شعور جميل ، إنّما أكبر من أن يسعه قلب طفلة ، في العاشرة .
كان لابد من اقتسام رغيف الفرحة مع قلوب أخرى .
جريا على قدميّ سابقت الريح . قطعت المسافة بين بيتنا و مدرستي في وقت قياسي. بيتنا مترامي الأطراف . بناه أبي بعد الاستقلال ، فوق قطعة أرض كانت مهبطا لطائرات الهليكوبتر الفرنسية أيام الثورة .أبي وضع في المنزل كل ما ادّخره لسنوات طوال ، ثم نزح بنا من الدوّار لكي يدخلنا المدرسة . أصرّت أمي أن نتمدرس . مدرستي شيّدتها فرنسا . حجراتها واسعة . حيطانها عالية . مدفأة الفحم لم تكن تكفي لنشر الدفء في أرجائها لكننا لم نكن نشعر بالبرد ، و في الصباحات الشتوية القارصة ،المبلّلة بالندى ، المغيّمة بضباب أنفاسنا الساخنة ، حين كانت حناجرنا تصدح بـ " قسمًا " ، كان دفء عجيب يسري في أجسادنا الهزيلة. يتغلغل في قلوبنا الغضة .
كنت أصغر من أن استوعب بطريقة واضحة ما يصل سمعي من أحاديث عن الحرب و سنين الظلم و الفقر و التهميش ، و المستعمر الذي أهلك الحرث و النسل وقتل الملايين ، لكني كنت واثقة من أنّ بلادي عظيمة و أنّ شيئا خارقا قد حدث .
في حضن أمي استقرت معي فرحتي .
" أمي ... أمي ... لقد اختاروني أنا... دون كل بنات المدرسة ، لكي أستقبله بالورد .. "
أمي تبتسم . يشرق وجهها . تبرق النجوم فوق جبينها المتعب . أمي تفخر بنا . أبي أيضا ، طبعا ، بمَ يمكن أن يفخر الفقراء سوى بما تنجب أصلابهم / أو أدمغتهم / . لم نكن نستطيع أن نفخر بأي شيء ، أخواتي و أنا ، عدا التفوق المدرسي . أبي لا يملك مالا ، ولا جاها ، و لا ضيعا ، و لا وثائق تثبت عونه للمجاهدين أثناء الثورة . حرمه ذلك من امتيازات كثيرة . في الحقيقة هو لم يسع من أجلها . ما أكثر الذين حصلوا على بطاقة مجاهد/ برتبة مزيّف / .. و ما أكثر من تمرّغوا في نعيم الثراء و الوجاهة مباشرة بعد انتهاء الحرب ... " بينما كنا نزغرد و نصفّق و نلوّح بالأعلام الوطنية صبيحة الاستقلال" ، روت لنا أمي ، " كان غيرنا يسطو على المنازل و العقارات و الأملاك التي تركها المعمرون " .
أحب منزلنا الكبير . لا أحب لو أني ترعرعت في منزل مسروق . أليس سارقا من يسرق سارقا ؟ .
كانت فرحتي لا توصف في ذلك اليوم البعيد الذي أراه الآن بعين رسام يقف أمام لوحته الزيتية وقد داهمها المطر ..فتفسّخت معالمها لكن لم تمت لأنّها منحوتة في خياله .
وزّعتُ الخبر على الأهل ، و الجيران ، و كلّفتُ من يزرعه في آذان تلاميذ المدارس الأخرى ..
سأقدم الورد للرئيس هواري بومدين ، في أوّل زيارة له ، إلى قريتنا . قرية صغيرة ، مقرفصة عند سفح " جبل المايدة " الشاهق . تفتقر، كباقي القرى الهامشية ، إلى الكثير من المرافق . يشتغل سكانها بالفلاحة .. بائسون هم .. ملامحهم تنضح بألوان العوز لكنهم يهدهدون التفاؤل . ينظرون بعين الحب و الإكبار لهذا الرجل المهيب . يرون في مقدمه وعدا ببزوغ فجر طال انتظاره ، يتوسّمون في نظرته الحادة ، نظرة الصقر ، خيرا كثيرا و عزّة و رفعة ، بعد سنوات الذل و المهانة .
لم يكن أبي يفوّت الأخبار لكي يسمع عنه ، في الراديو ، ثم على التلفاز ، بعد أن اكتشفنا الكهرباء / أو اكتشفتنا / ، و اشترت لنا أختي جهاز تلفزيون أبيض و أسود . أختي .. لم تواصل دراستها في الجامعة رغم حصولها على الرتبة الثانية في مدرسة الأساتذة . كان لابد أن تشتغل لكي تساعد أبي .
كنت استعجل الأيام ، لمجيء اليوم المشهود . أذكر تلك اللحظة حين نظرت في المرآة ، و شغلني حجمي الصغير . أرفع نظري إلى الأعلى حتى حافة المرآة المثبّتة على الدولاب العتيق . الدولاب ببابين . لم يكن في بيتنا غيره . كلنا كنا نضع أثوابنا بداخله ، أوسع مساحة فيه كانت لأختي الكبرى . تحتاج مساحة أوسع لتحتفظ ببعض الملابس إذ ربما تتزوج تقول أمي . المرآة بدأت تتآكل.. هو بهذا الطول ، كنت أخمّن ..لا ..لا .. ربما أطول . أطول من الدولاب ؟ ليس مشكلة . سوف ينحني بقامته الفارعة لكي أتمكن من تقبيله ، نعم ، كما يفعل خالي حين أزوره في بيته الطيني المتهالك . خالي لم يحصل على مسكن يليق بالآدميين إلا بعد سنوات طوال و قد بلغ من الكبر عتيّا ، و لم يعد يفصله عن مسكنه في قاع الأرض سوى زفرات معدودات . خالي تمنى لو أنه فلاح . كان على الأقل استفاد من منزل في إحدى القرى الفلاحية التي أثمرها مشروع الثورة الزراعية الذي جاء به بومدين " الموسطاش "/ هكذا كان يحلو للبعض مناداته / ..أذكر أنني في المتوسطة كتبت على مئزري حروف اسمي الأولى بالفرنسيةR . A و طرّزتها أمي بخيوط من الحرير الأزرق . كان رفقاء المدرسة ينكّتون كلما رأوني .
" ! Révolution Agraire "( ثورة زراعية ) يناديني زميل لي ، و أرد له النكتة ضاحكة " الأرض لمن يخدمها ! " / .. صحيح .. لمن الأرض إذا لم تكن لمن يخدمها ؟ أليس منطقيا أنّ من يزرع يحصد ؟ تصوّر معي أن تزرع و غيرك يحصد .كم ذلك مؤلم و قاس . /
نضحك بملء البراءة رفاقي و أنا . يدق الجرس . نتزاحم نحو قاعة الدرس .
تتزاحم في رؤوسنا الأحلام الفتيّة و الأمنيات العذراء .
خاطت لي أمي فستانا جميلا . لابد أن أكون في كامل أناقتي . الحدث ستنقله الكاميرات . سيبثّه التلفزيون . سيراني كثيرون و أنا أقدّم باقة الورد للرئيس .
حُلّت مشكلة الفستان . بقي الحذاء . فستان جميل مع حذاء بائس ؟ غير ممكن .. أشبه ما يكون بصورة جميلة يحفّها إطار خشبي قديم ، أو قصة مشوّقة بعنوان هزيل البناء ، رثّ المعنى .
أبتسم الآن و أنا أتخيّل التشبيه .
استنجدنا بخالي ليحل مشكلة الحذاء . كريمٌ خالي رغم فقره . وضع في كفي الصغيرة بضعة دراهم . هرعت لأقرب محل . اشتريت الحذاء .
و في صبيحة اليوم المشهود ، كان حذائي الجديد ما يزال في علبته ..و فستاني مرميّفي ركن الغرفة ..
و في صدري فرحة مشنوقة .
قبل يومين على وصول الرئيس أخبرت بأنّ باقة الورد ستقدّمها له ابنة رئيس البلدية و ليس أنا .
كان لابد من اقتسام رغيف الفرحة مع قلوب أخرى .
جريا على قدميّ سابقت الريح . قطعت المسافة بين بيتنا و مدرستي في وقت قياسي. بيتنا مترامي الأطراف . بناه أبي بعد الاستقلال ، فوق قطعة أرض كانت مهبطا لطائرات الهليكوبتر الفرنسية أيام الثورة .أبي وضع في المنزل كل ما ادّخره لسنوات طوال ، ثم نزح بنا من الدوّار لكي يدخلنا المدرسة . أصرّت أمي أن نتمدرس . مدرستي شيّدتها فرنسا . حجراتها واسعة . حيطانها عالية . مدفأة الفحم لم تكن تكفي لنشر الدفء في أرجائها لكننا لم نكن نشعر بالبرد ، و في الصباحات الشتوية القارصة ،المبلّلة بالندى ، المغيّمة بضباب أنفاسنا الساخنة ، حين كانت حناجرنا تصدح بـ " قسمًا " ، كان دفء عجيب يسري في أجسادنا الهزيلة. يتغلغل في قلوبنا الغضة .
كنت أصغر من أن استوعب بطريقة واضحة ما يصل سمعي من أحاديث عن الحرب و سنين الظلم و الفقر و التهميش ، و المستعمر الذي أهلك الحرث و النسل وقتل الملايين ، لكني كنت واثقة من أنّ بلادي عظيمة و أنّ شيئا خارقا قد حدث .
في حضن أمي استقرت معي فرحتي .
" أمي ... أمي ... لقد اختاروني أنا... دون كل بنات المدرسة ، لكي أستقبله بالورد .. "
أمي تبتسم . يشرق وجهها . تبرق النجوم فوق جبينها المتعب . أمي تفخر بنا . أبي أيضا ، طبعا ، بمَ يمكن أن يفخر الفقراء سوى بما تنجب أصلابهم / أو أدمغتهم / . لم نكن نستطيع أن نفخر بأي شيء ، أخواتي و أنا ، عدا التفوق المدرسي . أبي لا يملك مالا ، ولا جاها ، و لا ضيعا ، و لا وثائق تثبت عونه للمجاهدين أثناء الثورة . حرمه ذلك من امتيازات كثيرة . في الحقيقة هو لم يسع من أجلها . ما أكثر الذين حصلوا على بطاقة مجاهد/ برتبة مزيّف / .. و ما أكثر من تمرّغوا في نعيم الثراء و الوجاهة مباشرة بعد انتهاء الحرب ... " بينما كنا نزغرد و نصفّق و نلوّح بالأعلام الوطنية صبيحة الاستقلال" ، روت لنا أمي ، " كان غيرنا يسطو على المنازل و العقارات و الأملاك التي تركها المعمرون " .
أحب منزلنا الكبير . لا أحب لو أني ترعرعت في منزل مسروق . أليس سارقا من يسرق سارقا ؟ .
كانت فرحتي لا توصف في ذلك اليوم البعيد الذي أراه الآن بعين رسام يقف أمام لوحته الزيتية وقد داهمها المطر ..فتفسّخت معالمها لكن لم تمت لأنّها منحوتة في خياله .
وزّعتُ الخبر على الأهل ، و الجيران ، و كلّفتُ من يزرعه في آذان تلاميذ المدارس الأخرى ..
سأقدم الورد للرئيس هواري بومدين ، في أوّل زيارة له ، إلى قريتنا . قرية صغيرة ، مقرفصة عند سفح " جبل المايدة " الشاهق . تفتقر، كباقي القرى الهامشية ، إلى الكثير من المرافق . يشتغل سكانها بالفلاحة .. بائسون هم .. ملامحهم تنضح بألوان العوز لكنهم يهدهدون التفاؤل . ينظرون بعين الحب و الإكبار لهذا الرجل المهيب . يرون في مقدمه وعدا ببزوغ فجر طال انتظاره ، يتوسّمون في نظرته الحادة ، نظرة الصقر ، خيرا كثيرا و عزّة و رفعة ، بعد سنوات الذل و المهانة .
لم يكن أبي يفوّت الأخبار لكي يسمع عنه ، في الراديو ، ثم على التلفاز ، بعد أن اكتشفنا الكهرباء / أو اكتشفتنا / ، و اشترت لنا أختي جهاز تلفزيون أبيض و أسود . أختي .. لم تواصل دراستها في الجامعة رغم حصولها على الرتبة الثانية في مدرسة الأساتذة . كان لابد أن تشتغل لكي تساعد أبي .
كنت استعجل الأيام ، لمجيء اليوم المشهود . أذكر تلك اللحظة حين نظرت في المرآة ، و شغلني حجمي الصغير . أرفع نظري إلى الأعلى حتى حافة المرآة المثبّتة على الدولاب العتيق . الدولاب ببابين . لم يكن في بيتنا غيره . كلنا كنا نضع أثوابنا بداخله ، أوسع مساحة فيه كانت لأختي الكبرى . تحتاج مساحة أوسع لتحتفظ ببعض الملابس إذ ربما تتزوج تقول أمي . المرآة بدأت تتآكل.. هو بهذا الطول ، كنت أخمّن ..لا ..لا .. ربما أطول . أطول من الدولاب ؟ ليس مشكلة . سوف ينحني بقامته الفارعة لكي أتمكن من تقبيله ، نعم ، كما يفعل خالي حين أزوره في بيته الطيني المتهالك . خالي لم يحصل على مسكن يليق بالآدميين إلا بعد سنوات طوال و قد بلغ من الكبر عتيّا ، و لم يعد يفصله عن مسكنه في قاع الأرض سوى زفرات معدودات . خالي تمنى لو أنه فلاح . كان على الأقل استفاد من منزل في إحدى القرى الفلاحية التي أثمرها مشروع الثورة الزراعية الذي جاء به بومدين " الموسطاش "/ هكذا كان يحلو للبعض مناداته / ..أذكر أنني في المتوسطة كتبت على مئزري حروف اسمي الأولى بالفرنسيةR . A و طرّزتها أمي بخيوط من الحرير الأزرق . كان رفقاء المدرسة ينكّتون كلما رأوني .
" ! Révolution Agraire "( ثورة زراعية ) يناديني زميل لي ، و أرد له النكتة ضاحكة " الأرض لمن يخدمها ! " / .. صحيح .. لمن الأرض إذا لم تكن لمن يخدمها ؟ أليس منطقيا أنّ من يزرع يحصد ؟ تصوّر معي أن تزرع و غيرك يحصد .كم ذلك مؤلم و قاس . /
نضحك بملء البراءة رفاقي و أنا . يدق الجرس . نتزاحم نحو قاعة الدرس .
تتزاحم في رؤوسنا الأحلام الفتيّة و الأمنيات العذراء .
خاطت لي أمي فستانا جميلا . لابد أن أكون في كامل أناقتي . الحدث ستنقله الكاميرات . سيبثّه التلفزيون . سيراني كثيرون و أنا أقدّم باقة الورد للرئيس .
حُلّت مشكلة الفستان . بقي الحذاء . فستان جميل مع حذاء بائس ؟ غير ممكن .. أشبه ما يكون بصورة جميلة يحفّها إطار خشبي قديم ، أو قصة مشوّقة بعنوان هزيل البناء ، رثّ المعنى .
أبتسم الآن و أنا أتخيّل التشبيه .
استنجدنا بخالي ليحل مشكلة الحذاء . كريمٌ خالي رغم فقره . وضع في كفي الصغيرة بضعة دراهم . هرعت لأقرب محل . اشتريت الحذاء .
و في صبيحة اليوم المشهود ، كان حذائي الجديد ما يزال في علبته ..و فستاني مرميّفي ركن الغرفة ..
و في صدري فرحة مشنوقة .
قبل يومين على وصول الرئيس أخبرت بأنّ باقة الورد ستقدّمها له ابنة رئيس البلدية و ليس أنا .
تعليق