كانَ يصغي لصوت انهمار المطر وعيناه تراقبان الباب ، يكاد ينهض من مكانه
كلما سمعَ صوت الرعد.. بدأ الخوف يتسلل لقلبه حين لم يعودا ولم يتصلا به.. أخبرتهما أن يتصلا بي فأنا لا أعرف كيفية استخدام الجوال..تأخر الوقت كثيرا وأخشى أن يكونا قد تعرضا لحادث..
بدأ يقضم أظافر يديه بعصبية بالغة- تارة يلعن الظروف التي أجبرت ولديه على مغادرة البيت في هذا الوقت المتأخر من الليل ، وتارة يرفع يديه بالدعاء لله ليحفظهما من كل سوء..
نهضَ عن كرسيه بتثاقل.. شعرَ بأن الأرض تهتز تحت قدميه.. ماذا لو حدثَ لهما مكروه ..ماذا لو جرفتهما السيول كما جرفت غيرهما وفقدهما للأبد.. قلبه لن يحتمل هذا..!!
هناك كره عنيف بينه وبينَ العاصفة ، فهو لا يزال يذكر سنوات زواجه الأولى وضحكات زوجته المجلجلة بانحاء البيت..ما أروعها من أيام! .. كانت حياتهما عسلا في عسل ..وحينَ حملت زوجته لم يصدق ما قالته ، لشدة فرحته جعلها تكرر الخبر المبهج عدة مرات.. دارَ بها بأنحاء البيت ودار.. وكانت نغمات قلبيهما العاشقين سمفونية استثنائية خالدة..
في شهرها التاسع، شعرت زوجته بألم رهيب.. حينها أخبرها بأنه سيذهب لإحضارالطبيب ، لكنها أصرت على الذهاب معه..
ذهبا سيرا على الأقدام ، ولم يكونا قد سمعا نشرة الأخبار لذلك اليوم..استقبلهما الطبيب بالمسشفى ، لم يعجبه ما رآه من شحوب على وجهها.. طلب منها المكوث حتى يفحصها فحصا شاملا..قالت له ..سأعود غدا ..لا أستطيع المبيت خارج بيتي..
- يجب عليك البقاء، وضعك لا يحتمل ..
نظرَ إليها زوجها بتوتر وقلق : اسمعي كلام الطبيب..سأعود غدا صباحا..طبعَ قبلة على جبينها وغادرها مخلفا قلبه معها..
لم ينم تلك الليلة جيدا ، استمر بالتقلب على سريره ، وفي منتصف الليل أيقظه رنين الهاتف: سيدي لم نجد زوجتك بجناحها في المسشفى.. ولا نعلم إن غادرته بهذا الطقس العاصف.. الأمطار تتساقط بكثافة والرؤية منعدمة تقريبا..
نهض من سريره كالمجنون وما أن فتح باب المنزل حتى صرخَ : يا الهي!! وجد زوجته ملقاة تحت الشجرة التي كانت تتأرجح عليها وتحبها كثيرا ..تذكرَ كيف كان حين يعود من عمله يفاجئها بوضع يديه خلف ظهرها بحيث كانت ترتفع بها الأرجوحة عالياً وكأنها ستحلق فوق الغيوم.. ذكريات رائعة للغاية لا تنسى..
أبعد الشجرة عنها بصعوبة وهو يعاتبها بحزن: لم عدت؟ كنت سآتي إليك في الصباح الباكر؟ لمَ عدت يا قرة عيني ..؟أواه أيتها الحبيبة الغالية.. لمَ فعلت هذا؟حينَ سمعتُ صوت العاصفة قلقت عليك ردت عليه بصوت منخفض للغاية وهي تئن من آلام مبرحة تغالبها.. دموعهما اختلطت بالأمطار التي كانت لا تزال تنهمر مدرارا..
حملها بين ذراعيه بكل الحب والحنان ،هرول للبيت واضعاً إياها على سرير الزوجية، وابتدأ يجففها كالأم الرؤوم.. قالت له وهي تتنفس بصعوبة بالغة ما بين الانقباضات التي كانت تصاحب ألمها: يبدو أنني سأنجب الأن ..أخبرني الطبيب أنني حامل بتوأم ..ألف مبروك حبيبي .. هما ثمرة حبنا ..
اشعل الموقد وعملَ كل ما أخبرته به زوجته الحبيبة ، دلال..
سمعَ أخيراً صرخة الطفل الأول ..
همس لها والألم يعتصر قلبه: هل انت مستعدة مرة أخرى ؟
حركت رأسها وهمست له : دعني أرى الطفل الأول قليلاً ، لطفاً حبيبي..!! يا الله ما أجمله ..يشبهك كثيرا..
وأتى الثاني بصوت مجلجل بنفس اللحظة التي سمع فيها صوت تحطم زجاج نافذة المطبخ..
تبا لتلك الاشجار، لم تصن عهدها معه ولا مع زوجته..قد تآلفت مع الطبيعة ضدهما ..
علمَ حين نظر لزوجته أنها لم تعد معهُ ..حتى الموت تآمر على فرحتهما الكبرى واستهزأ منهما..
سنتين كاملتين قضاهما بعيداً عن الجميع .. خاف أقرباؤه عليه من الجنون ..
ذات يوم وبينما كان القمر يغازل سطح البحيرة القريبة من بيته، جاءه عمهُ وأخبره أن عليه الزواج من ابنته- الشقيقة الكبرى لزوجته المتوفاة :
هيَ شقيقة زوجتك وستعتني بأولادك وترعاهما .. هما بحاجة للحب والرعاية .. أنت لن تستطيع ان تقوم بدور الأم والأب لهما ..
تزوج ابنة عمه ، وأوضح لها من البداية أنه لن يهبها قلبه مهما حاولت.. تمنت لو لم توافق على زواجها منه ولكنها رضخت للواقع المرير..لم تخبره كم كانت تحبه بصمت ولا مقدار حزنها حين طلب شقيقتها الصغرى للزواج ..استسلمت لقدرها ورفضت كل من تقدم لطلب يدها ..
عاش بسعادة مع زوجته.. أو هكذا ظن .. ولم ينتبه أن قلبها كان يذبل كزهرة اقتلعت من تربتها ووضعت في زهرية بدون ماء..
حين عاد من عمله ذات يوم وجد رسالة منها تنبئه أنها تريد الطلاق لأنها وجدت الحب الحقيقي..
أرسل إليها ورقة الطلاق فوراً وكرس حياته ووقته للعناية بولديه.. لم تعد لبيتها حسب ما علم من والديها ولم يعثر لها على اثر ..
لم يكن يعلم أن مطلقته كانت تراقب كل خطواتهم طيلة هذه السنوات..وأنها كانت تساعد اولاده دون معرفته.. لقد وعداها الأ يخبرا والدهما والتزما بالوعد .. لا تعلم كيف استطاعا ولكنهما فهما رغبتها وربما خوفاً إن علم والدهما أن يحرمهما منها..
نبهه رنين الجوال على حاضره..
والدي الغالي لا تقلق علينا .. دقائق ونكون بالبيت.. لقد استطعنا إنقاذ الجيران الذين تهدمت بيوتهم .. وبقينا معهم حتى تم تأمين أماكن مؤقتة لمبيتهم..معنا مصابح لا تقلق علينا..قالَ له ابنه الثاني
يا الله أبناي أصبحا رجلين..
فتح الباب فجأة ودخل الأبن الأول ونشوة انتصار كانت تلمع في عينيه وكانه سجل الهدف الرابح في مباراة كرة القدم وخلفه دخلت أنثى تضع شالا على وجهها بينما قام الأبن الثاني باغلاق الباب خلفهم.
ضمهما والدهما لقلبه بكل الحب ..
من هذه؟؟ سألهما بتعجب وهوَ ينظر للأنثى التي تغطي وجهها..
التقت عيناها بعينيه وهمست له : أنا أسيرة هذه الليلة العاصفة .. لم يكن ينبغي علي أن اكون موجة يحركها البحر كما يشاء...
تعليق