قدحي رمادُها و صوتُها النبيذْ / مهيار الفراتي
والجاً لجّةَ التفاصيلِ دمي
خيطَ نورٍ يهزم العتمةَ بثقبْ
من شدّني بأناشيطٍ إلى أيائلِ الكشفِ
اختارني للصلبْ
من حمّل غاباتي ألواحَ الضوء
اختارني للتيه
طالعا منّي أقحوانةَ رخامٍ
أصابعُ الغيبِ تلقم رأسي ثدي الحيرة
متوكئاً أسئلتي الرضيعة
أتجرّع ُظلالَ المسافاتِ
بأنفاس سهمٍ قناصٍ للظلالْ
أنا الأندلسيُّ الملتقمهُ حوتُ الفقدِ
أسيرُ قرطاجنّةَ الرمــــــــــادْ
للجليدِ أصابعُ روحي
و الريحُ إزميلي على لوحِ الغبارْ
أرفعُ هشاشتي لأكنسَ شظايا الفرح
بما تبقّى من بوحْ
أرفعُ قامتي لأحملَ الشمسَ
بما جفَّ من جرحْ
عارجاً
مزاميرَ طاويةً سماوات التوقِ
أتسنم ذاكرةَ الإوزِّ
أنا الأندلسيُّ الغريبُ
على بساطِ الفراغ أفرك مصباحَ الوهمِ
أسيل قيثارةَ وجدِ على عزلة الكائناتِ
وحدي وعيناكِ في مشرب النسيان
أبحثُ عن خاتمِ الحلمِ في أسماكِ المتاهْ
كمْ منحدرا عليّ أنْ أهبطَ ليصعدني الهواءْ
كمْ قمّة عليكِ أن تعرجي لتبلغيْ وداعة الحمام
بيننا قصيدةٌ و مذبحةْ
تتماهى تفاصيلنا بأرومة الاغتراب
يحوّم البينُ على أضلاعنا و ترقصُ البسوسْ
تلبس الغاباتُ عريَنا
قُرباناً لغزالةِ الصقيعْ
يصهل الغيابُ في مقاعدِ الرفاقِ
أولئك الذين نسينا ظلالهمْ
ذاتَ طاولةٍ في مقاهي الذاكرةْ
هنا و الغرابينُ حاضرةْ
تدفنُ الكلماتُ ضحاياها على مرأى الهاويةْ
يتبسّم ضبع الخواء
وهو يكسرُ آخرَ عظمٍ للبوحْ
يستوقدُ الصمتُ غربتَنا من رماد الكلام
السفائنُ المحمّلةُ بالحزنِ
لن تصلَ مرافئَ الحبِّ
القطاراتُ الرتيبةُ
لا تصطادُ محطّاتِ الاشتياقْ
بنفسجةٌ حبرُ العماءِ المتألّه
و وجهك يراعةٌ زئبقيّةُ الخفقانِ
أهودجُ الماءَ على عرباتِ دمي
صاعداً قمّةَ هاويتيْ أرتكبُ الاشتهاءْ
عينايَ ترنيمُ النوارسِ في شاهقِ البحرِ
عيناك صلاةُ التوه في تغريبةِ الظلال
أيتّها الفراشةُ الراقصةُ على جماجمِ الياسمينْ
تموْسِقُكِ أوتارُ الريحِ اليبابِ
تخطفك الأنوارُ السرابيّة النوافذِ
ألم أقلْ ثمّة بحيرةٌ في المنتصفْ ؟
زوبعةٌ في المنعطفْ ؟
ألم أقلْ ثمَّ قلبٌ وحيدٌ لرجلٍ وحيدٍ ؟
اشترتْ روحَه أبالسةُ الفراغْ
واقفاً على قلبي يناديني الموجْ
هل نسيتُ لحظةً أنني السندبادْ ؟؟؟
كيفَ لي أنْ أثقَ بجزيرة الأصداف ؟؟؟
كيفَ لي أنْ أتركَ خيولَ الماءِ لنتراتِ الحنينْ ؟؟؟
عائداً منّي إلي بخفَّيْ وحدتي
قدحي رمادها و صوتها النبيذْ
_______________________
عندما يقف الإنسان على أعقاب ملمة كبيرة لا بد أن يحسب كل ما أودى به إلى
ذلك المشهد .. إنه كشف حساب قد يطول ويطول ولا بد أن تعاد الحسابات مرارا
وتكرارا كل مرة من بدايات أبعد هي ليست بداية الوضع القائم ولا بداية الأشياء
بل هي البدايات الشخصية مع كل الأشياء ومع كل حدث أنه كشف لتارخ الوعي
الشخصي الذي يسجله الوجدان والعقل والذاكرة والحس الشعوري الباطني ..
عندما يصل الوعي عتبة الإدراك الحسي الأول تبدأ معركة البحث عن الحقيقة
واستكشاف كنه الذات وكنه الوجود ووفقا لهذا التفاعل الحيوي لتحقيق المعرفة
المتغيرة والمتطورة وفقا لمنظور ذاتي وبمحفز واندفاع شخصي تتحول المعرفة
إلى سلاسل من الصراع الفكري الواعي والمدرك لأهمية الذات في صناعة وإعادة
إنتاج المعرفة البشرية برمتها على قواعد وأصول تتغير وتختلف باختلاف
نتائج الصراع ..
قد يكون الإنسان - إن لم يكن الوحيد - يمثل الوعي الأرقى في هذا العالم لطبيعة
ولحقيقة الوجود المحتملة ولا بد أنه بحد أدنى يحمل في خضم معرفته التراكمية
مفرادات هذه الحقيقة وما توالى من اختيارات متعددة ومتغيرة لمسافات القياس
الفكري المقارب والتعددي لهذه الحقيقة أو ( الحقائقية ) إذا صح التعبير أوما
يمكن أن نسمية الأوجه المتعددة للحقيقة وهذا ما يبقي البحث قائما والنظرية
مستمرة في التوالد والاستنباط ..
ويبقى الشاعر هو إنسان أخذ على عاتقه مخاطبة الوجود وأيضا مخاطبة الإنسان
بما لديه من موهبة الكلام الجميل والتعبير المقنع وهو لايخرج بذلك عن حالة
الصراع الفكري الواعي للإنسان بل يفوقه ويوازيه في صراع مع العقول التي
تبنى حوارها وهنا تصبح القصيدة حالة توافق واختلاف بين وعيين أو أكثر
وعلى أساس هذا التوافق و الاختلاف يقوم ويستمر الابداع الشعري والأدبي
خصوصا والفكري عموما ..
وبعيدا عن حالة الضعف ثم الإخفاق العاطفي والنفسي التي تجسدها شخصية " ديك
الجن الحمصي عبد السلام بن رغبان " في حدود علاقته العاطفية مع معشوقته
وزوجته " ورد " والتي بقتله لها شكاً بخيانتها قضى بقية حياته متألما ومتقلبا
على جمر الشك والريبة والبحث عن الحقيقة التائة .. تأخذ " الحقيقة " بعدا
خطرا بهذا الإسقاط وتصبح قضية حياة أو موت على المستوى الشخصي
وهكذا جاءت
/ قدحي رمادُها و صوتُها النبيذْ / قصيدة ً حملت قصة صراع واع لم يتوقف
على المحطات المعرفية التاريخة او الانتمائية بل تقدم ليحدد موقفا بدا غير حاسم
من حالة الصراع برمتها وقد بدأ هذا الموقف الذاتي غير الحاسم من أول كلمة في
العنوان / قدحي / ليقدم لنا صورة صادمة ومؤسفة تجعل من وعي الشاعر
( كأسه ) رمادا للحقيقة ونبيذه صوتها الصارخ في وجدانه .. هذا مع كل
ما جاء في العنوان من مفردات حسية ( الكأس والنبيذ يقابلها الرماد والصوت )
عدا العنصرين الحاسمين ( أنا و هي أو أنا والحقيقة ) خلق مستوى أعمق سوف
يظهر جليا في كل مقاطع القصيدة فيما بعد ..
والجاً لجّةَ التفاصيلِ دمي
خيطَ نورٍ يهزم العتمةَ بثقبْ
من شدّني بأناشيطٍ إلى أيائلِ الكشفِ
اختارني للصلبْ
من حمّل غاباتي ألواحَ الضوء
اختارني للتيه
طالعا منّي أقحوانةَ رخامٍ
أصابعُ الغيبِ تلقم رأسي ثدي الحيرة
متوكئاً أسئلتي الرضيعة
أتجرّع ُظلالَ المسافاتِ
بأنفاس سهمٍ قناصٍ للظلالْ
من أول لحظة مشهدية يحقق الكاتب انطلاقة واثبة تبدأ من الحركة الدؤوبة
المتوالية ( والجا ) فمن الولوج يلقي بنا الشاعر إلى حمأة صراع داخلي محتدم
يتركز على الذات ويتوه في التفاصيل والكم الهائل من المعارف .. فهو
لم ينطلق من لحظة سكون المفكرين والفلاسفة بل من لحظة عراك ذاتي
للإنسان الشاعر وهذا أغدق على المشهد جمالا باهرا وصادما وسوف
تكون التصاعدية المشهدية بعد ذلك صعبة للغاية كما سنرى ولسوف تفرز
هذه الانطلاقة من الحركة السريعة أكثر من لحظة غيبوبة أو شرود في مشوار
الحدث الشعري في االقصيدة وقد استخدم الشاعر الكثير من الكائنات
المشهدية الوجودية ذات الانتماء المزدوج ليكون الصراع مع الوجود صارخا
وملموسا وفق مقاييس الذات أمام متناقضات هي أسس التكوين
( النور والعتمة ) ( أناشيط الكشف والصلب ) ( الضوء والتيه ) ( الغيب والحيرة )
( الأسئلة وظلال المسافات ) إنها مفردات الصراع العنيف والممتد طولا وعرضا ..
أنا الأندلسيُّ الملتقمهُ حوتُ الفقدِ
أسيرُ قرطاجنّةَ الرمــــــــــادْ
للجليدِ أصابعُ روحي
و الريحُ إزميلي على لوحِ الغبارْ
أرفعُ هشاشتي لأكنسَ شظايا الفرح
بما تبقّى من بوحْ
أرفعُ قامتي لأحملَ الشمسَ
بما جفَّ من جرحْ
عارجاً
مزاميرَ طاويةً سماوات التوقِ
أتسنم ذاكرةَ الإوزِّ
أنا الأندلسيُّ الغريبُ
على بساطِ الفراغ أفرك مصباحَ الوهمِ
أسيل قيثارةَ وجدِ على عزلة الكائناتِ
يتحرك الشاعر بنا إلى لحظة معرفية تاريخية يعلن فيها انتماء وجدانيا تكوينيا
قد لايكون مهما بقدر ما يكون ضروريا لما سيأتي بعد ويطل من خلالها على المأساة
الذاتية التي يوشك أن يعلنها ( أنا الأندلسي المفتقد ..!! ) إن هذا الانتقال
المأساوي من الحركة إلى الاحتدام في الحدث الشعري كان ذكيا جدا تحقق
من خلال كائنات مشهدية جديدة أكثر سرعة وتناقضا واحتداما
( أسير الرماد و جليد الروح ) ( الريح والغبار ) ( الهشاشة والشظايا و القامة الواقفة )
( الجرح والشوق والوجد والذاكرة والغربة مع الفراغ والوهم والعزلة )
كل هذا خلق جوا أكثر ذاتية وحميمية في لجة الصراع التي ولجها الشاعر
وكان أمينا جدا وذكيا في رسم معالمه حتى اللحظة وناجحا في قيادة وتوجيه
الحدث الشعري في القصيدة القلقة جدا بكل هذا الذي تحمله من توتر شديد
ومتسارع منذ لحظة البداية ..
وحدي وعيناكِ في مشرب النسيان
أبحثُ عن خاتمِ الحلمِ في أسماكِ المتاهْ
كمْ منحدرا عليّ أنْ أهبطَ ليصعدني الهواءْ
كمْ قمّة عليكِ أن تعرجي لتبلغيْ وداعة الحمام
بيننا قصيدةٌ و مذبحةْ
تتماهى تفاصيلنا بأرومة الاغتراب
يحوّم البينُ على أضلاعنا و ترقصُ البسوسْ
تلبس الغاباتُ عريَنا
قُرباناً لغزالةِ الصقيعْ
يصهل الغيابُ في مقاعدِ الرفاقِ
أولئك الذين نسينا ظلالهمْ
ذاتَ طاولةٍ في مقاهي الذاكرةْ
هنا و الغرابينُ حاضرةْ
تدفنُ الكلماتُ ضحاياها على مرأى الهاويةْ
يتبسّم ضبع الخواء
وهو يكسرُ آخرَ عظمٍ للبوحْ
يستوقدُ الصمتُ غربتَنا من رماد الكلام
في منعطف شديد الانحدار يلجأ الشاعر لتصعيد الحدث الشعري والانطلاق من المأساة
إلى لجة أكثر أتساعا وتعقيدا تبدأ برهبة ( الوحدة ) والتوحد في مهب النسيان وكان
على الشاعر أن يبتكر بيئة قلقة جديدة تستوعب هذا التصعيد الجديد في الحدث
الشعري المشهدي المتوتر أصلا وهذا يجعل مهمته أكثر صعوبة فاختار الولوج
إلى الذات وملامسة الحدود الأكثر حميمة بالنسبة له ليرتقي شاقوليا
فوق الحدث بأول تحديد أزموي ذاتي ( وحدي وعيناك ) وهنا يبدأ بإلباس كائنات
الحدث الشعري شخصية مبتكرة لتخلق انعكاسا موازيا لكل مفردات ومجريات
البحث والصراع وفق أجندة جديدة كان ذكيا في التماسها لاستيعاب التصعيد الجديد
الذي حمل تناقضات أكثر تحديدا وذاتية واكثرحدة ( أنا وعيناك و النسيان مع
الحلم والمتاه ) ( الصعود والهبوط مع الانحدار والقمة ) ( قصيدة ومذبحة )
( تفاصيل الاغتراب مع الموت والحروب ) ( العري والصقيع )
( الرفقة والذاكرةو النسيان مع الغربان الحاضرة ) وأخيرا ( الضحايا والهاوية مع الخواء والصمت )
بلغ هنا أعلى مستويات الصراع والأشد احتداما والأكثر مأساوية فأين الحقيقة
التي لم تعد ضائعة فقط بل باتت مسكوت عنها ليجد الشاعر بابا أكثر ذكاءا للانتقال
من وضع شديد التوتر - اضطر خلاله أن يلتفت أحيانا بشبه غيبوبة إلى دفء
سمح به لنفسه ( وداعة الحمام , غزالة الصقيع ) - إلى وضع ليس أقل توترا
ولكن أعم وأكثر فداحة واتساعا وأقل سرعة ..
السفائنُ المحمّلةُ بالحزنِ
لن تصلَ مرافئَ الحبِّ
القطاراتُ الرتيبةُ
لا تصطادُ محطّاتِ الاشتياقْ
بنفسجةٌ حبرُ العماءِ المتألّه
و وجهك يراعةٌ زئبقيّةُ الخفقانِ
أهودجُ الماءَ على عرباتِ دمي
صاعداً قمّةَ هاويتيْ أرتكبُ الاشتهاءْ
عينايَ ترنيمُ النوارسِ في شاهقِ البحرِ
عيناك صلاةُ التوه في تغريبةِ الظلال
أيتّها الفراشةُ الراقصةُ على جماجمِ الياسمينْ
تموْسِقُكِ أوتارُ الريحِ اليبابِ
تخطفك الأنوارُ السرابيّة النوافذِ
يحاول الشاعر تجسيد النكبة في ما يشبه لحظة ذهول ويتعمد بإصرار نقل الإحساس
الداخلي للكائنات المشهدية في ترادفية صادمة توجه الحدث الشعري بمهارة
وتشخصنه وفق معطيات التطور السابق المتفاقم للحدث دون المساس بأي
من العوامل الموضوعية الأخرى فقد كان الشاعر يشتغل على بحثه الذاتي من
البداية وترك كل الأفكار والمسلمات النظرية والمعرفية البشرية التراكمية تدخل
وتخرج دون أي احتكاك بها وبقي يقدم بحثه وصراعه الخاص والذاتي عن
الحقيقة وقد وصل في هذه المرحلة إلى حالة تشبه وقفة المحارب
لتقييم الخسائر وقد اتسعت حدود النكبة وسيطر الحزن الشديد وكان على
الشاعر أن يرتقي إلى حالة وجدانية أكثر عمقا و أكثر اتساعا بمحتواها
الإنساني لاستيعاب هذا التطور الجديد وبدأت كائنات جديدة تغزو المشهد
الوجداني الرثائي شبه الكرنفالي تتحرك بإيقاع رتيب وتوافقيات قسرية
( سفائن الحزن و مرافئ الحب ) ( القطارات الرتيبة ومحطات الشوق )
( حبر العمى ويراع زئبقي ) ( هودج ماء وعربات الدم ) ( قمة الهاوية والاشتهاء )
( صلاة التوه و تغريبة الظلال ) ( رقصة الفراشة وجماجم الياسمين )
( أوتار الريح وأنوار السراب ) أنه حقا عرض مؤلم لفداحة النكبة التي
لم تعد نكبة شخصية بل شهادة تحمل إدانة للوجود كما هو الآن ..
ألم أقلْ ثمّة بحيرةٌ في المنتصفْ ؟
زوبعةٌ في المنعطفْ ؟
ألم أقلْ ثمَّ قلبٌ وحيدٌ لرجلٍ وحيدٍ ؟
اشترتْ روحَه أبالسةُ الفراغْ
واقفاً على قلبي يناديني الموجْ
هل نسيتُ لحظةً أنني السندبادْ ؟؟؟
كيفَ لي أنْ أثقَ بجزيرة الأصداف ؟؟؟
كيفَ لي أنْ أتركَ خيولَ الماءِ لنتراتِ الحنينْ ؟؟؟
عائداً منّي إلي بخفَّيْ وحدتي
قدحي رمادها و صوتها النبيذْ
يصل الشاعر بنا إلى المحاكمة في خطاب اتهامي مباشر وصريح ,هي محاكمة لمن ؟؟
وباسم من وضد من .؟؟ لا شك أن الشاعر الإنسان هنا يحاول أن يضع نقاط الشك
على حروف الحقيقة المفترضة ليخرج بهزيمة مشرفة على المستوى الشخصي
دون أن يعبأ بالحكم القيمي لصالح البحث عن الحقيقة ولهذا نراه يسترجع ويستجمع
كل أدواته وقناعاته التي خاض بها صراعه وبحثه ويضعها ويضع نفسه معها على
منصة الاتهام وكان هذا بعد كل ما تقدم يمثل جرأة ذات مغزى توخى منها الشاعر
أن يصل للحقيقة ولو كانت مؤلمة وأظهر استعدادا لدفع الثمن وبدأ محاكمة نفسه
وعلى هذا المستوى الختامي للحدث الشعري كان لا بد للشاعر من استحضار
منولوج مؤثر جدا يقترب كثيرا من خصوصية الذات ويخدش كبرياءها باستجواب
قاس ومؤلم ومؤنب ولوام ( ألم أقل .. ألم أقل ) وبدأت كائنات شخصية حميمة
تغزو المشهد الختامي فيها الكثير من الشراك والتشكك والقسوة والعدائية
أحيانا ( بحيرة وزوبعة ) ( قلب وحيد وأبالسة الفراغ ) ( موج وسندباد )
( ثقة وحنين ) ( جزيرة أصداف وخيول ماء ) ( عودة إلى الوحدة بقدح رماد )
... وكان هذا خروجا مشرفا بحق من محاكمة تحمل كل معاني الإدانة ..
كانت قصيدة جميلة وظفت كل ما لدى الشاعر من إحساس شعري وتجربة فكرية
لتسجيل حالة الصراع الذاتي وتعميمها كمعيار إنساني قدمه الشاعر للحكم على
حقيقة الوجود ( وجوده الإنساني ) لا يخلو من تأثر بلحظة وبمكان شخصي
محدد قد تتغير وفقا لمجريات الحياة وهذا ما جعل النص شديد الواقعية وتحدث بلغة
حسية وشعورية عميقة ..
كان العنوان موفقا جدا من حيث أنه خلق نوعا من الإيحاء بالعودة للصراع
من جديد مشكلا حلقة مغلقة للنص يبدأ وينتهي بها وهذا تشكيل بانورامي متميز
تبناه الشاعر خدم النص كثيرا وأغنى الحدث الشعري أكثر ولو أضفنا إلى ذلك اللغة
الشعرية الجميلة والإدهاش الموظف جيدا والمتعمد أحيانا لصالح هذا التوظيف
لرأينا أننا أمام نص شعري متميز محكم البناء ويستحق الفوز بكل جدارة بصدارة المسابقة .
.......
تعليق