طفولة فنان تشكيلي
بقلم: حسين أحمد سليم
صغيرا قضى بداياته بين الأطفال أقرانه, بعمر الورود والأزهار, كان يلعب ويمرح ويفرح لكل الأشياء, كما أترابه الصغار في قريته البقاعية الريفية. سريعا حولته قساوة الأيام وصلف الطبيعة, البرد القارس شتاءا والثلوج والصقيع, والحرارة المرتفعة صيفا والهواء الساخن, ليخوض العنف الثوري بين صفوف العنفاء الثوار, ليُتهم ويوصنف به الأولاد الأشقياء, وما كان قد نم بعد كثيرا. ووسمنه الرفض منذ طفولته الأولى, بنفسية عنفوانية لا تنحني أبدا, إلا للعلي القدير. وتحول صلبا قاسيا وعنيدا, كما الصخور الدهرية في وطنه, وصارت يمارس كل حركات العنف الثوري, ويحرض كل الأشياء على بعضها, لا يقف عند حد. يقفز فوق كل الممنوعات دون خوف, ويجتاح كل الأسوار دون وجل, ويستبيح كل المحرمات المفتعلة موروثيا, ويضرب بعرض الحائط كل الأعراف التقليدية الجامدة... عصا يتوكأ عليها كما كبار السن والعجائز, ويستخدمها عند لزوم ما لا يلزم إلا هيى, وطبلة صغيرة يمارس عليها الضربات الإيقاعية على مزاجياته, و" نقيفة " يصطاد بها العصافير التي تقع في مدى رؤيته, و" مقلاع " يرمي به بعيدا, يدرأ عنه من يشك بإقترابهم منه... يفتش في السهول عن أوكار الأفاعي, ويمارس لعبته معها طوال النهار, ويصطحبها مساءا معه إلى البيت, ليلهو بها ويخيف أباه وأمه وأخوته, وفي ختام السهرة يتركها تنام تحت مخدة رأسه, كي لا تصاب بالبرد بإنتظار طلوع الفجر...
فترة طفولته الثانية, لم يترك فيها شجرة إلا وتسلقتها, في كل أنحاء قريته الريفية, ولم يترك بئرا قديما, إلا وتدلى بالحبل إلى قعره, ولم يدع عامود كهرباء إلا و" عربش " عليه, ولم يغض طرفه عن أعشاش العصافير إلا ونبشتها... ولم تسلم من طفولته الشرسة الجرار الطينية ولا الأباريق الفخارية, التي كان يطرب لتحطيمها, ناهيك عن الخوابي التي كانت تملأها أمه بالغلال لأيام الشتاء, كان يكسرها ويبعثر محتوياتها, وأواني الزيت واللحوم المجففة, كثيرا ما كان يرميها أرضا لتسيل محتوياته وتنسكب عنوة... ولم يبق في القرية من أحد إلا ورفع شكواه إلى أبيه, ولم يبق من فرد إلا وقدم لأمه مظالمه منه, ولم يبق في الضيعة من يتفهم عمره ويحاول مساعدته, حتى يقطع هذا العمر الصعب. وغدا منبوذا من الجميع حتى أترابه الذين من عمره, فماذا تراه يفعل في مجتمع مع أفراده, أمام محصلة من النتائج, التي تغلي بكل السلبيات في حق طفل مذ ولد, إقترنت به ثورة الرفض على كل شيء, لم يبق ولم يذر شيئا من حواليه...
كان يمارس الخربشات الغبارية, أقلامه أصابعه, ألوانه ترابية, وبقايا أعواد الفحم في الموقد البيتي, مرسمه ومعرضه أزقة قريته, ألواحه جدران البيوت الترابية, لوحاته خربشات غير مألوفة, إختزلت في عناصرها كل المدارس الفنية قديمها وحديثها, وإبتكرت مدارس فنية خاصة يتحدى بها المدارس التقليدية, زوار معرضه الهوائي الصغار من جيله, ونساء القرية كن يطلين جدران منازلهن بالكلس والحوارات البيضاء, مما يساعده على ممارسة الرسم بسهولة وسرعة, ورجال ضيعته كانوا يلاحقونه بالصراخ والشتائم الرفيعة أينما صادفوه, ويوشون به لأبيه, إذا ما مارس الهروب من بين أياديهم السميكة, وأباه الفنان كان يؤنبه حينا ويصفعه على وجهه أحيانا, وغالبا ما كان يشبعه ركلا بقدميه حتى يغيب عن وعيه, ليس كرها أو حقدا عليه, وهو من سبقه للرسم وممارسة الخط الجميل, وفي مدرسته تعلم كل الفنون الأدبية والتشكيلية, إنما تجاوبا مع أقربائه في القرية وإرضاءا لهم, ليصفحوا عنه, من تحويل جدرانهم لمساحات واسعة من تدوين خربشاته...
بقلم: حسين أحمد سليم
صغيرا قضى بداياته بين الأطفال أقرانه, بعمر الورود والأزهار, كان يلعب ويمرح ويفرح لكل الأشياء, كما أترابه الصغار في قريته البقاعية الريفية. سريعا حولته قساوة الأيام وصلف الطبيعة, البرد القارس شتاءا والثلوج والصقيع, والحرارة المرتفعة صيفا والهواء الساخن, ليخوض العنف الثوري بين صفوف العنفاء الثوار, ليُتهم ويوصنف به الأولاد الأشقياء, وما كان قد نم بعد كثيرا. ووسمنه الرفض منذ طفولته الأولى, بنفسية عنفوانية لا تنحني أبدا, إلا للعلي القدير. وتحول صلبا قاسيا وعنيدا, كما الصخور الدهرية في وطنه, وصارت يمارس كل حركات العنف الثوري, ويحرض كل الأشياء على بعضها, لا يقف عند حد. يقفز فوق كل الممنوعات دون خوف, ويجتاح كل الأسوار دون وجل, ويستبيح كل المحرمات المفتعلة موروثيا, ويضرب بعرض الحائط كل الأعراف التقليدية الجامدة... عصا يتوكأ عليها كما كبار السن والعجائز, ويستخدمها عند لزوم ما لا يلزم إلا هيى, وطبلة صغيرة يمارس عليها الضربات الإيقاعية على مزاجياته, و" نقيفة " يصطاد بها العصافير التي تقع في مدى رؤيته, و" مقلاع " يرمي به بعيدا, يدرأ عنه من يشك بإقترابهم منه... يفتش في السهول عن أوكار الأفاعي, ويمارس لعبته معها طوال النهار, ويصطحبها مساءا معه إلى البيت, ليلهو بها ويخيف أباه وأمه وأخوته, وفي ختام السهرة يتركها تنام تحت مخدة رأسه, كي لا تصاب بالبرد بإنتظار طلوع الفجر...
فترة طفولته الثانية, لم يترك فيها شجرة إلا وتسلقتها, في كل أنحاء قريته الريفية, ولم يترك بئرا قديما, إلا وتدلى بالحبل إلى قعره, ولم يدع عامود كهرباء إلا و" عربش " عليه, ولم يغض طرفه عن أعشاش العصافير إلا ونبشتها... ولم تسلم من طفولته الشرسة الجرار الطينية ولا الأباريق الفخارية, التي كان يطرب لتحطيمها, ناهيك عن الخوابي التي كانت تملأها أمه بالغلال لأيام الشتاء, كان يكسرها ويبعثر محتوياتها, وأواني الزيت واللحوم المجففة, كثيرا ما كان يرميها أرضا لتسيل محتوياته وتنسكب عنوة... ولم يبق في القرية من أحد إلا ورفع شكواه إلى أبيه, ولم يبق من فرد إلا وقدم لأمه مظالمه منه, ولم يبق في الضيعة من يتفهم عمره ويحاول مساعدته, حتى يقطع هذا العمر الصعب. وغدا منبوذا من الجميع حتى أترابه الذين من عمره, فماذا تراه يفعل في مجتمع مع أفراده, أمام محصلة من النتائج, التي تغلي بكل السلبيات في حق طفل مذ ولد, إقترنت به ثورة الرفض على كل شيء, لم يبق ولم يذر شيئا من حواليه...
كان يمارس الخربشات الغبارية, أقلامه أصابعه, ألوانه ترابية, وبقايا أعواد الفحم في الموقد البيتي, مرسمه ومعرضه أزقة قريته, ألواحه جدران البيوت الترابية, لوحاته خربشات غير مألوفة, إختزلت في عناصرها كل المدارس الفنية قديمها وحديثها, وإبتكرت مدارس فنية خاصة يتحدى بها المدارس التقليدية, زوار معرضه الهوائي الصغار من جيله, ونساء القرية كن يطلين جدران منازلهن بالكلس والحوارات البيضاء, مما يساعده على ممارسة الرسم بسهولة وسرعة, ورجال ضيعته كانوا يلاحقونه بالصراخ والشتائم الرفيعة أينما صادفوه, ويوشون به لأبيه, إذا ما مارس الهروب من بين أياديهم السميكة, وأباه الفنان كان يؤنبه حينا ويصفعه على وجهه أحيانا, وغالبا ما كان يشبعه ركلا بقدميه حتى يغيب عن وعيه, ليس كرها أو حقدا عليه, وهو من سبقه للرسم وممارسة الخط الجميل, وفي مدرسته تعلم كل الفنون الأدبية والتشكيلية, إنما تجاوبا مع أقربائه في القرية وإرضاءا لهم, ليصفحوا عنه, من تحويل جدرانهم لمساحات واسعة من تدوين خربشاته...
تعليق