً أكثر مني ... هل أبوح لك بسر ؟ شوقي إليك كان يخالط حنيني إلى تراب البلد والأهل ... ليتني بقيت معك أعانق الطرق والأزقة والحواري.)
رغم الظلام الحالك، كان يرى كل تفاصيله عبْر ما يختزنه في عقله من مواقف وأحداث ..
إندلق مخزون أيامه الخوالي دفعة واحدة كبوابة مُشرعة تؤدي إلى تصفح سِفْر قديم تختلط فيه بداياته ونهاياته...
رمق عربته العتيقة وحزن يكسو وجهه ويغمر كيانه ...
هيكل بلا أحشاء ..
بقايا مقاعد بلا حشايا ..
نوافذ بلا زجاج ..
ومقابض مخلوعة عنوة ..
تلاشى اللون الذي كان يتلألأ تحت الشـــجرة الضخمة عقِبَ كل تلميع على شارع النيل وأمام الفنادق الفاخرة.
أوجه الشبة كثيرة بينه وبين عربته.
أخذ نفَسا عميقاً .. وتنهد ..
وقف وهو يتأبط حقيبته بيد وبيده الأخرى يتحسس جسد العربة الساكن ..
كأنَّ عِبْق (البخور) الذي كانت تُصِر زوجته على نثره كل أركانه به لا زال يفوح كما كان في الأيام الخوالي حيث كان يشده إلى ابتسامتها طيلة مشاويره في حنايا العاصمة وأزقتها وحواريها حتى موعد قيلولته وهو يحكي لها تفاصيل يومه وهو يغالب النعاس.
لم يتمالك نفسه، وقد هيجته الذكرى.
تدارك دموعه قبل أن تنزلق، فغيَّر مجرى تسارُع الصور في مخيلته..
ربَتَ على هيكل العربة ..
بدأ بمقدمتها ....
مسح على بقايا طبقة الطلاء المخشوشنة برفق وحنو ..
ها هو المكان الذي كانت تتدلى منه ( المرايا ) ..
لم تعد هناك ..
إنداحت عشرات الوجوه من مكان (المرايا) تعكس وجوه زبائنه القدامى وهو يرنو إليهم عبْرها تارة وتارة يُبْقي نظره على الشارع ..
تنامى إليه لغطهم وأحاديثهم وكأنها لا زالت تتمســك بأهداب المقاعد وســــقف العربة وأرضيتها..
خطرفات جاره السكِّير الذي كان دائماَ يصادفه أول كل شهر حاملاً كيس الورق المتخم ورائحة الخمر تفوح منه وضح النهار ...
ضجة الوقوف عند بوابة المستشفى الميري ..
وهنا كانت تتأرجح ( المسبحة العتيقة ) التي أهدته إياها عمته ..
أما هنا فكان يرقد ( المصحف ) ملفوفاً في قطعة من القماش الأبيض ..
أدخل رأسه برفق من جهة باب السائق ..
تنامتْ إليه أصوات أغنيات قديمة تختلط بكم هائل من موسيقاها وإيقاعاتها ..
تخيل نفسه يدخل المفتاح ليفتح الباب صباحاً وهو ( يبسمل ويحوقل ) ...
نظر إلى ( مقود العربة ) الذي أمسك به أول مرة.
إنزلقتْ ذكرى أول مشوار، وهو يجول بأمه على شارع النيل عملاً بالنَذْر الذي قطعه على نفسه ...
( ندْراً علىْ لو اشتريت التكسي أول مشوار حيكون معاكي ...) ...
إبتسامة أمه يومها التي كانت تنم عن الرضا والسعادة الغامرة لا زالت ترقد على بقايا مقدمة العربة كصورة في إطار عتيق .. ودعواتها يتردد صداها في جنبات الهيكل الخاوية ..
ومن هذا الباب دخل العسكري ليلكزه بهراوته قبل أن يجرجره زملاؤه خارج التاكسي لأنه تجاوز ساعات ( حظر التجوال )، وتنهال عليه الصفعات وهو يحاول جاهداً أن يتحاشاها ويُسْمعهم تبريراته .
قفزتْ إلى مقدمة ذاكرته ليلة أن أحستْ زوجته بآلام المخاض ...
ليلتها أصر التاكسي على عدم التحرك وكأنه يتآمر على قدوم مولوده الأول .
إغترب و ترك اصغر اولاده في الرابعة من عمره
وهاهو يعود إليه بعد غربةٍ حفرتْ في روحه أخاديد نازفة، يعلم الله كيف ومتى تُنْكَأ ...
غمرته سعادة تلك الأيام ..
إنفرجت أساريره وهو قاب قوسين من أسرته وحفاوتها الدافئة ...
أفاق على سكون الشارع، وعلى وقفته التي طالت يسبح في بحيرة تأملاته. شوقه المختزن في دواخله أدخل الرهبة من اللقيا المفاجئة.
شعر بضجيج الهدوء المُطْبِق ..
وصَمْت عربته يكاد يملأ المكان بصخب عارم..
شلال ذكرياته التي سافرتْ به ثم ألقتْ برحالها على عتبات بيته وساكنيه، يلفه تماماً، ويجرفه بعيداً.
طرق الباب بيد مرتجفة، وهو يرمق ( التاكسي ) من طرف خفي وكأنه يستأذنه الانصراف عنه..
أنفتح باب بيته وأطلتْ زوجته ..
شهقتْ متراجعة وغير مصدقة ..
ثم نضح وجهها بفرحة مباغتة ..
هتفتْ بإسمه بصوت مخنوق ...
سرعان ما أطلقتْ زغرودة يخالطها بكاء في هستيريا متواصلة، وهي تنادي أولادها واحداً تلو الآخر في سعادة وبهجة طفولية غامرة..
عندما عانقها طويـلاً ودفن وجهه بين طيات عبقها الراقد بين حناياه أبداً، خُيِّل إليه بأن هيكل العربة المتهالك قد اكتسى رونقه القديم وأنه وقف على (إطاراته) الأربع وأطلق حشرجته القديمة لينطلق به مرة أخرى ليجوب شوارع المدينة...
كأنه لم يتغيب عن موطنه كل هذه السنوات الطوال.
ظل واقفا والليل يدلق على روحه هدوءا صاخبا، وسكونا بضجيج لا يسمعه إلا هو.
وقف متأملاً بيته مستعرضا سكانه في مخيلته، زوجته وأطفاله.
تمددت جدران البيت وكبرتْ حتى وسعتْ كل زوايا الخواء بدواخله ..
وقف متفرساً في كل ما حوله، يُمْلي ناظريه وهو يجوب بهما كل أنحاء المكان...
جال ببصره في الشارع يستعرضه بيتاً .. بيتاً
وجوه الجيران تتأرجح ملامحها في ذاكرته ..
طفتْ أحداث ومساجلات على سطح ذاكرته المتعبة ..
إنتابته مشاعر شتى قبْل أن يطرق الباب الذي غاب عنه خمس سنواتٍ طوال.. شرب خلالها الشوق حتى الثمالة ولم يرتوِ.
خالطه شعور طاغٍ بالندم، فغربته الطويلة كانت بلا جدوى، فلا هو مكث بين دفء الأسرة، ولا هو عاد بما كان يؤمله من غربته.
غالَبَ دموعا تقف على أطراف مقلتيه وهو يتأمل بقايا عربته ( التاكسي ) تقبع أمام منزله ..
دون أن يشعر هتف هاتف من دواخله المتلهفة :
( أهذا أنت يا رفيق الدرب ؟ أراك تقف متماسكاً أكثر مني ... هل أبوح لك بسر ؟ شوقي إليك كان يخالط حنيني إلى تراب البلد والأهل ... ليتني بقيت معك أعانق الطرق والأزقة والحواري.)
رغم الظلام الحالك، كان يرى كل تفاصيله عبْر ما يختزنه في عقله من مواقف وأحداث ..
إندلق مخزون أيامه الخوالي دفعة واحدة كبوابة مُشرعة تؤدي إلى تصفح سِفْر قديم تختلط فيه بداياته ونهاياته...
رمق عربته العتيقة وحزن يكسو وجهه ويغمر كيانه ...
هيكل بلا أحشاء ..
بقايا مقاعد بلا حشايا ..
نوافذ بلا زجاج ..
ومقابض مخلوعة عنوة ..
تلاشى اللون الذي كان يتلألأ تحت الشـــجرة الضخمة عقِبَ كل تلميع على شارع النيل وأمام الفنادق الفاخرة.
أوجه الشبة كثيرة بينه وبين عربته.
أخذ نفَسا عميقاً .. وتنهد ..
وقف وهو يتأبط حقيبته بيد وبيده الأخرى يتحسس جسد العربة الساكن ..
كأنَّ عِبْق (البخور) الذي كانت تُصِر زوجته على نثره كل أركانه به لا زال يفوح كما كان في الأيام الخوالي حيث كان يشده إلى ابتسامتها طيلة مشاويره في حنايا العاصمة وأزقتها وحواريها حتى موعد قيلولته وهو يحكي لها تفاصيل يومه وهو يغالب النعاس.
لم يتمالك نفسه، وقد هيجته الذكرى.
تدارك دموعه قبل أن تنزلق، فغيَّر مجرى تسارُع الصور في مخيلته..
ربَتَ على هيكل العربة ..
بدأ بمقدمتها ....
مسح على بقايا طبقة الطلاء المخشوشنة برفق وحنو ..
ها هو المكان الذي كانت تتدلى منه ( المرايا ) ..
لم تعد هناك ..
إنداحت عشرات الوجوه من مكان (المرايا) تعكس وجوه زبائنه القدامى وهو يرنو إليهم عبْرها تارة وتارة يُبْقي نظره على الشارع ..
تنامى إليه لغطهم وأحاديثهم وكأنها لا زالت تتمســك بأهداب المقاعد وســــقف العربة وأرضيتها..
خطرفات جاره السكِّير الذي كان دائماَ يصادفه أول كل شهر حاملاً كيس الورق المتخم ورائحة الخمر تفوح منه وضح النهار ...
ضجة الوقوف عند بوابة المستشفى الميري ..
وهنا كانت تتأرجح ( المسبحة العتيقة ) التي أهدته إياها عمته ..
أما هنا فكان يرقد ( المصحف ) ملفوفاً في قطعة من القماش الأبيض ..
أدخل رأسه برفق من جهة باب السائق ..
تنامتْ إليه أصوات أغنيات قديمة تختلط بكم هائل من موسيقاها وإيقاعاتها ..
تخيل نفسه يدخل المفتاح ليفتح الباب صباحاً وهو ( يبسمل ويحوقل ) ...
نظر إلى ( مقود العربة ) الذي أمسك به أول مرة.
إنزلقتْ ذكرى أول مشوار، وهو يجول بأمه على شارع النيل عملاً بالنَذْر الذي قطعه على نفسه ...
( ندْراً علىْ لو اشتريت التكسي أول مشوار حيكون معاكي ...) ...
إبتسامة أمه يومها التي كانت تنم عن الرضا والسعادة الغامرة لا زالت ترقد على بقايا مقدمة العربة كصورة في إطار عتيق .. ودعواتها يتردد صداها في جنبات الهيكل الخاوية ..
ومن هذا الباب دخل العسكري ليلكزه بهراوته قبل أن يجرجره زملاؤه خارج التاكسي لأنه تجاوز ساعات ( حظر التجوال )، وتنهال عليه الصفعات وهو يحاول جاهداً أن يتحاشاها ويُسْمعهم تبريراته .
قفزتْ إلى مقدمة ذاكرته ليلة أن أحستْ زوجته بآلام المخاض ...
ليلتها أصر التاكسي على عدم التحرك وكأنه يتآمر على قدوم مولوده الأول .
إغترب و ترك اصغر اولاده في الرابعة من عمره
وهاهو يعود إليه بعد غربةٍ حفرتْ في روحه أخاديد نازفة، يعلم الله كيف ومتى تُنْكَأ ...
غمرته سعادة تلك الأيام ..
إنفرجت أساريره وهو قاب قوسين من أسرته وحفاوتها الدافئة ...
أفاق على سكون الشارع، وعلى وقفته التي طالت يسبح في بحيرة تأملاته. شوقه المختزن في دواخله أدخل الرهبة من اللقيا المفاجئة.
شعر بضجيج الهدوء المُطْبِق ..
وصَمْت عربته يكاد يملأ المكان بصخب عارم..
شلال ذكرياته التي سافرتْ به ثم ألقتْ برحالها على عتبات بيته وساكنيه، يلفه تماماً، ويجرفه بعيداً.
طرق الباب بيد مرتجفة، وهو يرمق ( التاكسي ) من طرف خفي وكأنه يستأذنه الانصراف عنه..
أنفتح باب بيته وأطلتْ زوجته ..
شهقتْ متراجعة وغير مصدقة ..
ثم نضح وجهها بفرحة مباغتة ..
هتفتْ بإسمه بصوت مخنوق ...
سرعان ما أطلقتْ زغرودة يخالطها بكاء في هستيريا متواصلة، وهي تنادي أولادها واحداً تلو الآخر في سعادة وبهجة طفولية غامرة..
عندما عانقها طويـلاً ودفن وجهه بين طيات عبقها الراقد بين حناياه أبداً، خُيِّل إليه بأن هيكل العربة المتهالك قد اكتسى رونقه القديم وأنه وقف على (إطاراته) الأربع وأطلق حشرجته القديمة لينطلق به مرة أخرى ليجوب شوارع المدينة...
تعليق